|
النيباد: سنار من عماها يبيعو ليها ماها
مجدي الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 1433 - 2006 / 1 / 17 - 08:35
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
جاء في الخبر على لسان سفير السودان بنيجيريا، السيد عبد الحميد عابدين، أن حكومة السودان قد استكملت شروط الإنضمام إلى "المبادرة الجديدة للتنمية في افريقيا" (نيباد)، وعليه ستصبح عضواً رسمياً فيها عند انعقاد القمة الرابعة للمبادرة، المقامة على هامش القمة الافريقية المرتقبة في الخرطوم، من خلال مشاركتها كعضو جديد في "آلية مراقبة الأقران" الخاصة بالنيباد، مشيراً إلى أن نيجيريا قد دعمت السودان في الإنضمام إلى هذه الآلية (الأضواء، 2 يناير 2006). يعود منشأ المبادرة المرعية إلى تفويض خصت به منظمة الوحدة الافريقية رؤساء الدول المؤسسة: الجزائر، مصر، السنغال، نيجيريا وجنوب افريقيا، يقوم بموجبه الخمسة الكبار بتصميم هيكل متكامل للتنمية الاجتماعية-الاقتصادية في القارة؛ من ثم تم اعتماد "الوثيقة الهيكلية" للمبادرة في يوليو 2001 إبان القمة 37 لمنظمة الوحدة الافريقية. بحسب المصادر المتوفرة لنا يعتبر رئيس جنوب افريقيا ثابو امبيكي مهندس الوثيقة الهيكلية وبطلها الأول حيث كان سباقاً إلى صياغة خطة لجذب الاستثمارات الأجنبية لبلاده في العام 1999، قام بتعميمها والدعاية لها بين رؤساء الدول وقيادات الشركات العابرة للقارات إبان اجتماعات قمة الثمانية، والملتقى الاقتصادي العالمي في سياتل والدوحة، ومنظمة التجارة الدولية. لذا لم يكن مستغرباً أن تصدر الإحتجاجات الأولى على مشروع النيباد من داخل المجتمع الجنوب افريقي: مؤتمر القساوسة الكاثوليك لجنوب افريقيا، مؤتمر النقابات الجنوب افريقية وجمعية البيئة والحياة البرية، حيث كان أول تحرك جماهيري ضد النيباد في دربان، جنوب افريقيا، عند انعقاد الاجتماع الاقليمي للملتقى الاقتصادي العالمي في جنوب القارة (جوهازس، 2005).
كما هو دارج في المشاريع والمبادرات الخاصة بافريقيا تكتسي هذه الأخيرة شرعيتها وطاقتها "الرسالية" من وعد التنمية، وهو في وجوه عديدة يمثل القرين ما بعد الاستعماري لدعوى الحضارة التي بها رسخت أقدام الاستغلال الرأسمالي وتوطدت بدءاً بتجارة الرقيق. بدون الأرباح الطائلة لتجارة العبيد ولنهب الموارد الافريقية المبكر: السكر، البن، القطن، التبغ، ما كان لمدن كبرستول وليفربول وغلاسكو أن تنشأ وتزدهر، أو بلفظ الاقتصادي البريطاني بالاخي بوسيلثوايت في 1754: "إن التجارة البريطانية هي بنية فوقية باهرة للقدرة البحرية الاميريكية والتجارة عبر الأطلنطي، على قاعدة افريقية". نهب افريقيا كان مزدوجاً وفاجراً إذ اشتمل على نهب منظم للموارد وللبشر. ما كان لمزارع الكاريبي وأميركا أن تخرج ريعها الوفير خلا بعمل العبيد الذين تم جلبهم مصفدين من افريقيا. التاريخ الحديث للقارة لا يفارق في كثير هذه السنة اللئيمة فكما شكّلت الموارد الافريقية جزءاً مقدراً من أساس الفائض الاقتصادي الذي سمح بقيام البنوك ومؤسسات التأمين البريطانية بجانب صناعات بناء السفن، الصوف، القطن، النحاس والحديد، في عهد الرأسمالية الأول، كذلك قام البناء المشدود للاقتصاد الصناعي الحديث بمد زيت النخيل والبترول والنحاس والكروم والبلاتين والذهب..