بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 5492 - 2017 / 4 / 15 - 13:01
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مباحث في الاستخبارات (64)
الذاكرة الشفوية
بشيرالوندي
-------------
مدخل
-------------
هذه الحلقة من مباحث في الاستخبارات لها خصوصية آنية للحالة العراقية , لاننا نثير فيها الانتباه من وجهة نظر استخبارية وامنية لمرحلة مابعد تحرير اراضينا من داعش , فتحرير الاراضي غير مهم بقدر ما يجب التنبه الى تحرير مواطنينا الذين كانوا في قبضة داعش في الموصل وقبلها في المنطقة الغربية , تحريرهم من آثار الفكر الداعشي, فالتاريخ يكتبه المنتصرون , وهي فرصة لاتتكرر لمن يضيعها .
ان احتلال المناطق من قبل العدو يختلف باختلاف طبيعة العدو , فحين تهجم دولة على دولة اخرى وتحتل اراضيها , فان تعامل جيش العدو مع السكان لايتجاوز في طموحاته تحييد السكان ومنعهم من مهاجمته على افضل الاحوال , ولايطمع الى اكثر من ذلك لانه يدرك ان احتلاله سيكون لزمن محدد وينتهي وفق معادلات دولية , كما يدرك عمق الهوة الثقافية والفكرية بينه وبين سكان المناطق المحتلة , بالاضافة الى ادراكه لصعوبة ايجاد متعاونين معه كمحتل , لان السكان سينظرون للمتعاون على انه خائن لوطنه , فيكون لمفهوم الخيانة الوطنية حاجزا نفسياً يمنع التعاون مع المحتل ويجعله في اضيق نطاق .
ولكن في حالة احتلال داعش للاراضي العراقية وسلب ارادة بضعة ملايين من السكان فان الامر مختلف لأسباب عديدة منها ان العدو في هذه الحالة من ابناء الوطن , فقد اثبتت التقارير الاستخبارية العالمية المتطابقة ان التنظيم الارهابي يسيطر عليه ويديره عراقيون , وان نسبة الاجانب فيه محدودة , كما ان كل من في التنظيم هم من نفس ديانة ومذهب السكان الذين تمت السيطرة على اراضيهم واحتلالها .
ومن هنا فان التنظيم الارهابي وجد طريقه الى السكان وفتح آفاق التعاون معهم مستغلاً الخطاب الديني المشترك والبعد الطائفي المتطابق , بالاضافة الى استغلاله لنقمة السكان من اساليب اتسمت بالرعونة واللامسؤولية من قبل القادة العسكريين العراقيين الذين كانوا يتعاملون بروح انتقامية ومتعالية مع السكان في فترة ماقبل الاحتلال.
ان مرحلة مابعد داعش تحتاج الى خبرة وحكمة بالتعامل , والى مد جسور الثقة مع السكان والى اعادة الحقوق المغصوبة ومعالجة اثار الحالات الثأرية بين العشائر , لان التنظيم الارهابي قد ورط افراد وجماعات بالايغال بدماء اخوانهم وبتشريدهم والاستيلاء على اموالهم وعقاراتهم ومزارعهم , بل والاعتداء على اعراض نسائهم كما جرى مع المسيحيين والايزيديين .
كما ان من المهم معالجة الكثير من القضايا المستعصية كأحلال الثقة مرة اخرى بقوات الجيش والشرطة وحل مشكلة تجنيد الاطفال الذين تم غسيل ادمغتهم بشكل مدمر , واعادة النازحين وكشف الخلايا الفاعلة و النائمة للتنظيم في جميع المناطق والقيام باعادة تأهيل للمناطق المحتلة وتأهيل النفوس التي تم تغريرها وانزال العقاب العادل القانوني بكل من اجرموا .
ومن هنا فان الخطوة الاساسية لتفكيك وحل كل تلك المشاكل المستعصية هي خطوة جمع المعلومات وتوثيق الذاكرة المجتمعية للسكان الذين رزحوا تحت وطأة الاحتلال الارهابي .
----------------------------------
لماذا انعاش الذاكرة ؟
----------------------------------
لقد تحررت المناطق التي يسيطر عليها الارهابيون لكننا لم نقتلع جذور الارهاب منها, فعلى الحكومة والاستخبارات توثيق كل شيء وان لا تقع في خطأ الحكومات السابقة التي لم توثق جرائم صدام وأعوانه , حتى أصبح الجلاد الآن مفصولا سياسياً ومعارضاً ضد النظام , فيما امسى المضطهد أكثر مظلومية.
فبعد 14 عام من سقوط صدام أصبحت ذاكرة العراقيين ضعيفة متناسية للمآسي السابقة, لان عدم توثيقها اضاعها , فلا يجوز تكرار التجربة بأن نترك كارثة داعش تمر بلا توثيق , فبعد أيام سيصبح الداعشي بطلاً ويعود يصرخ في ساحات الاعتصام , وسيكون أهلنا الذين ذبحوا بالمحافظات المنكوبة متهمين من قبل هولاء.
