|
عقيدة التسويغ -10-
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5481 - 2017 / 4 / 4 - 01:34
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
يتبع
ومن هنا، فإن البدعة ليست فيما هو ممنوح للإنسان من حرية قراءته لنص الدين بلا وساطة تعتقد الاستقلال برأيها، والإلزام به، بل هي اختراع دين في دين، يلبس لبسته، ويتحدث بلسانه، ولكنه يصنع الفوضى في المتفق عليه، والقتل في المختلف فيه. بل أجلى مظهر يحرف معنى البدعة، ويمنحها معنى يفضي بها إلى الانغلاق، والانسداد، هو فرض رأي واحد في الوصول إلى تفسير الوجود، والكون، واعتباره سلما للعروج إلى عالم السماء، ومظهرا للبروز بالوجه الأكمل في نيل مفتاح باب الحقيقة، لأن قيمة الدين تتجسد في تعددية الآراء، وتنوع المسالك، وإذا استحال قولا واحدا، وموقفا محددا، صار أداة للاستعباد، والتدجين، والتخدير. ولذا، فإن الانحراف الديني الذي يبعد عن مسمى التقديس، ليس في مسمى البدعة بهذا التحريف الذي طاله من أدعياء السلفية، بل في الرضى عن أنموذج لا يستطيع أن يخلق في حياة الإنسان أشواق الاستقرار، وأتواق الأمان، لأن ما يستدعيه الدين من معان خالدة، ومفاهيم فائقة، تضيف إلى الوجود ميزة، وقيمة، هو ما يؤثر به من نتائج في الحياة البشرية، وما يرسخه من مفاهيم في القيم الإنسانية، إذ هو نقطة الحركة نحو الفعل الإيجابي، والمسؤول، والموجه إلى الغاية التي جند لها الإنسانَ بنصوصه، ومضامينه. ولذا يصير الدين روحا في المجتمع الذي تبنى علاقاته على التبادل بين المعلومات، والتثاقف بالخبرات، ونفَسا يقود إلى استكشاف ما يتوهج به سمو ازدهاره، وتقدمه، لا سياقا يفرض أنماطا من الأخلاق الخانعة، ويوجب أنساقا من الأعراض الواجفة، لأنه رأي في البداية، وموقف في النهاية. وهو كل ما يحتاج إليه الكائن البشري من وظائف معنوية، ومادية، وما يرغب فيه من سمو، وعلو. وإذا تعطل جهاز الفعل فيه عن الخلق المبين لغاية مقاصده، ولم يطق أن يتجاوز لحظة تاريخية في السيرة البشرية، فإنه لن ينساب مع الزمان، والمكان، ولن يغدو أثرُه حضارة تقود إلى القيم الإنسانية النبيلة، والجميلة. وإذا كان الانحراف الديني، ليس محله ما يدل عليه مفهوم البدعة بهذا الحصر الضيق لحدودها، والمحدد لفحواها، فإن موضعه في الحقيقة التي يريد الدين أن يفجر سؤالها عند الإنسان، هو ما يعيشه من أوضاع تتعاقب عليه في كيانه، وتتآزر في تأليمه، فتفقده معنى الحياة التي وجد لضروبها، وتعرضه للمعاناة بين دروبها، ثم يتيه بين ظلمات لا يدري كيف يقبض فيها على خيط نور، لعله أن يشعر ببصيص أمل يتحفه بلحظة متسامية، يكون فيها مالكا لزمام سعادته، وبهجته، لأن إضمار هذه الصورة، أو إخفاءها، لن يمنح البدعة معنى، إذ هي صريح المضاهاة، والمشابهة، لأنها في التسلسل المنطقي للقضية، تعني ولادة دين من دين، ولكنه لا يحمل إلا اسمه، ورسمه، أو ميلاد عقيدة من عقيدة، ولكنها لا تتنفس برئتها، ولا تزفر بنفسها. وأي شيء أفرغ الدين من محتواه، وجعله قائما في نقوشه، لا في معانيه، فقد ابتدع شيئا ليس قائما على أصله في قياس الوجود، وهو ما أوجب على الناس سلوكه من طرق لم يحبذها الإله، ولم يرضها الإنسان الحر، الكريم. ومن هنا تكون البدعة خلقا لدين يضاهي الأصل في الأديان، ولكنه يحمل مفاهيم لا تسبب