عزيز الخرزجي
الحوار المتمدن-العدد: 5448 - 2017 / 3 / 2 - 03:20
المحور:
الادب والفن
محنةُ آلفكرِ ألأنسانيّ(5)
آلفكر في منهجنا كما قلنا هو نتاج آلثقافة التي تُمَثّل(ألحضارة), و منابعها الأساسيّة تتلخّصُ بجملةِ عوامل, منها؛ ألموروث العقائدي؛ ألمناهج التعليميّة؛ ألتربية المدرسيّة؛ العلاقة بآلغيب؛ ألدِّين؛ أللغة؛ ألتأريخ؛ ألتّضاريس؛ ألعلوم الأجتماعية؛ العادات و التقاليد؛ اللباس؛ الغذاء؛ هندسة البيوت؛ الذات الأنسانية؛ النظام الأجتماعي.
كما أنّ كل ّ مكوّن من آلمُكونات أعلاه هو الآخر يتكوّن من جملة من العوامل و الأسس و الجذور التي تغذّت منها, لذلك لا بُدّ من تعريف و دراسة هذه المكونات الصغيرة أيضاً ليُمكننا وضع الحلول الجذريّة و المحكمة عبر المخطط النهائي لعملية الأصلاح و آلتغيير آلثقافي الجديد لتطوير "المدنية" بشكل يحقق سعادة الجميع بلا إستثناء بعيداً عن التهديد و الحروب و الأحلاف و الأساطيل التي يصرف عليها ترليونات من الدورات كل عام.
بدايةً علينا أن نضع بآلحسبان .. بأنّ المدنيّة الحديثة شرقا و غرباً هي ليست نتاج حضارة واحدة كما يعتقد البعض من المتعصبين أو كما يدعي و يتباهى الغرب بذلك, بل هي نتاج كلّ الجهود الأنسانية التي شكلت الحضارات المختلفة و التي ظهرت عبر التأريخ في القارات, لذلك من الضروري معرفة إعتبار و مكانة و تأثير كلّ حضارة؛ بل كلّ مجهود أنسانيّ مع دراسة مكوناتها و أخذها بنظر الأعتبار, و بآلتالي ألعمل لإيجاد المشتركات و عوامل الوحدة و التقارب فيما بينها لتحقيق الوئام و السلام و التفاهم بين كل الحضارات بدل التنافر و الفرقة و الخصام, لأنّ التزاوج أو على الأقل التقريب بينها ستبعد شبح الحرب و ستغني الأنسانية كثيراً في عملية البناء و العمل المشترك و التكامل على كل صعيد, لأنّ الخصام و الحرب بطبيعتها تهدم و تستنزف الشعوب و الأمم و تُدمرها, و آلحرب أساساً ليس من إختيار الشعوب .. بل بسبب نزوات و هفوات و تكبر و طمع الملوك و الرؤوساء و المتسلطين على حساب حقوق الأمم!
لكن تحقيق هذا الأمر - أيّ تزاوج الحضارات بدل تنافرها - يبقى رهين علاج محنة الفكر الأنساني .. بل المحن الفكرية التي ألمّت بقادة وعلماء آلأمم و الشعوب الذين يتحملون المسؤولية الأكبر في تحقيق السلام أو العكس.
أنّ تقويم و ترشيد آلثقافة بعد معرفة مكوناتها و مكونات كل مكوّن منها؛ هي أهمّ مسألة في حياة الأمم و الشعوب, لأنّها تُقرّر و تُجسّد ألواقع ألحضاريّ الأنسانيّ ألذي يرتبط و يُؤثر بآلصّميم على نمط ألحياة المدنيّة المتمثلة بالجّانب العمرانيّ و التكنولوجيّ و العلميّ و الخدماتي بما فيها بحوث الزراعة و تحسين المحاصيل و آلأنتاج الصناعي و بحوث الفضاء و الطب, لذلك سنُركز من الآن على معنى و تعريف مفهوم (الثقافة) كما وعدنا, لكونها هي آلمنبع و المسؤول عن (تقدم أو تأخر) .. أو (شقاء أو سعادة) الشعوب و الأمم.
فما معنى .. و فلسفة الثقافة؟
تفرّدتْ معاجم اللغة العربية بتعريفات واضحة لمعنى و فلسفة الثقافة بخلاف و تباين معناها في الثقافات الأخرى و منها الأوربية التي تشترك في بعض وجوهها مع الثقافة العربية – الأسلامية بسبب حالة التداخل و التبادل التي حصلت في بعض الفترات الزمنية الماضيّة, و سَنُبيّن ذلك, بعد تقديمنا لآراء أشهرعلماء اللغة العربية, الذين إتّفقوا على إنّ (الثقافة) صفة تطلق على الذي وقف على العلوم و آلآداب و الفنون بشكل كامل.
فقد ورد في ألمُنجد(1) معنى و أصل و جذر (الثقافة), و منشأها؛ ثَقَفْ - ثَقُفَ – ثَقْفاً – و ثَقِفاً و ثقافةً؛ صار حاذقاً, خفيفاً, فهو ثقفٌ و ثقيِفٌ و ثقيفٌ, ثقِف ثقفاً و ثقافة و ثقوفةً, الكلام: حذقهُ و فهمه بسرعة, ثقْفاً ه: ظفر به أو أدركه, و يقال : ثاقفه فثقفه؛ أيّ غالبهُ فغلبهُ, الثّّقاف من النساء؛ الفطنة؛ الحاذق جدّاً.
