|
عقيدة التسويغ -7-
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5462 - 2017 / 3 / 16 - 15:59
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
عقيدة التسويغ منعرجات فكرية -7- يتبع إن تسويغ العودة إلى الماضي بدعوى أننا لن نسير إلى الأمام إلا بوأد الجديد، واغتيال الحديث، لا يستقيم إلا بمنطق يرى الواقع مشنوء الخِلقة، والحياة مملوءة بالآلام الغضة، والمسارب مفجوعة بالأرزاء الفاتكة، ثم يخال عودته إلى تلك اللحظة المتسامية في ذهنه المتشبث بصورة بريئة للماضي المبعثر الذكريات، هي الحصن الذي سيحميه من هزيمته بين الأنساق الفكرية التي تفرضها بدع الحضارة الفارهة، والصناعة الكاسرة. وإذا كان هذا المرتجى لحظة سارحة في الذهن الذي يحتوي على كل صور الألفاظ، والأسماء، والمعاني، والمفاهيم، فهو في علاقته بمركبات الذات الملتئمة على تناقضات جمة، سيتحول إلى فعل إجرامي، وعدائي، يقوم به المتشبث بالماضي حين ينفصل عن خارجه، لكي ينقبع وراء باطنه المشحون بصور خرافية، وأبعاد هلامية، لا تنفك عن أسرها لذاته المنهزمة، وحبسها في دائرة مغلقة، يشكل مجهول ما قام به الماضي من صراع الإنسان مع ظواهره في عالم النفس والاجتماع أساسها النابض بقوتها، ونشاطها، لأن الصورة المعبرة عن ذلك، ومهما كانت مستغرفة في وصف القديم بأجلى الأوصاف، وأحلاها ذوقا، وأظهرها أثرا، لا تطيق بمنطقها المتنائي عن لزوم الماضي للحاضر، أن تصنع علاقة قوية بذلك الموروث المستمسك بلحظته، والمكون للغد بما تقضيه سنن التغيير في الزمان، والمكان، إذ تلك الحقيقة المتناهية في الطهارة، والصفاء، وهي ما تحن النفس إلى استظهاره في حقيقة الوجود، لا تشوبها في الذهن كدورة تجعل سؤال المعرفة موجها إلى حوزتها، أو قابلا لأن يطأ أرضها، ما دامت تؤسس لمفردات اليقين الذي تقاس به قوة الإدراك في حقيقة السلوك الذاتي، والاجتماعي. وعلى هذا، فإن مشاركة تلك الصورة الذهنية في فضائها المكتمل البنيات، وهي ليست إلا عين التاريخ الذي يحمل نجاح الإنسان، وإخفاقه، لأنه نتاجٌ قلق في بناء مركب صيرورة الحياة، ومقابلتها بما ينشأ فينا من وعي يتركب به الجزء الأعظم من لاوعينا، هو السبب في انسحابنا من دائرة الفعل إلى حضن التسويغ، لأنه الملاك الذي يعصمنا مما نرسف في غله من تضارب، وتحارب. ومن هنا، فإن أي انكباب عن الحقيقة، واستنكاف عما تُلزم به من تبعات في لازم التكليف بالتمحيص، والاختبار، وهي تلك التي آمنا بها يقينا في ذواتنا الباحثة عن صناعة اللحظة الهادئة، وسواء وجدت لنا في لوحة الحياة التي تسوق النيات بين مراماتها المختلفة، ثم نقرأ سطورها باختيارنا، وإرادتنا، أو تلك التي اخترعناها لما تتضمنه ذواتنا من رغباتنا، وشهواتنا، ثم عبَّدنا طريقها الموصل إلى غاياتها المتنافرة، لا يعلمنا سوى الولوغ في آسن الموارد التي نصدر عنها بألم، وحزن، ولا يربينا إلا على البحث عن أسباب تحرر غاية المراد الذي نسعى إليه بوافر الجد، والجهد، ولو خالف نواله ما نعول به من سمو في خطابتنا المتسمة بالعنف، والكراهية. وإذا كان هذا قدرا نعيشه بين دورنا المتضيقة بسقوط هممنا، وهوان هاماتنا، ونحن لا نتحمل في إيجاده ملامة، ولا نتكلف