أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - تنظيم ابراهيم النجار - سلسة مناقشات في النظلم الكونية - قانون الديالكتيك - الحلقة الاولى















المزيد.....



سلسة مناقشات في النظلم الكونية - قانون الديالكتيك - الحلقة الاولى


تنظيم ابراهيم النجار

الحوار المتمدن-العدد: 5481 - 2017 / 4 / 4 - 15:40
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


النظم الكونية وقانون الدياليكتيك ..
مواضيع منقوله من كتاب اليوم الموعود بين الفكر المادي والفكر الديني ص 77 - 97
للمفكر الاسلامي محمد محمد صادق الصدر .
منقول بتصرف ..


تبدأ الكتب الماركسية- عادة- بنقطة انطلاق معينة ، و هي أن أهم مسألة في الفلسفة على الاطلاق، هي أن الفكر متقدم على المادة أو أن المادة متقدمة على الفكر ... و ان اختلفت كلمات الماركسيين في طرح هذه المسألة.
قال انجلز:
«المسألة الأساسية الكبرى في كل فلسفة، و بخاصة الفلسفة الحديثة، هي مسألة العلاقة بين الفكر و الوجود ... مسألة معرفة أي عنصر هو الأسبق: الروح أم الطبيعة.
إن هذه المسألة قد اتخذت حيال الكنيسة شكلا حادا، هل العالم من صنع اللّه أم هو موجود منذ الأزل.
و قد كان الفلاسفة ينقسمون حسب جوابهم على هذا السؤال، بهذا الشكل أو ذاك، إلى معسكرين كبيرين. فالذين كانوا يؤكدون صفة الأسبقية للروح على الطبيعة، و الذين كانوا بالتالي يسلمون، في نهاية المطاف، بخلق العالم من أي نوع كان ... كان هؤلاء يؤلفون معسكر المثالية. أما الآخرون، الذين يعتبرون الطبيعة هو العنصر الأسبق، فكانوا ينتمون إلى مختلف المدارس المادية» «1».
و قد أجابت الماركسية على هذا السؤال باختيار الجانب المادي للفكر، و قالت في نفس الوقت بأزلية العالم، تجنبا للفكرة القائلة بإمكان أن يطفر الكون من العدم إلى عالم الوجود، دفعة واحدة بمحض الصدفة المطلقة، لوضوح سخافتها إلى درجة لا يمكن حتى مجرد التفكير بها.
يقول انجلز:
«إن الفهم المادي للعالم يعني- بكل بساطة- فهم الطبيعة كما هي، دون أية إضافة غريبة.
و لقد كتب لينين بصدد المفهوم المادي عند فيلسوف العهد القديم و هيراكليت الذي جاء فيه ان «العالم هو واحد، و قد كان و لا يزال و سيكون شعلة حية إلى الأبد، تشتعل و تنطفئ تبعا لقوانين معينة ...» فقال: يا له من شرح رائع لمبادئ المادية الديالكتيكية» «2».
أضاف انجلز قائلا:
«و لكن مسألة علاقة الفكر بالكائن ترتدي أيضا مظهرا آخر: ما هي العلاقة بين أفكارنا عن العالم المحيط بنا، و العالم نفسه، و هل يستطيع فكرنا أن يعرف العالم الواقعي ... هذه المسألة تسمى في اللغة الفلسفية مسألة مطابقة الفكر و الكائن. إن أكثرية الفلاسفة الكبرى قد أجابوا عنها بالايجاب» «3».
و في جواب هذا السؤال اختارت الماركسية- مصادرة- جانب الواقعية خلافا لهيوم و باركلي و إضرابهما.
«ممن يشكون في إمكانية معرفة العالم- أو على الأقل معرفته الكاملة» «4».
و اعتقدت الماركسية بإمكان اجتماع النفي و الاثبات في هذا الواقع الذي اعترفت به، حتى في الشيء الواحد ذاته. و اعتبرت الايمان بهوية واحدة ثابتة للأشياء ضربا ميتافيزيقيا من التفكير.
قال انجلز:
«تبدو وجهة النظر العتيقة الشكلية تجريديا عن الهوية، التي تريد تناول كائن عضوي كشيء مماثل لذاته ببساطة و كثابت، باطلة ... بيد أن الهوية بوضعها هذا لا وجود لها في الواقع حتى في الطبيعة غير العضوية.
فكل جسم يتعرض باستمرار لأفعال ميكانيكية و فيزيائية و كيميائية تحدث فيه على الدوام تغيرات تبدل هويته» «5».
... «إن التغير المستمر أي إبطال الهوية المجردة مع الذات، يوجد أيضا في الطبيعة المسماة بغير العضوية. و الجيولوجيا هي تاريخ هذا التغير المستمر. على السطح تبدلات ميكانيكية (تأكل تجمد) كيماوية (تفتت).
في الداخل تبدلات ميكانيكية (ضغط) حرارة (بركانية) تغيرات كيماوية (ماء، حوامض، مثبتات) على نطاق واسع. ارتفاع التربة، هوات أرضية الخ ...».
«إن (مبدأ الهوية) بمعنى الميتافيزياء هو المبدأ الأساسي للمفهوم القديم عن العالم: آ آ. كل شيء متماثل مع نفسه ... و هذا المبدأ قد دحضه علم الطبيعة نقطة فنقطة، و في حال أثر أخرى» «6».
و قال انجلز أيضا:
«أكيد أننا لا نصطدم بأي تناقض في الأشياء ما دمنا نعتبرها ساكنة و بدون حياة.
كل لذاته. الواحد إلى جانب الآخر، و الواحد بعد الآخر ... و في حدود ميدان الملاحظة هذا، نخرج من الأمر بنسق التفكير الدارج: النسق الميتافيزيائي.
و لكن الأمر يختلف عن ذلك تماما منذ أن ننظر إلى الأشياء في حركتها، في تغيرها، في حياتها، في فعلها المتبادل بعضها على بعض. هنا نقع فورا في تناقضات، فالحركة نفسها هي تناقض.
بل ان تغير المكان الميكانيكي نفسه لا يمكن أن يتم إلا لأن جسما ما في لحظة واحدة بذاتها يكون في مكان و في مكان آخر معا، يكون موجودا في مكان واحد بذاته و لا يكون موجودا فيه.
و الحركة إنما هي بالضبط، في الصورة التي ينطرح بها هذا التناقض باستمرار و ينحل في الوقت نفسه» «7».
«و إذا كان التغير الميكانيكي البسيط للمكان يتضمن في ذاته تناقضا، فمن باب أولى أن تكون كذلك الأشكال العليا لحركة المادة، و على الأخص الحياة العضوية و تطورها.
و قد رأينا فيما سبق أن الحياة تقوم بالدرجة الأولى و على وجه التحديد في أن كائنا ما هو في كل لحظة ذاته و آخر مع ذلك. فالحياة بالتالي هي أيضا تناقض ... و مذ يتوقف التناقض تتوقف الحياة أيضا و يحل الموت» «8».
حتى الرياضيات مشمولة لهذا التناقض.
قال انجلز:
«إن من الأسس الرئيسية للرياضيات العليا واقع أن المستقيم و المنحني يجب أن يكونا- في بعض الظروف- الشيء ذاته. و الرياضيات العليا تحقق أيضا هذا التناقض الآخر، و هو أن خطوطا تتقاطع أمام أنظارنا، ينبغي- مع ذلك- على بعد خمسة أو ستة سنتيمترات فقط من نقطة تقاطعها أن تعتبر متوازية، أي انها خطوط لا يمكن أن تتقاطع حتى و ان امتدت إلى اللانهاية.
إن جذرا ل (آ) ينبغي أن يكون قوة ل (آ) و مع ذلك فان (آ 15)-؟؟؟ آ. إنه لتناقض. إن كمية سلبية يجب أن تكون مربعا لشيء ما، ذلك لأن كل كمية سلبية مضروبة بنفسها تعطي مربعا إيجابيا. إن الجذر المربع ل (- 1) ليس فقط تناقضا، بل هو تناقض لا معقول، هو لا معنى فعلي. و مع ذلك ففي كثير من الحالات يكون؟؟؟- 1 هو النتيجة الحتمية لعمليات رياضية صحيحة. و فوق ذلك أين ترى تكون الرياضيات، سواء الدنيا أم العليا، إذا كان محظورا عليها أن تتعامل مع؟؟؟- 1؟» «9».