و الثقافة, بمعنى التمكن من العلوم و آلفنون و الآداب و بآلأخصّ الشعر وصولاً لدرجة الحكمة, و آلمُثقّف؛ يعني ألرّجل ذو ثقافة, و آلثّقيف؛ ألمُتناهي في الحموضة, يقال؛ "خلٌّ ثقيف", هذا هو مصطلح و مفهوم (الثقافة) في الشرق, و قد أشار القرآن الكريم إلى معالم هذه الثقافة من خلال عدد كبير من الآيات على مستوى الفرد و على مستوى المجتمع بجانب الأحاديث الكثيرة التي توضّح ذلك.
أمّا أصلُ و تأريخُ (الثقافة) في الغرب, فقد إتّخذ منحىً آخر إبتعد كلّياً في البداية عن المفهوم الذي بيّناه في الثقافة الشرقية ثمّ تقرّب جزئياً من معناها إبان القرون الوسطى, و أخيراً أصبحت الثقافة التي نعنيها بشكل عامّ في العصر الحديث في خبر كان بعد ما أعلنت التكنولوجية و المدنية طلاقها البائن للثقافة, لتسيطر الآلات و المعدات على الحياة المعاصرة التي سُلبت منها الأمان و الراحة و الأمن على كل صعيد!
أو بتعبير أدقّ .. بدل أن تصبح الثقافة رديف التكنولوجيا على الأقل إن لم تتقدم عليه؛ صارت ضحيّة أهدافٌ أخرى تختفي ورائها لوبيات ظالمة, هذا مع إنّها و بمرور الزمن و بآلذات خلال القرن العشرين تقارب معناه من المعنى الذي أشار له علماء العرب و المسلمين لعقود حتى نهاية القرن العشرين, إلّا أنّهُ إنقلب معناه تماماً مع بدء الألفية الثالثة حين بدأت الحرب على الحضارة الأنسانيّة بَدَلَ التزاوج من قبل الغرب برئاسة أمريكا و حلفاؤها و ذيولها الجاهلية في بلاد الشرق!
هذا على الرّغم من تأثر الكثير من فلاسفة الغرب بالنتاجات العربية - الأسلامية, إلّا انّهُ و مع كلّ هذا التأثير الواضح, يستطيع أن يرى الباحث إجحافاً مُبيناً و كبيراً بحقّ المباني الثقافية و الرّوحية في جانبيه الحضاري و المدني من جهتهم, و إنعكاساتها السّلبية الكبيرة و الخطيرة على أوساط المجتمع الغربي الذي يحاول قادته نقل تجربتهم الفاشلة لباقي شعوب العالم التي تعيش المحنة أيضاً بآلقوة!
و هكذا جعلوا الثقافة ضحيّة المدنية و التكنولوجيا بسبب سيطرة الأنا و التكبر و حب التسلط و المال و الشهوات على أصحاب الشركات و البنوك الكبرى التي تُسيطر على مقدرات العالم الأقتصادية, و كذلك تغلب الأصالة (الفردية) على الأصالة (المجتمعية) بشكلٍ سلبيّ مفرط, و لعلّ تأثيرات الثورة إبان النهضة الأوربية(الرينوسانس) كان له الأثر البالغ أيضا في رسم ذلك القدر ألمحزن الذي حرق الأخضر و اليابس في روح الثقافة الغربيّة التي تلوّثت بسبب الأنحراف الكنسي عن تعاليم المسيح الروحية و القيم الأنسانية الأخلاقية التي عرّفها (سيسرو) و قدّم لها تعريفاً جميلاً و بشكل سليم, إعتماداً على فلاسفة اليونان القديم, منتقداً النظام الغربيّ الجديد الذي شاع خلال القرون الثلاثة الأخيرة بعد (الرينوسانس) من خلال طغيان العلم و التكنولوجيا على الرّوح و الأدب و آلأخلاق و الدين إلى حدٍّ بعيد .. كردٍّ سلبيّ عنيف على نهج الكنيسة الظالم خلال القرون الوسطى.
لا يمكن نكران نتاج هذا الواقع الأليم الذي رافقه تطوراً كبيراً و قفزات هائلة في الأبعاد المدنية .. إلّا أنّه في المقابل أثّر بشكلٍ كبيرٍ على منسوب السّعادة و الرّخاء في آلغرب, بحيث هبط لمستويات منخفظة سلبت الرّاحة و آلأمان, حيث صار الأنسان خادماً للتكنولوجيا بدل أن تكون التكنولوجيا في خدمته, فخلّفت بجانب العمارات الضخمة و الأجهزة ألأليكترونية الدقيقة و الأقمار الصناعية؛ حياةً إنعزالية كئيبة ملئها الشقاء و التعب و الهواجس المختلفة بسبب سيطرة اللوبي الأقتصادي على مسار و منابع القدرة و المال و الأعلام التي سخّرت كل شيئ لمنافعها الخاصة, على حساب إنسانية الأنسان الغربي الذي صار شغله الشاغل خدمة أصحاب المال و البنوك و الشركات من دون التأمل حتى في حقوقه و حقيقة نفسه أو عائلته المشتتة و سعادته المفقودة أساساً, و هو لا يعلم إلى أين يسير؟
و لو آمنا بمقولة فيلسوف القرن التاسع عشر الألماني (يوهان وولف غانغ فون غوته)(2) , الذي قال:
[أسعد الناس .. مَلِكاً كان أمّ فلّاحاً؛ هو الذي يجد السلام في بيته]. فأنّ أبعاد السعادة و أحد أهمّ أركانها المفقودة تتوضح لنا أكثر, من خلال تلك المصاديق.
