عزيز الخرزجي
الحوار المتمدن-العدد: 5434 - 2017 / 2 / 16 - 04:09
المحور:
الادب والفن
سنطرح مباحث أساسيّة بنيوية لعلاج (المحنة) و المشكلة الأجتماعية المعاصرة التي يُعاني منها العالم اليوم, عبر الأستدلال بآلحقائق و آلنظريات العلميّة و الفلسفيّة للعلماء و الفلاسفة لمعرفة أسس الثقافة الكونية التي تُشكّل (ألفكر) الأنسانيّ الذي حاول الحكام تشويهها لمنافعهم, مدعمة برؤيتي آلخاصّة حول الموضوع كلما إحتاج الأمر, لذلك أستطيع القول بأنّ هذا البحث بحلقاته المتواصلة يمتاز بخصوصيّة إستثنائيّة بآلمقارنة مع المؤلفات التي ظهرت و نظّرتْ في مجال الفكر عموماً, آملاً من مُحبيّ هذا آلأختصاص الأهم في حياة الأنسان تنويرنا بملاحظاتهم و رؤيتهم حول القضايا الفكريّة و الثقافية التي تُكوّن البُنية (الحضاريّة) آلتّي تنعكس على (المدنيّة) شكلاً و مضموناً و هدفاً.
و آلسبب الآهمّ الذي يعطي هذا البحث الجديد (خصوصية إستثنائية), هو أعتقادي بأنّ الفكر الأسلامي – الأنساني المعاصر ألمؤدلج و الذي ما زال يُنتجْ بغزارة بدعم القوى الأستكبارية العالمية؛ هو فكرٌ مشوّه و تافهٌ ليس فقط لم يُفِدْ الأمّة بِشيئ؛ بل رسَّخ الجّهل و العبودية و التبعية و الخنوع و الفقر و الأنتهازية و الأتكالية, لأنهُ مُكرّرٌ و يجترّ ما كتبه السّابقون .. بعقود و قرون, و ربما كان ينفع الأجيال الماضية .. لكنهُ لم يعد يُفيد الحاضر ..
و رغم إن (محنة الفكر) لها أكثر من سبب كما أشرنا, إلّا أنّ لها أصل مشترك واحد، إذ يصعب أن نتصور أن تجتمع كل هذه الأسباب بمحض الصدفة, و هذا الأصل المشترك هو المغالطة أو سوء فهم الدِّين كأهم عنصر للفكر!
فآلذي نسمعه الآن ممّن يدّعون الدِّين, هو ما قرأناه و سمعناه من أيام الطفولة و كبرنا معه و الذي يتناقض مدّعاهم مع واقعهم, و الكُتّاب أيضا من جانبهم ما زالوا يُكرّرون بغباء مفرط تلك المقولات من دون دراسات معمقة أو حلول جذرية لها, لفقدانهم إلى أسس الفكر الأصيل الذي نحن بصدد بيان تفصيلاته, بعد ما عرضنا الخطوط العامة له سابقاً!
لقد أُصيب هذا المنتوج ألمُعتّق؛ ألمكرّر؛ ألمشوّه؛ المؤدلج, بآلجّمود و آلتفاهة وعجّتْ منها الروائح النتنة حتى ملّتْ النفوس منها لمجرّد سماعها أو مشاهدة عناوينها التي يحاول البعض تغيير شكلها و ألفاظها ..
بل باتت مضرّة إلى حدٍّ بعيد لعدم قدرتها على مواجهة الأفكار الأستكبارية المنبثقة من (المنظمة الأقتصادية العالمية) التي إستخدمت سلاح التكنولوجيا و المال و العلم مقابل "الأفكار المتخلفة" المنسوبة للدِّين و إشتهرت بـ (الرّجعية) فحاصرته و أردته صريعاً تابعاً ذليلاً مَكّنَتْ رؤساء الأحزاب و الأئتلافات و الحكومات في الدول الأسلامية من إستغلاله لإستحمار الأمة بعد ما حصلت من خلاله على ورقة التزكية من أشرّ خلق الله, إلى أن إنتصرت الثورة الأسلامية التي كشفت عن الوجه الحقيقي للدِّين, ممّا إستدعى الأمر تدارك الموقف بجدية من خلال موجة جديدة من المؤآمرات و الهجمات الخاطفة لمحاصرة و قص أجنحة الثورة التي غيرت أو كادت أن تغيير كلّ معادلات الأستكبار و أذنابه في العالم .. فقامت بإعداد جماعات إرهابية تدعي "الدِّين" الطائفي و هي تذبح النساء و الأطفال و الشيوخ و تفعل كل منكر و نكير .. كل ذلك لتعبئة جيوش و قوى العالم ضدّ الدين من دون التفريق بين الصالح منه أو الطالح!