إلخ من القارة المنهوبة (درايتون، 2005). لذا فإن من الخطل الركون إلى منطلقات الامبريالية الجديدة دون شك نقدي والأدلة قائمة وعديدة يتصل فيها السياسي بالاقتصادي وصلاً شديد الرباط، فليس كل اللوم يقع على جوهر افريقيا المتخلف والبدائي والقهري! القارة قاومت، وتقاوم ما زالت، إلا إن اختيارات أهلها الديمقراطية عادة ما لا تتفق ومصالح القوى النافذة في هذه الأرض الظالم أهلها. المثال المعجز في هذا الشأن ما لحق بالكونغو وهي من أهم وأغنى البلدان الافريقية فحينما حزم مواطنوها أمرهم على التحرر منتخبين باتريس لوممبا في 1960 إتفقت القوى الدولية على "القذف به في نهر ملئ بالتماسيح" على حد قول السياسي البريطاني أليك دوغلاس هوم مخاطباً الرئيس الأميركي حينها، ولقد أثبتت وثائق لاحقة صدرت عن وكالة الاستخبارات المركزية في العام 2002 دعم الولايات المتحدة السياسي والمالي لأعداء لوممبا حتى عزله الرئيس المنتخب جوزيف كاسافوبو من رئاسة الوزراء بغير سند قانوني في سبتمبر 1960، ومن بعد ذلك الدعم العسكري والسياسي للانقلاب الذي قاده الكولونيل جوزيف موبوتو (موبوتو سيسي سيكو) ضد الديمقراطية الوليدة في 14 سبتمبر 1960. قُتل مناضلنا ورفيقيه موريس مبولو وجوزيف أوكيتو في مارس 1961 في سجن جادوتفيل بمقاطعة كاتنغا الانفصالية. لندع قصة الكونغو دون إكمال على وعد بالعودة في حيز آخر، ونقرأ فقط مختصر محنتها على لسان إمانويل كاتاليكو، كاهن بلدة بوكافو، في عيد الكريسماس 1999، فلذلك بموضوع حديثنا صلات: "إن قوى أجنبية بالتعاون مع بعض إخواننا الكونغوليين تنظم حروباً مستغلة موارد بلادنا. هذه الموارد التي يجب أن تُستعمل في التنمية، في تعليم أطفالنا وعلاج أمراضنا، بإختصار في جعل حياتنا أكثر احتراماً، تُستعمل في قتلنا. الأدهى من ذلك أن بلادنا وشعبها أصبحت موضوعاً للاستغلال الدائم فكل شئ ذو قيمة إما تنهبه الشركات الأجنبية أو يتم تدميره. الضرائب التي ندفع بدلاً من أن تُستثمر في المجتمع تتم سرقتها. تنهب نخبة صغيرة، لا نعلم من أين أتت، كل هذه الأموال الناتجة عن عملنا.." (ضمن بريكمان، 2003).
تكرر النيباد وعد التنمية المستحيلة، لذا علينا أن نسترجع ببعض الشك الصبور شيئاً من تواريخ التنمية وحصادها. المفهوم نفسه على حداثته النسبية يطرح عدة أسئلة ويستبطن تصورات آيديولوجية متسقة تنفي عنه صفة اللاتاريخية أو الحياد. تعود جذور المفهوم إلى البيولوجيا حيث كان إشتقاقه واستخدامه الأول بصحبة مفاهيم النشوء والإرتقاء الخاصة بالمذهب التطوري الذي طرحه شارلس داروين مستلهماً فلسفة التنوير. عبر درب طويل انتقل المفهوم من المجال البيولوجي إلى الحيز الثقافي الاجتماعي جاراً لمفهوم "الحضارة" ثم بديلاً له. أول ظهور مؤسسي للفظة "التنمية" كان في ميثاق عصبة الأمم الصادر في 28 يناير 1919 فالمادة 22 منه تشير إلى "الشعوب غير القادرة على قيادة نفسها في الظروف شديدة الصعوبة التي يمر بها العالم الحديث" لتقول: "إن رفاهية و تنمية هذه الشعوب تشكل رسالة مقدسة للحضارة"، ثم يضيف النص: "إن أفضل منهج لتحقيق هذا المبدأ هو أن نعهد بوصاية هذه الشعوب إلى (الدول المتقدمة) "developed nations"، أما طابع الانتداب فيجب أن يختلف طبقاً لدرجة تنمية الشعب المعني" (ضمن لاتوش، 1993). في مذكرة عصبة الأمم بخصوص المسائل الاقتصادية والمالية الصادرة عام 1938 أخذ مفهوم التنمية الاقتصادية يبرز مستقلاً عن الحيز الاجتماعي الثقافي؛ تحت عنوان "التنمية الاقتصادية للجماعات البدائية" تقول المادة الخامسة للمذكرة: "إن التطور العلمي الذي تحقق منذ نهاية الحرب (العالمية الأولى) قد غيّر تماماً من ملامح اقتصاد المراكز التي ما زالت في حالة عدم تنمية في العالم، ويخلق مسؤوليات جديدة بالنسبة لمن يحق لهم إدارتها، من بين تلك المسؤوليات تطبيق السياسات التي ترمي إلى معالجة الفقر الشديد لسكان تلك المناطق" (ضمن المصدر السابق). من ثم تبلورت "التنمية" كاستراتيجية اقتصادية لمواجهة معضلة "التخلف"، حيث تقوم