و سنُبيّن تفاصيل ذلك لاحقاً, بعد عرضنا لأهمّ معاني و تعاريف آلثقافة.
kultur, culture, culturفي الحقيقة, مصطلح (الثقافة) في جميع اللغات العالمية الحية, كآلأنكليزيّة و
CULTURA. الفرنسيّة و الألمانيّة, منبثقة من المصدر الأصلي :C0LEREواحدة و متقاربة, لأنّها منبثقة من الأصل اللاتيني
شمل هذا المصطلح بطيفه معانٍ و مصطلحات لمجالات عديدة في أوربا؛ كإنتخاب السكن؛ الزراعة؛ الأمن, COLONUS فعندما يعني إنتخاب السكن كمثال, يعني؛
و آلذي يتطابق معناه مع ألـ COLONEY , أو عندما يعني العبادة, تكون مشتقة من؛ CULTUS
و له جذور متصلة مع معنى, الذي يعني القرابة و صلة الرحم. CULTY
ثم توسعت و راجت معناها بعد ذلك في اللغات الأوربية لتعني الزراعة و نمو المحاصيل؛ الـ (CULTURA)
بينما كان سائداً إبان القرون الوسطى إستخدامه للعبادة فقط!
مع هذا ما زالت بعض الدول الأوربية تستخدم مصطلح الثقافة كتعبير عن زراعة الباكتري لعلاج الأمراض أو زراعة الحشائش و الخضر.
هذا مع إن (سيسيرو) يقول في أحد تعاريفه بكون؛ (الفلسفة هي روح الثقافة), و هي إشارة حساسة لمعنى الثقافة.
Caltara …animi philosophia est.
أما (ريمون وليامز) يقول؛ الثقافة في الفرنسية القديمة كانت تستخدم للترقيع و الخياطة, ثم إنتقلت الكلمة إلى الأنكليزية في أواسط القرن الخامس عشر, لتستخدم في الزراعة و الأنتاج الزراعي.
لكنها تعممت في القرن السادس عشر, لتشمل مدار التوسعة الأنسانية حتى أواخر القرن الثامن عشر.
و في القرن التاسع عشر ظهرت شواهد و تعاريف و إصطلاحات أخرى بيّنت معنى آخر للثقافة!
بشكلٍ عامّ .. هناك مجموعة كبيرة من التعاريف الرّصينة للثقافة جاوزت ألـ 150 تعريفاً, بدأت ثم تطورت من القرن السّادس عشر الميلادي و إلى يومنا هذا, حيث تعمّمت لتشمل مفهوم النمو الطبيعي الذي كان يستخدم سابقاً في العلاج و الزّراعة و المحاصيل, و أخيراً إستقر المفهوم في مجال التوسعة الأنسانية و التنمية البشريّة على جميع المستويات و بات يعرف بآلأنتربولوجيا.
تُعرّف الثقافة بشكل عام بكونها:
مجموعة من الخصائص البشرية ألمتجانسة تعكس نمطاً معينأً من العيش، كاللغة، و التراث، و السلوك، و العلوم، و المعارف، و الفنون، و الآداب، و القيم، و المعتقدات و الموروثات التاريخية التي تناقلتها الأجيال المتعاقبة، جيلاً بعد جيل.
لكن (هوبز) يُعرف الثقافة, بآلقول:
A culture of their minds.
أما جونسون, فيعرّفها:
She neglected the culture of Her understanding.
أما (إدوارد تايلور)(3) فقد قدّم تعريفاً أدق للثقافة يقترب من تعريف (هوبز) هو؛
[ألثقافة هي ما يبقى في الفكر بعد ما ينسى الأنسان كلّ شيء],
أما (أرسطو) الذي سبق الجميع في تعريف التفكير الذي هو نتاج الثقافة, فيقول:
[يستحيل التفكير بدون صور], ثم قسّم التصور إلى مراحل.
و عرفه آخرين, بكونها: معرفة شيئ عن كل شيئ.
بإعتقادي, أن كلّ تعريف من التعاريف أعلاه مثّلتْ جانباً من الثقافة, و لم تكن تمثل كل الثقافة, لأنّ تعريف الثقافة بنظري, هي كلّ شيئ, و ليس شيئ عن كلّ شيئ.
و تُستخدم كلمة "ثقافة" في التعبير عن أحد المعانى الثلاثة الأساسية التالية:
- التذوق المتميز للفنون الجميلة و العلوم الإنسانية، و هو ما يعرف أيضا بالثقافة العالية المستوى.
- نمط متكامل من المعرفة البشرية، و الاعتقاد، و السلوك الذي يعتمد على (القدرة على التفكير الرمزي والتعلم الاجتماعي).
- مجموعة من الاتجاهات المشتركة، و القيم، و الأهداف، و الممارسات التي تميز مؤسسة أو منظمة أو جماعة ما.
عندما ظهر هذا المفهوم لأوّل مرّة في أوروبا في القرنى الثامن عشر و التاسع عشر، كان يشير فيما يشير إليه إلى عملية الاستصلاح أو تحسين المستوى الأنتاجي للزراعة، كما هو الحال في عملية إنماء المحاصيل أو البستنة.
أما في القرن التاسع عشر، أصبحت تُشير بوضوح إلى تحسين أو تعديل المهارات الفردية للإنسان، لا سيما من خلال التعليم و التربية، و من ثمّ إلى تحقيق قدر من التنمية العقلية و الرّوحية للإنسان و التوصل إلى رخاء قومي و قيم عليا.
و عند منتصف القرن التاسع عشر، أستخدم بعض العلماء مصطلح "الثقافة" للإشارة إلى قدرة الإنسان البشرية على مستوى العالم و الهيمنة على الدّول و إستعمار البلدان.