كما إنّ تقدم و تطور العلوم و العقل الأنساني و حقوق الأنسان, و وسائل الأنتاج و قوانين التمدن و التكنولوجيا الأيجابية هي الأخرى أعلنتْ كلمتها بقوّة أمام ذلك "الدّين" .. بحيث أثّرت على الجوانب الفكريّة و الرّوحيّة و الثقافيّة و الأخلاقيّة في الأنسان المعاصر و بشكلٍ قهريّ لكونها باتت مرتبطة مصيرياً بتفاصيل الحياة الأنسانية و بحركة و تطلعات الأمم و تطورها بعد ما صارت جزءاً لا يتجزأ من الحياة المعاصرة, بجانب ردمها لكل ذلك التراكم التأريخي الممل!
لذلك فأننا إنْ لم نُحوّل جناحي الدّين؛ أي (العلم و المعرفة بجانب الثقافة و الأخلاق) التي تشكل العمود الفقري للفكر إلى ثقافة متحركة تتجسّد عبر السلوك و العمل و الأنتاج؛ فأننا سنبقى تابعين و عبيد أذلاء للمستكبرين ندور في حلقات تأريخيّة و فكريّة و سياسية و أقتصادية طفيلية و مغلقة لا تغني و لا تسمن من جوع, لأنّ (الثقافة) و بحسب تعريف (تايلور) أو من سبقه من المفكرين تتداخل في كلّ شيئ بحياتنا, لذلك لا بُدّ و أن تُفعّل بآلأتجاه الصّحيح.
الفكر - السّليم هو الذي يُميّزنا عن غيرنا من المخلوقات و يُحدّد هويتنا و درجة رُقيّنا و كمالنا و مستوى آدميتنا التي هي أسمى شيئ في الوجود, لذلك لا بُدّ من معرفة جذوره و الوقوف على حقيقته و معناه لتنميته و المحافظة عليه, بشكلٍ يتناسب مع أهداف هذا الوجود, الذي خلقه الله لأجل بني آدم بعد ما كرّمه على العالمين ..
هذه الحقيقة كبيرة جداً و تهزّ وجدان كلّ مَنْ يتأملها .. لذلك تستحق وقفة حقيقة لمعرفتها عبر معرفة حقيقة أنفسنا, و ما نحمله من الفكر في عقولنا و قلوبنا التي باتت تحوي كل المُتناقضات, بسبب الخليط الغير المتجانس الموروث من تأريخ مشوّه سيئ و حاضر أسوء, و الذي سبّب كل هذا الأرهاب و التخلف و الضياع و معاداة الحقّ من قبل المنادين بآلحقّ عملياً.
(ألفكر) هو نتاج (ألثقافة) .. و الثقافة نتاج مجموعة عوامل متداخلة تُشكّل وجود الأنسان كآلدّين و التراث و العادات و القيم و آلعلاقات الأجتماعية بجانب تأثيرات العلوم و الأفكار الأخرى, و يختلف من شخص لآخر في مدى و حجم و مستوى استيعاب و هضم المعلومات و المعرفة و العلم و الدِّين و آلتّعاطي معها, أيّ يكون المثقف مجمعاً للمعلومات التي سبق أن عرفها و قبلها بآلتحقيق لا بآلتقليد ثُمّ حفظها في القلب و الضّمير و يُمكنه عرضها على الآخرين بشرطها و شروطها, أو استخدامها في إقامة الحُجّة و الدّليل و البرهان.
و كما يقول (علي عزّت بيكوفيتش) بناءاً على نظريّات أساتذته الغربيين ألّذين سبقوه في هذا المضمار:
[يستلزم تشكيل (الفكر) وجود أسسٍ و قواعدٍ و أصولٍ و براهينٍ يُستدّل عليه].