ما جَعل الأصلُ الالتزامَ به سببا إلى الظفر به، والوصول إليه، لأن ما في هذه المشابهة من مخادعة، ومخاتلة، هو الذي يصيِّر عقولا تحكمها عاطفتها مستكينة لما أتت به التأويلات من تحريف، وتزييف، إذ لولا هذه النفوس الحانحة، والعقول الكاسدة، لما أطاق أحد أن يصرف الناس عما طلب منهم بالفطرة، والدين، والعرف، والعادة، والطبع، لكي تستحوذ النفوس الهشة على الذوات المائجة، فتحدث الغربة بين آهل الديار، والأماكن. لكن وجود هذا التحريف ضروري لمن أراد أن يزرع فسيلة دين متشدد فيما هو مبني على المسامحة، ومتساهل فيما هو مؤسس على المشاححة، لأنه هو القادر على طمس معالم الأصل، والإبقاء على لحاه، وعضاه. ومن هنا، فسكوت هذا النوع من الدين عن أنين المحزونين، والمنكوبين، وضجهم بعويل الإنكار على زوار القبور، والضراح، هو البدعة الحقيقية التي تبعد عن المقاصد المرتجاة في عالم السماء، لأن صمتنا على ما يحدث من شرك لله في تقسيم مسرات العالم، وأحزانه، وصراخنا في وجه من طاف بقبر، أو من ذبح على ضريح، هو البدعة الضارة، والآثمة، إذ فيها ضرر على الإنسان، وحياته، ومستقبله، لأنه لا قيمة للأشياء في الوجود البشري، إن لم يُتذوق منها معناها، ولا رغبة في امتلاكها، إن لم تدل على ذاتها. وإذا فقد الذوق، وضاع المعنى، وصارت الأشياء بدون جدوى، فكيف سنطلب لما نحياه فحوى، أو طوبى.؟ قد يكون من الخداع أن لا نستظهر هذه الصورة الداكنة لواقع يعيش فيه القوي على عرق جبين الضعيف، وهي الأجلى في الدين الذي رفض طيش الطغيان، والأوضح في الواقع الذي يشكو آلام الحرمان، ثم نقيم المجازر على من رأى في صفاء اعتقاده أن يتوسل بميت إلى عالم الإله، أو يزور قبرا للتبرك بالآثار المعتبرة، أو للتأدب بالآداب المتبعة، وهو ليس إلا استدرارا لعطف السماء بروح من وافته منيته، وهو في أعلى مقاماته، أو في أجل مراتبه، واستلهاما لتاريخ ينبض باستواء حال التدين بين الديار، والأكوار. تلك هي العقائد التي درجت عليها عقول العامة في سياق فهمها للدين، والنظم التي تراكمت مع تجربة الإنسان في دركه لمعاني الموت، والحياة، وهي في كليتها ليست إلا وسائل، ووسائط، وعلامات في السير نحو الأمل المرتجى من اليقين الطافح بالتسليم، والخضوع، لأنها تنقل صور عقدها من المحسوس إلى المعقول، ومن المعلوم إلى المجهول، إذ ذلك التصديق المسلم لمدار الروح، هو قصارى الإدراك في فهم المطلوب من الشعائر بالتقديس، والتنزيه، وإن كان اليقين المقطوع به في التصديق القلبي، هو كون الأشياء لا تتحرك إلا بقدرة من أوجدها، وإرادة من دبرها. لكن احتقار الإنسان لنفسه التي تحرضه على اجتراح الآثام، واقتراف المعاصي؛ وتلك تربية نشأ عليها المتدين في مجتمعات تمدح الصفات، وتتفاضل بها في المرامات، لاسيما إذا كانت متسمة بالطهارة، هو الذي أدى به إلى أن يرسم الكمال في صورة الموتى، ويزيلها عن ذاته التي لن تتطهر إلا بوسخها، ولن توجد إلا في صراعها. إلا أن جعل هذا الاعتقاد قضية مصيرية في أمن الكون، وحماية الإنسان، هو عين الغباء الذي يندفع إليه العقل المتحجر حين يريد صوغ طريق واحد إلى باب الحضرة القدسية، لأن أخطر أنواع الشرك الذي يتضمن سر تغير الأوضاع، والأحوال، هو أن ترى رزقك محكوما بنفاقك، وتشهد صفاءك ممنوحا لمداهنتك، وتلمس نجاتك ممنوعة من حيائك. أليس هذا هو الشرك الأعظم الذي حاربه الأنبياء، والأولياء.؟ ألم تجعل هذه العقيدة المتبعة في كسب الرزق للكون ناموسا آخر غير الذي صرحت به الديانات، والفلسفات.؟ لو نظرنا في عمق هذه القضية التي شغلت بال الفكر الديني منذ زمن طويل، فلا محالة، سنجد كل ما يجسده العقل المتعفن بادعاء التسلف من قيم معرفية للشرك، أو للبدعة، ليست إلا مسارا محرفا ابتلع مغبته من كيس التاريخ المطلي بالدماء النازفة بين الأودية، والسهول، والمبلط بجماجم المسحوقين بسنابك خيول الغزاة الغائرين، والغاضبين. وكأنه في صوغه لماضيه، ومستقبله، يؤسس لنمط عقدي في الدين، يغسل بسمومه معاني التعدد في الذاكرة الإنسانية، ويبني قيم الحياة على مقتضيات عنف يستحوذ على الإرادات الهشة، والعزائم الضحلة، لعلها أن تساق كالقطيع إلى محرقة التاريخ الذي كتب برماد المتفحمين على عتبات الأحكام الفاشية، فتجود في أحضانه بأرواحها السامدة، وأجسادها الهامدة، لأن الاهتمام بما له ارتباط قلبي بين العبد وربه، وهو حق الإله، والسكوت عن حق العبد، وهو كل ماله صلة باستقراره وسلامته من المعيقات التي تحجزه عن التمتع بسعادة الكون، والطبيعة، هو التضليل للمصير الذي كلف الإنسان برفع عماده في كون متجبر الخيرات، ومتعصب العلاقات، ومتطرف القدرات، إذ اهتمام العقيدة بهذا المجال الذي يعبد السبل نحو الحرية، والحضارة، هو الذي يجعلها متماشية مع متطلبات العبد، واحتياجاته، وضروريات حقه في الكسب، والعمل، لأن ما عدا ذلك من حتميات لا تتناسب مع قدرة كيانه المادي، والمعنوي، لا قيمة لها في اعتباره الذي يميز به بين الجيد، والرديء التافه، إذ مناقشة الإله في ذاته، وصفاته، هو الموضوع الذي لن يحدث للحقيقة الإلهية صورة يقينية في إدراك الأذهان لمعاني الألفاظ، والعبارات، لأن الخوض في ذلك لضرورة الإحساس باليقين، قد جرنا في السابق إلى نيران الحرفية، والظاهرية، والتأويلية، وسلك بنا مسالك مقوضة في التنزيه، والتفويض، والتعطيل. ولولا ما أحدثه ذلك من صراع دموي بين النحل، والفرق، لما أدركنا أن نقاش هذه المباني، لن ينتج عنها في مزدحم طرق يومنا، إلا ما خلفه من ألم في مخاض أمسنا، إذ الدواعي هي عينها، والدواهي هي نفسها، وهو صراع الأقوياء حول امتلاك مساحات شاسعة على هذا الكوكب الأرضي الذي يغرينا ببهرجه، وزخرفه، قبل أن يحمل الضعفاء نفَس غروره المشؤوم بلا عقل، ولا وعي، لأن المستفيد من حوادثه التي أثمرها في الأواصر، وأوجدها في الوشائج، هو ذلك الذي يرى نزاع الناس حول مطلق الإله، لن يحدث في نتيجته إلا احترابا بين الموارد الطافحة بالمعاني الجميلة. ولذا يكون كثير من نزاعنا سببا يفوت علينا فرصة مواكبة التطور، والتحضر، لأن تداخل القراءات، والتصورات، لن ينتج ما نتخوله من اجتماع الكلمة على معنى واحد في الحقيقة، إذ هو محل لا يقبل التصديق المادي، بل موقعُ نوره الوجدانُ الذي يمهد مهاد قبول ظاهرة الغيب، وهو الذي يمنح القدرة، والإرادة، والفعل الاختياري، وينفخ في الفعل الروح، والأمل، والحياة، ويجعل إتقانه نهاية الكمال، والجلال، والجمال،لأن التصور محله المادة المحسوسة، أوما دل عليها من طبائعها، وخصائصها، وعالم الروح لا ارتباط له بهذا الناموس الذي تحكمه الأسباب، والعلل، لأن مناطه لا يتحقق بالإدراك الحسي، بل