|
عقيدة التسويغ -4-
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5445 - 2017 / 2 / 27 - 12:49
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
عقيدة التسويغ منعرجات فكرية -4- يتبع وإذا قلنا بوجود مادة التسويغ للفعل والقول في الذات المواجهة لأخطارها المنتظرة بالتحايل، والمخادعة، وهما حبلان للوصال مع العنوان الأكبر للتكليف البشري بنظام السماء، أو بعقود الأرض، ولا يقطعان إلا بحدوث ذلك المجهول المرتقب، والمعذِّب، فإن اعتبار وجودهما خارجا عن إرادة الذات المسوغة لهما بنظر من الأنظار، لا يتأتى منه أن يكون محل مساءلة عند تعاند حصص الرغبات في تحصيل المنافع المتعارك عليها بالمحاصصة، أو المقايضة، لأن انتظام الإنسان في سياق المجتمع الذي ينتمي إليه جرمه، وينتهي إليه أصله، لا خيار له في رفض علاقته بذاته المعضَّدَة بغيره، أو في قبول ما تواتر عنه من حُكم وناموس يضبط حركته، ما دام أسيرا لحدود جغرافية، لا يبرحها برجله الماشية إلى الفناء، بله أن يفارقها بجسده الذي يغذيه بسم الحرج الذي سينتهي به. إذ ما ينشأ بين الأيام من لؤم الأوجاع التي تنزف بها معادن الذات المتعرية بأحلامها، وغرائزها، ينسي ذلك الانتظار الموجع، والموخز، ويبعد ذلك الترقب الذي يقلق الحال في البال المشتت، والحال المدنف، ويغمس الإنسان من أخمص قدمه إلى فرق رأسه بين حمأة ذلك الوجع اليومي الآسن. فهو لا يريد الانتقال من الأماكن إلى مجهول الزمن الذي يسير إليه بلا إرادته، وإنما يرجو شفاء الأوام الذي يحبسه بعطش ذاته العاجزة، لأنه لم يحس في كيانه بقوة قادرة على التحدي لمضمراته المتألمة، ولو شعر بها صائلة بصولة فائقة، لطار إلى قنة جبل بقفزة واحدة، وهناك يتبع شعفها بأغنامه، وينتظر نهايته، إذ يستبعد قدرته على تتبع غضون الوهم في العقول السامدة، ولذا ينحي ذاته عن التأثر بما يعلق بالأماكن من صراع، وخداع، فيصير مشلول اليد في حمل سلاح الحماية بين أسوار ذاته، ومقطوع الصلة بما يختفي بين الوهاد من غيل فاتكة، وآجام غامضة. فلا غرابة إذا اندس بين الهامات، وانطوى بين النيات، لكي يعيش الحيرة في مقارعة غرائزه، ومنازلة شهواته، ويحيى بعقل يشد على لحظته البريئة، وخطته النظيفة، عساه أن يحس بوجوده في قفص تصوره الذهني لصورة الطهارة، ويشعر بأنه حي بإدراكه لعالم غير الذي يتناحر الناس على حظه، وحصته. ومن هنا يكون اليومي معطلا لجهاز الإدراك الذي يحدد المسؤولية بالضمير الحي، والخلق المتوقد، ويبني قضية علاقات الإنسان على احترام الناموس ظاهرا، وباطنا، لأن الذين حولوا العالم إلى أرقام مسعورة، لا يهدف نظرهم إلى تحرير الإنسان من عبوديته لهذا الألم الممنوح في حياته، بل تسعى إلى طيه تحت جناح الآلة المنفصلة عن روحه، والمنقطعة عن عقله. فهي التي تصنعه، وهي التي تفنيه، إذ لو كان هذا المفجوع في قعر حركته حرا بالاختيار، لابتغى أن يعيش في هدوء، وأمان، فهو لا يهفو إلى زيادة تنهكه بأفظع الفوادح، وإنما يبني عش حياته بظل شجرته، وشعر شاته، وأطناب خيمته. وهذا لا يعني الاستسلام الذي يقطع دابر البحث عن العيش الكريم في الطبيعة الخداعة بمناظرها الفاتنة، بل يمور فيه التمرد الذي يضمن للعقل سلامته من الانتفاض الجائر، والانتهاز للفرصة السانحة بالخدعة، والدسيسة، لأن أجمل هدية نقدمها للعالم الذي ينتظر منا مناصرته في قضاياه الإنسانية، هو إسكات أنين الجرحى، وتأفف المتألمين، وتألم المحرومين. وإذا فعلنا