المقابلة بين الحالتين بوظيفة قيمية هامة تماثل سلسلة سابقة متسقة من المقابلات الرمزية: متحضر ومتوحش، مسيحي ووثني، مواطن وبربري. لا تخفى بالطبع دلالات السيطرة والاضطهاد الملازمة لهذه الاستخدامات الرمزية. ترافق الانتشار الأخير للمفهوم في ستينات القرن العشرين مع الادراك المتعاظم لفشل نموذج النمو الاقتصادي الصرف في مجابهة ما يعرف بإسم "التخلف" وبالتالي عادت إلى مفهوم التنمية الظلال السابقة لمهمة "الحضارة" بإعتبار ما يلزم من استراتيجيات انثربولوجية واجتماعية وثقافية للتصدي لتحقيق "التقدم" المنشود، حيث تعضد تصور كيفي للتنمية يقوم على قاعدة من النمو الاقتصادي الكمي. من ناحية عملية، يشير مفهوم "التنمية" الدارج إلى تاريخ الدول "المتقدمة"، بالتحديد إلى ظاهرة تاريخية هي الثورة الصناعية الأوروبية، أي إلى مستوى أو آخر من هذه المرحلة التي بدأت في إنجلترا منذ خمسينات القرن الثامن عشر، وبعد ذلك بقليل في باقي دول أوروبا وفي الولايات المتحدة. كل ما هو غير مندرج في هذا السياق لا يعتبر بأية حال "تنمية"، فاقتصاد الوفرة الذي سمح بازدهار ممالك تمبكتو وغانا ودارفور في مرحلة من المراحل، وحضارات وادي النيل وأكسوم، وامبراطوريات الصين واكتشافاتها، ومنجزات العصر العباسي، وحياة الماوريين السعيدة في نيوزيلندة خلال القرن الثامن عشر، جميعها بطبيعة الحال ليست "تنمية". التنمية إذن، بهذا المعنى، ليست هي التصنيع أو زيادة الإنتاجية الزراعية، أو تكثيف النقل، أو إقامة جهاز دولة أكثر فاعلية، أو القدرة على التمكن من الأسواق الخارجية، بل المفهوم التاريخي لمصطلح التنمية أن يتم كل ذلك في نفس الوقت، وأن يكون له صدى ووقع (بار، 1987). في الواقع، يسعنا بثقة شديدة إضافة صفة الرأسمالية إلى كلمة التنمية دون التسبب في أي إرباك إذ يكاد يتطابق تاريخ التنمية مع تاريخ الاستغلال الرأسمالي لكل البلدان والشعوب التي لم تخبر نمط الثورة الصناعية، مع جميع ما يطرح ذلك من تقاطعات واشكالات داخل المراكز الامبريالية، أي استغلال البرجوازيات للطبقات العاملة والفلاحية حيثما توطدت البنى الرأسمالية، فالبروليتاريا في أوروبا وأميركا واليابان تحملت كذلك وما تزال ثمن التنمية في بلدانها. في معرض حديث له عام 1994 مع ديفيد بارساميان بخصوص أسباب الجريمة في الولايات المتحدة قال نعوم تشومسكي: "الأسباب عميقة، هناك أسباب اجتماعية نادراً ما نلمح لها، أحدها زيادة الاستقطاب في المجتمع الذي كان يجري على إمتداد الخمسة والعشرين عاماً الماضية وتهميش قطاعات واسعة من السكان الذين جعلوا زائدين. إنهم زائدون من أجل إنتاج الثروة، أي إنتاج الأرباح ولهذا السبب ليس لديهم قيمة إنسانية، باعتبار أن الآيديولوجيا الرئيسية تقول أن الحقوق الإنسانية للناس تعتمد على ما يستطيعون الحصول عليه من أجل أنفسهم في اقتصاد السوق" (تشومسكي وبارساميان، 1997). إلى هؤلاء إنضم اثنين ونصف المليون شخص من الذين فقدوا وظائفهم في الفترة 2000-2003 داخل الولايات المتحدة الأميريكية (بلاكبيرن، 2005). في هذا الصدد فضحت محنة عاصفة كاترينا التي ألمت بمدينة نيو أورلينز وجاراتها في الجنوب الأميركي العام السابق عمق وشدة التقسيم الطبقي في امبراطورية السوق الحر المثالية، ما يتيح لأهل المسغبة من مضطهديها في العالم الفرصة للتحرر من أسطورة الوعد الرأسمالي بالتنمية، فذلك ثمنها. وزادت في العبرة أحداث العنف التي شهدتها ضواحي باريس الفقيرة في اكتوبر ونوفمبر من 2005 بعد مقتل صبيين فرنسيين من أسرتين من العمالة المهاجرة ( مالي وتونس) إثر تعرضهما للصعق من محول كهربائي حاولا الاختباء بقربه هرباً من البوليس.