في بقائه بمهمة، وإن كنا نُعاتب على استساغته، ونُنبذ على التبرم منه، فإن ما يدهمنا من عواصف موجعة، تغدو بنا يمنة ويسرة في تفسير هذا التناقض المشهود على حياة أولئك الذين صقلوا صورهم على المرآة الممتزجة بغبار السنين، لئلا يرى عليها إلا ما تظهره وجوههم الناعمة من مساحيق فاجرة، لن يمنحنا فرصة للإدراك الذي تنتزع به الصورة في أجلى مظاهرها، وتنعتق به الأوصاف في أمتع ملامحها، لأن عدمية الأماكن المتقيظة بين المهاد، والوهاد، وفوضية الغاية في جهود العقول، والحقول، لم تكن في زمن ما سببا تكتشف به طرق ما تحن إليه النفوس من جمال الأشياء، وتمامها في النقاء، ووفرتها على ما يستجنه الإنسان في عقله من معان عظيمة، ونظم جليلة، إذ الاهتداء إلى أقوم السبل في الاختيار الذي يحصل به التكليف في العائلة البشرية، يحتاج إلى هدوء المكان، واطمئنان العين بالأفق المفتوح أمامها بأنوار الزمان، لأنهما يسعفان بصفاء الأذهان، وطراوة الأفكار، ويهبان القدرة على التمييز بين ما هو نظام كوني، وما هو من صنع السادة للعبيد في الناموس الأرضي، وما هو هروب من ضلال الأقدام، وزلل الأنظار، وسراب الآفاق، إذ عدم وضوح الفضاء بين العيون الحادة، لن يتمتع بالنظرة الثاقبة، ولن يحرك الشوق بين مدار لا يتشظى فيه البصر، والفكر، ويغري باستظهار ذلك المطلع الذي ينطق بتاريخ الإنسان في مجابهته لنظام الطبيعة، والكون، ومصارعته لكل ما يعطل عشقه إلى تلك الصورة التي تضمن له قيمة الاستقرار، وتشعره بضرورة الإبداع لتمام الابتكار. إنني لا أدري لم أستهجن هذا التسويغ في بعض يهاتفني، ويطالبني بشيء ليس له، ولا ملك لي عليه، وأنى له أن يكون قابضا عليه في واقعه، وهو يعلم يقينا أنه لا يجوز شرعا أن يوطد بفكره السمج لعلاقات الدناءة في الحياة البشرية، ويرسخ بفعله لمبدأ التفاضل الذي يفرق بين الناس بمقتضى الصفات التي نالوها، ولو لم تدل في حقيقتها على الملكة، والموهبة، والأهلية، لأن أعظم الآثام جرما في خدمة مشروع الرداءة، هو إذلال سامق الطاقات، وباقر الكفاءات، لكي يتميز بالشيء المقرورة به العين من لا يملك بين طيات مشاعره إلا الحنين إلى ساعات يحس فيها بالامتلاك المطلق، وإن كان ذلك في حقيقته ذليل المحتد، وحقير المولد، لأن مطالبتا بشيء لا نستوجبه بالقدرة الفائقة فينا، ومهما كان ضئيلا في الحيازة التي يحصل بها الجرم على شيء من عطايا الطبيعة، يفوت على الكفء الجدير فرصة الاستحقاق لوصف يمتلك بالقوة روح فعله، ويخلق في المجتمع بؤرا تنزف بالكراهية، والضغينة، إذ ما قام أحد بما لا طاقة له عليه، إلا وأغرف سفين معناه في سبة الخداع، والزيف، والادعاء. وذلك مرئي ومشهود بالأعين المتضرعة حول الموائد استجداء، واستخذاء، لا لأن كثيرا ممن دفعهم بؤس المقام إلى الالتواء على الفرص الممنوحة، قد نالته إعاقة تؤخره عن الركب السائر أمامه بين الأمداء الشاسعة. كلا، بل قيد سيره ما أصيبت به الديار البائسة من أوجاع، وأوضاع، لأنها لو تمكنت بما في مكنتها على كسب ما هو مفروض لها بين حبايا الطبيعة، لنتج منها استمرار الألفاظ على معانيها، واستحواذ الأشياء على مواقعها، إذ صعب أن نحصِّل على الوصف بغرور، واغترار، ونحن