و بحلول القرن العشرين، برز مصطلح "الثقافة" للعيان ليصبح مفهوما أساسيا في علم الانثروبولوجيا، لأول مرّة ليشمل بذلك كل الظواهر البشرية العديدة, كنتائج لعلم الوراثة البشرية بصفة أساسية بجانب الأستخدامات الطبية لعلاج الأبدان,
على وجه التحديد، فإن مصطلح "الثقافة" قد يشمل تفسيرين في الأنثروبولوجيا الأمريكية؛
التفسير الأول: نبوغ القدرة الإنسانية لحد يجعلها تصنف وتبين الخبرات والتجارب بطريقة رمزية، ومن ثم التصرف على هذا الأساس بطريقة إبداعية وخلاقة.التفسير الثاني: يشير إلى الطرق المتباينة للعديد من الناس الذين يعيشون في أرجاء مختلفة من العالم والتي توضح وتصنف بدورها خبراتهم، والتي تؤثر بشكل كبير على تميز تصرفاتهم بالإبداع الوقت ذاته. وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية، صار لهذا المفهوم قدر من الأهمية و لكن بمعانى مختلفة بعض الشئ في بعض التخصصات الأخرى مثل علم الاجتماع، و الأبحاث الثقافية، و علم النفس التنظيمي، و أخيرا الأبحاث المتعلقة بعلم الإدارة و الأقتصاد.
ألمفهوم (الواقعي) للثقافة:
و الحقيقة إن ما قاله (تايلر) بكون الثقافة هو الذي يبقى في الفكر بعد ما ينسى الأنسان كل شيئ, كان يعني كلّ ما تعلّمه و حفظه الأنسان من المبادئ و الأصول و الأخلاق التي آمن بها في الصّغر و تعلّمها من المقربين و أولياء الأمور ألذين كان لهم الفضل الأول في تعليمه و زقّه بآلأفكار التي ترادف عادة الشحن المادئ و التربية العملية المتواصلة أثناء سنوات النمو العقلي و الجسدي, و بمرور الزمن رَكَنَتْ تلك العقائد و الأفكار و الأعمال في سويداء القلب و أعماق الروح لتشكل الوجود المعرفي للأنسان من حيث يعلم أو لا يعلم!
و هذا هو آلتقليد الأعمى الموروث الذي إعتبره (كنفسيوس) أسهل الطرق التي أمام الأنسان للتعلم, نستثني منهم المفكرين فقط, لأنّهم لا يؤمنون بآلتقليد الأعمى أو الموروث الثقافي من دون التمحيص .. حيث لا يؤمنون بأيّ بمبدأ أو عقيدة أو نظام أو قانون كما هو حال كل الناس إلا بعد إخضاع مكوناته و مركوناته و كل الترسبات الماضية لمعيار العقل و العلم و قوانين المنطق, ثمّ ربطه بالغيب أو ربط الغيب بها كأساس و داعم و مقومٍ له .. بشرطها و شروطها.
و إجمالاً .. لو وضعنا تعريف (أرسطو) الذي قال, [التفكير مستحيل من دون صور],بجانب تعريف (تايلور), فإنّنا نُقدّم صورة تقنية أفضل و أجمل للثقافة!
لأنّ الصّورة تتميّز بقدرة التسلل و الإقامة الطويلة في الذاكرة، فقد ينسى أحدنا محاضرة سمعها, أو كتاباً قرأه قبل عشرين عام و لكنهُ بالتأكيد لن ينسى مشهداً بصرياًّ أو صوراً مرئية مقرونة مع الحدث,لا سيما تلك التي تحفل بجرعة عالية من الجاذبية و الدّهشة و آلأثارة, خصوصاً لو كانت من مقرّبيّن نكن لهم الأحترام و التقدير و التبجيل كآلمعلم أو إمام المسجد أو الأبوين أو الأصدقاء المقرّبين!
ذلك أنه من الناحية العلميّة, تشغل الصّورة حيّزاً أكبر في الذاكرة, كما في الحاسبات الأليكترونية, لذلك فأنّ المساحات الكبيرة التي تشغلها في وجودنا تبقى فاعلة و ممتدة و مؤثرة في أعماق القلب لمدد أطول كذكريات خالدة تبقى و تنعكس في سلوك و أخلاق الأنسان حتى آخر العمر و ما بعده, خصوصاً لو آمنا بأنّ عمر الأنسان ليس محدوداً بزمان و مكان معين و كما يعتقد الناس بآلخطأ!
و لو دقّقنا في تعريف أرسطو؛ [بكون التّفكير مستحيل من دون صور], نكون قد أدركنا مفهوم الثقافة و حقيقة الفكر(4) لدرجة الكمال الذي من خلاله يتكامل وعينا لحقائق الوجود, و بآلتالي نكون قد قدّمنا صورة جامعة و كاملة لأهمّ و أخطر مسألة في عقل الأنسان بعد وعاء (القلب) الذي يُشكّل جوهر و وجود الأنسان و الذي من خلاله يتمّ الحكم النهائي على المسائل و القضايا الهامّة و المصيرية!
كنتيجة جامعة, فأنّ الثقافة : هو الميراث ألعلمي و الفكري و الرّوحي لمجموعة من البشر يشتركون بلغة واحدة و وطن و تأريخ مشترك, تربطهم علاقات أجتماعية تنظم حياتهم و طريقة معيشتهم و نظام حكمهم.
و الثقافة مع كل ذلك .. ترتبط إرتباطا وثيقا برؤية صائغها و مترجمها و دارسها و موظفها في العالم ككل؛ ذلك أنّ كلّ إنسان يحمل مجموعة من المفاهيم و المعتقدات و التصورات الإدراكية التي تُمكّنهُ فهم و تحليل الكون و الحياة و الإنسان و العلاقات القائمة بينها.