معياره لا يستوي مع غيره في الضدية، إلا إذا كان مشاكلا له، وموازيا لحقيقته المعنوية، إذ الروح لا تدرس إلا في عالمها، وهي الخفاء الذي لا ندرك له جِرما، والنسيم الذي نشهد آثار نمائه على وردة الأماني الباسمة على محيا الحياة الوديعة، ونحس به في مطلق الإرادة المحدثة للحركة، والسكون. ولذا، يكون ما ينتجه القلب من معان في محيطه الوجداني، هو لب العقيدة التي تحرك الذاتي في بعده السماوي، والأرضي. إن إطالة ذيل النقاش في هذه القضية التي صرفتنا عن كثير من الحقائق الوجودية، والكونية، وتسريح النظر في أسباب ما تفضي إليه من عصبية مهينة، وطائفية مشينة، ومذهبية مقيتة، هو الذي يمنح للغير قوته، ويجعله قادرا على تجاوز مرحلة السؤال عن فعله المخزي، والمُردي، لأنه إذا تجاوز هذه اللحظة التي تربك الصورة في الأعين، وامتنع عن مناقشة ما له ارتباط بحياة الإنسان، وسلوكه في الحضارة، ودوره في العمران، لا يضيره ما قدم الناس من ثمين أوقاتهم في صراعهم حول الإله، وقتالهم حول درك مراده في الوجود البشري، ما دام الاتفاق على معنى فيه متعذر الغاية، ومتنائي الحقيقة. وعلى هذا يغدو النقاش حول هذه القضية مضيعة للزمن الممنوح لنا ابتلاءه، واختباره، وتأخير لفرصة سانحة، وسارحة، يمكن لها أن تكون نقطة انطلاق نحو المجهول المستحوذ على الألباب الحائرة، لأن حصر الإله في معان تلبس ذات الوسطاء المحرفين، والمزورين، وإلزام الناس باقتفاء أثر ما فيها من فواجع الصراع، والاغتيال، هو الذي يضيع نجم الحرية بين سوانح الآفاق، ويغيب طالع الإبداع بين جوانح الأعماق، ويقيم الحروب بين الطوائف والمذاهب بمدعى الانتصار للحقائق. وهو الذي يجتاز إلى أقذر مرحلة يجزم فيها بأنها الأقدس عنده، لأنه يتقرب بها إلى مفهوم الإله الذي نقشه بالحس، لا بالوجدان، وفي ظلها الموسوم بأمارات جراحه الغائرة، يقتل الإنسان أخاه حماية لرسم الدين الذي يعتقد كماله، ويهدم كل شاخص يرى كراهته، لكي يطلق لسانه على حطام الديار بالتهليل، والتكبير، وكأنه أضاف إلى السماء عمادا للبقاء، والوقاء. تلك هي الصورة العقدية التي صنعها التاريخ منذ بداية الأديان، واستمرت في كل طور يجتاز مرحلة من مراحل النشوء، والتطور، لأنها الصيغة البشرية المتحركة في مقابل الروح الإلهية الموجودة بين نسمات نصه، وقصده، وإن كانت تنجلى في كل مرحلة بلون، لكي تتشكل نحو ذلك المستقبل الذي يرث فيه الخلف أسرار السلف، فيحدث فيه ما أوجده في حاضره من انكسار، وانحسار، وانعتاق، وسلام. ولذا يكون كثير من نزاعها موجها بسيفه إلى طوق أعناق الأقنان، والعبيد، وقاتلا للأصلاء، والأحرار، ودافعا بمن خبَّر دروب المعرفة إلى الاتحاد على طراوة المصلحة، وغضارة المنفعة، إذ لن يفوت علينا ما نترجاه من عمق الارتباط بالحقيقة إلا ما نخوضه من حرب حول الإله، وهو في العقد المصدق به محل الوحدة، وموئل الأمان. لكن حين تلاشى الخيط الرابط بين الإنسان، وذاته، ولم يعد قادرا على استجلاء نور السماء فيها، غدا محلا للخلاف، والافتراق، لأن تقنين صورة للإله، وحصرها بحدود، وحجزها بقيود، ومنعها من الالتباس بغيرها، والامتزاج بما عداها، وسجنها في سرداب التجسيم، وقبو التعطيل، هو الذي يجعل فرصة ميلاد تلك الصورة بين القلوب ضئيلة، وهزيلة، لأنها لم تستوعب إلا نظرا واحدا