لا نمتلك ذاتا يمكن لها أن تكون محلا مستوجبا للصفة بقرينة من القرائن. ومن هنا، فإن قفز الحديث المعروض للاقتناع من أدنى المقدمات إلى أقصى النتائج المطلوبة، يستدعي منا أن نبحث عن مستبطن عقيدة التسويغ التي تسيطر على الأذهان المرتبكة بين الخضوع لعقيدتها، أو الخنوع لطبيعتها، لأن قبض العقل المسوغ على الغاية المحبوبة، والبحث عن الاستدلال عليها بطرق ملتبسة، والرغبة في الوصول إليها بوسائل ملتوية، وطرد كل ما يعيق إقامة الحجة على فساد نياتها بالبراهين القاطعة، ويربك السير في طريق حيازتها بالطرق المشروعة، هو الأمل الذي يحدو الذوات المتناقضة حين يسعى جهدها إلى إنهاء الصراع الداخلي، والإجهاز على كل ما يعكر الصوت الباطني، ويسوِّد محيطه، ويبدد آفاقه، لأن الشعور بالندم على الفعل الذي فيه رغب اللذات، ورهب الذات، وهو ملازم للعقل الذي يحس بالتنافي بين رغبات الذات الجونية، والبرانية، هو الذي يفسد العلاقة بالأشياء المقصودة بالغايات المسوغة، لاسيما إذا ارتبط بالإحساس الديني، أو القيمي، إذ تذكر كيفية صياغة البدايات في ذاتها، هو الذي يصير طعم النهايات بلا معنى. ولذا اقتضى ذلك أن يبحث العقل الصريع بكوامن النفس عن مخرج للقضية المتنافرة، ومسرب يجوز له أن يزيل ألم الذات المتألمة، وينهي صراع الأضداد بين وجود الشيء وعدمه، إذ عدم امتلاكه له بالملكية الوافرة، هو الذي يغرقه في يم الاحتياج إليه بالتبعية، ويفرغه من قيمه الأصلية، لكي يحتوي على مضمون النفس المركبة من المعاني المتعارضة. وامتلاكه له بدنيء الحيل بين الموارد الصاخبة، وهو غير مملوك له بالقدرة الفائقة، بل بدافع آخر غير مرغوب في رأي الدين، ولا في حكم العقل السوي، ولا في نكهة الذوق السليم، هو الذي يفقد ذلك الشيء حقيقته، وقيمته، ويجعل امتلاك اليد له حيرة، وندامة، لأن طبيعة الإنسان التي تحرك أقواله، وأفعاله، ومهما تطاولت على النظم، والنواميس، لا تستوعب إلا لحظة سارحة تبحث عنها بين اللحظات غير المتناهية، وهي الساعة التي يرتاح فيها الجسد بإزالة أورام الذات من العقل، والوجدان. وذلك متعذر في صياغة الحقائق الجلية في الأذهان، لأن عمل الدين في الطبيعة البشرية، هو ما يفيده من سكينة، وطمأنينة، إذ ما يزرعه في الحياة من آمال حرى، هي التي تتحكم في صياغة معنى الكمال والتمام في المعاني الجميلة. وهذه الصورة بفطريتها المنسابة مع جمالية الأشياء التي تضيف صفة اعتبارية إلى الذات المحترزة من ضياع مهجة الحياة بلا بهجة، ولا سعادة، وعلى رغم تمخضها عن الواقع الآسن، وملامستها لكل الحقائق التي تشكل نوعية الحياة فوق هذا الكوكب الأرضي، فإنها تبقى في منطقها المستدل به عليها بريئة، ونظيفة، ما لم تمسها رغبة أخرى، تفسد عمل آلاتها، وأدواتها، وتصيرها غير فاعلة، ولا مؤثرة، لأن شهود أثر الدين على الإنسان المتدين، هو الذي يمنحه صورة نقية عن ذاته، وعن غيره، فتكون تلك اللمسة الظاهرة عليه، هي محل الحكم للآخر الذي يقابله، ويناظره. ولذا، فإن تنجس هذه الصورة بعفن الرغبات المتناقضة في قيمها الشخصية، والغيرية، وتعرضها للتحوير الذي يضفي عليها طابع الخصوصية النفسية، والاجتماعية، هو ما يفقد المتدين اعتباره