كما أنّ مفهوم الثقافة هو من المفاهيم المتغيرة التي مرّت بمراحل عديدة و إنتقلت و تشكّلتْ عبر الزمان و المكان, لكنها إحتفظت بمكنونها و تعريفها في الثقافة العربيّة مذ تشكّلت المجتمعات البشريّة على أرضهم, على الرّغم من ضعف ترجمتها في الواقع الذي تأثر بثقافات أخرى بعد ما إنتقلت إليه, فقد إنتقل المفهوم الجديد للثقافة بعد عصر النهضة من موطنه الأصلي(أوربا) و توطن في عدد واسع من المجالات في بلادنا العربية و الإسلامية. و لا نبالغ في القول بأهمية بل وجوب دراسة مفهوم و آليات و جذور الثقافة, إذا أدركنا أنّ [كلّ تفكير في مشكلات الحضارة، هو تفكير في مشكلة الثقافة](5).
بهذا المعنى فإنّ حلّ المشكلات الحضاريّة (الثقافيّة) للبلدان العربية و الإسلامية و العالمية في هذا العصر، عصر عولمة الثقافة و اكتساح التقنيّة لكلّ المجالات، بما فيها مجال الثقافة بمختلف مستوياتها و تجلياتها؛ يتطلب بدايةً .. إعادة قراءة هذا المفهوم من جديد بالعودة إلى جذوره، و سياقات تطورها و تحولاتها ثمّ آثارها و شواهدها، باستعراض نقدي و تركيبي لمجموعة من المقاربات و النماذج النظرية و المعرفيّة لمفكرين غربيين و مسلمين، لرسم أفق بناء حضاري جديد لهذا المفهوم يستحضر إشكالية تعدّد الدلالات التي علقت به نتيجة توزعه بين فروع معرفية كثيرة، و تقاطعات المفهوم مع مفاهيم أخرى في مجالات أخرى.
هذا مع الأخذ بنظر الأعتبار بأن الثقافة الأسلامية التي تشكّل أكبر ديانة ثقافية - حضارية, فيها نوعان من الأحكام, هي:
الأحكام الثابتة, كآلأيمان بآلغيب و النبوة و المعاد و الأمامة و غيرها, و تلك أحكام ثابتة يجتهد المثقف في فهم أبعادها و مدلولاتها, لكنها ثابتة في نفس الوقت إلا أنها ترتبط مع الأحكام الفرعية.
الأحكام المتغيرة: و هي تلك الأحكام الفرعية التي تتعلق بآلممارسات الحضارية و المدنية كتوأمان أحداهما يكمل الآخر, و تحتاج إلى المواظبة في رفد أصولها و إسقاطاتها على الواقع بشكل تحقق المدنية و الأعمار و الزراعة و الأنتاج على كل صعيد.
السياق التاريخي ألخارجي للثقافة وإشكالات الترجمة؛
جذور مفهوم (Culture) في دلالته الغربية الأصلية:
تعود جذور كلمة (culture) بآلأساس إلى لفظين لاتينيين هما (cultura) التي تعني حرث الأرض و زراعتها،
و لفظ (colere) الذي يحمل مجموعة من المعاني كالسّكن و التهذيب و الحماية و الأمن و التقدير إلى درجة العبادة(6).و آسْتُخْدِمت مجازاً من قبل الحكيم اليوناني شيشرون (106-43 ق.م) كغاية للفلسفة تعمل على تثقيف الذهن و زراعة العقل و تنميته (cultura animi) (7).
و قد احتفظت الكلمة بهذه المعاني العملية في القرون الوسطى حيث أطلقت في فرنسا على الطقوس الدينية (les cultes) و رعاية الحيوان و النبات و العناية بالنمو الطبيعي(8), و في عصر النهضة اقتصر مفهوم (culture) على مدلوله الفني و الأدبي الذي تمثل في دراسات تتناول التربية و الإبداع(9)، غير أنه حافظ على الدلالات المشتقة منه كتنمية العقل و غرسه بالذوق و تزيينه بالمعرفة عند فولتير، أو العمل الذي يبدله الإنسان لغاية تطويرية سواء أ كانتْ ماديّة أو معنويّة مع طوماس هوبز(10).
إلا أنّ سنة 1871 م شَكّلَتْ محطة حاسمة في تاريخ مفهوم الثقافة مع الأنثروبولوجي البريطاني (إدوارد تايلور) في كتابه "الثقافة البدائية" عندما عرّفها باعتبارها:
[ذلك الكلّ المركب الذي يشمل المعرفة و العقائد و الفن و الأخلاق و القانون و العرف و كل القدرات و العادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في مجتمع](11).
هذا التعريف الشامل تحوّل إلى تعريف مرجعيّ للمختصيّن في العلوم الاجتماعيّة و الإنسانيّة.
و بانتقال مفهوم (culture) إلى (kulture) الألماني خلال القرن الثامن عشر إكتسبتْ الكلمة ثلاث دلالات:
الأولى؛ الحالة الاجتماعية المعارضة لحال بربرية الشعوب الهمجية، بما دل عليها تطور استعمال الأدوات و الرفاه المادي و التنظيم السوسيولوجي.
الثانية؛ تحرر العقل الحديث من ظلمات الماضي و آرائه الاعتباطية (التنوير).
الثالثة؛ تهذيب العوائد و تشذيب الشمائل(12).
و يبدو أن تطور دلالة لفظ الثقافة بألمانيا خضع إلى القانون التالي:
(كلما تقدّم الزّمن بالمفهوم كلّما مال إلى التخصص)(13). فبالنسبة إلى كتاب العصر الكلاسيكي, إتّسَعَ المفهوم لكي يشمل مظاهر التقدم، الماديّ و الفكريّ و الخلقيّ، التي حققتها البشريّة معتبرة في جملتها, أما بالنسبة إلى تابعيهم فإنّ المفهوم ضاق بأشد ضيق يكون فصار يدل على جملة إنجازات فكرية، و قد عَدّتْ خيراً خاصّاً بأمّة بل و مخصوصا بها موقوفاً عليها دون سواها(14).