في تركيب الحقيقة، لا يجوز له أن ينوب عن كل الأنظار التي تفتقت من الإنسان حين بحث عن جزئه العلوي، ولا أن يعبر عن صوتها الذي يتضمنه زفيره بين مجالب الرزق، ومنابت السعادة، ولا أن يدعي أنه امتلك الحقيقة الفذة في الصناعة، والصياغة، والمعنى الخالد الذي لا يشوبه الحدوث، والتغير، ولا أن يزعم بأن غيره عدو غاشم، أو حاسد حقود، لأن تمثل المعاني الإلهية في الحياة البشرية، هو الذي يمتعنا بالحرية أساسا، ويمهد السبيل نحو التجربة الرائدة في التزامنا بنظام التكليف في الكون، والطبيعة. ومن هنا، فإن ما يكشف المظهر القابع وراء الإنسان المكلف بالاعتدال بين رغبات ذاته، وشهوات واقعه، ليس هو ما يسوغ به أفعاله من أفكار، وأقدار، لأنها عند عجزه على طي أعسرها، لا يتجه فيها إلا إلى طرف أيسرها، إذ هو الذي يريحه من عناء الشك، ووعثاء السؤال، ويمنحه أجوبة جاهزة تقضي على ورمه، وتنهي كمده. كلا، بل هو فيما يتفاعل ضمن دائرة الإنسان من مكونات عدة، تشكل بنيته الباطنية، والظاهرية، وشخصيته الفردية، والجماعية، وهي التي تفسر نوع تربيته، وتكوينه، وتوضح معالم بنائه النفسي، والاجتماعي، إذ ما يشرح لنا مقتضيات اختلال الموازين في عقل الإنسان المتصارع حول البقاء، والفناء، وهي التي تعبر عنه مفاهيمه المتشاكسة بين ذاته، وواقعه، هو ما ينجذب إليه من صور في عمقه، وغوره، وينزوي إليه في نزاله، وعراكه. وهي التي يمحصها الواقع حين تنصهر مع مخاض نياته، وقصوده، وأحيانا يمحقها، ويسحقها، فتصير قابلة لمعنى آخر، يتحول به الذهن من أدنى دلالتها على معناها إلى أقصى اتجاه في التلفيق، والتزويق، لكي تصير الأشياء بدون حقيقة، ولا معنى، ولا جدوى. فلا غرابة إذا صار الدين يحمل معاني أخرى غير التي تهيأ لها أصله، ويحتوي على إفراز الذوات التي مهدت به طريقها إلى مقاصدها السالبة للبه، ونظره، بل هكذا كل المكونات التي تتشكل منها ثقافة المجتمع، وخصوصياته الأخلاقية، والقيمية، لأن أثر الواقع الذي ينظر إليه بأنظار مختلفة، ومهما سوغنا ضرورة الانتماء إليه بوساطة من الوسائط المعتبرة، لن يفرغ المجال إلا لما هو آني، وظرفي، لأنه هو المتحكم في الصيرورة التي نتخول غايتها بكل الوسائل المباحة، والمحظورة. وإذا عاندناه بأقصى ما نملك من جهد بشري، لكي نظهر خلوه من عيوب ذواتنا الآفنة، عاش كثير منا بين آسن موارد الألم، ومراقد العناء، وضاع منا كثير من الأسرار المودعة في الأشياء المغرية لنا بالفكر، والعبر، لأنها تعبر عن مركبات نقص استحوذت على الذات الخائفة، والخانعة، وتوافق عليها الأقوياء، والأشداء، فجعلوها سببا في حماية ما يمتلكونه من رياش، ومتعة، لئلا تفقد اليد ما فيها من مقاليد الجاه، والمال، والمراتب السنية. وهكذا يكون للواقع أثر في تركيب صور الذهن، وتفاعلها مع المحيط الخارجي للذات، ولو حاولنا أن نصرف عنا ما ينتجه ذلك فينا من فرح، أو قرح، لأنه لا ينفي فعل الدين، ولا عمله الإيجابي في ضرورة بناء صورة الحياة الدنيوية، ولكن يؤكد وجود قوى عدة، تتفاعل في صياغة رأي الإنسان، وقراره، وطريقة عيشه بين ظلمات عمقه. وما الدين إلا جزء كبير من هذا الجوهر المركب من لازميات أخرى، تتداخل فيما بينها بنسب متفاوتة، لكي تنتج شخصية معينة، تكون قوية، كما تكون ضعيفة، وتكون موجودة، كما تكون معدومة، لأن