و اعتقدت الماركسية ان هذا التناقض الداخلي هو السبب الكبير و الوحيد للتطور.
قال لينين:
«التطور هو نضال المضادات».
و قال ستالين:
«تعتبر الطريقة الديالكتيكية أن حركة التطور من الأدنى إلى الأعلى، لا تجري بتطور الحوادث تطورا تدريجيا متناسقا، بل بظهور التناقضات الملازمة للأشياء و الحوادث ب «نضال» الاتجاهات المتضادة التي تعمل على أساس هذه التناقضات» «10».
و هنا نصل إلى قانون: نفي النفي، أو التركيب بين النفي و الاثبات، الذي هو روح التطور عند الماركسية.
قال انجلز:
«فما هو إذن نفي النفي، إنه قانون لتطور الطبيعة و التاريخ و الفكر، عام للغاية.
و لذا له أهمية و مدلول بالغين. إنه- كما رأينا- قانون على مملكة الحيوان و النبات و على الجيولوجيا و الرياضيات و التاريخ و الفلسفة» «11».
«فإذا كنت أقول عن جميع هذه العمليات أنها نفي النفي، فإني أفهمها في ضوء هذا القانون الوحيد للحركة، و بالتالي لا آخذ بالحسبان على وجه التحديد خصائص كل عملية خاصة على حدة. و لكن هذا إنما يعني بالضبط: ان الديالكتيك ليس سوى علم القوانين العامة للحركة و لتطور الطبيعة و المجتمع البشري و الفكر» «12».
دعنا نسمع انجلز بمثل لهذا القانون الماركسي:
«لنأخذ حبة شعير، مليارات من حب الشعير المتماثلة تطحن و تطبخ و تخفق، ثم تستهلك. و لكن إذا وجدت حبة شعير من هذا النوع الظروف العادية لها، إذا وقعت على أرض مؤاتية. فإن تحوّلا معينا يجري فيها تحت تأثير الحرارة و الرطوبة: إنها تنبت، تزول الحبة بوصفها هذا، يقع عليها النفي. تحل محلها النبتة التي تولدت فيها، نفي الحبة. و لكن ما هو الدور الطبيعي لهذه النبتة؟ إنها تنمو، تزدهر، تتلقح، و تنتج في نهاية الأمر حبات شعير جديدة. و ما أن تنضج هذه حتى يتلف الساق و يقع عليه النفي بدوره. و كنتيجة لنفي النفي هذا، تكون لدينا من جديد حبة الشعير التي كانت في البداية، لا مجرد حبة، بل أكثر منها بعشر أو عشرين أو ثلاثين مرة» «13».
«إن عملية التطور هذه تتم لدى معظم الحشرات مثلما تتم مع حبوب الشعير، كالفراشات مثلا. فهي تلد من البيضة بنفي البيضة، فتنجز التغيرات في هيئتها النضج الجنسي، فتتزاوج، فتنتفي بدورها أي تموت، منذ أن ينتهي التزاوج و تبيض الأنثى بيوضها العديدة» «14».
و بهذا يتضح مفهوم «الثلاثية» الماركسية: الأطروحة و الطباق و التركيب ... أو القضية و ضدها و المركب.
و المقصود- عادة- بالأطروحة أو القضية وجود الشيء ذاته، سواء في عالم المادة أو عالم الفكر. و المراد بالطبق أو ضد القضية: تحقق نقيض ذلك الوجود، أما في داخله- بحسب مفهوم التناقض الماركسي الذي عرفناه-، أو في خارجه، يعني ما يسبب إلى زوال ذلك الوجود. و المراد بالتركيب:
نفي النفي الذي عرفناه، و هو أن الصراع بين وجود الشيء و عدمه، بين الأطروحة و الطباق، يصل بالوجود إلى وجود أفضل جديد ... ثالث، هو غير الأطروحة و الطباق السابقين. و يكون هذا الوجود الجديد بدوره أطروحة لينتفي بالطباق مرة أخرى ... و هكذا تستمر الحركة.
و هذه الفكرة التي عرضناها واضحة في المصادر الماركسية بصيغة:
النفي و نفي النفي، و فيما نقلناه سابقا كفاية للدلالة عليه. إلا أن التعبير بالثلاثية بإحدى صيغتيها، نادر الوجود فيما اطلعنا عليه من المصادر، بالرغم من أنه مشهور عنهم جدا.
فماركس نفسه حين أراد تطبيق القانون لم يعبر بذلك. حيث نسمعه في كتابه «رأس المال» يقول:
«إن الاستملاك الرأسمالي، المطابق لنمط الانتاج الرأسمالي، يشكل النفي الأول لهذه الملكية الخاصة التي ليست إلا تابعا للعمل المستقل و الفردي. و لكن الانتاج الرأسمالي ينسل هو ذاته نفيه، بالحتمية ذاتها التي تخضع لها تطورات الطبيعة. إنه نفي النفي. و هو يعيد ليس ملكية الشغيل الخاصة بل ملكيته الفردية المؤسسة على مقتنيات و مكاسب العصر الرأسمالي، و على التعاون و الملكية المشتركة لجميع وسائل الانتاج، بما فيها الأرض» «15».
و كذلك انجلز، فيما سمعنا من التطبيقات و غيرها. و كذلك ستالين و بوليتزر و إضرابهما من المفكرين الماركسيين.
غير أن كتابا ماركسيا حديثا تعرض إلى ذلك بأسلوب يكاد أن يكون ثانويا و استطراديا ... حيث قال:
«لقد رأينا أن ما يبرز بصفة النفي، يتبدل بدوره مع الزمن و يتحول إلى نوعية جديدة، أي نفي نفسه. و هذه السلسلة من النفي لا نهائية. و انه من الخطأ الظن بأن هذا التطور يجري بشكل سلس و بدون تناقضات. الواقع أن التطور التصاعدي السائر إلى الإمام عن طريق النفي يتم بشكل تناقض.
و لتوضيح ذلك نتصور نزاعا بين طرفين حول قضية علمية ما. إن الطرف الأول يقدم فكرة معينة (نظرية) و الطرف الثاني يقدم نفي هذه الفكرة (ضد النظرية). إن كلا من الطرفين المتعارضين يمكن أن يصيب بعض الحقيقة، و لكنهما يعارض أحدهما الآخر من جانب واحد، و يقف أحدهما من الآخر بصفته نافيا له. و تنشب بين الطرفين معركة فكرية تنتهي بظهور فكرة جديدة تنفي الفكرتين السابقتين المتصارعتين فيما بينهما
و لكنها عند ما تنفيهما و تنهي الخلاف الناشب بينهما لا تنبذ تلك العناصر من الحقيقة التي كانت متمثلة في كل منهما من جانب واحد، بل تضمهما إلى بعض و تصبح بهذا «مركبا» يستفيد من الجوانب الايجابية في تطور الجدال الذي كان ناشبا ... و يختفي في الوقت نفسه عنصر الخطأ المؤقت المعارض للحقيقة. إن هذه الدرجة الجديدة بالذات هي ما نسميه «نفي النفي». و بالتالي فإن نفي النفي هو النتيجة القانونية لحل صراع الأضداد» «16».
و طبقا لهذا التسلسل الفكري، وضعت الماركسية: قانون تراكم التغيرات الكمية و تحولها، في مرحلة معينة، إلى تغيرات كيفية. و المراد من التغيرات الكمية، باصطلاحها، التغيرات الطفيفة التي تطرأ على الشيء، و من التغيرات الكيفية: ما كان تغيرا أساسيا و مهما في الشيء. و بهذا الفهم من هذا القانون: ان التغيرات الطفيفة و القليلة إذا تراكمت انتجت تغيرا كبيرا و مهما.