إلا أنهُ ابتداءاً من خمسينيات القرن الماضي ظهرت تعريفات أخرى (ما بعد حداثية) للثقافة, أحدثت قطيعة مع الفكرة الأنثروبولوجية ككل, مركب من مجمل ما عند "تايلور" مع "ت.س.إليوت"، و "ريتشاردز"، و "ليفيز"، و "رايموند وليامز" من جهة، مع (مدرسة فرانكفورت) المكونة من "أدورنو" و "هورهايمر"، و غيرهم.
و هكذا فهذا التدرج في مفهوم الثقافة يبني على تطور تاريخي حكم الإنسان و نقله عبر أربع مراحل من تطور البشرية:
- تأنيس بعض الحيوانات التي كانت في البدء متوحشة، و فلاحة الأرض، و تطوير التجارة و العلوم و الفنون (الثقافة في دلالتها المتداولة العادية).
- إقامة أنظمة حكم و ولايات جيدة [و هي عند "هيردر" أصعب فنون الثقافة على الإطلاق](15).
ترجمة مفهوم ( culture) إلى العربية كمقابل للفظ العربي "ثقافة"
تشتق الثقافة في قواميس اللغة العربيّة و كما أشرنا في المقدمة؛ من لفظ (ثَقِفَ) التي تعني سرعة التعلم، فثَقِفْتُ الشيء إذا حَذَقْتُهُ و ظفرت به، و رجل ثَقْفٌ, حاذِقٌ فَهِمٌ فطِن(16), كما يشير اللفظ أيضا إلى الآلة التي يُقَوّم بها إعوجاج ألرّماح و السّيوف، فتَثْقيف الرّماح تسويتها(17). و الثِّقاف حديدة تكون مع القَوَّاس و الرَّمَّاح يقوم بها الشيء المعوج(18).
و منه قول عمرو ابن كلثوم:
إذا عض الثِّقافُ بها اشمأزت تشج قفا المثَقِّف والجبينا
و بهذا فأصل الفعل (ثقف) المرتبطة بالفعل الإنساني هي صفة عقلية و قوة إدراكية تستوعب المعرفة و المهارة التي تتطلب الحذق المتمثل في الوعي بهذا الشيء و التمكن منه و الإحاطة به أو تقويم اعوجاجه على نحو يهدف إلى الصواب و إصابة الهدف.
و يُعدّ "سلامة موسى" أوّل من أفشى لفظة "الثقافة" في اللغة العربيّة كمقابل للفظة (culture) في الأدب العربي الحديث في كتابه "الثقافة و الحضارة"، لكنه أخطأ في تفسيرهما و الفرق بينمها, حيث إعتبراهما لفظتين مختلفيتين, لكنه يعترف بأنه لم يكن أوّل من وضعها بل انتحلها من "ابن خلدون" بتأويل لما وجده يستعملها في معنى شبيه بلفظة "كلتور" الشائعة في الأدب الأوروبي(19), إلا أنّ مراجعتنا الشخصيّة لمقدمة ابن خلدون جعلتنا نقف على ستة استعمالات لغوية متغيرة المعنى للفظة "الثقافة, و ذات اشتقاقات مختلفة، و ليست كمفهوم مستقل قريب أو متطابق من فهمنا اليوم للثقافة، أو باعتبارها مفهوما أساسياً في علم الاجتماع الذي عمل ابن خلدون على بناء لبناته الأولى تحت مسمى: "علم العمران البشري و الاجتماع الإنساني" كما أورد سلامة موسى لتبرير اختياره بمقابلة مفهوم الثقافة بمفهوم "culture" الأوروبي.
و يتضح هذا الأمر جلياً عندما يحاول تعريف مفهوم الثقافة باعتبارها هي واجهة الحضارة و التعبير الأصلي لهاو تتكون من: "المعارف و العلوم و الآداب و الفنون التي يتعلمها الناس و يتثقفون بها، و قد تحتويها الكتب و مع ذلك هي خاصة بالذهن.
أما المدنية فهي المنجزات المحسوسة في آلآلات و التكنولوجيا و الكومبيوتر و في الأبنية و العمارات و نظام حكم محسوس يمارس في واقع الناس، و دين منبثق من الرسالات السماوية له شعائر و مناسك و عادات و مؤسسات، فالمدنية .. مادية و أما الحضارة (الثقافة) فذهنية", و هنا يلاحظ اختفاء دلالات المفهوم الأصلي للثقافة و الذي نسخ بدلالات المفهوم الأجنبي (culture) و هي دلالات ماديّة تدعو إلى النقل و الغرس و الإحلال و الزراعة.
و قد نجد لهذا الاختيار تبريرا في الظرفيّة التاريخيّة التي عاش فيها سلامة موسى، و التي تميزت بظهور اتجاهات تدعو إلى نقل ثقافة الغرب الأوروبي على أساس أنها سبيل التطور و التقدم، و بنفس المسلمات الكامنة خلف هذا المفهوم من ضرورة الانتشار الثقافي و التثاقف و المثاقفة.
علينا الحذر من خلط المفاهيم و كما أخطأ (سلامة موسى)(20) و (الجابري) و (أركون) و أمثالهم, حين قالوا بضرورة تتبنى المجتمعات التقليدية الثقافة الغربية الحديثة بشكل أعمى كسبيل للنهوض و التطور، لأعتقادهم بأنّ تاريخ البشرية يسير في خط صاعد متقدم متجاوز بصفة دائمة، فكل قديم يحمل قيمة سلبية، و كل جديد يحمل قيمة إيجابية (21).
