|
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الظاء
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5440 - 2017 / 2 / 22 - 02:23
المحور:
الادب والفن
الأشهر الثلاثة، المختتمة بها سيرتي المراكشية، شاءت أن تمنحني فرصة أخيرة لمعاينة المدينة عن قرب، كما يفعل عرّافٌ آبَ من كهف عزلته. صفة العرافة، كانت قد تلبّست شقيقتي إبّان إقامتنا الأولى في مراكش، ولعلها هيَ من فتحت بابَ تعارفها مع " المسيو غوستاف "، وفي التالي، عجّلت تقريرَ مصيرها. لو أنّ العرّاف كان يستطيع قراءة طالعه، لقرأنا ولو مرة واحدة أسطورةً تخصّ مصيره، أو بالقليل، يهتمّ جزءٌ منها بذلك. كان الوقتُ على حدّ الغروب، حينَ غادرتُ الحيّ الشتويّ مستقلاً عربة الكوتشي الباذخة، المنذورة لمشاوير مخدومتي. الحوذيّ العجوز، أبدى شيئاً من الدهشة لما أعلمته برغبتي في التسكّع خِلَل دروب المدينة. رائحة شراب الويسكي، المنبعثة من فمي، ربما أوهمته بأنني ثملٌ وأسعى لقنص إحدى فتيات الليل. في المقابل، كان الرجل قد أخفى بعبق الندّ ما يمكن أن يميّزه الآخرون من آثار دخان الحشيش المخدّر، الذي ملأ كوخه الصغير، القائم في حديقة الإقامة الفندقية. لم يكن في واردي بعث الذكريات من خلال هذه الجولة، وإنما إخماد القلق في نفسي، المترتّب على قرب رحيلي عن بلادٍ تضمّ روحي وقلبي على حدّ سواء. على الرغم من أنّ " سوسن خانم " أمّنت لي جميع اجراءات السفر الضرورية، بما فيها الفيزا الروسية، ولكنني بقيتُ نهباً لمشاعر متناقضة يهيمن عليها الخشية من المجهول: ابنتي، غير البالغة بعدُ شهرها الرابع، سأدعها في رعاية امرأة لا يربطني بها سوى الآمال المبهمة. فيما أم ابنتي، أختفت على حين فجأة وكأنها سحابة في سماء هذا الربيع الخالد. لم تكد العربة تجتاز الحيّ الشتويّ، متجهة نحوَ المدينة القديمة عبرَ مدخل مجمع المأمونية، إلا ورأيتني أطلب من الحوذيّ الوقوفَ. غادرتُ إذاك الحجرة الخشبية، شاعراً بأنني أكاد أختنق بين جدرانها الملبّسة بالديباج. أخذتُ مكاني إلى جانب الرجل، ثمّ طلبت منه مواصلة المسير. على وقع خبب الخيل، رحتُ أملّي نظري من مشاهد الطريق وكما لو أنني سائحٌ تقع عينه للمرة الأولى على مراكش. كنتُ ألتهمُ كلّ ما أصدفه بعينيّ؛ الأشجار والأحجار والبشر. ثمة في ساحة جامع الفنا، أين مداخل الأسواق الرئيسة، كان الزحامُ على أشدّه. غالبية المتسوقين، كانوا من الأهلين الساعين إلى تأمين ما تيسّر من مؤونة شهر رمضان. بمحض المصادفة، كان سفري إلى موسكو سيطابق مفتتح شهر الصوم، حيث تكاد مراكش تخلو من السيّاح. كذلك الأمر مع المقيمين الأوروبيين، الذين يهربون من أجواء التزمّت والرياء والنفاق والمشادات، المصاحبة للشهر الفضيل. تفكّرتُ عند ذلك بصهر الأسرة المُحسنة، " إريك ". لم يهمّني قط السؤال عن أحواله من " سوسن خانم "، وكذلك الأمر بخصوص امرأته وأفراد أسرتها. هيَ ذي عربة الكوتشي في طريقها للمرور من أمام فيللا الأسرة، عائدةً مرة أخرى إلى شارع محمد الخامس. المطاعم الراقية، الممتدة في الدور الأرضيّ من ايسلاند أوتيل، تتألّق واجهاتها البلورية بالأضواء الخافتة وقد ظهرَ خلفها من بقيَ من روّادها الأوروبيين وهم يتناولون وجباتهم مع جرعات النبيذ الأحمر. حديقة مولاي عبد السلام، تهجع في هذا الوقت من المساء، بينما المقاعد العريضة الملاصقة لسورها