و لا يطلق لفظ (مُفكّر) إلّا على من يُقدّم أسساً و قواعد و أصول جديدة يقيم عليها أدلته و براهينه, أما من يقيم الأدلة و البراهين على أسس و قواعد سابقة فهو (عالم) أو (مرجع) تقليديّ و ليس بمفكرٍ, لأنّ المُفكر له خصوصيات تفوق مستوى العالم و المرجع و الأستاذ ألأكاديمي!
(العِلم)؛ ألمَدَنيّة, تعلِّم و أكتساب و دراسة و تجربة و قد يكون فيه إبداع لكنهُ محدود و مرتهن بآلثقافة ..
أمّا( آلثقافة)؛ آلحضارة, فهي ذاتٌ معقدة و تَنوّر و تأمّل و إرتباط روحيّ و أيمان بقوى بآلغيب ..
هناك خلط غريب لدى المثقفين و حتى بعض ألمفكريين؛ بين (الثقافة) و (الحضارة).
أسس و جذور(الثقافة)؛ بدأت بالتّعليم ألسّماوي, يوم لم تكن هناك ثقافة و لا فكر و لا آداب؛ يوم لم يكن يعلم الأنسان شيئاً عن أساليب المعيشة و الأكل و النوم و الأعمار, و حتى عن كيفية دفن الموتى, و كما يتبين ذلك من خلال قصّة الغراب التي وردت في القرآن(1), ثمّ توالت عشرات الآلاف من البعثات السماوية للأرض يوم لم تكن هناك ما سميّ بآلحضارات السومرية و البابلية و الفارسية و المصرية و اليونانية, لتكون منبع للثقافة و العلم و الحياة المدنية , بعد ما كانت مقتصرة على العيش في الصحراء و الغابات!
أسس ألثقافة آلأنسانيّة تعتمد على أصول آلدِّين التي تتفرع منها العبادات المختلفة بدءاً بآلصّوم و الصّلاة و إنعكاساتها على آلفنّ و آلأخلاق و الجمال و آلبيان و آلمنطق و آلفلسفة و آلتي تُمهّده للتعامل إيجابياً مع الطبيعة و المخلوقات الأخرى، و ستظل الثفاقة العالية في بنائها الأساسي رهينة العلاقة التي تربط الأنسان بالسّماء التي هبط منها كمنبع وحيد للخير، فكلّ شيء خارج هذا المدى سينتهي لا محال إلى الشّر بشكل من الأشكال!
في إطار الثقافة؛ إمّا تأكيد أو رفض أو شكّ أو تأمّل في ذكريات ذلك الأصل آلسّماوي الذي إنقطع عنه الأنسان بعد هبوطه على الأرض و إستقرّت في قلبه, تتميّز الثقافة بهذا اللغز، و تستمر هكذا خلال الزمن في تصاعد مستمر بإتجاه الأنحطاط فيما لو أنقطعت علاقته بآلأصل ..
أو بإتجاه التكامل حين يجاهد و يسعى لعبور الحالة (البشريّة) ..
للأنتقال إلى الحالة (الأنسانيّة) ..
كتمهيد لبلوغ الحالة (الآدميّة) ..
و هي آخر مرحلة من مراحل التكامل الصّعودي التي معها تتحقق الخلافة الكونيّة في وجوده و تكون رهينة العوامل الحضارية المؤثرة فيه, كما بيّنا تفاصيل ذلك في مباحث منفصلة.
أمّا (الحضارة)؛ فهي إعمال و تفعيل (الخلافة) من خلال التجارب العلميّة للكشف عن مكونات الطبيعة و الوجود لإدامة و تطوير آلحياة المادية ألحيوانية، المنحصرة في التبادل المادي بين الإنسان و الطبيعة؛
بين الأنسان و الجسد(البايلوجيا)؛
بين الأشياء فيما بينها,
هذا الجانب يختلف عند الحيوان في الدّرجة و المستوى و التنظيم و التقنية,
و كذا بين الجمادات و الأشجار .. خلاصة الأمر ؛ أنّ العلم و التكنولوجيا و المدن تمثل الجانب الحضاري المنبثق في أصله و قوته من الجانب الثقافيّ.