يجب أن تكون للاجهزة الاستخبارية والحكومة وقفة كبيره لتدوين ما جرى ولماذا جرى؟ , وجمع كل الذاكرة الشفوية الموجوده في أذهان وذكريات الناس واستنطاق الناس كباراً وصغاراً ورجالاً ونساءاً وأطفال, للحصول على كل أخبار داعش و يوميات الناس والظلم والجرائم والمجرمين.
ان إحد أكبر مشاكل الأمن في العراق هو عدم توفر مركز بيانات مفصل ودقيق عن المطلوبين والمجرمين والمنتمين والمناصرين والمتعاونين والداعمين وجميع أعوان داعش, ذلك ان انعدام المسح الميداني الدقيق ادي الى انعدام كفاءة الاستخبارات في البحث والتحليل وإنتاج مركز معلومات عن العدو.
فعلى الحكومة ان تشكل لجان غير حزبية او طائفية , وتكون من خبراء لدراسة أسباب الانهيار والعوامل التي ساعدت , وأدوار المؤامرة والداعمين والمشغلين ومستويات التقصير ولماذا لم تكن هناك معلومات دقيقة ؟ومن كان مسؤولاً في تلك الفترة؟ وأين حدود مسؤوليته؟ وهل أدى واجبه؟ لكي نستنتج الصحيح من الخطأ ونعالج الاخطاء, كما يجب التوثيق للادانة , لا ان نذهب لتأسيس هيئة اجتثاث داعش مشابهة لهيئة اجتثاث البعث التي تحولت الى وكر لأخذ الرشوة وتأهيل البعثيين في المجتمع.
ان هذا التوثيق ضروري لنقل الصورة الحقيقية لدول العالم ومن خلال المنظمات الدولية والمحلية ومنظمات المجتمع المدني المنتشرة في العراق, ويمكن تفعيل مركز معلومات يجمع صور عناصر داعش واسمائهم وعوائلهم واحصاء كل شي عنهم , كما يجب استنهاض القنوات العراقية والاجنبية والعربية للحضور والتوثيق المتلفز للدمار والظلم , والحوار مع المواطنين لتبني حملة وطنية وعالميه لفضح كل المتورطين, ويجب ان تمتلئ المكتبات الورقية والفيلمية بأنواع القصص عن هذه السنوات المظلمة.
-------------------------
التوثيق الشامل
-------------------------
ان هنالك قصصاً وأحاديث سوف تضيع ونخسرها مالم توثق سريعاً,وعلى الحكومة إطلاق حملة وطنية مستعينة بطلبة الجامعات والشباب, ووضع جوائز عن قصص وروايات الناس لتدوين كل الذاكرة المنطوقة والسماح للصحف ووسائل الإعلام بالتوثيق ونقل الحقيقة وكل ما جرى , لمعرفة المزيد عن هذه السنوات العجاف التي مر بها العراق , وكذلك تشجيع الجامعات لوضع دراسات ماجستير ودكتوراه حول الموضوع ومن ثم تفريغ كل الذاكرة الشفوية للسكان والأهالي وتصنيف كل شيء وهذا سينتج كماً هائلاً من المعلومات الضائعة حول داعش واعوانها وهو كنز حقيقي يجب أن تستفيد منه الاستخبارات الآن.
ان علينا سماع قصص الناس وتثبيت ماهو مهم من خلال تشجيع طلاب المدارس بكتابه قصصهم وتخصيص درس الانشاء بكتابة المآسي, وتثبيت إجرام المجرمين ومن هم؟ , واي العشائر كانت اكثر ولاءاً لداعش؟حتى لا يختلط الحق بالباطل ولاتضيع الحقوق بين المجرم والمظلوم.
فبهذا الجهد سوف تتمكن الاستخبارات من احصاء بقايا التنظيم العلني الذي ظهر فوق الأرض وتستطيع متابعة كل خيوطه وتستفيد من ذاكرة الناس الذين عاشوا تحت ظلم داعش , وتمنع من تنشيط خلاياه وتصنع مناعة اجتماعية تجاهه.
