أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - جميل حسين عبدالله - عقيدة التسويغ -11-















المزيد.....



عقيدة التسويغ -11-


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 5486 - 2017 / 4 / 9 - 10:17
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


عقيدة التسويغ
منعرجات فكرية ‏
‏-11-‏
النهاية

إن تلك العملية العقلية التي نسميها في المباحث الأصولية بالسبر، والتقسيم، هي الذكاء الذي تكتسب به كبرى اليقينيات في عالم الحقائق ‏الروحية، والمادية، لأنها الجهد المطابق لضرورة بناء المعرفة على يقين البحث، والتجربة، والملاحظة، والنظر الموجه للفعل البشري في مساق ‏العمران، والعمارة، والحضارة. وذلك ما قام به الفقهاء في لحظة وهج العقل الإسلامي، وتوقده، وفترة قوة إدراكه للحقائق الوجودية، والكونية، ‏وزمن سمو دوره في بناء القضايا الثقافية، والاجتماعية. وقد استمر على ذلك ردحا من الزمن غير اليسير، وبقي متشبثا بقيمه إلى أن اغتال الحقد ‏ابن رشد الحفيد، وحرق كتبه، وذر رمادها على قبر الحرية، والاستقلال، ثم سجن التفكير في قفص الاتهام الذي أحدثه المغالون، والمبطلون، ‏وأغلقت عليه زنزانته بجنحة خروجه عن رسوم الديانة، والرعاية، لكونه فجر أسئلة جديدة في التفكر، والتبصر، ومنحيات أخرى في الحركة، ‏والممارسة. ولذا تحولت قيمته إلى مشارح الغرب الذي تخلص من عناء الإقطاعية، والرهبنة، وانسرح بين مدارات الطبيعة بحثا عن الحقيقة، ‏والمعنى، لكي تتجزأ بما بلغت إليه مساعيه مركباتُ المادة في أبهى صور التعامل معها إدراكا، وامتلاكا، وتتقوى بما نالته يده رغباتُ الحياة المغتربة ‏بما يغري من العجائب، ويدني إلى الغرائب. ‏
وهذا ما ألهى العقل الإسلامي بنقاشات يطبعها مزاج المنافسة على المراتب، والمصارعة حول المجالب، لأن اصطدام العقل العربي بما تولد عنه ‏من ألوان أخرى، وثقافات امتزجت معه في حضن عالمية الرسالة، وكونية مبادئها التكوينية، والتشريعية، لم يترك له فرصة لكي يستقل في ‏خوض غمار الأسئلة الوجودية بخصوصيته الفكرية، والجغرافية، بل امتدت يد العرب بوساطة الفتوحات إلى أماكن عدة من هذا الكوكب ‏الأرضي، واستولت على أقوام تحكمها عادات وتقاليد خاصة، وتداخلت مع عناصر متنوعة في صياغة الحقائق المنظور إليها في عالم الكون، ‏والإنسان، لأن هذا التمازج الذي حدث بين الأنساب، والأعراق، والتقاليد، والأعراف، والتلاقح الذي حصل بين الأديان، والثقافات، ‏والحضارات، والمعارف، لم يكن إلا سببا لولادة عقل إسلامي متعدد المشارب، ومختلف المسارب، ومتشكل من كل الأطياف التي تدور رحاها ‏في المجتمع المحكوم بسياقات دينية، وعقدية، وأنماط من المعرفة المتباينة المصدر، والهدف.‏
‏ وهكذا تحول هذا العقل من طور نشأته في بؤرة مكانية إلى كائن عالمي، وكوني، توجهه نظرته التوحيدية إلى الأشياء المادية، والروحية، ‏وتؤطره قيمه الأخلاقية، والإنسانية، لأن تحول العرب من منازل ظهور الوحي إلى مناطق شاسعة من العالم العريض، قد وضع هذا العقل بين ‏خيارين اثنين في التركيب، والترتيب؛
‏ الأول: أن يكون عقلا مرتبطا بجغرافية محددة، وملتصقا بتطبيقات تبرز فاعليتها في قراءة النوازل المستحدثة بين مطالب المعرفة، والحضارة، ‏وتحليل قضاياها بنمط محدد في التفكير، والتصور، والتخطيط. وذلك ما يحاول السلفيون زرع بذرته في لحظتنا التاريخية الراهنة، وفرض صورته ‏على كل السياقات المركبة لفعل النظر في الدين، والتاريخ، لأن ما يتوخاه فيما يحدثه من صراع، ونزاع، لن يجعل نظرنا الموجه لفعل العمران إلا ‏بدويا، يتباهى بتفسيره الخرافي لكل الظواهر الكونية، والطبعية، والإنسانية، ويتماهى بنظرته المستعلية بالخوارق، والأساطير، والطواطم المطعمة ‏بالحكايات الغارقة في سدف الغموض، وسديم العماء، لأن هذا التفسير المتسم بالتعقيد في محل البساطة، هو ما يؤهل العقل لقبول صدمته ‏الحالية، ويمنحه هدوءا، وطمأنينة، وسكينة، لاسيما إذا عسر عليه درك ما يموج بين الديار من جديد لم تألفه العقول المحصورة بتفكير شمولي، ‏يتكئ على مجموعة من الطابوهات الممنوعة، والمحرمة. ولذا يكون عجزنا عن فهم سياق التطور في الحقائق سببا لانتشار فكر يؤمن بالخارق الذي ‏لا تفسير له بين مجالات التجربة الحسية، وقبول كل شرح يعتمد منهج التسطيح لمسلمات العقل وضروراته الأكيدة، ويزيح ألم البحث عن علل ‏الأشياء المركبة لماهية أسبابها في جوهر الكون، وحقيقته.‏