آيديولوجيا التنمية المعاصرة لا تقدم تعريفاً محكماً للمقصود بالتنمية، حيث تتداخل التصورات الأسطورية من شاكلة "السعادة" و"الرفاهية" و"تحسن" مستوى المعيشة بالمحددات الإحصائية لمتوسط الأعمار، ومعدلات وفيات الأطفال، ومعدل وفيات الحوامل..إلخ، وبصورة كلية زيادة الدخل القومي ومستوى دخل الفرد، وهي في مجموعها تشكل أهداف التنمية لكن لا نستبين من ترديدها كيفية الوصول إليها. مما سبق شرحه يتضح أن التنمية لا بد وأن تكون صيغة محاكاة ما للمسار الرأسمالي الغربي، ما يطرح مباشرة لا مساواة التنمية بين القطاعات المختلفة داخل الدولة النامية، من جهة، ومن جهة أخرى فخ التبعية بين الدول النامية والدول "تامة النمو". فالتنمية المزعومة تتجه بالضرورة نحو التجارة الخارجية، أي يُوجّه إنتاجها نحو التصدير الذي يعجز في الغالب عن تعويض الواردات، التي أصبحت مهمة وحيوية (جاندرو، 1993). التجارة الدولية لا تتم في فراغ محايد أسمه "السوق الحر"، فحرية السوق هي مع افتراض حسن نوايا أحجية آيديولوجية، تشير على عكس مظهرها البادي إلى علاقات القوة والقسر في العلاقات الدولية. في تعليق له، عام 2000، على زعم الولايات المتحدة دعم "التنمية المستدامة" أكد نعوم تشومسكي أن سياسات البيت الأبيض تدفع في إتجاه التنمية غير المستدامة ليس إلا، مستشهداً بقاعدتين من قواعد منظمة التجارة الدولية: الملكية الفكرية المتعلقة بالتجارة، و إجراءات الاستثمار المتعلقة بالتجارة. بخصوص الأولى ذكر تشومسكي أنها مصممة لحماية احتكار الأسعار بواسطة الشركات العظمي، آخذاً كمثال الصناعة الدوائية، بقوله: "حسب الإجراءات السابقة كان يمكن لشركة برازيلية مثلاً أن تقوم بتصنيع منتج دوائي بسعر أقل دون قيود ما دامت لا تستغل الإسم التجاري للمنتج الأصلي، لكن اليوم تصر منظمة التجارة الدولية على حقوق الملكية للمنتج نفسه، مما يعني عدم إمكانية تصنيعه بتكلفة أقل بواسطة شركة أخرى. النتيجة هي عرقلة التنمية، ومنع الابتكار، والحفاظ على مستويات عليا من الأرباح لصالح الشركات الكبرى." في شأن الثانية قال تشومسكي: "اجراءات الاستثمار الجديدة تمنع الدول من فرض شروطها على المستثمرين والتأثير على خياراتهم. مثلاً يحق لجنرال موتورز اليوم أن تقوم بتصنيع أجزاء من منتجاتها في بلد من بلدان العالم الثالث مستغلة عمالة غير منظمة نقابياً. بينما في الواقع كان التأثير على اختيارات المستثمرين وضبط نشاطهم أحد الوسائل التي مكنت من تحقيق المعجزة الآسيوية، حيث أصرت هذه البلدان على أن يكون الاستثمار الأجنبي مفيداً لها عبر نقل التكنولوجيا، وتحديد مواقع الاستثمار، واستقطاع جزء من رأس المال الأجنبي لتصدير منتجات مصنعة. هكذا حدثت المعجزة الآسيوية، وهي بالمناسبة نفس الطريقة التي مكنت الولايات المتحدة ذاتها من تحقيق النجاح الاقتصادي، أي نقل التكنولوجيا البريطانية. اليوم تسد إجراءات الاستثمار المتعلقة بالتجارة هذا الطريق، فهي تمنع النمو وتضمن تركيز القوة؛ لا علاقة لها البتة بالتنمية المستدامة" (تشومسكي وبارساميان، 2000).