ذلك بأنفسنا طواعية، نجونا من سبة تقليد الغالب الذي يداوينا بإمراضنا المهلكة، لأننا وما دمنا نجري وراءه بتنافس غير محدد الملامح، وتسابق لا تظهر معالمه، ولهاث يسبق أنفاسه، وفي زمن لن يكشف لنا وده جماله، فإن ما نخب إليه من أعراض تافهة، وأدواء هالكة، لن يجعلنا أحرارا بين العبيد، ولا أفرادا بين القطيع. إذ الحرية الحقيقية، هي اكتساب مناعة الذات من القيد الداخلي، ولو حصر الجسد بالأغلال، والآصار، وسجن في المظاهر المضللة للعقل، والقلب. وما زلنا لا نمتلك هذا الأمان في أعماقنا، ولا نحتويه في أذواقنا، فإننا لا نمني ذواتنا إلا بالأماني الفارغة، ولا نعدها إلا بالأكاذيب الفاجرة، لأن مفهوم الحرية الذي نبحث عنه في حصر المجهود المطلوب منا أصالة، ليس هو ما يصوب مخبوء عالم خبرتنا الظاهرية، بل ما يظهر الخارج خاضعا لتدفق السعادة، وراغبا في رسم بصمة اليد اليد على صفحة الطبيعة بصريح الحركة الواضحة، ولو ازدرى بما في سفوح الذات من معان كسيرة، وابتلع ما في واقعه من غصة أثيمة. وهكذا، فإن استثمار معاني الحرية في إطاشة الحلم بين الغوائل القاتلة، لن يقابل جهدنا بما يرسمه غيرنا لتاريخنا من نهاية. وإذا كنا قد ارتبكنا بكثرة اللغو الذي نجادل به عن أنفس هان عندها موقفها المسوغ بذاتها المترددة، واختط كل واحد منا خطا لانتهاء أنانيته المغردة بعشق ما يُمتلك من عروض، وقيان، فإن عتابنا للممارسة الجماعية التي نشتمها بما نشم فيها من أوضار ذواتنا، لن يَعْدِل في قوله، ولن يصح في الاعتبار، ولن يكون فصلا في النزاع القائم حول أساس التربية، وهو ما ندبره أفرادا، وجماعات، لأن نزوح الإنسان من مجتمعه إلى ذاته، ما هو إلا تسويغ لذلك الحلم الذي تشظى، وصارت له صفات مختلفة في التقصي، وملامح غائمة في التدني. وإذا كنا نرى هذا النزوح اغترابا عن الذات الجماعية، ولو بدت لنا غير نافعة إلا فيما يخدم السياق الذي يصل بنواله حفنةً من المحظوظين، والمجذوذين، وهو من صنع الأقوياء الذين حرفوا المفاهيم، وجعلوا الألفاظ تدل على أضدادها، فإن سبيل الذاتية الذي نهرع إليه عند التواء السبل المغرية بالفتنة، والخدعة، هو المخرج الوحيد الذي يقينا من اختلاط الإرادات الفجة في الأحلام الجماعية، إذ هي في وجودها تنتحي نحو بعدين، فإما أن نعتبرها حصنا يمنعنا من عذاب المجتمع المتغول، وعلى ذلك تكون وقايتها ضرورة لازمة، وإما أن نشهدها محلا لتنزل فيوض الذات على غيرها، وذلك ما يحركها في طريق الإرشاد إلى كمالات الأخلاق الاجتماعية. وهذا هو الأسلم عند خلوص النيات على العمل المشترك، وصدق الأفعال في الغايات، وحيازة المعنى في المقاصد. لأن صلاح الذات في خيارها الفردي، هو النظر البعيد الذي قيست به الآثار عند المصلحين، ثم من بعده ينعكس على مرآة المجتمع ما في خزاننا من قيم نظافتنا، وطهارتنا. وما دمنا لا نملك ذاتا فردية، ولا نطيق أن نثق بحدسها عند الأمور المشتبهة، فأنى لنا أن نفاخر بالذات الجماعية.؟ شيء متشابك في هذه القضية، وهو الذي تتفرع عنه فروع عدة، يردها كل من ضعفت همته عن إرغام هامته للناموس الأعلى. فالذات بدون أخواتها التي يحدث بها الاجتماع في الرسم البشري، لن تستولي على شيء من هدايا الطبيعة، ولن تمتلك ما يداوي أعراضها العليلة، ويعجل بتقدمها بين أمم الكون العريضة، لأننا وبدون أن نعرف ماهية هذه العلاقة القائمة بين الذوات المجسدة لكلية المجتمع، وهي الشيء الذي تقاسم البشر حظه، لن نجول بحرية تمنحنا مفتاح المعرفة، والحضارة، لأننا إذا لم نحس بالأمان في غيرنا، ولم نشعر بالأمن في سربنا، ولم نطمئن بالسكن إلى قوتنا، لن نطيق أن نوفر كثيرا من الوقت لخدمة قانون الطبيعة، وناموس الحقيقة. فالفرد للجماعة بمنزلة الماهية للكل، إذ هو السوار للدائرة، والسياج للمحيط، ومن بعده، تظهر القيم الفضلى في المعنى الأصلي، وتبنى المعاني المخلدة للفعل الإنساني. وإذا كنا نلامس شيئا من الحقيقة في هذا الارتباط الذي يقع بين وحدات المجتمع المتماثل المحددات، والمتقابل الغايات، فإن مفلس التفكير في القصد المحرر للنتيجة، هو من يختار أن يكون قاطع رحم بين الأديان، وبين الثقافات، وبين الحضارات، وإلا، فإن جل الحروب الفكرية، والمعرفية، لم تكن مسوغة باسم الإله الذي حنط بعقد الإنسان، إلا لأنها لا تعبر عن تاريخ الإنسان، وعراقة أصله، ولا عن علاقته الممتدة مع الزمان، والمكان، والمتطورة مع نواميس الطبيعة، والكون. ومن هنا، فإن كثيرا من الصراعات التي خاضها الإنسان في تطلعه إلى حيازة الكيان الممانع، والمواجه، لم تكن مقبولة في حماية حوزة الذات، وصيانة ما يحصل به حق الامتلاك، والتملك، إلا لأنها تكسب الوجود بمقتضى غير الذي تدعو إليه ضرورة الاجتماع عند حدِّ حدودها، وسبكِ قيودها. ولولا هذا المنعطف الذي حدث في القيم الكبرى، والنظم المثلى، وهو الذي سوغ القتل، والخراب، والدمار، لما وجدنا دينا يعتبر براكين الدماء، وجبال الأشلاء، هو الوسيط الذي يفتح باب الكون العلوي، ويضمن كسب محبته وعطائه في العالم السفلي. ولذا، فإن ما يمكن تداركه في سؤال لحظتنا المجنونة بمسوغات تتحايل على وأد الإنسان، وقتله، ودسه في تراب الذل، والعار، وهو حي، لا يفكر، ولا يتكلم، هو قولنا: كيف يقيم الإنسان حضارة إنسانية برفات المقتولين بين وديان الدم المتقرب به إلى الإله الذي يعشق الموت، ويكره الحياة.؟ شيء من الدم نزا على أجسادنا المبللة بذعر الأرض، وشحوب السماء، وهو الذي نشربه خلسة حين نكون قادرين على اغتيال الإنسان، وإنهاء أحلامه، وأصواته، لأننا ومهما تطهرنا منه بدافع الخوف من عقاب العقلاء المتواطئين على رسم آخر للإله، فإنه هو الذي نهديه إلى عالم الطهر، والنقاء، وهو الذي نجهد من أجل تحصيله، وتمليكه، لأنه يفصح عن مكنون ذواتنا، وينزف بكراهيتنا للعالم الذي نزدرد عنف نظرتنا إليه حين يكون الوعي قابلا للانصهار مع غوائل الأفكار النابعة من الحقيقة الواحدة. إذ لولا ما تفتق بين الديار من أصوات تنادي بالعداء للآخر المنتظر، وتسوغ ذلك بنظرية المؤامرة، وعقلية المكيدة، وترقب شبحا يسعى إلى أن يغير على المهد، ويهدم اللحد، ويبطش بالبشر، ويقلع الشجر، ويفتت الحجر، لما كبر صغيرنا على ابتلاع غصته، واجترار طعمه، وهو يرى أمما تتقدم، وشعوبا تتبرم، فلم يعثر في مقومات ذاته على ما يشحذ عزمه بالقدرة القاطعة لدابر الاستكانة، والتواكل، لكي يعدو على السبل التي تركتها الحضارة ظهريا، وهي تخب نحو فنائها، أو بقائها، بل لا يرى بابا مفتوحا بين عينيه، ولا مسارا يسوق فيه نوقه إلى بحبوحة السعادة المرغوبة، فيخال كل ما يشهده منفصلا عنه، ومبتورا منه، ولا أمل في الوصول إليه، أو الحصول عليه. وهو في حقيقته من صنع الإنسان المتجاوز لهوية اللغة، والعرق، والدين، والمنحاز في الانتماء إلى الأصل الذي تفجرت منه بذرة الفعل البشري، وتدفقت منه ينابيع الاشتراك في المسير، والمصير، ولو اختلف النوع، ما دام الجنس متحدا في بداية قصة