|
ترتيب البيت الداخلي أولا قبل نظرية المؤامرة
أحمد عصيد
الحوار المتمدن-العدد: 5439 - 2017 / 2 / 21 - 22:29
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تميل الأنظمة الاستبدادية والنزعات الفاشستية وخطابات الإقصاء والتنميط إلى استعمال نظرية المؤامرة استعمالا مفرطا بسبب عدم رغبتها في القيام بالنقد الذاتي المطلوب، ورصد عيوب الذات والعمل على تجاوزها، وخلق مناخ الوئام الداخلي على أساس قيم المواطنة التي لا بديل عنها. ولهذا تكون نتيجة هذا الاستعمال لنظرية المؤامرة هو التغليط وخلق الأوهام والمواقف المهلوسة، وتكريس أوضاع التردي والتخلف العام، بهدف الحفاظ على ما هو موجود، والذي تستفيد منه أطراف عديدة ممثلة في السلطة ولوبياتها الداخلية. تقوم نظرية المؤامرة على ثلاثة عناصر رئيسية: 1- الإعتقاد في وجود تنظيم محكم وعمل يدبّر في الخفاء بأهداف سرية مغايرة لما يتم الإعلان عنه في ظاهر الخطاب، وهي أهداف تكتسي طابعا سلبيا يجعلها مصدر تهديد و خطر داهم. ينتج عن هذا الإعتقاد شيئان اثنان : حالة من البارانويا لدى الأفراد والجماعات الذين يشكون في كل شيء ويتوجسون خيفة من أي تحرك أو عمل أو مشروع باعتباره قد ينطوي على مآمرة، وينتج عن الإعتقاد المذكور من جهة ثانية عدم الإهتمام بخطاب الخصم و محتوياته وصرف النظر عن الإستماع إليه باعتباره عديم المصداقية، فمادام الخصم متآمرا فالمطلوب تحطيمه والقضاء عليه وليس محاورته أو الإستماع إليه أو مبادلته الأفكار والتجارب. 2- التركيز على عدو أجنبي (عن البلاد أو عن التنظيم) والتهويل من شأنه واعتبار وضعية الأزمة آتية من عامل خارجي هو تآمر قوة أجنبية و سعيها بالتخطيط المسبق وبتعاون مع أطراف عميلة إلى إلحاق الضرر بالبلاد أو بالتنظيم و ضرب مصالحهما وعرقلة جهودهما لبلوغ الأهداف النبيلة المتوخاة. وهو ما يؤدّي حتما إلى صرف النظر عن المشاكل الداخلية المطروحة للنقاش باعتبارها مشاكل مفتعلة ومجرد إشاعات تآمرية للتشويش عل الأوضاع الداخلية. وينتج عن هذا العنصر الثاني صرف النظر بشكل تام عن المشاكل والتناقضات والعوائق الداخلية والذاتية، مما يعني استحالة القبول بالنقد الذاتي والمراجعة. 3- الدعوة إلى التكتل واليقظة والحذر في إطار التصور الذي يقترحه مستعمل نظرية المؤامرة وداخل مذهبه السياسي. مما يفسر أن معظم مستعملي نظرية المؤامرة إنما يهدفون إلى استقطاب الجمهور تحت رايتهم بالتحريض ضدّ عدو أجنبي (حقيقي أو مفترض أو متخيل) وذلك لخلق اللحام الضروري والتكتل المطلوب في إطار الإيديولوجيا التي يقترحونها. نظرية المؤامرة لدى السلطة: و يشير بعض الدارسين إلى أن مفهوم نظرية المؤامرة قد تم نحته في الأصل من طرف الذين يحتكرون النفوذ والسلطة بطريقة لا شرعية بهدف النيل من المزعجين الذين يطرحون الأسئلة، وذلك بهدف عرقلة أي بحث أو تحري حول القضايا والأمور "الحساسة" التي تتحول بالتدريج إلى طابوهات سياسية أو دينية يحظر البت فيها بشكل علني. وهذا ما يفسر تبني جميع الأنظمة الاستبدادية لهذه النظرية وتوظيفهم لها بشكل دائم في الخطب الرسمية ووسائل الإعلام، بل اعتبارها أساس جميع تحركات السلطة التي لا ترى من شرعية لها إلا بوجود عدو أجنبي يمكّنها من لمّ شتات الناس تحت سيطرتها ويضمن صرف النظر عن مظاهر الاستبداد الداخلي. و كلما كان النظام أكثر عنفا واستبدادا كلما كان أكثر إدمانا على استعمال نظرية المؤامرة في تواصله مع المجتمع. حدث هذا مع النظام الستاليني السابق بالإتحاد السوفياتي والذي جعل من الغرب الرأسمالي مشجبه المفضل لاضطهاد مواطنيه وإحكام قبضته الشمولية على كل مرافق الحياة، كما ينطبق على الولايات المتحدة وخاصة في عهد "لجنة ماكارثي" في حديثها عن التهديد الشيوعي للغرب، وكذا الدول الإسلامية والعربية وخاصة إيران في مواجهة "الشيطان الأكبر" وسوريا النظام المخابراتي الذي كان يغطي على كل مشاكله الداخلية والإقليمية باستعمال "العدو الصهيوني"، والسودان دولة الانقلابات العسكرية التي كانت تجعل من "الأطراف الخارجية التي تستهدف الدين والوطن" شعارها المفضّل لاضطهاد سكانها في الجنوب وفي إقليم "دارفور" وقمع جميع أشكال المعارضة، وفي تونس استعمل بنعلي الحركة الإسلامية لتبرير تجاوزات النظام البوليسي