على هذه الخلفية نحاول النظر في المبادرة الجديدة للتنمية في افريقيا (نيباد). الوثيقة الهيكلية للمبادرة، الصادرة في اكتوبر 2001، تقع في 59 صفحة مقسمة إلى 7 أجزاء من ضمنها المقدمة. إن النقد التفصيلي للمبادرة يفوق قدراتي، لكن استعرض ملامحها العامة، محاولاً تقصي مقدار القطيعة والتواصل مع سنن "التنمية" بحسب الشرح أعلاه. المقدمة تبدأ بجملة تبيّن مقدار الحمولة الآيديلوجية للسياسة الجديدة فبحسب لفظها تمثل المبادرة "التزاماً من قبل قادة افريقيا، يقوم على رؤية مشتركة وقناعة راسخة بأن على عاتقهم القضاء على الفقر ووضع مجتمعاتهم، منفردة ومجتمعة، على طريق النمو المستدام والتنمية المستدامة. وفي نفس الوقت، المشاركة الفاعلة في الاقتصاد والسياسة الدوليين. البرنامج يقوم على عزم الأفارقة انتزاع انفسهم وقارتهم من وهدة عجز التنمية والاستبعاد من العولمة" (ص 1). أول ما يلحظ المرء هو اعتماد صيغة أبوية لا تلقي بالاً للفاعلين الاجتماعيين، أو رغباتهم أو احتياجاتهم أو تصوراتهم عن ماهية التنمية والنمو، فذلك متروك للقادة. في المقدمة أيضاً تثبت الوثيقة أن نصف سكان القارة (340 مليون) يعيشون على أقل من واحد دولار أميركي في اليوم، وأن معدل وفيات الأطفال تحت سن الخامسة في القارة يبلغ 140 من كل 1000 ولادة حية، متوسط العمر المتوقع للمواطن الافريقي عند الولادة 54 سنة، فقط 58% من مجموع السكان لديهم منفذ إلى مياه صالحة، معدل أمية الأفراد فوق سن 15 يبلغ 41%، وأن هناك فقط 18 خط تلفون رئيسي لكل 1000 مواطن افريقي بالمقارنة مع 146 لكل 1000 في العالم، و567 في البلدان عالية الدخل. تواصل الوثيقة لتشرح أن "هناك فرصة تاريخية أمام القارة لوضع نهاية لمحنة عجز التنمية التي ألمت بالقارة، وذلك لوجود وفرة متاحة من رأس المال والتكنولوجيا والقدرات البشرية مما يسمح بشن حملة كونية للقضاء على الفقر. كل ما هو ضروري لتحريك هذه الموارد واستغلالها بصورة صحيحة هو قيادة شجاعة تتحلى بوسع الخيال، ملتزمة فعلاً بالتنمية البشرية المستدامة والقضاء على الفقر، بالإضافة إلى شراكة كونية تقوم على المسؤولية المشتركة والمصالح المتبادلة". مع كل الاحترام اللازم لهكذا تفاؤل يتعمد هذا المنطلق التجاهل التام لعلاقات القوة التي تحكم الكون، ويفترض في تشابه مع خطاب الاستعمار، خلو القارة من القوى الاجتماعية، أي لا تاريخيتها، فشعوبها تنتظر فقط ظهور حاكم صالح شجاع يتمتع بالخيال لتستقيم أمورها. والتنمية الموعودة تتم في فراغ تاريخي، فالأرض الافريقية تخرج فائضها المادي هكذا "متل اليد للخشم" لا عمل ولا استغلال ولا علاقات إنتاج أو قوى منتجة. في فقرتها السابعة تعدد الوثيقة المظاهر الدالة على التقدم والأمل في القارة: "تزداد الأنظمة الديمقراطية الملتزمة بحقوق الإنسان، والتنمية المتمحورة حول الإنسان واقتصاديات السوق" (ص 2). في الحقيقة، ربما يكفينا هذا القدر من الاستعراض، فنحن أمام طنين "الليبرالية الجديدة" كامل الفساد: اقتصاد سوق و أحزاب سياسية تسندها الامبريالية والشركات عابرة القارات تشكل طبقة اقرب إلى الارستقراطية منه إلى البرجوازية، جسدها في افريقيا وجيوبها في وول ستريت وجنيف.