قال ستالين:
«إن الديالكتيك- خلافا للميتافيزيقية-، لا يعتبر حركة التطور حركة نمو بسيطة، لا تؤدي التغيرات الكمية فيها إلى تغيرات كيفية. بل يعتبرها تطورا ينتقل من تغيرات كمية و ضئيلة و خفية إلى تغيرات ظاهرة و أساسية، أي تغيرات كيفية. و هذه التغيرات الكيفية ليست تدريجية، بل هي سريعة فجائية، و تحدث بقفزات من حالة إلى أخرى.
و هذه التغيرات ليست جائزة الوقوع بل هي ضرورية نتيجة تراكم كمية محسوسة و تدريجية.
و لذلك تعتبر الطريقة الديالكتيكية أن من الواجب فهم حركة التطور، لا من حيث هي حركة دائرية أو تكرار بسيط للطريق ذاته، بل هي حركة تقدمية صاعدة انتقال من الحالة الكيفية القديمة إلى حالة كيفية جديدة و تطور ينتقل من البسيط إلى المراكب، من الأدنى إلى الأعلى» «17».
و قال انجلز:
«كل تغير هو مرور من الكمية إلى الكيفية. هو نتيجة التغير الكمي لكمية الحركة كيفما كان شكلها، سواء أ كانت ملازمة للجسم من داخله أم مضافة إليه ما خارج. فإن حرارة الماء مثلا ليس لها بادئ الأمر تأثير في حالته من حيث هو سائل، و لكن إذا زيدت
أو نقصت حرارة الماء، جاءت لحظة تعدلت فيها حالة التماسك التي هو فيها، و تحول الماء إلى بخار في إحدى الحالات، و إلى جليد في الحالة الأخرى» «18».
و «يمكن القول بأن الكيمياء هي علم التغيرات الكيفية الناشئة في الأجسام عن تغيرات كمية» «19».
و أما مقدار الارتباط بين هذين القانونين: قانون نفي النفي و قانون التغيرات، فهو غير واضح في المصادر الماركسية! ...
إن الماركسية، لا بد لها أن تجيب عن السؤال عن هذه العلاقة بأحد شكلين:
الشكل الأول: ان التغيرات الكمية- مهما كانت ضئيلة- يعتبر كل واحد منها، أو كل مرحلة أو درجة، شكلا من أشكال التركيب (نفي النفي) النتائج من أطروحة و طباق سابقين عليه، طبقا للقانون الأول.
و التغير الكيفي، شكل آخر للتركيب أيضا، لكنه ضخم و مهم. فقد اكتسب هذا التغير أصل وجوده من القانون الأول، و اكتسب ضخامته و أهميته من القانون الثاني.
إلا أن هذا الشكل لا يكاد يكون صحيحا، لأنه مناف للطفرة التي قالت بها الماركسية قبل التغير الكيفي. فإنها تعني أن هذا التغير الذي هو «تركيب» جديد غير مسبوق بأطروحة و طباق، بل بطفرة تقطعه عن سوابقه. فإن من نتائج الطفرة و خصائصها أن لا يكون ما بعدها ملحقا بما قبلها أو معتبرا من نتائجه بشكل من الأشكال.
مضافا إلى أن وجود الأطروحة و الطباق للتغير الكيفي سوف يكون افتراضيا تجريديا، لأنه غير متمثل بالتغيرات الكمية السابقة عليه، و إلا صرنا إلى الشكل الثاني الذي سوف نتحدث عنه ... إذن فأين توجد الأطروحة و الطباق؟! ...
الشكل الثاني: انها تعتبر التغيرات الكمية صراعا بين الأضداد أو بين الأطروحة و الطباق، و يكون التغير الكيفي هو التركيب.
إلا أن هذا الشكل أيضا غير قابل للتصديق، إذ مضافا إلى ورود الأشكال الأول السابق نفسه، فإن الطفرة (تقطع) التغير الكيفي عن التغيرات الكمية بل يعتبر حادثا جديدا غير ناتج مما سبق. بخلاف التركيب، فإنه يتولد من أحشاء الصراع بين الأطروحة و الطباق، و لا يمكن أن يكون إلا كذلك.
هذا، و نحن طبقا لهذا الشكل الثاني، لا بد أن نعتبر القانونين قانونا واحدا ليس إلا. فالتغيرات الكمية عبارة أخرى عن صراع الأضداد و التغير الكيفي عبارة أخرى عن التركيب أو نفي النفي. فهما تعبيران عن واقع واحد. و بذلك تخسر الماركسية أحد القانونين الرئيسيين، مع أنها قد أكدت على كل منهما مستقلا تأكيدا كبيرا.
فهل يعني ذلك أن الماركسية، حين تحدثت عن قانون التغيرات، لاحظته (سلسا) خاليا من الأضداد، كما هو مقتضى الفصل بين القانونين ... و هل يمكن للماركسية أن تتحدث بهذا الشكل؟، ...
و ينقسم صراع الأضداد إلى تناقض رئيسي و تناقض ثانوي.
فإن «أية عملية ما ليست بسيطة قط، لأنها تدين بوجودها الخاص إلى عدد كبير من الشروط الموضوعية التي تصلها بالمجموع. ينتج عن ذلك أن كل عملية هي محل سلسلة من التناقضات و من بين هذه التناقضات، تناقض رئيسي يوجد منذ بداية العملية حتى نهايتها و يحدد وجوده و تطوره طبيعة سير العملية، أما الأخريات فهي تناقضات ثانوية تتعلق بالتناقض الرئيسي.
... و لا تتراكم هذه التناقضات كل منها فوق الآخر، بل هي تتداخل و تتفاعل حسب قانون الجدلية الأولي. فما هو تأثير هذا التفاعل؟ تزداد أهمية تناقض ثانوي في بعض الأحوال، فيصبح لفترة معينة تناقضا رئيسيا بينما يصبح التناقض الرئيسي الأول ثانويا (و لا يعني هذا زوال تأثيره). فليست التناقضات إذن متحجرة، بل هي تتغير.
و هكذا يصبح التناقض بين البرجوازية و البروليتاريا (الذي هو التناقض الرئيسي الأول) في البلاد المستعمرة ثانويا لفترة معينة، بالرغم من خطورته، إذ ينحل بانتصار الاشتراكية في هذه البلاد ...» «20».
فهذه الفقرات، كافية لعرض الديالكتيك الماركسي، أو قانون صراع الأضداد، بشكل موجز و مرتب، خال من التشويش و كثرة الأمثلة و المناقشات ... التي تجدها في المصادر الماركسية.
مناقشة الديالكتيك

بالنسبة إلى ما ذكره الماركسيون من وجود السؤال الرئيسي في الفلسفة، حول أسبقية الروح أو المادة ...
تكتسب بعض المسائل نوعا من الأهمية، حين تكون نقطة للخلاف بين جماعتين فكريتين من الناس ... لا تختلف في ذلك المسائل الفلسفية عن غيرها.
فالمسألة المهمة بين المسلمين و المسيحيين هو أنه هل صدق محمد بن عبد اللّه نبي الاسلام في نبوته أو لا. و المسألة الرئيسية بين غاليلة و الكنيسة هي أن الأرض كروية أو مسطحة. و المسألة الرئيسية بين فريقين من الفلاسفة هي أن الأصل في التكوين هل هو الماهية أو الوجود و هكذا.
إذن، فمن الطبيعي أن تكون المسألة الرئيسية بين الماديين و الالهيين هو القول بتقدم الروح أو المادة. و لا يعني ذلك أنها هي المسألة الأكبر على الاطلاق، لوضوح أنه قد توجد انقسامات أخرى فلسفية أو فكرية، تكون مسائل أخرى هي المحك فيها.
و ليست هذه المسألة هي أعم المسائل في الفكر الفلسفي. فإن هناك ما هو أسبق منها و أشمل، كالمسألة التي وقعت محلا للخلاف بين الواقعيين و المثاليين- بالمعنى الاصطلاحي- و هو أنه هل يوجد خارج الذات شيء واقعي أو لا يوجد ... لوضوح أن الخلاف في تلك المسألة متفرع على الاعتراف بالواقع الموضوعي، و التسالم عليه بين الفريقين: المادي و الالهي.