‏ الثاني: أن يكون عقلا كونيا بمعاييره الإنسانية الراقية، وكيانا مستقلا بمعاني أخلاقه النبيلة، ولونا قابلا للامتزاج مع غيره في بؤرة الموجودات ‏الحية. وذلك ما يسعى إليه كل مرتقب لذلك اليوم يُشعر الإنسان بالسعادة المتدفقة في جمالية الحقائق، والمتفجرة من نبع المعاني. ومن هنا، فإن ‏جهد المصلحين في كل زمان، ومكان، لا يهدف إلا إلى صناعة تلك اللحظة التي تجعل العقل بانيا لعش الغد المشرق في الحياة، والإنسان، ومتمما ‏لما توقف عنده جهد الأقدمين في رعاية الكون، والطبيعة، لأن تسويغ كونية العقل الديني عند المخالف الذي يحمي دائرته بمقتضيات العقل الكلي، ‏ليس مما يعسر درك معناه، ولا مما يصعب التعبير عنه، لأن لازم صدق الدلالة على الكونية، هو ما تجود به الأفكار من معان ترفع الحرج، ‏والضيق، وتبني أساس الفعل على قيم الكثرة في مسمى الوحدة. لكن ما يثير الزلل في طريق هذا العقل الذي جرد من فعله، ويصيره متجاوزا ‏في حرد طلاب المعرفة المادية، هو ما تكوَّن فيه من تجارب سيئة المقاصد، تراكمت سلبية نتائجها على وظيفته الوجودية، والدينية، ودوره في ‏حماية الاستقرار الإنساني، والعالمي.‏
‏ ولذا، فإن كونية هذا العقل الذي نجادل بمطلقاته، ونغالي بمنجزاته، لا تعني القضاء على كل السياقات التي تركبت في الأمم المجاورة لنا على هذا ‏الكوكب البسيط، ولا الإجهاز على كل العلاقات التي تربط بين الأفكار وتاريخها، وحضارتها، لأن سؤال الحقيقة الذي يحرره كل فرد يريد أن ‏يعيد أصل الكون إلى علة ثابتة، قد فتحت الأديان بابه، وأزالت الحجب التي تعيق النظر إليه، والآصار التي تقيد المسير تجاهه، لأنه متصل ‏بيقين الإنسان في عمقه، وقدرته على بناء أساس معرفي يتحكم في ظاهره، وباطنه. لكن تقدير طرق الوصول إلى الإجابة عنه، وتدبير الوسائل ‏التي تنتهي إليه، هو الذي يؤكد على حرية الاختيار، والإرادة، لأن قبول التعدد والتنوع في الفكر، والممارسة، هو الذي يجعلنا كونيين بالمعنى ‏الديني، والإنساني، إذ لا نستسيغ قتل المخالف، وتدمير دوره، وتخريب دروبه، إلا إذا أيقنا بأن هذا الكون ملك لنا وحدنا، وما عدانا ممن ‏يخالفنا المنهج، والشرعة، فحقه الزوال، والذهاب. ولذا، فإن هذا العقل حين استأسد على غيره بيقينه المطلق، ووثوقه الذي لا يقبل الرد، ولا ‏النقض، وأراد طي خصوصياته البشرية في الثقافة، والحضارة، تعطل سيره، وتوارت وظيفته، لأنه باغتيال ما عداه من العقول المتحررة في ‏التفكير الديني، والعقدي، لم يقدم إلا على عملية انتحاره بين لحظات انسداد أفقه،وانحسار فضائه، إذ لا يمكن له أن يكون قائما بذاته بدون ما ‏عداه من الموجودات المكونة لسلسلة الوجود، بل تفاعله مع غيره من العقول الناعمة، هو الذي يهبه نفحة الحياة، ولمستها الحانية، ويمنحه ‏الاستقرار، والأمان في المستقبل الموعود. ‏
وبناء على هذا، فإن الدهاء لا يدل على الذكاء في مراتب المعاني المتضادة، لأن لكل واحد منهما مقام، ومرام، إذ الذكاء الذي تطالبنا به الحقائق ‏الطبعية، وعلى رغم سعي ما بلغه العلم الحديث في دراسة بنيته العقلية والبدنية إلى القول باستقلاله عن غيره من مكونات المعرفة بالمقدرة ‏البارعة على القراءة، والاستنتاج، والتنبؤ، لا يعني شيئا أكثر من التكيف الإيجابي مع سائر الظروف المحدقة بالإنسان، والمطوقة للعلاقات ‏الاجتماعية، والتأقلم مع المستجدات التي تحاصره بنشاطها المتسارع، وحراكها المتناقض. ولذا، فإن في الذكاء مواجهة للتحديات التي تعتري ‏السبيل بالمحاذير، ومقاومة لما يعتور المسار من مخاطر، لأنه يطيق بشرارته الحيوية أن يبتدع طرقا ممرعة بالعقلانية لتجاوز الأزمة التي تتمخض ‏عنها دورات الزمان، والمكان، إذ هو من خلال تنشيطه، وتدريبه، وتهذيبه، يغدو في مرونته مؤهلا لإحداث معنى السعادة