ما نشتهيه من أعراض كمالنا كثير، وما نخب إليه من لطف عظيم، لاسيما إذا خلبت الأشياء البصر، وأغرت النظر، إذ هي التي تحدد مناط السعادة في ذواتنا، وتحرك سلوكنا، وتفجر أخلاقنا، وتمنحنا صفة خاصة بين الأنواع المشكلة لجوهر جنسنا الكامل البنيات، والمحدد التكاليف. ولذا تصير البدعة الحقيقية التي نعنيها عند الاتفاق على حد معين في إشكالية الإنسان، هي أن نُخرج من عمق الدين أفكارا ملتبسة بالاتضاع، والمسكنة، تعطل دور الإنسان مع غيره من الكائنات الأخرى، وتحجبه عن رؤية ما هو مخلوق له، ومطلوب منه، وتأسره بين مجاهلها الفارغة، لأن الدين الذي نتقيد بتعاليمه في قضايا الكليات المحركة لنظم الطبيعة، والحياة، والإنسان، إن لم يكن تحريرا للإرادات المتعددة، واقتدارا على تمييز الاختيارات المتنوعة، فلا محالة، سيتحول إلى معضد لما ينغمس فيه الإنسان من يأس بين فيافي العناء، والضياع، والفراغ. وإذ ذاك، سيصير النفاق مستساغا، والخداع مستطابا، ثم تضيع القيم، ويسود المجتمع بدعة تحرف تاريخ الإنسان، وتزور الحقائق الكبرى في النفس، والعقل، والذاكرة، والقلب. وإذا كانت البدعة، هي الرضى بما يفسد علاقة العبد بربه، وبحقيقته في الوجود، والكون، والحياة، فإن ما يستلزم ذلك من اختلال في المفاهيم المرتبطة بهذه المعاني المحركة لوكد الإنسان، وجهده، هو الذي يمنح القدرة لكثير على تسويغ المظاهر الجوفاء، والبحث لها عن مخارج متشعبة، لئلا تذوب ملحة الحياة وبهجتها بين الذوات التائهة، والحائرة، لأن ما نراه حاصلا في واقعنا المترع بالنقاش حول ماهية الحياة الكريمة، وهو الذي يضعط علينا بزحفه، وغزوه، هو ما أوجدناه من ركضنا بين أكنان عيشنا، وأفنان حركتنا، وما ارتضيناه خدنا لنا بين الدروب المكتظة بالصراخ، والعويل، وأنيسا في غربة موحشة المطالع، والأنواء، لأن تآلفنا مع ما نستمرئه من مقام، وما نستبعده من مرام، هو الذي يحدث فينا تسويغا لقبول ما هو ممنوح لنا بقلة، وبخل، والدفاع عنه، والجدال حوله، إذ العجز يعبد طرق اليقين باستحالة تغيير ما حقه التغير، واستبطاء ما أصله التقدم، لاسيما إذا لم يكن للعقيدة دور في إعادة الروح التي تتشكل منها الأشياء إلى باريها، والنزوح بها نحو الفعل الكلي الصادر عن العقل الفعال في الإنسان الكامل. وذلك ما ينفخ فينا روح المجاهدة، والمكابدة، ويدفع بنا إلى ملء فراغ الاحتياج بما تبشرنا به نصوص الدين من تمكين، وتبديل لزمن الخوف إلى لحظة أمن، وأمان. وما دمنا لا نفسر ماهية الاختلال بما نقوم به من دور فيه، فإن اعتبار جزئية قدريته، لن يجعلنا إلا جبريين بالمعنى الأفسد له، لأنه إذا كان تسويغا لما يقع من طفرات أحدثها العقل الذكي، فإن ما سينتج عنه من ميولات في الفكر، والرأي، والموقف، لن يكون إلا خضوعا للأعراف التي تدبر سنن الكون بمقتضى الاستعلاء، والتميز. وإذا أحدث هذا فينا ذل المورد الذي يقطع دابر طلبنا للهناءة، وضعف يدنا عن صناعة الريادة، فإنه لن يعلمنا كيف نحرر ذواتنا من معرة الآلام، وكيف نتخلص من سبة العناء. ومن هنا، فإن التسويغ عند عدم القدرة على إحداث ما هو جميل في المطلوب وجهه لرغبة البقاء، هو بدعة البدع التي تفصح عن مكنون نفسي هزيل، وضئيل، لأنه في منتهى القصد تغيير للحكم الملازم للأشياء ذاتا، أو عرضا، وتصريف له في غير حقيقته