و أما التعبير بالمثالية و الميتافيزيقية، في كلام الماركسيين، على خلاف المعاني الاصطلاحية و المعروفة لها، بحيث تشمل الفلاسفة الماديين أنفسهم، كهيجل و فورباخ، فيصبحون ماديين ميتافيزيقيين، و واقعيين مثاليين في نفس الوقت!! ... فهذا تهافت ينبغي أن نعرض عنه، و خاصة بعد أن عرفنا من استعمال هذه الألفاظ كونها لمجرد الطعن و التجريح.

و أما القول بأزلية الكون، فقد ثبت في العلم الحديث بطلانه. فإن مقتضى قانون الديناميك الحراري، هو أن الأجسام عموما تشع حرارتها حتى تصل إلى الصفر المطلق أو العدم. و معه ... فإذا كان هذا الكون أزليا، إذن فلا بد أن يكون قد انعدم و انتهى منذ عهد بعيد طبقا لهذا القانون. في حين أننا نرى الكون موجودا، إذن فلا بد أن يكون قد وجد في لحظة «متأخرة» بحيث لا زالت حرارته الداخلية سارية المفعول. و هذا يعني حدوث الكون و نفي أزليته.
و إذا كان الكون حادثا ... إذن، يدور الأمر بين الاعتراف بالفاعل الخارجي للكون، أو كونه قد طفر من العدم إلى الوجود فجأة ...
و كلا الأمرين مما لا ترغب فيه الماركسية.
و إنكار قانون الديناميك الحرارية، كما حاولت بعض المصادر الماركسية أن تقوله «21»، يورط المفكر الماركسي بعدة محاذير باطلة «22»، أوضحها في الذهن الماركسي أنه يكون على خلاف قول لينين بأن الكون شعلة أبدا تثور و تنطفئ طبقا لقوانين معينة ... كما سبق أن سمعنا.
فإن إنكار قانون الفناء الحراري، يعني أن الكون يشع حرارته باستمرار و بنسبة متشابهة منذ الأزل إلى الأبد، بدون أن (ينطفىء) أو يناله العدم. و هو على خلاف ما التزم به لينين.
و يبدو أن المقصود من انطفاء شعلة الكون، انعدامه بالمرة، مرة بعد مرة، إذن يلزم من اشتعاله بعد الانطفاء وجوده بعد العدم مرة بعد مرة، و هو يورط الماركسية بالقول بالصدفة للكون لعدة مرات، ربما لا تكون متناهية على حين أنها هربت منه لمرة واحدة.
و لا ينبغي لنا أن نتحدث عن «القوانين المعينة» التي تحكم الكون حين ينعدم و تنطفئ شعلته، كما لا ينبغي أن نتحدث عن القوانين «الموضوعية» الماركسية، في مثل ذلك، بما في ذلك قانون الديالكتيك الذي رأى لينين انطباقه في هذا المورد ... إذ لا معنى لوجود القانون مع انعدام الموضوع.
و أما ما ذكرناه في الفقرة الثالثة من اعتراف الماركسية بوجود الواقع و إمكان إدراكه، خلافا للمثاليين- بالمعنى المصطلح-، فهذا أمر صحيح، نعترف به إجمالا، و لا حاجة إلى الدخول في تفاصيله، إذ يكفينا في بحثنا الآتي هذا المقدار المختصر من الواقعية.
غير أنه مما يلفت النظر أنه لا يوجد في المصادر الماركسية- حسب ما نعلم- استدلال على صحة الواقعية، و إنما أخذت النظرية بمصادرة ساذجة،مع أن للمثالية أدلتها التي تحتاج إلى المناقشة سواء على المستوى القديم كباركلي، أو على مستوى الفيزياء الحديثة التي انطلق منها البعض إلى الالتزام بالمثالية.
كل ما في الموضوع، أن القوانين الماركسية حيث أنها لا تفيد في إثبات الواقعية باعتبار تفرعها على الاعتراف به، فقد رأت الماركسية أن الأصلح لها أن تلوذ بالصمت من هذه الجهة و توكل الأمر إلى الوجدان البسيط.
نود في هذا الصدد الاشارة إلى حقيقة معينة، قلما يلتفت إليها المفكرون على اختلاف اتجاهاتهم ...
و هي أن «القانون» الكوني، أيا كانت صيغته و مدلوله، و في أي ميدان كان عمله، إنما هو مفهوم ذهني منتزع من عدد من الوقائع الجزئية الخارجية. فقولنا: كل جسم كبير يجذب الجسم الصغير ... ليس إلا صيغة ذهنية أو تعبيرية منتزعة أو مفهومة باعتبار ملاحظة عدد ضخم من الوقائع الخارجية التي حدثت فيها الجاذبية في عالم الكون. فهنا تنجذب تفاحة و هناك تنجذب حصاة و هنالك ينجذب كوكب ... و هكذا ...
فنلاحظ ذلك و نقول: كل جسم كبير يجذب الجسم الصغير، الذي هو «قانون الجاذبية».
و لا يمكن أن يكون للقانون بمعناه الواسع وجود واقعي، و إنما الموجود في الخارج ليس إلا الجزئيات، و الوقائع الخاصة.
و البرهان على ذلك من زاويتنا: الحقيقة الفلسفية القائلة: بأن الكلي- على سعته- لا يوجد في الخارج، فإن عالم الوجود الخارجي مساوق مع الجزئية و التعين. و المفهوم القانوني مفهوم كلي لا يمكن أن يوجد في الخارج.
و البرهان من زاوية الماديين: إن القانون الكوني، أيا كان، ليس (مادة) لأنه مسيطر على المادة و الماديات و حاكم فيها. و ليس محسوسا، لوضوح أن ما هو المحسوس هو مدار و انطباق القانون، لا القانون على سعته. فاننا نرى التفاحة تنجذب إلى الأرض لكننا لا نرى قانون الجاذبية ...
فالماديون حين يقولون: بأن الوجود الواقعي منحصر بالمادة،و يقولون: بأن ما ليس بمحسوس ليس بموجود-. ينتج من ذلك: ان «القانون» غير موجود، باعتباره أمرا غير محسوس.
و إن تحدثوا عن «القوانين الموضوعية»- كما هو ديدن الماركسيين دائما ... فهم يتحدثون- لا محالة- عن شيء لا مادي و لا محسوس، بل عن شيء ميتافيزيقي أو «مثالي» مقيت!! ..
لا ينجو من ذلك حتى قانون الديالكتيك نفسه. فاننا لو لاحظناه بحياله لوجدناه مفهوما ميتافيزيقيا مثاليا لا مادي و لا محسوس. و إنما المحسوس- لو صح هذا القانون- هو وقائعه و تطبيقاته الجزئية. فنحن نرى هذه الشعيرة- كما مثل انجلز- تصبح نبتة، و هذه النبتة تصبح شجرة، و هذه الشجرة تصبح ثمرة ... لا اننا نرى القانون على شموله و عمومه.
هذا و يختص قانون الديالكتيك بزيادة في اتجاه هذا البرهان نفسه ...
فإن التناقض الداخلي، في الشيء ذاته بين الأطروحة و الطباق، أمر غير محسوس، و إنما المحسوس هو طرد العوامل المتلفة على الشيء من الخارج. فإذا زرعنا الشعيرة أتلفتها رطوبة الأرض، و إذا دققناها أتلفها الدق، و إذا قضمناها أتلفها القضم ... و هكذا. و اما ان عوامل الفناء موجودة في داخل الشعيرة نفسها، فهو أمر غير محسوس، بل هو افتراض ميتافيزيقي ليس إلا.
إذن، فليس قانون الديالكتيك على سعته ميتافيزيقيا، فحسب، بل حتى في موارده الجزئية ميتافيزيقي أيضا. فما هو رأي الماركسيين في الالتزام بمثل هذه الأمور الميتافيزيقية!! ...
إذن، فتعميم قانون صراع الأضداد الميتافيزيقي، إلى كل المجالات من العلوم الطبيعية و المجتمع، ... حتى الرياضيات ... تعميم ميتافيزيقي ليس إلا ...