بأنجع الوسائل، ‏وأكملها ذوقا، وحسا، بينما الدهاء هو القدرة على استخدام كل الوسائل لتحقيق الغاية في التفوق، والتميز، ولو كانت سبل نيله مكرا، وخداعا، لأنه تخطيط ‏ممزوج بذات تبادر إلى اقتناص فرصها بالاحتيال، واستغلال كل ما يفرض بروز المأمول، وظهور وجهه باللون الأبهر، والأكمل، إذ هو تقمص لحقيقة شخصية قادرة ‏على التمثيل لكل الأدوار التي تفرضها ضرورة الاحتماء من وافد الفناء، وتجَسُّدٌ لعمق الدهي في التزامه بنظم الأخلاق، والقيم، والسلوك. ومن هنا اختلفا في الأرومة، ‏والمحتد، وإن اتفقا في فعل العقل، وتنابذا في حقيقة غايته، لأنهما لم ينشآ من ضئضئ واحد، بل لكل نوع منهما طريقه الذي لا يعرف إلا به. لكن الذكاء، لم يكن قادرا ‏على الدلالة عنه إلا حين تحدث الإبداع بنباهته، والاختراع بيقظته، والابتكار بتبصره، إذ هو المرآة التي تعكس ما انطوت عليه الذات من توهج الفكر، والرأي، ‏والموقف، لأننا إذا فقدنا ذكاءنا في قوة تدبيرنا للكون، وقضاياه المصيرية، زال الإنسان على وجه الطبيعة، وانتهى زمن الأرض بالحروب، ‏والفواجع المميتة، إذ الآلة التي صنعها الإنسان لكي تنطق بحدة عقله، وإدراكه لعواقب الأشياء، ومقاصدها، وقدرته على تحقيق هدفه، وغايته، ‏لا تقدر على قيادة نفسها، وسوق غيرها، إلا إذا كانت متسمة بما ينفخ فيها من روح العقل الإنساني القادر على تنظيم أنماط سلوكه لمواجهة كل ‏العوائق المتغيرة بتغير الظروف، والأحوال، والملابسات. ومن هنا، فإن الآلة ولو دلت على نوع من الذكاء الاصطناعي، لا تطيق أن تصير متعة ‏مستقلة في وجدان الإنسان، وسبيله، إلا إذا تضمنت معنى الغاية التي تصوغ مفهوما أخلاقيا للأفراد، والجماعات. وإذا فقدت هذه المعاني، ‏دهست الزروع، والضروع، وقطعت الأشجار، والأحجار، لأن ما ينفثه الإنسان من سموم في الصناعة، سيحدث خللا في توازن الوجود ‏البشري، وزللا في مواقع الفعل الإنساني. وحينئذ، سنصير إلى نهاية غير مرغوبة، وسنسير إلى مواقع غير مأمونة، ثم ينقضي هذا العقل الذكي، ‏وتنتهي دورته، لكي يسود الدهاء إلى حين زواله، وفنائه.‏
‏ إن الذكاء يفرض فرائض تتماشى مع كل الألوان التي تكسوها الأشياء بطبعها النازف من غورها، ومنها كما قلنا ناموس الكياسة، والفطانة، ‏وقانون المخاتلة، والمحايلة، لكن الدهاء صناعة تتقن فن الكذب، والمين، ووقاية يحتمي بها كل من هرب من عجزه إلى خبثه، ومن كساده إلى ‏مكره. ولذا، ليس من الفضل أن يميل المسوغ إلى الدهاء في استعمال نشاط العقل الموضوع لصناعة الإرادة السليمة، لكي يؤسس في الواقع لجُرم ‏الحيل الذي لا تتناهى خيوطها في العقول الجامدة، لأنها هي التي أفرزت الهروب من الواقع، والالتباس بالقوة الضامرة للنقص، والضعف. إذ ‏مستطاب الرضى في الأشياء التي تأسر لبنا، وتخلب نظرنا، هو الذي يحدد مسؤوليتنا فيها، ويبين عمق ارتباطنا بها في الروح، والمادة. ‏وإلا،فإن حامل عبء غيره، وهو شاق عليه، لا يأتي منه شيء يفيد في كسب رهان الحقائق البشرية، لأن صوغ الحقائق مطلوب فيها ما تقوم ‏به من دور بين أنظمة الطبيعة، والكون، إذ كل إخلال بذلك في نظام الفرد، والجماعة، هو هدم لمصير الإنسان المشترك، وصوغ لمسار تحكمه ‏الدسيسة، والخديعة، لأن مقدار يقيننا في الأشياء، هو ما نبرزه في أقوالنا، وأفعالنا، إذ هي المعربة عما يستجن في الباطن من توجيهات ‏الخارج. ‏
ومن هنا، فإن المتزيي بشرع ذاته، وإن تظاهر في ظاهره بأسمال العفة، وتعارك في واقعه باسم النقاء، لا يسوغ نقيض اعتقاده الذي يجزم ‏بصلوحيته للتصديق، إلا لفقدانه اليقين فيما يؤمن به من معان امتزج فيها الدنيوي بالأخروي بلا اعتدال النسب، والعلل، لأن أحقر الأفعال في ‏صيرورة الأديان، والثقافات، والحضارات، هو الكذب باسم الحقيقة التي تذود عن حياضها بقيمها، وأخلاقها، إذ هي مرتبطة بتكليف الذات ‏بمشقة تحديد الصالح من الطالح، وصراع الخير والشر في مغريات الحياة، ومشتهياتها. وإذا أفضت إلى قهر الغير لها بدعوى امتلاكها للحق ‏المطلق، أو بمقتضى اعتدادها بنحلتها، أو فرقتها، أو مذهبها، تحولت إلى أداة للتسلط، والجبروت، وعنوان على