في داخله، وفي خارجه، لأن عدم إيقانه بنظافة وسيلته، ووساخة غايته، هو الذي يحصر المخبر في سجن الندامة، ويبرز المظهر شاحبا، ومرتبكا. ومن هنا، فإن محل الألم في الصورة المتناقضة التي ينشأ عنها الألم، والكمد، هو ذلك الإحساس بعدم قدرته على ترويض شهواته التي تختفي في قاع كيانه، والشعور برفض الآخر لذلك القناع الذي تكتسب به المعاني المشهودة، وتنال به المطاوعة لأمر الدين القائم في التكليف بالعدالة، والمساواة، لأن إيقان الذات بسلامة سربها، وأمان مداها، ونقاء فضائها، هو الذي يبرز اطمئنانه على الظاهر المتفاني في إنجاز صورته الفاتنة، وهو الذي يحدد نوع العلاقات التي تربطه بحقائق الأشياء الخارجية، إذ تحارب القدرة والإرادة في غور الإنسان، هو الشقاء الذي ينزف في السلوك المتخوف من النتيجة غير المحددة، لأنه نمط يفسر أنساق الإدراك في النفس، والعقل، والقلب، والوجدان. وإلا، فإن عدم الرغبة في هذا المظهر الذي ينبثق منه الوصف الخارجي عند الغير، والثقة بضرورة نيل الأشياء من روح الطبيعة، سيحرره من أفكار كثيرة تحدث فيه انزعاجا، وضجرا. وذلك ما يحاول أن يبدده بعملية التسويغ، لأن طريقة تركيب القضية في عقل المسوغ، هو الذي يبين لنا كيف تمت لحظة الرضى عن الذات، ولو خالفت منشور ما ترسمه من خطوات إلى الأمام. وهكذا، فإن تركيب قضية التسويغ في العقل، هو البداءة من المقدمات غير المقبولة في التوجيه الديني، والعقلي، ثم الانتقال إلى طي كل المراحل التي يتركب بها القياس المنطقي، لكي تتشكل النتيجة غير المرضية بتسويغ مرتبك، لا يقيم الدليل على صدق القضية في كنهها، وماهيتها، وإنما يبني معنى باطنيا غير ما يظهر عليه من ألوان براقة، لأن ما يقوم به المسوغ من استدلال على استحقاق المقدمة للنتجية، هو ما يحدث تناقضا لازما بين الحقيقة المستحوذة على الذات، وبين الرغبة التي يتحدد بها وجه من أوجه البحث عن الخلد، والبقاء، إذ ما توافر حول مفهوم التضحية بالمبدأ الأسمى من مشاعر، وعواطف، ولو خالفت النص الديني، والمضمون العقلي، هو الذي يعبد الطريق لجواز هذه المغالطة، وقبولها في الحقيقة، لأنها تحول القناعة من الذات إلى الآخر، وتنقل المعنى من دلالته على هويته إلى شيء يورى عنه بما يبديه المتحدث من ألق، وتوهج. ومن هنا، يكون الحديث موجها لخلق الاقتناع عند المستمع، ويصير الإمعان في استحسانه لذلك العرض المعروض، هو السلم الذي يرتقى عليه للوصول إلى الغاية المرضية. ويبدو لنا أن المسوغ يجهد ذاته في رص الأدلة المزيفة، والمعاني الملتبسة، لكي تكون أقدر على صياغة تلك القناعة في ذات الآخر، وصناعة التآلف مع دلالتها المخالفة لأصل وضعها في الجبلة، أو الكسب، لأن عدم شعوره بعتب يلازم فعلَه عند النظير، والشبيه، هو الذي يزيح عن كيانه غلالة القلق الداخلي، والمعنوي، ويذيب في مقامه وحشة الاغتراب، والصراع. وإذا نال ما قصده بوسيلته الدنيئة، كان أحرص على امتلاكه، بل يتحول إلى درجة أخرى في الاستدلال على قضية الملكية، وهو جدارته على حيازة ما بين يديه، وقدرته في الاحتفاظ على روحه، وسره. وتلك هي المزلة التي تدفعه إلى تزوير التاريخ لإظهار الانتساب إلى دائرة الكمال، وتحريف القيم إمعانا