و بغض النظر عما قلناه، و التسليم- جدلا- بإمكان وجود القوانين الموضوعية المادية ... يمكن إيراد اشكالات أخرى تتمثل في عدة نقاط ضعف:
النقطة الأولى: إن ما حاولته الماركسية من الانطلاق من الأمثلة الحياتية و العلمية، و إن كان لطيفا ... إلا أن فهم النظرية العامة من هذه الأمثلة، يمكن بأحد أسلوبين:
الأسلوب الأول: ان نفترض النظرية سلفا، ثم نحاول حمل الأمثلة عليها.
الأسلوب الثاني: أن نحاول فهم النظرية من حمل الأمثلة نفسها.
و المفروض أن الماركسية قامت بالأسلوب الثاني في فهم النظرية ...
فهل أفلحت في ذلك. أو أنها قامت- في الواقع- بالأسلوب الأول من حيث لا تعلم.
إن الأمثلة المأخوذة من الكون و الحياة، مهما تزايدت، فإنها لا تدل على فهم فلسفي معين، بل هي كالكاسة الفارغة يمكن أن تملأها أي نظرية فلسفية عامة، وضعت لفهم الكون و الحياة. و لا يمكن لأي نظرية عامة أن تنجح ما لم تطبق فهمها على كثرة كاثرة من موارد الكون و الحياة.
فمثال انجلز عن حبة الشعير، كما يمكن فهمه على أساس الديالكتيك، كذلك يمكن فهمه على أساس مفهوم العلية القائل بالارتباط الضروري بين الفعل و الفاعل، كما يمكن- أيضا- فهمه على أساس العلية بالفهم العلمي الحديث القائم على مجرد الترتب بين الوقائع ... و هكذا، أي نظرية عامة أخرى.
إذن، فالأمثلة المسبقة من الحياة، لا تدل على النظرية الماركسية، كما يريد انجلز أن يقول- ... بل من الضروري للفلسفة أن تقيم البرهان على صحة نظرياتها خارجا عن هذا النطاق، حتى ما إذا تم البرهان عليها أمكن تطبيقها على سائر الوقائع. أي أن الأسلوب الأول هو الأسلوب الأمثل.
و أما إذا اعتمدت النظرية، على الوقائع اعتمادا كليا، كما فعلت الماركسية، و لم يكن لها دليل مسبق، إذن سوف تبقى النظرية للدليل الكافي، لأن الوقائع وحدها، قاصرة عن إثباتها، كما رأينا.
النقطة الثانية: إن صراع الأضداد، هل يؤدي- كما ترى الماركسية- إلى وجود تركيبي أكمل أو لا؟! ...
إن هذا الصراع- على ما يبدو- يؤدي، حتما، إلى هلاك المتصارعين، لأنه عنيف و دائم، و لا أقل من هلاك أحدهما، و أما وجود,شيء جديد نتيجة لهذا الصراع، فهذا مما لا يمكن أن يكون معقولا، لأنه خلاف طبيعة الصراع بالضرورة.
على أن الحركة، ليست دائما إلى الأكمل و الأعلى، بل قد تؤدي الحركة إلى ما هو الأردأ، كتحول الحديد إلى تراب نتيجة لتآكله بالرطوبة ... و قد لا تؤدي هذه الحركة إلى نتيجة بالمرة، مثل بقاء بعض المجتمعات البدائية غير المتطورة إلى حد الآن، على شكلها البدائي، و لعلها تبقى كذلك حتى تفنى أو تتفرق.
... و قد تؤدي الحركة إلى زوال الذات بدون بدل ... كالفوتونات الكهربائية عند استقرارها على الأجسام، فإنها تنعدم بالمرة، لأن لا كتلة لها عند السكون، و إنما تحدث لها الكتلة عند الحركة، كما ثبت في الفيزياء الحديثة.
فإذا كانت الحركة صراعا بين الأضداد، لم تكن منتجة للفرد الأكمل دائما ...
النقطة الثالثة: اننا نستطيع مما سبق أن ننطلق إلى نتيجة مهمة من عدة زوايا:
الزاوية الأولى: اننا بعد أن أثبتنا أن القوانين الكونية، لا وجود لها على المستوى المادي، و إنما هي مفاهيم ذهنية نعبّر بها على المستوى اللغوي عن مجموعة من الوقائع الجزئية التطبيقية ... إذن، فقد زال الأساس المهم الذي يقيم عليه الماديون ماديتهم في التعويض، بفرضية وجود هذه القوانين عن فرضية وجود اللّه ... إذ يرون أنه لا حاجة إلى الافتراض الثاني مع صدق الافتراض الأول.
و هذا منحى عام للماديين، سواء في ذلك الماركسيون و غيرهم. و إنما يختلف الماركسيون عن غيرهم في فهم هذه القوانين التي تعوض عن افتراض الخالق في رأيهم. فغير الماركسيين يكتفون من هذه القوانين بالقوانين الفيزياوية و الكيمياوية و الفلكية للطبيعة. و الماركسيون يفهمون كل ذلك طبقا لقانون خاص بهم هو قانون الديالكتيك الذي عرفناه.
فإذا استطعنا التنزل عن افتراض وجود القوانين المادية، على ما برهنا عليه ... لم يبق أمامنا إلا الافتراض الثاني، و هو وجود اللّه تعالى كمدبر للعالم بدل هذه القوانين.
هذا ... و نستطيع أن نخطو خطوة أخرى، و هي أننا لو سلمنا- جدلا- بوجود هذه القوانين، فإن وجودها لا يغني عن وجود اللّه، بعد وضوح دلالتها على حسن التدبير في هذا الكون، كما سنشير إليه في الزاوية التالية ... و خاصة مع الاعتراف «بحدوث» الكون، كما سنبرهن عليه من الزاوية التي بعدها.
الزاوية الثانية: أكدت الماركسية بإصرار على أن القوانين الطبيعية، عمياء عفوية الانتاج ... و هذا واضح جدا على مستوى الفكر المادي، لا مناص لهم عن الالتزام به. و لكن هل هو صحيح أو لا؟-.
إننا نصبح مفكرين و عباقرة و مشاهير، لمجرد الاطلاع على خصائص بعض هذه القوانين. فهل يمكن أن يكون وجود هذه القوانين- بعد الاعتراف بها- بدون فكر و بدون عبقرية؟! ... و هل تكفي الأزلية أو الصدفة لتفسير ذلك؟ ان الجواب على ذلك موكول إن الرأي العام في تفكيره الاعتيادي الموضوعي.
لا يشذ عن ذلك حتى قانون الديالكتيك نفسه- على تقدير صحته- فإن سريانه في الكون، و إنتاجه للحركة نحو الأكمل، لا يمكن أن يكون لمجرد أزلية القانون أو لمجرد الصدفة. و إنما يدل بوضوح على عمق الصنع و التدبير.
الزاوية الثالثة: ان القول بأزلية الكون بمعنى عدم وجود بداية لوجوده ... مما لا معنى له بالمرة.
فإن لفظ الكون يعبر عن مجموع ما في عالم الوجود من أجزاء ... فما هو الشيء الذي نقول بأزليته؟ هل هو المجموع أم الأجزاء؟! ...
أما المجموع، فلا يمكن أن يكون أزليا، لأنه مفهوم ذهني أو تعبيري غير موجود في الخارج، و إنما المتحقق هو الأجزاء الكثيرة فقط. أما تصور وحدتها المجموعية فهو خيال تصوري محظ. و ليس المراد الالتزام بأزلية هذا الخيال، و إنما المراد الالتزام بأزلية الكون الواقعي، فإذا لم يكن المجموع واقعيا لا معنى للالتزام بأزليته ... فإن ما هو أزلي هو الموجود الواقعي دون غيره.
و أما الالتزام بأزلية الأجزاء على كثرتها و تشتتها ... فهذا أيضا غير محتمل، فلأن الأجزاء توجد و تفنى باستمرار، و لا يمكن لأي جزء يعينه أن يبقى محافظا على وجوده منذ الأزل. فإن معنى الحركة- حتى في الفكر الماركسي- هو زوال أشياء و حدوث أشياء أخرى، طبقا لقانون الديالكتيك أو غيره. و الكون متحرك باستمرار، و لا يمكن أن يكون ساكنا.