الاستفراد، والاستعباد. وذلك ‏هو محض الأنانية التي تبني حقيقتها بالاحتيال على العقائد، والأخلاق، وهي في منتهى صوغ إدراكها، ليست إلا وسائل يتقنها الدهي للدفاع عن ‏الذات العاجزة عن رسم بيان يفرق بين الباقي والفاني في الأهواء، والرغبات. والأغرب أن مرد التسويغ في ظواهره النفسية والاجتماعية إلى ‏هذه القبائح التي تنسف بنية الإنسان، وقواه، وتدمر علاقاته المرتبطة مع غيره في محيط كيانه، ومجتمعه، لأن التطاول به، لا يظهر إلا شح عقل ‏دهاقنة الدهاء عن العطاء في ميدان الحرية، والكرامة، وموت صوت الضمير في الخلق الذي تنصهر به الأنانيات بين رحاب المجتمع المختلط ‏الأمشاج، والمتعدد الوشائج.‏
إن بنية التسويغ التي تتماشى مع النفسيات الضيقة في فهم الدين، وفعل العمران، على اعتباره آلة دفاعية تؤدي إلى خلاصة الكذب، وحشاشة ‏النفاق، وهو مخالفة للعلم بالحق، ومصاهرة مع حيل التدليس، والتلبيس؛ وفي ذلك ضرر عظيم على الأخلاق المجسدة لقضايا الإيمان في الأذهان، ‏وخطر جسيم على ثقافة المجتمع، ومقوماته المعرفية، والفكرية، لأنه يخنق مجال الإبداع، ويفرض مناخا قابلا لاستعباد العقول الدوية، واسترقاق ‏الهمم العلية، إذ يشجع على ترسيخ مبدأ التمايز بين الأعيان بالصفات المتفاوتة، ويعين على انتشار لغة الاحتيال بين مجالي الحياة البشرية، ويدني ‏من رسوم الإذلال بين الموارد الفتية. أو على اعتباره مركبا ممتزجا من مجموعة رذائل تستوجب قوتَها بين الأخلاق الرديئة برسم الخداع، ‏والمكر، إذ لا يمكن إدراكها إلا بمعرفة حدود هذا الارتباك الذي يبرد حرارة المعتقد في العقول الواعية، ويدفئ مخادع الخمول في القلوب ‏الكاشحة، ويطعم ظنون الذوات بالأماني الكاسدة، لكي تتساوى النسب بين شرع الذات، وشرع الإله، لأن هذه المعرفة المفضية إلى نبع العلل ‏القائمة بين روابط الأشياء الناطقة بالنفي، والإثبات، سيوقعنا بين لجج الوسائل التي تهتدي بها الذات إلى تسويغ ما لا ينتسب إلى معتقدها، ‏وتحقير ما لا يوصل إلى هدفها المحدد بمفاهيمها المنفردة. وهي ذلك الرسم الذي يحدد وظيفة الإنسان، ومظهره المنظور بالحكم في البناء السوي ‏للمعاني، والقيم، وسواء كان ذلك في مجاله الروحي، أو في مداره المادي، لأننا بدون هذا الدور الوظيفي، لن ننتسب إلى أمة معينة، تمتلك ‏حدودها في العقيدة، والشريعة، والفكر، والرأي، إذ هي لا تتميز إلا بما تتوافق عليه من قضايا الأخلاق التي تسوس بها البلاد، والعباد، وتتواءم ‏حوله من عناوين الخير، والحب، والجمال، وهي التي تكسبها مناعة، وتمنحها حماية، وتحفزها على تحدي الصعاب المبثوثة في طريقها الممهدة لما ‏يسبل عليها إزار نعمة التقدم، والازدهار.‏
‏ ومن هنا، تكون الوسائل متعددة، والغايات متباينة، لكنني لا أقف هنا إلا عند وسيلة واحدة، وهي ما يأتي به اللفظ من معان منتفشة ‏بحواشيها المزركشة في عقل صائغها، وصانعها، ومتفجرة بسؤر الإنسان، وشروره، ومخازيه، لأن من عادة العلاقات الاجتماعية، أن تساق ‏الألفاظ معها في مساق يقبل الوضوح، والتصريح، إذ هي المحددة لأنماط التعامل، والسلوك. وإلا، فإن الأمة إذا خلت من هذا النظام اللغوي ‏الذي يضبط محتويات فكرها، ويحدد معانيها، لن تنجو من عبث الفوضى في المصطلحات، والمفاهيم، لأن اللغة، هي التي تمنحنا قوة المراهنة على ‏نيل التميز في النوع البشري، وتعلمنا كيف ندبر أمر الاختلاف بين الموارد المتشعبة المدارك، والمسالك. ولذا، نتساءل، كيف يجوز لنا أن نسعد ‏بالاشتراك في مباهج الحياة، ونحن لم نعرف كيف نصوغ أمر الاختلاف في الطبيعة.؟ ربما إذا تحول محل الاشتراك إلى مناط للافتراق، وغدا ما ‏يفرض الأمن هو ما يعين على الخوف، فإن اللغة ستؤول إلى مسبب للخراب، والهلاك، لأن مجازها سيصير حقيقة، وتصريحها سيغدو تلويحا. ‏وحينئذ، لن يكون هناك مجال للاتحاد على قيمة في الاعتبار، ولا للاجتماع على كلمة سواء، لأن تمام الكيان في رغبة البقاء، هو ما يكون به ‏سليما مما يعتري غيره من أكدار، وأوضار، إذ وجوده حدث بما فيه من مناعة الفكر، والرأي، لأنها هي الضرورة التي تلهمه شروط النهضة، ‏والحضارة. ومن هنا، لا نفجع بما توارى من نيات وراء الصدور، لأنها بدون حدوثها، ووقوعها، لن تكون محل الثواب، والعقاب. لكننا نهان بما ‏همست به الألفاظ التي تكتب على السطور، وهي حين تحكى، أو تروى، لا تريد ما ظهر من معناها بالأصالة، بل ما تحمله من أنفاس الذوات ‏المتسلطة بالكلمة النازفة بمكنونها المستضمر في عمقها الحزين، لأنها، وبمقدار ما استعملت اللغة في التخاطب، والتحاور، فإنها قد أجادت في ‏إفراغها من محتواها، وفحواها، لكي يجوز فيها القولان، أو الرأيان. وحينئذ، لن تنتهي الفروع، والجزئيات، ولن نصل إلى مضمون يجمعنا على ‏غاية معلومة لكل ذي عقل سليم. ‏
وهكذا، نكون ضحايا للغة التي اغتالها التحريف لمعانيها، ومضامينها، لأنها، ومهما فسرناها بحرفيتها، أو بظاهريتها، فإننا نطمس مساحات تحتمل ‏فيها معاني أخرى، ربما مسكوت عنها لغاية مقصودة، أو ربما مفهومة من روابطها بغيرها، وعلاقاتها بمحيطها النفسي، والاجتماعي. وإذ ذاك لا ‏نلتجئ في غموض الدلالات على حقائقها إلا إلى التأويل، لكي نزيل الالتباس عن أعماقنا، ونملأها بمعنى مقبول في الذات المعذبة، ومرضي في ‏الصيرورة المتبعة، لأن التأويل لا يكون فاسدا إذا تضمن ما يحدد اللفظ، ويصلح لحاله في موقعه، لأن إيقاعه في مجراه، هو الحكمة التي تنفخ ‏في المعاني روحا، وحياة. لكنه لا يكون سببا في غرس بذرة الفساد بين الآراء المتعارضة، إلا إذا كان مؤولا برأي يجد وجود نقيضه جهلا، ‏وعماية، لأنه ينفي الآخر في وجود الصياغة النهائية للحقيقة، ويجري بالقصود في فلك الذات الملتبسة المعاني. ومن هنا يصير كثير من التأويل ‏متفجرا بمضمرات الكيان المستورة في الأغوار، والمسورة بما يموج في الذات من أنظار، إذ كونه يلبس لبسة معينة، ويمشي بمشية مقيدة، لا يفضي ‏إلا إلى إغراق الأرض في بحر الأنانية المكروهة، لأن ما حقه التنوع في الصوغ الأصلي، لا يأتي منه التوحد على حقيقة واحدة ملزومة لماهيته، ‏وكنهه.‏
إن القول بالتأويل في المحكم المنصوص عليه، هو الخراب الذي يدمر المطلقات، ويبني ديار الخلاف بين المتحدات، لأن ما يجوز تأويله، هو ما ‏يقبل التشابه في معناه، إذ هو المراد بالتعدد المطلوب لتحرير الرقاب من عبودية الآراء المغالية في كفاحها، وصراعها. ولذا اقتضى مصير اللغة ‏أن يكون فيها ما هو غير قابل للاحتواء، وما هو ضامن له، وذلك ما يملأه الإنسان بما في ذاته من عسل، وأصلال، لأن اشتباك المعاني في ‏الأشياء المتنوعة، لا يأتي إلا من تداخل الحدود بين الألفاظ الدالة على الجوهر الفذ، والفرد، إذ لكل واحد طاقته، ومداره، وهي التي تحدد ‏جرمه في بناء اللغة التي تكشف حجاب الجهل عن جمال الكون، والإنسان. ومن هنا، فإن منطق التأويل يقتضي أن ينظر فيه إلى اللفظ المتخذ ‏ذريعة، ووسيلة، لكي يعاد إلى حقيقته التي يتضمنها، ويحتملها، لا إلى حقيقة الذات في صوغها للأشياء بلغتها المتدسمة بأنانيتها المفرطة، ورغباتها ‏المستعلية، إذ معرفة مداليل اللغة بمقتضى ما تنطوي عليه الذوات من عقائد صاغها الإنسان قبل جعل اللغة برهانا عليها، قد يجرنا إلى تأويل ‏ما يحمل اليقين فينا، لأنها ستنزع إلى ما أوجده الإنسان من صراع حول لسان السماء، والأرض، وإذ ذاك، سيكون النطق بالكفر ميسرا ‏بلفظه، والتعريض بالنفاق مصرحا بضميره، لأنه لا يأتي به الحكم إلا إذا انغلق الفكر على الرأي الواحد، وانسد المجال على الذوق الكاسد، إذ ‏التأويل الفاسد، لا يتأتى إلا إذا ساد الخلاف في الحقائق المدركة بجلاء، ووضوح. وإذا كان هذا سعيا منا إلى وضع حد نزن به ما هو مقبول ‏في التأويل، وما هو مرفوض منه، لا لكونه يتنافى مع عقد الذات، وإنما مع منطق الاشتراك بين الألفاظ، فإننا نستلهم من الموقف كيف تكون ‏اللغة أداة خداع، واستلاب.‏