التي تظهره كامل البنى، والقوى. وهو أفحش الظواهر في الانحراف الذي يقطع الصلة بين الأرض، والسماء، ويبتر كل حميمية تصل الإنسان بأخيه في الزمن البشري، لأنه يستوجب أخلاقا سيئة، وأفعالا دنيئة، وسمها بأي اسم شئت، أو صفها بأي وصف أحببت، فسواء كانت مداراة، أو مداجنة، أو مداهنة، أو غير ذلك، فهي مذمومة في السلوك الجميل، ومكروهة للعقول المنافحة عن كل معنى أصيل، لأنها تحرف العقيدة، والشريعة، إذ مقتضاهما أن يكون كل واحد منا حرا، لكي يكون مسؤولا عن فعله. لكن إذا أغرقنا المجتمع في بركة الفساد، فكيف يمكن لنا أن ندعي اعتدال الأخلاق بين استواء الآفاق.؟ إن ذلك مما يسوء به حال الخلق في جميع مكونات المجتمع، وتلاوينه، وينوء به حمل المصلحين، والمربين، بل حتى أولئك الذين يناهضون الرقاعة بمنتهى ما يحملون من وخز الوجع في أعماقهم الحزينة، سيضطرون في موارد إلى مخالفة لغة العقل الذي يقيمون به الدليل على فساد وضع الإنسان، وسواده، لكي يحتالوا على الغوائل بما يرون من حكمة تجرعوها من تجاربهم المحددة. أجل، هكذا يتحول الخوف إلى قلق، والجبن إلى نفاق، والنقص إلى استجداء، لأن الهلع من ضياع الامتلاك بالزوال، والتباس الحظ بالفناء، هو الذي يصوغ طريقة تتمدد بها الذات على أرض لذاتها الآسرة، ويبني مركب الذات من افتراضات شتى، وتناقضات تتوالى، وسواء أقرت بصواب ما تفعله من تسويغ، لكي تنجو من عقاب الضمير، وعاقبة المصير، أو لم تقر بذلك فيما تحارب من أجله، ولكنها تغوص بين غيابات التواريخ البشرية، لكي تعثر على مأثرة تنجذب الأفئدة إلى لونها الباهر، وتنخطف المسامع إلى صوتها الكاسر، لأنها ومهما حاولت أن تقنع غيرها بما ترسمه على ظاهر فعلها من خطوط جميلة، فإن عمقها لا ينحاز إلا إلى ما تدبره من طرق باطنية في طي مسافات الخداع، والمكر. ولذا تعبر عما تخفيه من أسرار الغور الداخلي بطرق مفعمة بالكياسة، والفطانة، وتفصح عن مرادها بالكناية، والتورية، لأنها وإن كانت بمقام محمود في السيرة البشرية الملتبسة بالتضليل، والتحريف، فهي في حبك حيلها المستبطنة لاستعاراتها الغائرة، تقرب المسافة بينها وبين ما هو موجود، ولكنه فاقد لضرورة وجوده بين المقاصد الفضيلة. ربما قد يكون هذا المقر بدهائه موسوما بما ينبر ي إليه العقل عند أول مواجهة له مع خارجه، ومجابهة له مع ظاهره، لأنه لا يريد أن يمعن النظر في العواقب التي تربك مشيته إلى الملذات الجامحة، إذ تمام الصورة عنده فيما يدهمه من ألوانها بين لحظات البداية، لا فيما تتقوم به من مركب يكوِّن ماهيتها بين أفق النهاية. ولذا يعتبر الالتفاف حول هذه اللمعة البراقة حدة دهاء عند من فرق بينه وبين الذكاء، وأقام الحواجز بين رسوم أفعال العقل المقصودة بجمالها في الغاية، لأنها لا تقوم إلا بمن لم يميز بين روح الشيء، وجرمه، ولم يحترم ما فيه من ثابت، ومتغير، إذ ما بين اليد منه زائل عنه إلى غيره، وقائم به في صيرورة بقاء النوع سليما بين الأنواع المنتهية إلى جنس الإنسان الموصول بتاريخ عريق. لكن سر وجوده فيمن نفث بين روعه معنى الأمل، والرجاء، وغرس فيه بذرة اللطف، والجمال، فكان وقاء للذات الجامحة، وحماية للمعنى من جنوح الإرادات الكاسدة، إذ لو كان هذا ذكاء مستجمعا لما فيه من جوهر العقل الباقر، لما انطفأت جذوته لأول