فإذا لم يكن الكون، لا بمجموعه و لا بأجزائه أزليا، فهو حادث- إذن- في لحظة معينة. فيدور أمره بين الالتزام بالصانع الحكيم أو القول بالصدفة المطلقة التي تبرأت الماركسية من مجرد التفكير بها.
و قد يخطر في الذهن: أن معنى أزلية الكون ليس هو ما قلناه، بل بمعنى أن الكون عبارة عن مجموعة من الحوادث المتتابعة من الأزل و إلى الأبد، فأي واقعة لاحظناها وجدناها مسبوقة بأخرى، و هكذا إلى ما لا يتناهى. و هذه السلسلة المتتابعة هي التي تحفظ للكون أزليته.
و جوابه: ان هذا الشكل من التتابع، ما لم يصل إلى الفاعل الخارجي أو الخالق الحكيم، الذي يوجد السلسلة بشكلها اللامتناهي أو يقع في أولها، فلا تكون لا متناهية في العدد ... ما لم يكن هذا الشكل مستحيلا، كما سنذكر في النقطة التالية.
الزاوية الرابعة: إن أزلية الكون، بأي شكل، لو سلمناها، لا تبرر وجوده من دون فاعل خارجي. فإن عدم افتراض هذا الفاعل يؤدي إلى ما يسمى باصطلاح الفلسفة بالتسلسل و هو محال. إذن يتعين القول بوجود الفاعل الخارجي حتى مع الالتزام بأزلية الكون.
و انطباق فكرة التسلسل، واضحة على هذا التقدير ... فإن ترتب الأحداث و الوقائع الكونية على بعضها البعض، مما لا ينكره أحد، سواء كان بنحو ديالكتيكي أو علمي أو على شكل ثالث ... إذن فوجود هذه الحادثة مستند إلى حادثة قبلها، و تلك إلى ما قبلها، و هكذا إلى ما لا نهاية. و هذا هو معنى التسلسل.
و أما استحالة التسلسل، فنحن لا نحتاج في إثباتها إلى دليل عقلي معقد، لكي تنكره الماركسية بصفته ميتافيزيقيا أو مثاليا!! .. و إنما الوجدان حاكم باستحالته، إذ يكفي مجرد تصوره إلى استنكار حدوثه.
و أوضح أمثلته: ما إذا أمرك شخص، لا مناص لك من طاعته، ان تخرج من عدة أبواب على أن لا تخرج من أي باب إلا إذا كنت خرجت من باب قبلها. فإن أمره هذا لا يكون قابلا للاطاعة، باعتبار استلزامه التسلسل. فإنك- لا محالة- تخرج لأول مرة من باب لم تخرج من باب قبله. و أما تقيدك بهذا الشرط باستمرار، فهو في عداد المحالات ...
فالحظ ذلك بنفسك «23».
و مثله، ما لو أمرك بأن تأكل عدة تفاحات على أن تكون كل تفاحة تأكلها مسبوقة بأكلك تفاحة قبلها ... أو أمرك أن تسمع عدة أبيات من الشعر على أن يكون كل بيت تسمعه مسبوقا بسماعك لبيت قبله ...
و هكذا.
و من هنا تضطر أنت، لو أردت الامتثال، إلى قطع هذه السلسلة بالخروج من باب لم تخرج قبله من باب آخر، أو سماع بيت من الشعر لم تسمع قبله بيتا ... و هكذا. و إلا كانت كل فقرات السلسلة متعذرة التطبيق تماما ...
فكذلك الحال في الكون عموما، لو قلنا بأزليته من دون إسناده إلى صانع خارجي، فإن حوادثه مربوطة ببعضها البعض منذ الأزل، فإذا لم تستند إلى الصانع تكون كل حوادثه متعذرة الوجود، تماما كأبيات الشعر و التفاحات.
إذن فأزلية الكون مستحيلة التحقق على أساس الفكر المادي ...
النقطة الرابعة: انه كما لا معنى لأزلية الكون، لا معنى لأزلية قوانينه أيضا بما فيها قانون الديالكتيك ... بشكل أوضح من أزلية الكون.
إذ لعل شخصا يتحدث عن أزلية الكون، بعد التنزل- جدلا- عما عرفناه في النقطة السابقة، يتحدث عنه على أساس ملاحظة المجموع أو على تسلسل الحوادث و تتابعها اللانهائي ... إلا أن هذا لا معنى له في القوانين الكونية. لأن الحديث عن مجموع القانون حديث مهمل، لوضوح أن القانون إنما يوجد في ضمن تطبيقاته، و ليس له وجود أوسع من ذلك.
و تطبيقات القانون متناثرة مشتتة ليس بينها ترابط من أي نوع، فلا يمكن أن نتصور فيها تتابعا لا نهائيا ... لوضوح أن جذب التفاحة غير مربوط بجذب الحصاة ... و هكذا.
و إذا كانت التطبيقات، متعددة و مشتتة، و ليس للقانون وجود زائد عليها، إذن فكيف يمكن الالتزام بأزليته.
و الأمر بالنسبة إلى قانون الديالكتيك، أوضح و أشد ... لأننا لو سلمنا- جدلا- بإمكان أزلية غيره من القوانين، يتعذر القول بأزليته مع الأسف!! ...
لوضوح، أن معنى أزليته بقاؤه على طول المدة، بقاؤه سلسا من دون تغيير ... و هذا ينافي مضمون القانون نفسه. فإن مضمون القانون هو أن كل شيء يحدث فيه النفي و نفي النفي، على الشكل الثلاثي الذي عرفناه.
فإذا كان هذا المضمون شاملا حقيقة لكل شيء، إن فهو شامل للقانون نفسه، و معه يكون قانون الديالكتيك (أطروحة) يجري فيها النفي (الطباق) و يحدث بعده (التركيب) ...
إذن، فإذا كان هذا القانون أزليا، ينبغي أن نتوقع- طبقا لمضمونه نفسه- أن يكون قد تغير و تبدل إلى شيء آخر منذ أمد طويل. و سيكون القانون الذي يخلفه سلسا و ثابتا، و لا حاجة إلى القول بتغيره مرة أخرى، بعد زوال قانون الديالكتيك من الكون ... و لا بد أن يكون هذا القانون الجديد، هو الساري المفعول في العصر الحاضر.
لم يبق لدينا من المناقشات، سوى النظر إلى القانون الماركسي الثاني، و هو تحول التغيرات الكمية إلى تغير كيفي، تحولا دفعيا على شكل قفزة أو طفرة.
إن هذا القانون مما لا أساس له، لعدة نقاط:
النقطة الأولى: ما ذكرناه فيما سبق، من أن الطفرة بطبيعتها دائما تقطع الواقع اللاحق عن الواقع السابق، بحيث لا يكون اللاحق ناتجا من السابق بأي حال عن السابق، بل هو حادث جديد منقطع عن سابقه.
و هذا هو سر الطفرة و فلسفتها.
فما ذكرته الماركسية من أن التغير الكيفي ناتج من التغيرات الكمية، و انها بمنزلة الأسباب له ... لا يكون صحيحا، لتخلل الطفرة بينهما ...
فلا بد أن نفحص عن أسباب أخرى للتغير الكيفي ... و إلا كان وجوده مستندا إلى الصدفة المطلقة!! ..
النقطة الثانية: ان هذا القانون، لو صح أحيانا، فهو لا يصح دائما ...
إذ أن التغيرات الكمية كثيرا ما لا تنتج تغيرا كيفيا بالمرة، كنقل شيء ما من مكان إلى مكان، و كحركة المروحة الكهربائية و سائر المحركات و الآلات، و كحركة النجوم في مداراتها. فإن كل هذا ... و غير هذا ...
لا ينتج شيئا جديدا بعد انتهاء التغير الكمي و انقطاع الحركة لو حصل.
و قد يكون التغير الكيفي ناتجا من دون تغيرات كمية. خذ إليك مثلا: انكسار الزجاج، فإنه لو كان ناتجا عن الاهتزاز، لكان ناتجا عن تغير كمي ... و لكنه قد يكون ناتجا عن سقوط جسم ثقيل عليه، فيكون انكساره تغيرا كيفيا غير ناتج من تغير كمي فيه.