ليس من الغرابة أن تكون اللغة بقانونها الصلد قاتلة، وفاتكة، لأنها سيف ذو حدين، فكما يقطع بظاهره، فهو يغتال بباطنه، وكما يقيم العدل، ‏فإنه يبني للظلم قبة مرمرية، يسترفد منها الجائر في حكمه ثوبَ الطهارة، والنقاوة، إذ هي الحاكم الذي لم ينطق بالحكم إلا بتضمين يدل عليه ما ‏ينزف فيها من معان غائرة، وما يموج فيها من جواهر خفية، لأن اشتمالها على تفكير الإنسان، وطريقة صوغه لمفاهيمه، ووسيلة تعبيره عن نظم ‏سلوكه، هو الذي يجعله قادرا على تجسد كل مراحل التاريخ البشري بلا تجاوز لحدوده المرسومة له تأليفا، وتكليفا. وإذا نطقت بما تضمره في ‏الذات من مكنون، ومخزون، كان أثرا في الأعيان، والأبدان، وفعلا ساريا في الوجود، والطبيعة. وأي أثر أعظم من الحكم على الأشياء ‏بالبقاء، أو الفناء.؟ قد يكون المصير الإنساني مرتبطا بدلالتها على تمام المعنى المراد بها في الكلمة الأزلية، والمقصود بها في المفاهيم البشرية، لكن ‏أجمل شيء اتصل بها في الوجودات الظاهرة، هو ما تمنحنا من حياة نُمتحن بأدوارها، ونشقى بأطوارها، وما تنحلنا من قدرة على طي ‏المسافات بين الأمل الذي نغرد به بين الأوجاع الضارية، والألم الذي نتحاشاه في ضرورة قيام الكينونة بحرية، واستقلال، لأن عدم دلالتها على ‏معناها المضمر فيها بقدرة فاطر حروفها، وخالق معانيها، هو الذي يربك بهذا الانتظار الشقي مسيرنا إلى الحقيقة التي نعتقد يقينها، وصدقها. ‏
أجل، قد تنتهي الحياة باللغة التي نتداولها في مواضعاتنا الاجتماعية، ومناولاتنا الإنسانية، لأنها ما استعملت إلا في رغبات الذوات المتباينة، ‏وغاياتها المتعارضة، إذ هي ما كانت شرسة بذاتها التي تتضمن حيادتها عن الفعل الموجه بالإرادات المتناقضة، إلا حين كانت محلا للتأويل الذي ‏اشتبه مورده على النفوس الهزيلة، والعقول العليلة، لأن أعلى ما يدرك في صرف اللفظ عن ظاهره من غاية، هو قبوله للاجتهاد في الذات ‏المكلفة، وجهوزيته للتعدد الدال على تمام الجهد في تحقيق معنى الحقيقة المقدسة، إذ هي محل العقد المجزي عليه في النيات المحمودة. ومن هنا، لم ‏يحصل الخلاف إلا في تحديد المعاني المقصودة بها، والمرامي المتجه إليها، لأنها تنطوي على مصاديقها في التصورات، ومفاهيمها في التصديقات. ‏وهي على هذا ترشح بما في الذات من صور الحواس، والبواطن، وتنضح بما في الأخلاق من سمو، ودنو، إذ لو لم تكن معنى قائما في كيانها ‏المعنوي، لما حصل الاختلاف حول المقصود بها في الكلام الملازم لصيرورة الأكوان، لأنها دلالة المعاني على المباني، وكلاهما يحملان عبء ‏الإنسان في حصر مقاصده بين المعاني المتكاثرة، إذ جهاز اللغة في الأعماق غير متساو النسب بين البشر، بل هو محل الابتلاء، ومقام التمحيص، ‏لأنه هو عين ما نجزم به بين المعاني المتعاركة. وما ننطق به من عبارات، وأقوال، هو ما يحكيه عمقنا الذي نكتب على صفحته ما نصوغه في ‏ذهننا من عقائد، وما نقبله في واقعنا من شرائع. وهي على هذا تحتوي الذات، وتتضمنها بالمنطوق، والمفهوم، إذ قدرة الإنسان على الاختلاط ‏بغيره من الكائنات الحية، وقوته على الامتزاج بما يتعارض في ذاته، وواقعه، هو من حدة لغته على التعبير عن مشاعره، وأحاسيسه، لأنها لا ‏تتجسد في خارجه إلا بلغته الدالة عل نياته، وغاياته، وهي التي تفصح عن ماهية دركه للمفاهيم المحركة له في سلوكه، وأفعاله. ولولا ما فيها من ‏نفس الإنسان، ومعارفه المحصلة مفاهيمها في ذهنه، لما كانت غير قادرة على الاستمرار مع الزمان، والمكان، لأنها روح قائمة في الوجود، وسر ‏مكشوف لمن انتجبته العناية، وانتخبته الرعاية. وهي كل أنماط الإعراب عما في الداخل من أسرار، وأفكار. ‏
وإذا كانت اللغة بهذه المكانة الفذة، فإنها تنفصل عن معانيها في الذوات المسوغة لنقيض ما تدل عليه الألفاظ من مفاهيمها الحقيقية، لأن تحديد ‏ذلك، وصياغته، هو موقع التكليف الذي يبين قيمة ما نعتقده، ونؤمن به، ونجتهد في حمايته، ونكدح في صيانته. وإذا حصل التنافي بين اللفظ، ‏ومعناه، كانت اللغة عبثا في مصير الأرواح، وفوضى في مسير الأكوان. وإلا، فهل داعش خرجت على ما كان عندنا من أصول المحكم، وفروع ‏المتشابه.؟ لعل الاختلاف الذي حصل في الأمر المشتبه مقبول في النظر الرصين، لأنه يدل على التنوع في الفهم، والتفاضل في الإدراك، وهو ‏محل للتدافع حول صياغتها في معان تقبلها الحقيقة، وترضاها طبيعة الإنسان في لازم التكليف بما معه مشقة، أو تخفيف، إذ كل فهم يستجليها ‏بمظهر يخلق فيه نوعا من اليقين، وهو محصور بمقدار الإدراك الشخصي للقضايا التكوينية، والتشريعية، لأنه لا يمكن أن يكون متساويا في كل ‏الأنفاس الصاعدة إلى باريها من مخلوقها، إذ استجلاء تلك الصورة، هو من كد الإنسان، وجهده، وحصره لمراده، وقصره على مرامه. لكنه ‏ومهما انحصر به المبتغى في الذهن، فإنه لا يؤكد في طوره إلا على علم اليقين، لا على غيره من مراتب صناعة العقيدة مما لا يقبل الحيرة، والغربة، ‏لأنه موضع الاختلاف الدال على أن أصول الأشياء وفروعها، تتضمن ما يحق فيه التآلف، وهو المحكم، وما يجوز فيه التخالف، وهو المتشابه، ‏وفيه يقع التأويل الذي يتمدد ما بين علم اليقين، وحقه، وعينه، لأنه هو المقصدالذي نصوغ به كل ما نبنيه من أمور العقيدة، والشريعة، ثم نضفي ‏عليه صفة الإطلاق التي نقدسها في المعاني، والمباني. وذلك هو السبب لما دار في حقل المعرفة الدينية من حوارات، ونقاشات، وخلافات، إذ ‏هو في تحوله إلى أداة للاستعباد، والاسترقاق، لم يكن إلا معنى للرأي الواحد الذي يخرجه عن دائرةِ مَا وجدت حقيقته للاجتهاد فيه من أجل ‏تحصيل ماهيته الذهنية، لأن ما فيها من خفاء العلة الجامعة لجزئياتها بين مركبات جوهر الإدراك الباطني، هو الذي تنحاز فيه العقول إلى معنى ‏من المعاني المستبدة بالفكر، والرأي، والموقف. ولذا يغدو التأويل في المحكم ضررا كبيرا على الفكر الديني، لأنه وضع أصالة للوحدة التي لا تقبل ‏التقسيم، والتجزئة، إذ هو المطلق المحدد لكليات العقل، ومداراته النفسية، والاجتماعية. وأي حدوث للتأويل فيه، وإرجاع باطنه إلى ظاهره ‏الملازم لبشرية الإنسان في قيام العلم به، والجهل فيه، لن يكون إلا حربا مستعرة على القصود التي تصنع السعادة، والهناءة، لأن تناول ذلك بآلة ‏التأويل كما هو مرئي في الخلاف العقدي، والفقهي، لن يخلق في عالمنا العربي ذلك المرتجى الذي نأمل تأليف كلمته التوحيدية بين أنواع الفكر، ‏وألوانه. ‏
ومن هنا، قد يقتضي سير الزمن أن نختلف في الفروع التي انفصلت عن روح أصولها، لكونها الملاذ الذي نؤوب إليه عند هجوم النوازل الداهمة ‏لنا بين الديار المفتوحة على أصداء غيرها، وهي كثيرة، وعديدة، لأنها تجسد صورة الإنسان في إدراكه لعوالمه الخفية، والجلية، إذ بناء نسق ‏خاص بالذات في سياق الصيرورات المختلفة، هو الذي أوجد الصراع بين الإرادات المتنوعة، والمواقف المتكررة. وهو محمود ما دامت غايته ‏هي إضافة ما حكمه الجمال في ذاته إلى حركية الإنسان مع الطبيعة، وصيرورته مع ما يحوم حوله من مدارات في النفس، والعقل، والقلب، ‏والروح، لأن وجود الصراع بين الدوائر المتعددة، هو الذي يمنحها الحياة بين مركبات الكون الكلية. ومن هنا يكون الصراع ضروريا في بناء ‏الأنساق الخاصة، وهو ذلك التماس الذي يحدث في قابلية الأشياء للامتداد، والاستمرار، لأنه دليل على وجود الأمل في الكيان البشري، ‏وبرهان على الفعل الممتع، والمتعب، إذ هو خلاصة نظر الإنسان إلى ما يروج حوله من أشياء مرغوبة، ومكروهة. ومن هنا يكون الصراع ‏نتيجة حتمية للتأويل، لكنه لا يعبر عن المعنى الأتم له، لأنه أن لم يوحد الآراء حول قبول الاختلاف، واعتباره حقيقة ضرورية لبقاء الكيان في ‏طبيعته، وطبعه، فإنه سيصير خرابا، ودمارا. وإذ ذاك سيكون محل الاتفاق موردا للاختلاف. وذلك ما غفلت عنه السلفية حين استقوت ‏بالانفراد في الرأي، وانحصر العلم عندها في زمن معين للتحصيل، لا يحصل الالتزام معه بمقتضى الدين إلا بالانتساب إليه، والري من معينه، بل ‏من شدة الوله به، غدا عهد الوفاء له مرتبطا بتقديسه، وتنزيهه، لأنه يعبر عن الوحدة في موقع لا يقبل إلا الكثرة. وذاك ضرر ثان في الفكر ‏السلفي، لأنه ابتغى نزع الصراع فيما لا حياة له إلا باحتكاكه، واصطدامه، وارتجى الالتئام حيث يكون الافتراق سببا في ظهور التكليف بالمحبة، ‏والأخوة، لأنهما لا ينشآن إلا حيث يحصل النزاع حول المصالح، والمنافع، إذ لا تكليف بدون وجود ضد منهي عنه بين طيات القول، والفعل، ‏لأنه يستحيل وجود تكليف في بحر الأحدية التي هي موئل كل ثنائية، وضدية، إذ هي المعنى الواحد الذي لا يقبل الغيرية. وذلك مرجعه إلى ‏الذات العلية، وما عداها مما انتهى إليها باللطف الخفي، فهو مكلف بالوظائف على جهة المشقة، لأن فيها ما تحبه الذات من رغبات، وما ‏تكرهه من شهوات. وحصول الالتزام بأحدهما، هو موقع النظر في الثواب، والعقاب. ‏