في الفقرات 18 – 27 تسرد الوثيقة عدداً من العوامل التي ساهمت بحسب العنوان في "الإفقار التاريخي" لافريقيا: تراث الاستعمار، الحرب الباردة، النظام الاقتصادي الدولي وعيوب ونواقص السياسات التي طبقت في عهد ما بعد الاستقلال. تقر الوثيقة أن دمج القارة في الاقتصاد الدولي تم بحسبانها مصدراً للمواد الخام والعمالة الرخيصة، وأن السياسة الاستعمارية جعلت المؤسسات والقيم والبنى التقليدية خادمة للحوجات السياسية والاقتصادية للقوى الامبريالية. ثم تزيد أن أسباباً من ضمنها ضعف الطبقات الرأسمالية والفساد وسوء الإدارة وضعف القيادة وتردي الحكم أدت إلى معدلات من التراكم الاقتصادي غير كافية لإعادة بناء المجتمعات الافريقية لتخلص إلى الآتي: "وفرت برامج إعادة الهيكلة في الثمانينات من القرن الماضي حلاً جزئياً. دعمت هذه البرامج إصلاحات تهدف إلى إزالة مفارقات سعرية جدية، لكنها لم تهتم كما هو لائق بتقديم الخدمات الاجتماعية. بالتالي، لم تستطع إلا بلدان قليلة تحقيق نمو مستدام وفق هذه البرامج". بالطبع لا تعترف المبادرة المرعية أن لهذه الحلول الجزئية علاقة وثيقة بالموجة الثانية من النزاعات المسلحة (التي أعقبت حروب التحرير) في العديد من البلدان الافريقية التي فشلت في الوفاء بوعودها التنموية، ثم تعرضت لمزيد من الدمار بسبب سياسات وبرامج إعادة الهيكلة خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين؛ إذ واجهت أزمات عميقة نالت من شرعيتها. فوقعت أسيرة لوصفات البنك الدولي على أمل إخراجها من أزمتها، من خلال تحرير اقتصادياتها من الهيمنة الحكومية وتشجيع الصادرات. وكان عليها لتحقيق ذلك أن تخفض قيمة عملاتها بشكل حاسم وتحرر الأسعار والحواجز التجارية وتخفض الأجور وتقلل عدد الموظفين في جهاز الدولة وتزيد الضرائب. غير أن السكان الفقراء هم الذين دفعوا الثمن الغالي لهذه السياسات، في مواجهة رسوم دراسية مقابل التعليم الأساسي وأخرى لمواجهة نفقات العلاج..إلخ. وفي نفس الوقت إتجهت مجموعات عديدة، استبعدت من التمتع بخيرات البلاد إلى حمل السلاح لتدعيم مطالبها في الحصول على نصيبها من الثروات المضمحلة والمتنافس عليها محققة أحياناً تضامناً ودعماً عالمياً لها في مسعاها (محمد سليمان محمد، 2000). بحسب النيباد يكمن الحل في إكمال إعادة الهيكلة إلى نهاياتها الدموية، لكن مع اهتمام أكثر بالخدمات الاجتماعية. أما منقصات الاستعمار، والامبريالية، والشروط التجارية غير المتكافئة، وإملاءات النظام الاقتصادي الدولي، فكأنما هربت فزعاً عندما أطل عهد العولمة على طريقة "أعمل شخيت وأقيف بعيد".