ان المهمة الاساسية في التوثيق لايمكن ان تتم بعيداً عن المنهج الاستخباري في جمع المعلومات العامة والخاصة , فلابد من ان توثق مرحلة الاحتلال الارهابي بكل مفرداتها ودقائقها , من خلال معرفة كل شيء عن اساليب الارهابيين وطبيعة اوامرهم واسمائهم واسماء الذين تعاونوا معهم وطبيعة الحياة اليومية للاحتلال والاعمار التي كان الارهابيون يستهدفونها وطرق الحرب والتموين والادارة والتنظيم والدعوه الدينية والطاعة والحرب النفسية والانتحاريين والمرتبات والاجتماعات والزواج والدفن وخدمة عوائل داعش والقتلى والجرحى والأجانب والخوف والتجنيد والبيعة والعنف والمحكمة وبيت المال والاستخبارات والجواسيس والأكل والشرب والعقوبات والخليفة وأبرز القادة واماكنهم ومن بقى و قبورهم وعوائلهم وأبنائهم ومستوياتهم الثقافية والمستوى المعيشي والديني لهم ولماذ تم التعاون معهم ورجال دينهم ومموليهم وقضاتهم واعلامهم ودورياتهم وسيطراتهم وحياة قادتهم وسجونهم والأسرى وشيوخ العشائر المتعاونين معهم والاستعلام عن أملاك الناس والزراعة وأخلاق قادتهم وملابسهم وسلاحهم وأفكارهم وأحكامهم ودواوينهم وحكومتهم والقابهم ومن بايعهم ومن خالفهم وعناصر البعث وضباط الجيش السابق وجماعة القاعدة والفصائل المسلحه الأخرى ومن يدعمهم من سياسيي الحكومة وجرائمهم وضحاياهم والاراضي التي استولوا عليها ومن مكنهم من ذلك , وتوثيق قصص الدواعش العرب والأجانب وادوارهم وماتركوا من نساء وأطفال, وكذا وثائق داعش ومخاطباتها وجداولها واحصائها ومكاتباتها واختامها وقرارات المحاكم الداعشية والمعاقبين,.
فإذا افترضنا أن عشرة آلاف من داعش قتلوا فهذا يعني ان علينا ان ندقق مع 10 آلاف عائلة ويتم الحديث معهم عن كيفية انخراط ابنهم في داعش ولماذا؟.وعلينا ان نعرف من من عناصر داعش قد اختفى واستطاع الهرب وأين عائلته ؟؟؟من منهم جريح أين هو وأين عائلته ؟؟؟من عمل مخبرا لهم ؟من ابتز الناس؟ وغيرها من دقائق التفاصيل.
---------------
خلاصة
---------------
لو استنطقنا الذاكرة الشفوية بشكل دقيق سنكون قد قضينا على بقايا داعش وعناصرها وفضحنا داعميها ومحتضنيها, ان الذاكرة الشفوية فرصة كبيره لغلق منفذ الإرهاب عن العراق بالتدقيق والتواصل مع الناس في المدن والقرى والأرياف ومخيمات النزوح والمناطق الحدودية والصحراء لنعرف الكثير من المعلومات التي بالتأكيد سوف تفرز الكثير من الأهداف ونتعرف إلى الكثير من الأساليب ونقضي على اخر مفاقس داعش.
الآن المناطق المحررة تعيش مرحلة ما بعد الانهيار وهو الضياع وفقدان الأمل والشعور الكبير بالظلم , لذا يمكن أن تكون فرصة للحكومة بجذب المواطن , ومن خلال جذبه واسترضاءه ستعود الفرصة ويمكن أن تستنطقه الاستخبارات.
ان هذه الذاكرة المبعثرة يمكن أن تتحول إلى موسوعة حول سنوات عجاف وتاريخ كامل عن داعش فحتى لوتطلب الأمر ان تطرق الاستخبارات بواب البيوت بيتا بيتا فعليها أن تفعل ذلك.
ان اي تساهل أو تغافل على الأرض سوف يعود بداعش مره ثانية إلى العراق , فيجب القيام بعملية جراحية حقيقية الآن لفرز المرض عن الجسد , لقد خرج الناس من تحت ظلم داعش حديثا , وكلما تأخرنا تناسى الناس هذا الظلم.
ويجب ان تصاحب هذه الإجراءات الإحصائية أو الاستنطاقية عملية تقديم الخدمات ومكافحة الفساد والوضوح مع الناس والقضاء على من يقتات على دمائهم واعاده تأهيل المدارس والمستشفيات والطرق وايضا اعاده تأهيل مراكز الشرطة وتدقيق وإصدار المستمسكات.
فلوحدث ما حدث عندنا في اية دولة لتمت إجراءات أمنية مشددة على المناطق المحررة لغرض تصفيه أذرع الدواعش فيها.
ان اهم الأهداف بعد استحصال المعلومات من الناس هو إيجاد شبكة كبيرة من المتعاونين والمخبرين المحبين للبلد والمبغضين للإرهاب , فتتحقق فائدتين , الأولى بناء مشروع معلوماتي توثيقي دقيق , والثاني كسب الجمهور المتعاون مع الاستخبارات.
ان بقاء الحال هكذا والاكتفاء بالفرحة باختفاء داعش من فوق الأرض سوف لن تدوم ما لم يكن هنالك برنامج أمني دقيق يطبق في المناطق التي خضعت لداعش واجراء مسح دقيق لهم, والله الموفق.
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