في تشويه الحقيقة، وإغراقها في لجة الخلاف حول جنسها، ونوعها، وإرغامها على قبول المعنى الذي نفخ فيها جورا، واغتصابا، والرضى بما تدل عليه في ذات المسوغ لها، لا في مدار طبيعتها، لئلا ينتزع منه ذلك الشيء الذي أيقن بغصبه له، وأعلن الحرب في سبيله، لأنه إن لم تستمر حمايته لذلك المملوك الذي تتقوم به ذاته في فمهمه لمعنى احتياجها، وافتقارها، فلا محالة، سيفقد صولته التي يختفي من ورائها شخص مضطرب، ومخيف، ثم تضيع معه ذاته التي تاهت منها أنفاسه الزافرة بالجشع، والطمع. ولذا، يصير التسويغ مرضا مدنفا في جهاز الذات، لأنه في عمقه خزي، وعار، وفي ظاهره قهر، وانتحال، إذ لو قبل بما يؤدي إليه مقتضى العقيدة من الرضى بالقدر، لكان ذلك أسلم لجاهه في ذاته، وفي غيره، لكن نقض ذلك بدافع البحث عن القوة، وزعم قدرة الشيء على الأثر المؤثر في الآخر، هو الذي يجعله مفارقا لمهد العقيدة، وإن أظهر الغلو، والتنطع، لأن اعتقاده بقدرة الشيء على إحداث الضرر، أو النفع، لا يستقيم في منهج الدين الذي ينتسب إليه، إذ هو قد جعل الأثر كامنا في الذوات، ولكنه لا ينفعل إلا بإرادة الله، ومشيئته. ومن هنا، فإن التسليم بالإرادة الأزلية، والإنكار لمقتضى المشيئة الإلهية، ولو لم يصرح به اللسان، ولكن ثبت عليه العزم، ورسخ عليه الفعل، هو ما يفرض الخوف من الأشياء المفارقة، والأمن معها إذا لبست لباس الذات، وتحويرها، وتحريفها، وتخريفها، لأن الخوف من زوال قيم الأعيان بين الأبدان، هو الذي يحولنا إلى ماديين، وطبعيين، وهو الذي يحكمنا بناموس يقبل الاستعباد، والاسترقاق، إذ العبودية، هي ما انتزع منك إرادتَك، وصيرك محكوما بإراداته. وهنا يكون منزع كثير من الصراع الموجه في أوطاننا العربية بمقتضى الدين بائسا، لأنه تسويغ لصور نمطية اختزنت في الذهن، وتوطنت الدماغ، وصارت حاكمة على السلوك المختل، والخلق المتناقض، لأنها هي التي رسخت للتصارع بين الموارد المختلفة، ودفعت الإنسان في نهاية مقاماته إلى حماية ذاته بكده، وكدحه، ولو أنجر في واقعه ما يخالف عقيدته، لأن قتل الإنسان بدعوى مخالفته لنمط سلوكي معين، ولو لبس لبسة الدين، وتجمل بالمعنى الإنساني، لم يكن مسوغا إلا حين اعتقد القاتل بأنه يهدي دم القتيل إلى عالم السماء، لكي يحتفي أهل الملأ الأعلى بعرس الشهيد، وزفافه الميمون. وذلك مبني على كون القاتل لم يظفر في حياته برغباته المتعسرة عليه، ولم ينتش في ظاهره بما يكسبه المسرة، ويكسوه بالمبرة، لأن سعة الأشياء عن ضيق امتلاكه لها، هو الذي يدفعه إلى الرفض والكره لها، والسعي إلى إفسادها، وإهدارها. وما دام نوع هذا الرفض لا يحقق النتيجة المقصودة للعاجز عن كبح نزواته، ولا يقضي على الإحساس المتألم بها، فإن رغبته ستتحول آليا إلى القضاء عليها، لئلا تزعجه بما يتواتر عليه من خواطر، وهواجس. وذلك ما يستهديه الإرهابي حين تنفجر شهوته بين مدار واقعه المفعم بأنماط أخرى في الزينة، والفتنة، لأنه حين لم يطق الانسجام معها، ولا القدرة عليها، ولا التخلص منها، ابتغى أن ينسف كلية العالم، لكي يكون مالكا للكون بمقتضى إرادة السماء. ومن هنا، فإن صيرورة ما يحدث في الدول التي تفجر بين رياضها ينبوع الإرهاب