الخلق. وإذا تقوت هذه العقدة في جمرة التفكير المغالي بنوعه، كانت نارا متقدة في غور حاملها، وحربا على من تحسب أن في قطع صلته وقاية، ومناعة. وإذا كان حرص الإنسان شديدا على احترام كل ما فيه روح، وهو متنام في الطبيعة، لكي يحصل به كمال البيئة التي نصنعها تحت غلاف السماء، فكيف لا نحرص على روح الإنسان الذي أدرك وعيُه أنه المسؤول عن كونه، وأن ما عداه من الكائنات مسخر لطوع يده، وهو الطالب والمطلوب للسماء، والمرغوب على الأرض، وتحتها، ومهما اعتبرنا طريق نفَسه مجافيا لأنفاسنا المكلومة في جوانحنا، أو الممنوعة في سوانحنا.؟ إن كيد الإنسان بذاته، وعدم معرفته لماهيته، هو الذي جعله يسوغ رفع السيف على الرقاب المستضعفة، ولسانه يهتف باسم الإله الذي تزف إليه عرائس الأفعال في أثواب مطلية بالدم القاني، ثم يعلنها حربا لا هوادة فيها على المخالف، والمباين، وهو شريكه في حصة الوجود، ونصيب الحياة، لكي يرفع راية، ويخلع أخرى، ويقيم ديارا، ويهدم قلاعا، وينسف قرى، ويشتت قبائل، ويلوث مدنا. شيء من الغباء أدرك الإنسان حين شهد الشعار الذي يخفق بالرقة، والليونة، ولكنه لم يتيقن مما يدل عليه من غلظة، وقسوة، لأن ادعاء الخلافة بمقتضى حيازة الإنسان لعنق أخيه في الكسب، والعدم، لا يدل على صفاء المورد في كسب رهان الكينونة، ولا يوحي بأن الإنسان تجاوز قفص وهمه الذاتي، وانزوى إلى ما يحدث في الأشياء تفاعلا، وتوازتا، ويخلق في الجماد روحا تحرك فيه أمل الحياة، والالتئام، إذ البشر حين وجدوا بين حضن الولادة الأولى، كانوا سواسية في العائلة البشرية، ولكنهم حين انتظموا في الجماعة المتعارضة النيات، والرغبات، استلزم ذلك ترتيبا لدرج السلم الذي يبلِّغنا إلى النهاية المحبوبة، وهو الصعود إلى معنى الإنسان الكامل الذي دون فيه الفلاسفة تقييدات معلومة، وهو في نهايته المنجلية، ليس إلا ذاك العاقل الذي يحتضن العقول بكماله، وسموه. وما دمنا لا نفهم الإنسان الكامل بأنه جماع العقول المتحدة في نظام يساوي ما وجد على الطبيعة من نواميس، ويماثل ما هيئ له هذا الكائن البشري من توزان الذات، والأعراض، فإن هلامية هذا الإنسان الذي نغني باستحواذه على المدينة المقدسة، وعدم إخضاعه للحد العقلي الذي تغدو به المعاني شيئا حقيقيا، سيجعله فردا بدون جماعة، أو جماعة بدون فرد، وهو محل الخطأ في رسم البيان الذي قتل به الحلاج، والسهروردي، وابن سبعين، بل كفر به قوم قوما، وماجوا، وهاجوا، ثم اضطربوا، وافترقوا، فكان منهم الاختلاف دينا، والاتفاق ولاء على مخالفة العقيدة. ولذا، فإن الإنسان الكامل بمعناه الكوني، لا بد أن ننزله من قبته، لكي يمشي بين العقلاء، ويسير بتؤدة الطبيعة، ويرمل إلى الأمام بحرص الزمان، والمكان، وهو فرد حين نعتبره كمالا في الضابط لنظام الكل، والجامع لكل الخصائص الإنسانية، والبشرية، وجماعة حين نعتبره سياقا عقلائيا في الكون، ونمطا سلوكيا تتجلى عليه كل الحقائق النفسية، والاجتماعية، بل هو فرد حين تقاس قيمة المعاني بكبح جماح الذات عن غرور البقاء، وجماعة حين يصير ما بين اليد مقبولا في الكل، ومحصولا لكل من رامه بلا استغلال، واستبداد. وإلا، فإن الإنسان الكامل إذا كان فردا هاربا إلى أمداء الروح غير المتناهية، لن يكون صولة عند التفاف الصفات على موصوفيها. وذلك ما يبعد دركه، ويغرق معناه في بحر التعميم، والتجريد، والإطلاق، لأن ادعاء الوصول إلى حقيقة الروح التي نرتوي بالالتجاء إليها عند الاحتماء، ما هو إلا منجاة يبحث عنها أفراد الكل للخلود إلى معنى مقدس لا تتحكم فيه نوازع الذات، ورغبات الحياة، ومنزلة تشعرنا بالأمان الممزوج بالخضوع، والاستكانة، والاستسلام. وهكذا، فإن الانتماء إلى العقل الأول، وإلى الإنسان الكامل، يدفع بنا إلى أن نتساءل: أولا يدل العلم بمقتضى ضرورة السماء في حقيقة الحياة على وجود طريق مذلل إلى ساعة الأمن، والسلام.؟ أليست السماء معادا للسلم في نواميس الأزل، ونظر الإنسان الذي يحدق في طهرها، وسخائها، وأمانها.؟ أجل، تلك هي العلاقة التي ترغم العين على انتظار الفرج من السماء، والخاصية التي شمها الإنسان من أرض وجد عليها، ثم اختار لها اسما، وحقيقة، ومعنى، فكان من مداليلها ما ينشده مما هو خاص به من صورة أحلامه، وما يرفعه من شعار للدلالة على حق امتلاكه، لأن ارتباط الأرض بالسماء مما عرفه الإنسان في بداية قصة ظهوره، وأدركه حين فقد قوته، وصار عجزه صوغا ملازما له في اختياره، وافتقاره حقيقة مسلمة عنده في تشوفه إلى معاني خلده. وأي فصل يحدث فيهما بين أعراض ذاته، لن يكون إلا تفريقا بين الرأس، والرجل، وكلاهما يلامس ما يناسبه من مقام، ومكان. إذ لولا هذا الشغف للفضاء المنسرح بين عينيه، والعشق لما كمن فيه من جماله، وهو الأفق الطاهر الذي لا يلوث صفاءه إلا الضجيج، والصخب، والفوضى، ولا يبعد مسافته إلا من ابتغى الأرض عوجا، وتمنى أن يصير المرقاة إلى كل فضل، ومكرمة، لما استحلى أن يقامر بكل ما يسيح في غوره من موارد الوجود، لكي يمد يده إلى عالم يحسبه ملاذا له عند النكبات، وملجأ يقيه من الملمات، لأنه يدرك يقينا أنه إن عاش على أرض بدون سماء، فإنها ستكون سجن فجعه، وضيقه، وحبس أحلامه، وآماله، إذ ما يبدده من مهج الفؤاد، وما يبذله من جهد، ولو بدا في باب العلية سريع الاستجابة، لا يحصل به الاطمئنان في النظر القلبي، إلا إذا باركته السماء، وأعانت على بلوغ سكينته، وأمانه. ولذا، فإن قتل صوت السماء في الإنسان الذي يشهد على سطح أفقه يسرا لما عسر تطلابه، وعز امتلاكه، هو إحداث لحياة مقيدة المرام، وعالم ضيق المسام، لا يطيق أن يبرحه إذا ادلهمت الأماكن، وأحست الذات بالضياع، والهوان، وبكت العين على الفقد، والحرمان. وحقا إن بتر هذه الصلة بالسماء، وطمس معالم طريقها، هو إغراق للكون في بركة الفساد، والأكدار، وإهدار لحق الطبيعة في سرح الأفكار، والأنظار، وإجبار للإنسان على قبول الغل، والآصار، لأن ضيق الأفق عند حرارة الرغبة في النظر إلى الفضاء غير المتناهي، هو العذاب الذي يقتل العقول، ويحرق الحقول، والعناء الذي يشقي الديار، ويدمي الأسوار. وكل نظر ينحبس عن السماء، وهي المكان المفترض للحرية، والكرامة، لن يكون إلا تفصيا من عالم المثل، والفضائل، لأن قيمة الأرض فيما أحاط بها من سماء، ومزيتها في مرمى الأبصار الناظرة إلى الشمس، والقمر، والنجوم، والكواكب، ومنها نتعلم قيمة النظام في الكون، والطبيعة. لكن هل دل اللباس على لابسه، وعبرت الإرادة بصدق عن محددات الارتباط بعالم الملاك اللطيف، فكان الفعل سويا في تدبير الحياة بلازم الجمال، والكمال.؟ سأكثر من مدح نباهة كل من رمي بنظره إلى الأفق البعيد، وذاته تسير بين المنازل، والمراحل، وهو يرى أن مأساتنا التي تعول في أعماقنا، وتخيف أنظارنا، ليست في كره ما نتج عنا من بطء في السير إلى معاد حضارتنا، بل من عدم تواصلنا مع ما أنتج فينا من علوم، ومعارف، لم تكن لنا ببراءة الاستعمال، ولن تكون لنا إن تخلفنا عن الموعد، وتأخرنا عن الحركة، لأن ما هو حادث فينا، لن يتأخر عنا في الدائرة، لأنه فعل بشري مرتبط بنا. وما دمنا نوقن بأنه موجود لنا، ونحن لم نوجِد له ضدا، ولا بديلا، وفيه سبب تحقيق وجودنا، وكسب حياتنا، فإننا سنبقى أسارى لغلو تقديرنا لذواتنا، وعطشى إلى ما نزدرده من لعاب غيرنا. ولذا يغدو رفض ما تقيأته الحضارة مغامرة غير مسبوقة بعقل، وفكر، وبعد نظر، لأن استقلالنا عن الغير الذي نهول في نحت صورة غوله المتوحش، ليس في حرصنا على قيم موروثة، لم يزل عنا حرص الانتساب إليها، وإن ضاع منا أثرها، ونتاجها، بل في النطق بتلك الغصة التي آلمتنا، والصدع بتلك الحقيقة التي تجرحنا، وهي رغبتنا الأكيدة في التعايش فوق هذا الكوكب الأرضي بلا تفاضل، ولا تباين. وإذا شعرت ذواتنا بتحلل عقدها، وانفكاك أدرانها عنها، نظرت إلى ما هو ممتدد أمامها من أمداء، وشهدت ربع الوفاء، والنقاء، وإذ ذاك ستسير إلى حديقة الآمال بكد، واجتهاد. وإذا ارتحلت بين المدى، وراقبت نوء السماء، أدركت معالم الطريق، وطوت المسافات، وملكت المساحات. وإلا، فإن حدو النوق المنهكة بمجد التاريخ، وزجرها بمنقار الخوف على أبهة الماضي، لن يجعلها تقطع الأطوار، وتسافر نحو المستقبل الغض الأسرار. أجل، قد يكون الرجوع إلى الماضي سلفية عند المتلاعبين بالألفاظ، لكن هل هي سلفية حقيقية، يكون الجديد بها قديما، ما دام فعل اليوم هو الغد المأمول في الأبناء، والأحفاد.؟
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -2-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -1-
-
عقيدة التسويغ -3-
-
عقيدة التسويغ -2-
-
عقيدة التسويغ -1-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -8-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -7-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -6-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -5-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -4-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -3-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -2-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -1-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -5- الأخير
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -4-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -3-
-
تنبيهات وتعليقات -2-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -2-
-
تنبيهات وتعليقات -1-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -1-
المزيد.....
-
شاهد.. -غابة راقصة- تدعوك لإطلاق العنان لمخيلتك في دبي
-
بعد مكاسب الجيش في الخرطوم.. هل تحسم معركة الفاشر مآل الحرب؟
...
-
هواية رونالدو وشركاه .. هذه مضار الاستحمام في الماء المثلج
-
أكثر من 20 مرتزقا أمريكيا في عداد المفقودين بأوكرانيا
-
باكستان قلقة من الأسلحة الأمريكية المتروكة في أفغانستان وتحذ
...
-
وزير الدفاع السوري يتفقد ثكنات الجيش بصحبة وفد عسكري تركي (ص
...
-
تركيا.. شاورما تنقذ حياة -مسافر الانتحار- (صور)
-
من أمام منزل السنوار.. تحضيرات إطلاق سراح 3 رهائن إسرائيليين
...
-
سوريا.. من هم القادة العسكريون الذين شاركوا الشرع -خطاب النص
...
-
وارسو.. اجتماع وزاري أوروبي لبحث الهجرة والأمن الداخلي وترحي
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|