و كذلك إسراج المصباح الكهربائي، و كذلك إشعال النار، فإنها غير مسبوقة بتغيرات كمية فيها. بل هي اما حركة في غيره كحركة الفوتونات الكهربائية خلال السلك، الأمر الذي يوجب إسراج المصباح. و اما هي حركة ليست من نوعه كحركة يد الانسان الذي يشعل النار فانها ليست من نوع النار. و القانون الماركسي لا بد أنه يشترط أن يكون التغير ان في شيء واحد و من نوع واحد.
انظر إلى مثال الغليان الذي أكد عليه انجلز، فإنه حاصل على كلا الصفتين فهو ذو تغيرات كمية في شيء واحد (و هو الماء) و من نوع واحد، فإن الغليان شكل من أشكال ارتفاع الحرارة.
و قد لا يكون التغير الكيفي، نهائيا ... بل تلحقه تغيرات كمية أخرى، لكن بدون أن تكون منتجة لتغير كيفي. فلئن كان رفع الحرارة قبل الغليان منتجا للغليان، فإن رفع الحرارة بعد الغليان غير منتج لشيء، بل يبقى الغليان هو الغليان و تحول السائل إلى غاز على حاله.
و ما الذي يحدث لو كانت كل مجموعة من التغيرات الكمية منتجة لتغيركيفي ... إذن، ينبغي ان ننتظر تغيرا كيفيا بعد 90 درجة من تصاعد الحرارة و ربما أقل منها أيضا. مع أن شيئا من ذلك لا يحدث. إن السر في هذا «التأجيل» إلى درجة المائة يمكن في سبب آخر غير هذا القانون الذي يعجز عن تفسيره.
و لو أننا انتظرنا من التغير الكيفي أن يكون أهم و أفضل من التغيرات الكمية التدريجية، إذن سنصطدم بتغيرات كيفية أضعف و أسوأ من التغيرات الكمية. و لعل أوضح أمثلته الموت بعد الحياة، فإن استمرار الحياة منتج للموت الذي هو أقل أهمية منها. و من أمثلته (الاحتراق التام) في حالتي الخسوف و الكسوف الذي ينتج بعد الاحتراق الجزئي التدريجي ... مع وضوح أن الاحتراق التام أسوأ من الاحتراق الناقص.
النقطة الثالثة: ان التغير الذي يعتبره انجلز كيفيا، هو- في واقعه- تغير كمي ليس إلا.
و يمكن أن ننطلق إلى إيضاح ذلك من مثاله الرئيسي: مثال الغليان.
فإنه يحتوي على تغيرات كمية على عدة أشكال:
الشكل الأول: تصاعد الحرارة، فإنه- بطبعه- تصاعد كمي و ان زاد على المائة. و يوضح ذلك: الالتفات إلى غير الماء من الأجسام التي تتدرج في الحرارة فإن تصاعدها هناك كمي محض.
الشكل الثاني: تحول الماء إلى بخار أو غاز ... فإن هذا يحدث منذ الدرجات الضعيفة للحرارة، و يتزايد بتزايدها، لأنه يتناسب مع الحرارة تناسبا طرديا. إذن فالتبخر كان موجودا قبل الغليان و مستمرا في التزايد، و الحال نفسها بقيت بعد الغليان، و لم يحدث شيء جديد.
نعم، لو لم يكن التبخر موجودا، ثم وجد من أول الغليان، لكان ذلك تطبيقا للقانون بشكل أو بآخر. إلا أن الأمر ليس كذلك.
الشكل الثالث: النشيش، الذي هو عبارة عن صعود الأجزاء السفلى من الماء إلى أعلى، نتيجة لتمددها بالحرارة أكثر من الأجزاء العليا. فإن الحديث فيه كالحديث عن التبخر ... من حيث أن النشيش موجود منذ الدرجات الضعيفة للحرارة، و يتزايد بتزايدها، لأنه يتناسب معها تناسبا طرديا، حتى تصبح تدريجا واضحة. و لو ارتفعت الحرارة أكثر من المائة،فسوف يكون الانقلاب أوضح.
و يصدق أيضا ما قلناه في جانب التبخر ... فإن النشيش أو الصعود، لو كان منعدما قبل الغليان، ثم يحدث بحدوثه، لكان تطبيقا للقانون، و لكن الأمر ليس كذلك.
كل ما في الأمر، أن العرف اللغوي تبانى على تسمية كمية معينة من هذه السلسلة الصاعدة من الحركات بالغليان، كما سمى درجاتها الضعيفة بالنشيش. و كان يمكنه أن يسمي أية مركبة أخرى بهذا الاسم أو بأي اسم آخر. و قد أهمل «التصاعد» اللاحق للغليان من اسم جديد. و في الواقع كله تصاعد على غرار واحد، و بارتفاع في كمية الحرارة و كمية التبخر و كمية الانقلاب ليس إلا.
و من هنا نستطيع أن نفهم معنى الطفرة التي لمسها الماركسيون قبل التغير الكيفي فإن العرف اللغوي حين يتبانى على أن درجة معينة من الانقلاب هي المسماة بالغليان، دون ما هو أقل منها ... فإن هذه الدرجة تحدث مع تصاعد الحرارة في لحظة معينة، بطبيعة الحال (درجة المائة تحدث بعد التسعة و التسعين) و لا يكون لها وجود قبل تلك اللحظة. و بمجرد حدوثها يسميها العرف اللغوي «فجأة» باسمها الجديد: الغليان. و هذه المفاجأة هي التي استوحى منها الماركسيون معنى الطفرة و هي مفاجأة لغوية، كما أن فكرة التغير الكيفي أساسا فكرة لغوية، و لا تحتوي من ناحية (علمية) إلا على التغير الكمي.
إذن، فلم نستطع أن نضع يدنا على تطبيق واحد، من أي نوع، يصلح أن يكون تطبيقا كافيا للقانون الماركسي، و حاملا لكل صفاته المطلوبة.
و من مجموع هذه المناقشات ينتج أن الأسس الفلسفية العامة للمادية التاريخية، لم يثبت صحة شيء منها، غير الاعتراف بالواقعية. إلا أن هذا لا ينافي وجود بعض اللمعات في التفكير الماركسي، هو الذي حدانا أن نستشهد بها في هذا الكتاب.



------------------------------------------------------------------------------------------------
(1) مختارات انجلز ص 61- 62. و انظر: لودفيج فورباخ ص 20 و ما بعدها. و كذلك: المادية التاريخية لكوفالسون ص 13. و غيرها من المصادر.
(2) المادية التاريخية لستالين ص 24.
(3) لودفيج فورباخ: انجلز ص 21.
(4) المصدر نفسه ص 22.
(5) مختارات انجلز ص 104.
(6) المصدر نفسه ص 105.
(7) المصدر ص 108.
(8) المصدر ص 109.
(9) المصدر ص 111.
(10) المادية التاريخية: ستالين ص 19.
(11) مختارات انجلز ص 117.
(12) المصدر ص 117- 118.
(13) المصدر نفسه ص 113.
(14) المصدر و الصفحة.
(15) رأس المال: كارل ماركس ج 3 ق 2 ص 1138.
(16) المادية الديالكتيكية ص 305.
(17) المادية الديالكتيكية لستالين 15- 16.
(18) المصدر ص 18.
(19) المصدر و الصفحة.
(20) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر ص 179- 181.
(21) المادية الديالكتيكية و العلوم الطبيعية ص 119.
(22) لا يخفى أن القانون المشار إليه، صحيح و لا مناص للماركسيين من الاعتراف به في بعض الحدود التي سنذكرها (انظر المصدر السابق، نفس الصفحة). و لكنه يحتاج إلى تقييدات محتملة، نذكرها مع ما ينبغي أن يكون موقفنا و موقف الماركسية منها:
التقييد الأول: إن هذا القانون إنما يصح في المادة المتناهية المحدودة، فقط، دون ما إذا قلنا بأنها لا متناهية. كما أشار إليه المصدر السابق (الصفحة نفسها).
و هذا صحيح، لأن المادة اللامتناهية تكون قابلة لا شعاع الحرارة في أمد لا متناهي، فلا يوجب ذلك فناء الكون و إن كان أزليا.