الديني، تؤكد حقيقة مطلقة، يؤمن بها هذا الوحش الكاسر، وهو نزوعه إلى حقيقة الامتلاك التي يحرم منها في دائرة يحكمها نظام عام، وسواء كان نظاما عادلا، أو جائرا، إذ ما يناله من قتل الرجال، وسبي النساء، وتسلط على الرقاب، وقدرة على قتل المخالف، هو الذي يشعره بالوجود الذي منع عنه في فضاء يسبب له الألم، والشقاء، ويضمن له البقاء ضمن بؤرة يقبض عليها مارد جبار، ويسودها حاكم يرفع السيف في وجه من يعاند نظره إلى الأشياء، ولو فاصل كل ما تواطأ عليه الناس من أعراف تحمي الحقوق الطبعية في الحياة الحرة. ومن ثم يكون الإرهاب تعبيرا عن عقد النقص الكامنة في الذات المأفونة، لأنه يبرز الإطار المعرفي المتحكم في الكيان، كما يبين لنا كيف ينشأ السلوك في دائرته، وكيف يصير فعل الإجرام مسوغا عنده باسم رعاية حق الإله في الأرض، إذ الإرهاب في نتيجته الجلى، هو انحراف عن خط الحرية الإنسانية في الاختيار، والتقدير، وفرض لمناخ يقبل وزر النفاق، والكذب، ويسستيغ كل فعل يقي الذات من العقاب المفروض بمقتضى آخر، لا يرحم توسل الإنسان، ولا توسطه، لأن معنى العفو ممسوح في ذاكرة الإرهابي، وممنوع عطاءه لمن عاداه، وعانده. ولذا يكون فعله انتقاما لما فقدته الذات من سلطة في محيط لا يعترف إلا بما يضفي على الذات صولة القوة، والجبروت.
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -5-
-
عقيدة التسويغ -6-
-
عقيدة التسويغ -5-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -4-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -3-
-
عقيدة التسويغ -4-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -2-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -1-
-
عقيدة التسويغ -3-
-
عقيدة التسويغ -2-
-
عقيدة التسويغ -1-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -8-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -7-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -6-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -5-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -4-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -3-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -2-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -1-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -5- الأخير
المزيد.....
-
ترامب يكشف موعد اتصاله مع رئيس وزراء كندا ويؤكد: -سيدفعون-
-
الصين لديها ورقة رابحة في مواجهة رسوم أمريكا الجمركية.. ما ه
...
-
أمراض يشير إليها تضخم الغدد اللمفاوية
-
روسيا تنشئ أنظمة تبريد تساعد على تطوير أجهزة الكمبيوتر الكمو
...
-
روسيا تستخدم الدرونات لمراقبة مسارات السكك الحديدية
-
روسيا تختبر منظومة جديدة مضادة للدرونات
-
البول الأسود.. اضطراب نادر يسبب مشاكل صحية خطيرة
-
الدنمارك.. اكتشاف نوع جديد من الفطريات تحوّل العناكب إلى زوم
...
-
روسيا تنتج بطاريات الليثيوم الأيونية للطائرات المسيرة
-
أمراض تسمى -القاتل الصامت-.. ما هي وكيف نكتشفها مبكرا؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|