الذي كان يرأسه، وفي المغرب استعملت السلطة لمدة طويلة التحركات الدبلوماسية للجزائر وليبيا وكذا الثورة الإيرانية لتبرير الكثير من سياساتها اللاشعبية. ويبدو من خلال النماذج المذكورة مدى حاجة أنظمة الحكم الاستبدادية لنظرية المؤامرة التي بدونها لا يمكن تبرير أي شيء من أفعال السلطة التي تتعارض مع مبادئ الديمقراطية والعدل والمساواة. نخلص من كل ما أسلفناه إلى ما يلي: ـ أن نظرية المؤامرة هي أسهل طريقة للهروب من مناقشة المشاكل الحقيقية وأسبابها الداخلية وعدم البت في الطابوهات المحظورة. إنها هروب من الواقع ومن مواجهة التناقضات والمفارقات الصادمة. ـ أنها تحيل دائما على عدو أجنبي حقيقي أو شبحي، تتخذه الذات مشجبا تعلق عليه عجزها وتنسب إليه مشاكلها الخاصة. ـ أنها تبعث على الشك والريبة وتشيع مناخا من انعدام الثقة مع تأجيج مشاعر الحقد والكراهية. ومن تم فهي لا تسمح بالحوار والتناظر الذي يتضمن الإعتراف بالآخر وبشرعية وجوده. ـ أنها وسيلة للتعبئة والدعاية للذات عبر نزع المصداقية عن الغير. ـ أنها لا تسمح مطلقا بالنقد الذاتي وبأي شكل من أشكال المراجعة حيث تكرس نوعا من الطهرية الدائمة للذات والقبح الأبدي للآخر. ـ أن المغاربة ليسوا بحاجة مطلقا إلى نظرية المؤامرة في الوقت الراهن، بقدر ما هم في أمس الحاجة إلى إيجاد التعاقد المطلوب فيما بينهم داخليا، أي ترتيب بيتهم الداخلي حتى يجد كل منهم مكانه فيه بما يضمن العيش المشترك، كما أنهم بحاجة إلى خطة تنسيقية محكمة في العمل الميداني لتحقيق الضغط الشعبي المطلوب من أجل التحرّر والنهوض. إنّ ما ذكرناه لا يعني عدم وجود المؤامرات والدسائس والخطط الخفية من كل نوع في الحياة السياسية وفي ساحة الفعل اليومي، غير أن المقصود هو أن التفكير المؤامراتي يشلّ عن العمل والإنتاج، ويدفع بصاحبه إلى حالة من الهوس بسبب تركيزه على عدو مفترض في غياب أية رؤية واضحة للواقع وللتحديات المباشرة، وفي افتقار شديد إلى التقدير الحيوي والموضوعي لما هو موجود في المحيط الأقرب، وإلى التقييم النقدي للمواقف والإنجازات الذاتية وأسباب الفشل وإمكانيات النجاح . ذلك أن وجود المؤامرات والمتآمرين لا يعفي من تكتل ذوي الحلم المشترك، كما لا يعفيهم من العمل الجاد والتخطيط للمستقبل .
#أحمد_عصيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف نعيد للناس متعة القراءة ورُفقة الكتاب ؟
-
من يحمي منظومتنا التربوية من الإرهاب ؟
-
بين الصوفية والسلفية والإخوانية
-
-البرقع- بين الحقوقي، القانوني والسياسي
-
هل استوعب حزب -العدالة والتنمية- الدرس ؟
-
رسائل قصيرة إلى المغاربة
-
أزمة سياسة أم أزمة دولة ؟
-
توسيع مفهوم -إمارة المؤمنين- يقتضي تدبيرا عمليا للتعددية الد
...
-
الصورة والحياة الخاصة، قراءة في -النزعة الفضائحية-
-
عالم مجنون يتجه بخطى ثابتة نحو الكارثة
-
لماذا تنعدم الثقة بين أطراف الدولة ؟
-
مقاطعة الانتخابات يقوي سلطوية الدولة ونفوذ المحافظين
-
لماذا تعجز مؤتمرات الفقهاء عن حلّ معضلات المسلمين اليوم ؟
-
القوانين لا توضع على مقاس الإسلاميين
-
لماذا يضطرّ حزب -العدالة والتنمية- إلى ترشيح الدعاة والخطباء
...
-
الملائكة في خدمة فقهاء البترول
-
انتحار المغتصَبات وصمة عار في جبين الدولة
-
الإسلاميون والولاء للدولة
-
هل يحقق إردوغان حلم -الإخوان- بالاستيلاء الشامل على الدولة ؟
-
متى يتم إقرار الزواج والدفن المدنيين ؟
المزيد.....
-
جنسيات الركاب الـ6 بطائرة رجال الأعمال الخاصة التي سقطت وانف
...
-
الدفعة الرابعة في -طوفان الأحرار-.. 183 فلسطينيا مقابل 3 إسر
...
-
-كتائب القسام- تفرج عن أسيرين إسرائيليين وتسلمهما للصليب الأ
...
-
بعد 50 يومًا من التعذيب.. فلسطيني يعود بعكازين إلى بيته المد
...
-
توأم الباندا في حديقة حيوان برلين: التفاعل بين الأم وصغيريهْ
...
-
دراسة تكشف حقيقة الفرق في الثرثرة بين الرجال والنساء
-
هل صورك الخاصة في أمان؟.. ثغرة في -واتس آب- تثير قلق المستخد
...
-
تاكر كارلسون يصف أوكرانيا بـ -مصدر الجنون-
-
لا يوم ولا مئة يوم: ليس لدى ترامب خطة سلام لأوكرانيا
-
الصداقة مع موسكو هي المعيار: انتخابات رئيس أبخازيا
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|