إجمالاً تثبت المبادرة الأهداف التالية: القضاء على الفقر؛ وضع البلدان الافريقية، منفردة ومجتمعة، على درب النمو والتنمية المستدامة؛ وقف تهميش افريقيا في إطار العولمة، والمسارعة بإدماجها التام والمفيد في الاقتصاد العالمي؛ المسارعة بتمكين المرأة. لتحقيق هذه الأهداف خطت الوثيقة مبادئ عامة، كما يلي: الحكم الصالح كأساس للسلم والأمن والتنمية المستدامة؛ الملكية والقيادة الافريقية، مع المشاركة العريضة والعميقة لكافة قطاعات المجتمع؛ تنمية افريقيا بالاستفادة من مواردها وغنى أهلها؛ الشراكة فيما بين الشعوب الافريقية؛ المسارعة بالاندماج الاقليمي والقاري؛ بناء القدرات التنافسية للقارة والبلدان الافريقية؛ تدشين شراكة دولية جديدة تعدّل من العلاقة غير المتكافئة بين افريقيا والدول المتقدمة؛ ربط كافة الشراكات مع أهداف الألفية الانمائية (الأمم المتحدة) والأهداف التنموية الأخرى المتفق عليها. ثم عددت الموارد اللازم تحريكها: زيادة التوفير والاستثمار المحلي؛ تحسين إدراة الدخل والمنصرف العام؛ زيادة نصيب افريقيا في التجارة الدولية؛ جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة؛ تخفيض الديون.
الوثيقة فصلت أهداف متعددة في كافة القطاعات: البنى التحتية، الطاقة، البيئة، الإتصالات، الزراعة، التعدين، التجارة البينية، التجارة الخارجية، التعليم والصحة، لكن حجر الزاوية في القضية هو: تحقيق معدل نمو لمتوسط الدخل القومي يفوق 7% بصورة مستدامة لمدة 15 عام (ص 14). على هذا الطموح علق د. هننغ ملبر، مدير البحوث بمعهد افريقيا التابع لجامعة أوبسالا (السويد)، قائلاً أن الرقم الأكثر واقعية ربما يكون 2,5%، مضيفاً أن الوثيقة لم تذكر كيف يمكن لأفقر قارة في العالم أن تحقق نسبة النمو أعلاه، خاصة وأن أوروبا والولايات المتحدة، غالباً، لن تفتح أسواقها أو تتخلى عن دعم زراعتها المحلية. ثم زاد أن النيباد توافق ربما هوى قمة الثمانية، لكن أمامها عراقيل حقيقية، أهمها أن صانعيها يطمعون في مساهمة من الدول المتقدمة بمقدار 57 بليون دولار من جملة 64 بليون دولار من القروض والاستثمارات مطلوبة لتنفيذ برامجهم (ناميبيا أوكونوميست، 2002). من الملفت أن مقطع "الشراكة بين القطاع العام والخاص" قد تردد 5 مرات في متن الوثيقة: كوسيلة لتدعيم البنى التحتية وجذب الاستثمارات الأجنبية في البنى التحتية (ص 27)؛ ضمن برنامج العمل الخاص بالنقل بالتأكيد على ضرورة بناء ورعاية الشراكة بين القطاع العام والخاص وتقديم حصص للقطاع الخاص في بناء، تنمية وتسيير الموانئ، الطرق البرية، السكك الحديدية والنقل البحري، ثم دعم الشراكة مع القطاع الخاص في صناعة النقل الجوي (ص 31)؛ ضمن أولويات العمل المتعلقة برأس المال الخاص حيث يجب تنفيذ برامج لبناء القدرات في مجال الشراكة بين القطاع العام والخاص من خلال بنك التنمية الافريقي ومؤسسات التنمية الاقليمية الأخرى، بغرض مساعدة الحكومات القومية ودون القومية في هيكلة وضبط التبادلات المالية الخاصة بتوفير البنى التحتية والخدمات الاجتماعية (ص 39)؛ وضمن برنامج العمل المتعلق برأس المال الخاص، الذي يوصي بتدشين مبادرة لتعزيز قدرات البلدان في تنفيذ شراكات بين القطاع العام والخاص (ص 40). تحت بند انسياب رأس المال الخاص تقول الوثيقة أنه لا بد من تحسين صورة افريقيا كمنطقة ذات مخاطرة عالية في أذهان المستثمرين بالذات فيما يخص سلامة حقوق الملكية الفكرية، وقواعد وهياكل الاستثمار (ص 39)، لتضيف تحت بند التجارة الخارجية: "يجب تطوير وقبول هياكل للممارسة السليمة فيما يخص القواعد الفنية حتى تلائم شروط إتفاقية منظمة التجارة الدولية الخاصة بالحواجز الفنية للتجارة، إذ أن هياكل القواعد الفنية التي تتبعها الدول المتقدمة قد تكون جد معقدة بالنسبة للعديد من البلدان الافريقية" (ص 44-45). أما بشأن القطاع الخاص فتؤكد الوثيقة أنه من الضروري توفير البيئة السليمة والداعمة لنشاط القطاع الخاص، ثم دعم الاستثمارات الأجنبية المباشرة والتجارة الخارجية مع التشديد على الصادرات (ص 46).