إلا أن الالتزام بلا تناهي الكون أمر غير صحيح ... أما من وجهة نظر المؤلف فباعتبار وجود البرهان على ذلك في الفلسفة ... و لا حاجة إلى ذكره. و اما من وجهة نظر الماركسية فلأن هذا الموقف يتضمن (مثالية) متطرفة و ميتافيزيقة مكثفة، لأنه يتضمن الاعتراف بوجود أشياء يستحيل الاطلاع عليها حسيا أو إقامة البرهان عليه علميا. مضافا إلى ما ذكرناه في المتن أعلاه فراجع.
التقييد الثاني: عدم الاعتراف بقانون فناء المادة أعني القانون القائل بأن المادة يستحيل أن توجد أو أن تفنى ... فإن القانون المشار إليه في المتن إنما يصح لو أنكرنا هذا القانون الأخير، و أما لو قلنا باستحالة فناء المادة، فهو يعني استحالة فناء الكون. و هذا ما أشار إليه المصدر السالف الذكر (ص 121).
إلا أن هذا التقييد غير صحيح ... أما من زاوية نظر المؤلف فلعدم قيام الدليل عليه، إذ يمكن وجود المادة و انعدامها من ناحية فلسفية. و أما من زاوية أعم من ذلك: فلأن الحديث في هذا القانون عن المادة
بمعناها القديم المغاير للطاقة ... و هذا ما أثبتت الفيزياء الحديثة بطلانه بعد إمكان تحول المادة إلى طاقة.
و هذا هو الذي يفيد الماركسيين لأنهم يحرصون على أزلية المادة بهذا المعنى.
و أما لو كان الحديث في هذا القانون عن الطاقة نفسها، و انها لا توجد و لا تنعدم، فهذا ما قالته الفيزياء الحديثة، إلا أنه قول بلا دليل لتعذر إقامة الدليل التجريبي عليه- في المدى البعيد- كما هو واضح، فإن عدم تمكن العالم من إعدامها في المعمل لا بمعنى عدم إمكان ذلك أساسا، و التعميم يحتوي على (مثالية) مقيتة لا تتناسب مع التفكير الماركسي.
التقييد الثالث: إن قانون الفناء الحراري للكون يصح في المادة بمعناها القديم، و لا يشمل الطاقة.
فإن الاشعاع الحراري يحول المادة إلى طاقة، لا انه يسبب فناءها بالمرة.
و هذا التقييد صحيح- شكليا- إلا أنه غير منتج في نفع الماركسيين:
أولا: إن استمرار الاشعاع في مدى أزلي، يقتضي في الكون المحدود،- كما هو مقتضى التجاوز عن التقييد الأول- تحوله جميعا إلى طاقة. و معنى ذلك أننا لا يمكن أن نجد إلا الطاقة، و منذ أمد بعيد.
و قد يخطر في الذهن: اننا لا نجد الآن إلا الطاقة، فعلا، بعد أن ثبت في الفيزياء الحديثة أن المادة إن هي إلا طاقة (مضغوطة).
و جوابه: إن معنى التحول إلى الطاقة: انعدام الطاقة بشكلها المضغوط، و تحولها إلى باقة (مشتتة) ليست ذات وجود (مادي) متميز. فيكون معنى الفكرة التي قلناها: انه لو كان الكون أزليا لأصبح الكون منذ أمد بعيد طاقة مشتتة، و لم نجد فيه أنواع المادة و أشكالها المعروفة، على حين نجد ذلك وجدانا، و معناه أن الكون ليس أزليا.
ثانيا: إن قانون الفناء الحراري للكون يمكن أن يشمل الطاقة نفسها. و ذلك على أحد مستويين:
المستوى الأول: إن المادة المعروفة إن تحولت إلى طاقة محضة و مشتتة، فسوف تكون متجانسة بمعنى متشابهة الأجزاء خالية من الأشكال المعروفة ... ثم انها تستمر بحركتها الدائبة و السريعة بالتفرق حتى لا يبقى لجزئياتها أي تماسك أو تأثير. و هذا يعني الانعدام من الناحية العملية، لأن كل جزيء بمفرده لا يمكن أن نسميه مادة و لا طاقة، و غير مؤثر في أي تكوين.
المستوى الثاني: إنه ثبت في الفيزياء الحديثة أن الطاقة إنما توجد مع استمرار الحركة و أما مع السكون فالطاقة تنعدم. و بتعبير آخر: إن الجزيء إنما يكون له وجود مع حركته دون حالة سكونه.
فإذا صح ذلك، أمكننا أن نقول: بأن جزئيات الطاقة المشتتة للكون تؤول في نهاية المطاف إلى السكون بعد أن لم يعد لوجودها أية فائدة، بما في ذلك الاجتماع مرة أخرى، لأنها في حركتها تتباعد لا تتقارب، طبقا للقانون الحراري. و لا أقل من أن افتراض السكون مما لا يمكن نفيه (علميا)، فهو يعدل القول بأزلية الكون الذي لا يمكن إثباته (علميا) أيضا.
و إذا سكنت جزئيات الكون انعدمت ... فانعدم الكون.
التقييد الرابع: عدم الالتزام بعالم الروح الموجود في رأي الالهيين- وراء المادة و الطاقة معا.
فإننا إن تحدثنا عن فناء الكون الحراري، بمعناه المختص بالمادة أو الشامل للطاقة، كان لهذا القانون معنى مفهوم. و أما إذا كان المراد من الكون ما يشمل الوجود الروحي المجرد، فلا معنى لهذا القانون، لأن الاشعاع المستمر (أو تناقض الوجود بالاشعاع) خاص بالمادة، و غير شامل للروح، و لا أقل من أن هذا مجال يستحيل على المستوى العلمي التجريبي أن يناله و لا إثبات، فليس من حقه أن يقول تجاهه أية كلمة.
و هذا تقييد صحيح، إلا أنه خاص بالاعتراف بوجود العالم الروحي، و لا يستلزم- إلى جانب ذلك- كذب هذا القانون، لأنه مختص بمجاله المعين و هو المادة. و إنما المهم في مناقشة الماركسية هي التقييدات السابقة.
هذا مضافا، إلى أن الماركسيين، حين يعممون معنى المادة إلى الطاقة و يعترفون بالتحول التدريجي إلى الطاقة، طبقا للفيزياء الحديثة، يتناسون قوانينهم الكلاسيكية ... فإن لنا أن نتساءل عن كون هذه الطاقة هل هي مشمولة لها أو لا؟ و ما هو معنى الطباق و التركيب إذا كانت (أطروحة)، و ما هو معنى التغيير الكيفي إذا كانت حركة الطاقة تغيرا كميا؟؟!! .. و هلم جرا ... يبدو أن الماركسية تحدثت في قوانينها عن المادة بمعناها القديم، الذي كان في زمن ماركس و انجلز ... و أما لو تقدمنا و تقدم العلم خطوات، كانت قوانين الماركسية فاشلة! ..
(23) إن أول من ذكر هذا الأسلوب في استحالة التسلسل، حسب اطلاعنا، هو: عبد اللطيف بري، في كتابه: نقد الفكر المادي و الديني، ص 25. نذكره حفظا للحقيقة.


للتواصل او طرح المناقشات على الموضوع
. التعليق المباشر على الموضوع .
عبر البريد الالكتروني الخاص بي .
عبرة صفحتي على الفيس بوك – (طروحات صدرية )



#تنظيم_ابراهيم_النجار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الميتافيزيقيا والفهم المطاطي - 3
- الميتافيزيقيا والفهم المطاطي -2 -
- الميتافيزيقيا والفهم المطاطي
- الندرة
- ابستمولوجيا المفهوم وخطر الانقلاب الغير مبرمج
- قراءة في اللاهوت الملحمي - جلجامش انموذجاً
- قراءة في الخطاب الفكري للعقل
- قراءة في النقد الجابري - ظاهرة العقل المكوِن


المزيد.....




- هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب ...
- حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو ...
- بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
- الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
- مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو ...
- مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق ...
- أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية ...
- حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
- تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - تنظيم ابراهيم النجار - سلسة مناقشات في النظلم الكونية - قانون الديالكتيك - الحلقة الاولى