وهكذا، فإن استعمال التأويل كأداة للتسويغ الذي تنحصر فيه الدلالات بأنانية الذات المتوحلة بين مجاهل معرفتها الضيقة، هو الذي يمنحنا جهاز ‏اللغة بدون قانون مفاهيمها، ومعانيها، وإن عبرت عنها الألسن بالألفاظ البراقة، والكلمات الخادعة، لأن اللفظ منزل تحله روح الناطق به، ومحل ‏للتعبير عما انطوى في الماهية من أسرار، وأدوار. إذ المعبر بها هو الذي يمنحها المعنى، ويجعلها صوتا مسموعا بين ألحان الكون الجميلة، إذ كلامنا ‏الذي نؤسس به أفكارنا، ونوجه به أخلاقنا، هو معراجنا إلى عالم السماء، والدليل علينا في عالم الأرض. وإذا سافر بعيدا عن زخارف الحس، ‏وخدع الخيال، كانت نمنماته حكمة، وشعرا، ونثرا، لأنه لا يدل على خصوبة الخيال في صناعة الصور البعيدة، بل يوحي بوعي الإنسان بقوة ‏لفظه، وقدرته على رص ما في وجدانه من مشاعر، وأحاسيس، وما في عقله من نظم، وأدوات، إذ لو كان خيالا جانحا كما تراءى لمن خال ‏الصورة البلاغية سديما في الرؤية، لانتهى اللفظ في حربه مع المعنى إلى العماء، لكن الخيال ومهما بدا متناهيا في صور المعقول الذي نخرصه، ‏ونحدسه، فإنه صورة راقية من صور القياس الذي يضيف الأشياء إلى غيرها، لأنه نوع من قياس الغائب على الأثر الموسوم بالإطلاق، لأن ‏نهاية المشهود، هو بداية الشهود، وهو مراتب عالية في التعبير عن المراد بالرمز، والإشارة. وقد لا يبلغها إلا المدركون لمعنى صيرورة الروح في ‏كل موجود، إذ أولاها في خط السير إلى حضرة المعنى هو الخيال الذي نستفتح به عالم الأفق، والفضاء البعيد، ونهايته التئام صورة ما بعد ‏سراب الإحساس بنهايتها في بحر الإدراك القلبي، والروحي. ولذا تفرد العظماء بالخيال الخصيب في المعاني الخفية، لأنه فارق عالم الحواس ‏الميكانيكي، واجتاز جسور الإحساس الواقعي، وانتهى إلى معاني الوجدان الروحي، إذ هو نهاية كل المركبات في صوغ الصورة النهائية الممتزجة ‏من الذات وقواها المتحركة في الظاهر، والباطن، ومنه يحلق الإنسان بين عوالم الروح التي هي موئل الفيوضات، والكمالات.‏



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عقيدة التسويغ -10-
- عقيدة التسويغ -9-
- عقيدة التسويغ -8-
- عقيدة التسويغ -7-
- ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -5-
- عقيدة التسويغ -6-
- عقيدة التسويغ -5-
- ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -4-
- ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -3-
- عقيدة التسويغ ‏-4-
- ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -2-
- ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -1-
- عقيدة التسويغ -3-
- عقيدة التسويغ -2-
- عقيدة التسويغ -1-
- وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -8-
- وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -7-
- وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -6-
- وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -5-
- وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -4-


المزيد.....




- الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي ...
- -من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة ...
- اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
- تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد ...
- صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية ...
- الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد ...
- هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
- الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
- إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما ...
- كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - جميل حسين عبدالله - عقيدة التسويغ -11-