إذا لم تكن هذه هي الوصفة الأكثر سحرية لسياسات الليبرالية الجديدة فما هي؟ في الحقيقة، إن العلاج في تشخيص النيباد هو ذات المرض؛ أي دواء مذهل هذا (آناركيسمو، 11 يونيو 2005)؟ مرض افريقيا ربما هو العولمة الزائدة، نهب ثرواتها بسبب التناقص المستمر لصادراتها من المواد الخام، دفوعات الديون الخارجية المتعاظمة، وأرباح الشركات الكبرى الطائلة، وليس بأية حال نقص العولمة. المبادرة تعنى في المقام الأول بتمكين الشركات العابرة للقارات، وتكنوقراط وكالات المانحين الدولية، ووكالات واشنطن المالية، وبيروقراطيي التجارة في جنيف، وسياسيي بريتوريا الوصوليين ورأسماليي جوهانسبرج، في خليط عجيب من الامبريالية الكونية ووكلائها. مع العلم أن صياغة الوثيقة تمت تحت شروط من السرية بالإتصال مع بيل كلينتون وتوني بلير أكثر من مرة في 2000، مجموعة الثمانية في أوكيناوا 2000 و جنوا 2001، مؤسسات بريتون وودز – البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أكثر من مرة خلال 2000 و2001، والرأسمالية الدولية في دافوس 2001 (بوند، 2002). أردت في هذه الكلمة أن أبادر بفتح النقاش حول "النيباد" وودي لو إتصل، وسأحاول في كلمات لاحقات التطرق لقصة القارة مع الرأسمالية الدولية. أبدأ هنا بمثال قصير من نيجيريا حيث تتحكم شل أويل في 50% من أعمال التنقيب في دلتا النيجر كانت حصيلتها فقط في العقد السابق 300 بليون دولار، في نفس الوقت تقدر وكالات الأمم المتحدة أن 70% من سكان نيجيريا يعيشون على أقل من دولار أميركي في اليوم، وأن الخُمس الأفقر من السكان يحوز فقط على 4% من ثروة البلاد (دادوو، 2003)، ليس من داع للتعليق.
#مجدي_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بعد الاستعمار قبل التحرير: في الذكرى الخمسين لاستقلال السودا
...
-
ثورات بوليفيا
-
عن نضال المزارعين
-
ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري - الأخيرة
-
ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري - الأخيرة
-
ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري 4
-
العدالة الانتقالية
-
ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري 3
-
ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري 2
-
ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري
-
المؤتمر الوطني حزب وطبقة
-
ما بعد التجمع
-
نموذج المركز ضد الهامش و الصراع الطبقي في السودان
-
ماهية فوضى الغوغاء
-
حفظ السلام
-
بصدد خصخصة السياسة
-
بصدد خصخصة الدولة
-
في ضرورة الماركسية و المهام العالقة
-
سلم تسلم
-
بصدد الدين -الوطني- و السلطة -الإستعمارية-
المزيد.....
-
السودان يكشف عن شرطين أساسيين لبدء عملية التصالح مع الإمارات
...
-
علماء: الكوكب TRAPPIST-1b يشبه تيتان أكثر من عطارد
-
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
-
مصادر مثالية للبروتين النباتي
-
هل تحميك مهنتك من ألزهايمر؟.. دراسة تفند دور بعض المهن في ذل
...
-
الولايات المتحدة لا تفهم كيف سرقت كييف صواريخ جافلين
-
سوريا وغاز قطر
-
الولايات المتحدة.. المجمع الانتخابي يمنح ترامب 312 صوتا والع
...
-
مسؤول أمريكي: مئات القتلى والجرحى من الجنود الكوريين شمال رو
...
-
مجلس الأمن يصدر بيانا بالإجماع بشأن سوريا
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|