يعود مشكلة التباس مفهومي؛ (الثقافة و الحضارة) إلى مشكلة ترجمة المفاهيم، و انتقالها من ثقافة إلى أخرى، و هو ما جعل من الفصل بينهما أمراً إشكالياً قائماً لحدّ الآن, و قد وقع في هذا الخطأ معظم المثقفين بجانب أكثر المفكرين كـ(سلامة موسى) و أركون و محمد حسنين هيكل حين إعتقدوا بأنّ مفهوم الثقافة عند علماء الأنثروبولوجيا تدلّ على مظاهر الحياة في كلّ مجتمع .. متقدماً كان أو متخلفاً، بدائياً أو متحضراً، في حين أنّ لفظ الحضارة عندهم يدل على مظاهر الحياة المادية في المجتمعات المتقدمة وحدها(22), وهذا ما نجد له تأكيداً عند (ول ديورانت) عندما عرّف الحضارة باعتبارها النظام الاجتماعيّ الذي يساعد الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، و إنما تتألف الحضارة من عناصر أربعة:
الموارد الاقتصادية؛ النظم السياسية؛ التقاليد الخلقية؛ متابعة العلوم و الفنون، و هي تبدأ من حيث ينتهي الاضطراب و القلق(23).
أعتقد و بخلاف المفكريين و كما برهنتُ فيما مضى بأنّ (الثقافة) هي (الحضارة) نفسها لا أنفصال بينهما, سوى الجسر الموصل بينهما, أو يمكننا التعبير عن ذلك بكون الثقافة هي العمود الفقري في الحضارة، فلكل حضارة ثقافة، و لكن ليس بالضرورة أنّ يكون لكل ثقافة حضارة, و هذا الفصل يُبيّن بوضوح ما عرضناهُ، إلّا أنّ هناك فهماً آخر تشير إليه بعض الدّراسات الأوروبية في هذا المجال و يقترب في شطرها الأول كثيراً من تعريفنا .. لكنهُ أيضاً يبتعد في الشّطر الثاني, و هو؛ أن الحضارة تختصّ بالجّوانب الرّوحية و العقلية و الأدبية، في حين أن (الثقافة) تختص بالجوانب المادية, أنما في الحقيقة كلتيهما تُعبران معاً عن مرّكب واحد من الظواهر الاجتماعية، يمكن النظر إليه من وجهين مختلفين:
وجه مادّي ملموس يتعيّن في المستوى الذي بلغه التقدم العمراني و التكنولوجيا عند أمّة من الأمم، أو في مجتمع معين, و في حقبة تاريخية محدّدة، و كذلك في العلاقات الاجتماعية و العادات و المعتقدات و في المؤسسات و أنظمة الحكم.
و وجه ثان؛ يتجلّى في نواحي الإنتاج الأدبي و الفني و الفكري و العلمي، و معالم الرّقيّ الأخلاقيّ و آلرّوحيّ(24).
و على العموم فقد احتدم هذا الخلاف بين اتجاهين بالخصوص:
اتجاه يهيمن فيه لفظ "الحضارة" كفرنسا و انجلترا و الولايات المتحدة الأمريكية،
و اتجاه فضّل استعمال لفظ "الثقافة" كألمانيا و بولونيا و روسيا.
فإذا كان الاتجاه الأول يرى بأنّ مفهوم الحضارة هو عام يشمل القيم الأخلاقية و الماديّة معاً، فإنّ الاتجاه الثاني يميل إلى تحميل لفظ " الثقافة" دلالة الأمر المتعلق بالفرد (تكوين الفرد) كالشعر و الشعور الدِّيني و الإحساس الشخصي و العمارة و الموسيقى و العلم وغيرها، و بالعكس تحمل لفظة "الحضارة" دلالة الشأن المتعلق بالجّماعة، أيّ دلالة المظاهر الخارجية – و ليس الجوانب الداخلية - لوضع ثقافي مُعيّن(25).
و قد حاول عالم الاجتماع الألماني (نوربرت إلياس) أن يُؤرّخ لتاريخ ظهور هذا التعارض بين هذين المفهومين، فذهب إلى القول بأنّ الفيلسوف الألماني (كانت) كان أوّل من عبّر عنه سنة 1784م تعبيراً صريحاً عندما ربط بين نهضة ألمانيا و تنمية الثقافة المرتبطة بالفن و العلوم، و تحضير المجتمع لممارسة آداب السلوك و رسوم الكياسة الأجتماعية, و شكّلت سنة 1919م سنة إحياء هذا التعارض الذي عَمّرَ قرناً و نصف من جديد، و هي السّنة التي بوشرت فيها الحرب ضد ألمانيا باسم الحضارة، و السّنة التي حاولت فيها ألمانيا إعادة تأكيد ذاتها بعد معاهدة فرساي(26).
و قد انتقل هذا الالتباس بين المفهومين إلى البلاد العربية و الإسلامية و ما زال هذا الألتباس قائماً، بعد ما تأثر الأنثروبولوجيون و علماء الاجتماع العرب بتلك الثقافة و ترجموا المؤلفات الأوروبية, كشاكر مصطفى و عبد الرّحمن اللبان و فؤاد زكريا و غيرهم، و مرد ذلك يرجع إلى أنعكاس معركة المفاهيم التي وقعت بين الألمان و الفرنسيين التي تحدثنا عنها سابقاً، و هكذا عملوا على ترجمة (culture) تارة بلفظ "ثقافة" و تارة أخرى بلفظ "حضارة". كما ترجموا لفظ (civilisation) بلفظ "حضارة"، و في حالات أخرى بلفظ "مدنية", إلّا أنهُ و في جميع الحالات فإنّ التعريفات المقدمة و المعاني الراسخة في الذهن؛ هي مدلولات المفهوم الأوروبي المترجم نفسه، و ليس الجذر اللغوي أو الدلالة العربية - الأسلامية لهذين اللفظين.