الحديديّ ما تني مشغولة بالجوّالين والمتسكعين، المتعبين. أنوار مصابيح الأرصفة، تتغلغل في العَرَصة العتمة، المحدقة بجانبيّ الشارع وصولاً إلى مدخل غيليز: هناك، أين رأيتني وشقيقتي في ليلتنا الأولى المراكشية، مُسْهَديْن عند أقدام أشجار الساحة الصغيرة، الكائنة بمقابل أسوار المدينة القديمة. ستون خطوة، تفصل هذه الساحة عن فيللا الأسرة المحسنة، التي لم تتأخر عن استضافتنا في تلك الليلة الحافلة. ما لم يخطر لي ببال، وأنا ألقي الآن نظراتٍ مؤسية على منزل الذكريات، أنّ ابنتي ستجدُ فيه المأوى بدَورها وذلك على أثر مغادرتي إلى موسكو. خيّل لوهمي، فيما كنتُ أرمي نظراتي إلى شرفة الدور الثالث من الفيللا، أن ثمة شبحاً يميل بظله على الدرابزين. بقيت الصورة منطبعة في خيالي إلى حين توقّف العربة عند اشارة المرور الحمراء في مبتدأ ساحة الحرية. عندئذٍ، أختفت الصورة الوهم لتتجسّد عوضاً عنها صورة واقعية لمومس فتيّة تجلس على مقعد ثمة، منتعشة ولا شك بالرطوبة العذبة المنبعثة من نوافير البركة المحتلة وسط الساحة. على غرّة، تهيأ إليّ أنني أعرف هذه الفتاة. " بلى، هيَ مَن عرّفني بها رفيق واصطحبتها مرتين إلى شقة غيليز. إنها على موعدٍ مع العراقيّ، ولا بدّ سيظهر بين لحظةٍ وأخرى! "، خاطبتُ داخلي فيما كنتُ أهوّم بالقرب من الحوذيّ. هذا الأخير، ما عتمَ أن ساط فرسَيْه مجدداً مندفعاً بالعربة للدوران حول الساحة ومن ثمّ الإتجاه نحوَ شقيقتها؛ ساحة الحارثي. طال دوران العربة، مما جعلني أشعر بالدوّار والغثيان. قفزتُ عند ذلك من مجلسي إلى الأرض، ملوّحاً للحوذيّ بيدي أن يتابع سيره. أبدى الرجل تفهّمه، ولكنه ما لبث أن أوقف العربة عند عطفة أوتيل مراكش. كنتُ أتقيأ ما أزال، حينَ هبّت نسمة عطر أنثويّ أليف في أنفي. رفعتُ رأسي، لأرى امرأة تهمّ باجتياز الشارع الرئيس إلى ناحيته المعاكسة، المفضية إلى باب دُكالة. فلما أستدارت، بانت صفحة وجهها الناصعة تحت نور مصباح الشارع: " الشريفة..! "، هتفتُ بصوتٍ عال وأنا متجمّد في مكاني من وقع المفاجأة.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الضاد 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الضاد 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الضاد
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الذال 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الذال 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الذال
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الخاء 3
-
سيرَة أُخرى 47
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الخاء 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الخاء
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الثاء 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الثاء 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الثاء
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 التاء 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 التاء 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 التاء
-
سيرَة أُخرى 46
-
سيرَة أُخرى 45
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 الشين 3
-
سيرَة أُخرى 44
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|