اهتزاز، وارتجاج، ولما اصطرع حوله جزءَا الإنسان في حيازة طبيعته، وحقيقته، لأن فعله في الذات مستمر، وأثره باق في الزمان، وممتد في المكان. وما لم يكن هكذا، فإن أول ما ينقدح في العقل عن الشيء الذي ننتخبه للامتلاك الأبدي، ليس ذكاء حادا في الاعتبار العقلائي، لأن ما تختبئه الأشياء من احتمالات في المغبة، وافتراضات في العاقبة، لا ينكشف إلا بعد الابتلاء، والتمحيص، إذ هو الحكم النهائي الذي تجمعت لنا أدواته بالتجربة، وتقوت لدينا معرفته بالخبرة، والفهمُ الذي نعبر به عن حقيقة وعينا بالروابط التي تصل بين المادة، والروح، لأن درك هذه العلاقات في سياق بناء الحقائق بين محيط الذات، والواقع، هو الذي يمد أيدينا إلى الشيء النافع بكسب حقيقته، ويدفع بنا إلى أن نصطحبه في مسيرة حياة نبني أسس قياسها على ما يكمن بين الأعيان من معان جليلة، إذ ليس من الحكمة أن نقبض على الهياكل من غير معرفة بجواهرها الخفية، لأنها لا تتصل بغيرها في موضوع الحوادث العارضة، إلا إذا كانت العلاقة دالة على الإحاطة، والشمول، ومستوعبة لما فيه من النسب المتناسبة، والعلل المتكاملة. وإلا، فإن أي مركب وضع للبحث، والسؤال، ومهما بدا سهلا فيما ينتزع منه من صور ذهنية، لا يجوز له أن تتفاعل جزئياته إلا بتمامها في الماهية، إذ هي كليته التي تكسبه معنى الجرم والحيز في الوجود، وهي التي ينظر إليها عند استيعاب ما في غوره من معانيه الأصلية.
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عقيدة التسويغ -9-
-
عقيدة التسويغ -8-
-
عقيدة التسويغ -7-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -5-
-
عقيدة التسويغ -6-
-
عقيدة التسويغ -5-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -4-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -3-
-
عقيدة التسويغ -4-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -2-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -1-
-
عقيدة التسويغ -3-
-
عقيدة التسويغ -2-
-
عقيدة التسويغ -1-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -8-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -7-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -6-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -5-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -4-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -3-
المزيد.....
-
-حرب- التعريفات الجمركية بين الصين وأمريكا.. كيف ستستجيب بكي
...
-
نتنياهو يتوجه إلى الولايات المتحدة ليكون أول رئيس وزراء يلتق
...
-
إجلاء أطفال فلسطينيين جرحى إلى مصر مع إعادة فتح معبر رفح
-
تعيين اللواء إيال زمير رئيسا جديدا لأركان الجيش الإسرائيلي
-
كاميرا تلتقط لحظة انفجار طائرة في فيلادلفيا في كارثة جوية جد
...
-
بوتين يهنئ البطريرك كيريل بذكرى تنصيبه الكنسي
-
قتلى وجرحى في قصف إسرائيلي استهدف مركبتين في مدينة جنين (فيد
...
-
الحرس الثوري الإيراني يكشف عن صاروخ كروز البحري بمدى يتجاوز
...
-
طالبة صينية أول ضحية لقانون ترامب بترحيل الطلاب المؤيدين لفل
...
-
ترامب يأمر بتوجيه -ضربة دقيقة- لاستهداف أحد زعماء -داعش-
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|