و رغم إنّ بعض اللغويين و المترجمين كـ (نصر محمد عارف) يوصون كلّ مترجم لِلَفظ culture)) بالأحتفاظ به مكتوباً بحروفهِ أللاتينيّة في آلمتن المترجم .. و بوضع لفظ (ثقافة) كمقابل له, لتنبيه القارئ إلى أنه يقصد بإطلاق هذا اللفظ العربي؛ ألمعاني التي يحملها المفهوم الأوروبي(27), إلاّ أنني لا أوافق هذا الرأي لكون مفهوم (الثقافة) عند الغرب ما زال يختلف عن مفهومها عند العرب و المسلمين كما أشرنا في العرض السّابق, و هذا راجع إلى تاريخ مفهوم الثقافة في السياق الغربي، و ما أخذه من دلالات في السياق العربي بعد ترجمته، و هي دلالات إشكالية في مجملها؛ حيث يترجم الأصل اللاتيني تارة إلى "ثقافة" و تارة إلى "حضارة" ثم يخلط "الحضارة" مع " المدنية" لعدم وضوح المعنى لدى المعنيين الغربيين كوضوحه لدينا, و هذه دلالة على أن الثقافة الأسلامية أغنى بكثير من "الثقافة" الأوربية التي للآن لا يملكون تعريفاً واضحاً عنها.
غير إن الإشكالات المرتبطة بالمفهوم لم تقف عند هذا الحدّ، بل تضاعفت و تناسلت بانتقال المفهوم إلى مجال العلوم الاجتماعية و الإنسانية، سواءاً في السياقين الغربي أو الإسلامي, ممّا يحتاج إلى بيان واضح و تفصيل علميّ ليقف القارئ الكريم على حدود و معنى الثقافة من جهة و على حدود و معنى "الحضارة" و كذا "المدنية" من جهة أخرى, و كما أشرنا لذلك سابقاً.
(1) ألمنجد في اللغة و الأعلام/ص71, لغة (ثَقَلَ).
(2) Johann Von Goethe
(3) Sir Edward Burnett Tylor (2 October 1832 – 2 January 1917) was an English anthropologist, the founder of cultural anthropology.
(4) حقيقة الفكر له منطلقان: الأول, العقل الظاهر الذي يكون عمله بحسب مقاسات ظاهرية عن طريق الحواس التجريبية, لا تشمل علم الكوانتوم.
الثاني, العقل الباطن, أو ما يطلق عليه (القلب). و عادة ما تترسب فيه القضايا السّابقة المؤكدة و المقرونة بآلتجارب و الصور المدعومة من الغيب بجانب الشروط الأخرى التي أشرنا لها, و يكون أحكامه ستراتيجية و عميقة للغاية يبنى عليها صاحبه مواقفه المصيريّة.
(5) مشكلة الثقافة، مالك بن نبي، دار الفكر، الطبعة الخامسة عشرة، دمشق، 2011م، ص 101.
(6) الكلمات المفاتيح، ريموند وليامز، ترجمة نعيمان عثمان، المركز الثقافي العربي، ط1، 2007، ص 94.
(7) معالم على طريق تحديث الفكر العربي، معن زيادة، سلسلة عالم المعرفة، عدد 115، الكويت، 1975، ص 29.
(8) نفس المرجع السابق
(9) الحضارة-الثقافة-المدنية: دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم، نصر محمد عارف، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1994، ص. 19.
(10) معالم على طريق تحديث الفكر العربي، معن زيادة، ص. 48.
(11) Taylor Edward, Primitive Culture, New York, Brentano’s, 1924, p. 1.
(12) Emile Tonnelat, «Kultur, Histoire du mot, évolution du sens» in Lucien Febvre et al, Civilisation : le mot et l’idée, Paris, la Renaissance du Livre, 1930, p. 65-66.
(13) Ibid, p.74.
(14) في استشكال الصلة بين مفهومي «الثقافة» و«الحضارة»: مدخل مفاهيمي إلى النقاشات الدائرة اليوم حول المفهومين، محمد الشيخ، مجلة التسامح، عدد 27، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، سلطنة عمان، صيف 2009، ص 173.
(15) نفس المرجع السابق.
(16) لسان العرب، ابن منظور، الجزء السادس، دار المعارف، بدون تاريخ، ص 492 -493.
(17) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، المجلد الرابع، دار العلم للملايين، الطبعة الرابعة، 1990، ص 1334.
(18) نفسه.
(19) الثقافة والحضارة، سلامة موسى، مجلة الهلال، القاهرة، ديسمبر 1927م، ذكره نصر محمد عارف في كتابه الحضارة-الثقافة-المدنية: دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم، مرجع سابق، ص171.
(20) الثقافة والحضارة، سلامة موسى، ص171.
(21)الحضارة- الثقافة- المدنية: دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم، نصر محمد عارف، ص28.
(22) المعجم الفلسفي، جميل صليبا، الجزء الأول، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى، بيروت، 1982، ص 477.
(23) قصة الحضارة، ول وايرل ديورانت، ترجمة زكي نجيب محمود، دار الجيل، مجلد الشرق الأدنى، الجزء 1، المجلد 1، بيروت، ط1، 1988م، ص. 3.
(24) في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات: حوار الهويات الوطنية في زمن العولمة، عبد الرزاق الدواي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت، 2013م، ص 25.
[25] Elisabeth Roudinesco, Histoire de la psychanalyse en France, tome 1, (1885 - 1939), Paris, seuil, 1986, p.307 - 308.
[26] Norbert Elias, la civilisation des mœurs, Paris, Calmann-Lévy, 1973, p.12 - 13.
(27) فرهنك شناسي, مصدر فارسي, أحاديث في الثقافة و المدنية, الدكتور جنكيز بهلوان, نشر بيام إمروز, ط1, ص7.
#عزيز_الخرزجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