الثقافة الأنسانية الهادفة, تتحدّد من خلال مدى تأثير آلدِّين – كونه أوّل و أهمّ عنصر في رفدها - على مستوى آلرّوح و آلسّلوك, أو تأثير ذات ألإنسان على نفسه إن كان عالماً مختصاً أو صاحب رسالة عن طريق إعمال العقل(الظاهر منه و الباطن) الذي يربط الأنسان بآلغيب و يوحي لصاحبه بفعل الخير.
بينما آلحضارة؛ هي تأثير ألذكاء على الطبيعة و آلعالم الخارجيّ بما فيه البعد (البايلوجي).
ألثقافة معناها "الفنون و الآداب ألتي بها يكون الإنسان إنساناً راقياً و مهذباً و حساساً و هادفاً في الحياة".
أمّا الحضارة فتعني؛ "فنون آلعمل و وسائل الأنتاج و آلسيطرة و آلتكنولوجيا و آلصناعة و الأعمار لتغيّر العالم نحو الأفضل, من خلال آلتقدم ألتقني، و آلتطور "الدارويني" استمرارٌ للتقدم البيولوجي لا للتقدم الإنساني كما إعتقد بذلك بعض الماديين خطأً.
و بقبولنا لهذه الحقيقة نقف على بداية الطريق الصحيح الممتد إلى ما لا نهاية لتحقيق فلسفة الوجود من خلال بثّ الطاقة الرّوحيّة الأيجابيّة لتفعيل الجوانب الماديّة الأنتاجية على كل صعيد.
هناك علاقة عكسية حساسة و تأثير متبادل بين الرّوح و الحضارة, و كلّ منهما يُؤثر في الآخر سلباً إن فرّط بأحدهما على حساب الآخر, أو إيجاباً في حال التوازن بينهما, لذلك لا بد من تحقيق الموآئمة بينهما, لتلافي التأثير آلسّلبي, و إعطاء قوّة دافعة نحو الأهداف العالية التي حدّدناها, بمعنى؛ أنّ آلرّوح و آلآداب الأنسانية في حالة ضعفها أو وقوعها ضحية التكنولوجيا و المدنية؛ فأن الرحمة و الألفة ستزول من قلوب مثل هذا المجتمع, و العكس صحيح أيضا, فلو فرّطنا بآلحضارة و مشتقاتها, على حساب النزعة الروحية التصاعدية, فأن الأتكالية و الفساد و فقدان الرحمة ستُسيطر على أبناء المجتمع أيضاً!
لذلك لا بد من تحكيم التوازن و العدالة في ضبط الغايات و مناسيب الحقوق الأنسانيّة عبر تفاصيل النظام الاجتماعي السائد, هنا تكمن خطورة البرامج المدنيّة على الحقوق الأنسانيّة إن لم ننتبه .. إنْ لم نجعل حركة التّمدن تنسجم بإتجاه سعادة الجميع بدون إستثناء عائلة أو فرد منه, فآلملاحظ حالياً على (المدنية) الحديثة أنها تصبّ بكل إمتيازاتها و نفعها الأكبر لصالح طبقة محدودة خاصة بإدارة و إشراف أنظمة و حكومات أُنْتُخبَتْ عن طريق الدّيمقراطية "المستهدفة" الشائعة الآن في العالم .. و من هنا ركزت الديمقراطية بقيادة أصحابها في المنظمة الاقتصادية على فصل (الدين عن السياسة) لأقصاء الأحكام السماوية العادلة من كشف المظالم الديمقراطية - الرأسمالية, لهذا نرى الشقاء و الفساد هو الملازم الدائم لأبناء المجتمع, و لا أمل بتحقيق آلسّلام و السعادة الكاملة و الكمال مع هذا المسير الخطير.
تمثل الحضارة تطور القوى الكامنة التي وُجدت في آبائنا الأوائل الذي كانوا أقل درجة في مراحل التطور. إنّها استمرار للعناصر الآلية - أي العناصر غير الواعية التي لا معنى لها في وجودنا.
و لذا، فإن الحضارة ليست في ذاتها خيراً و لا شرّاً, بل هو الأنسان الذي يُحدّد ذلك.
و أسمى شيئ في الأنسان هي الرّوح التي تُغذي الفكر و تؤثر عليه و تسوقه للخير أو الشّر,
لذلك من الضروري جدّاً المحافظة عليه و تأمين حريته, و تعبئته بالثقافة و الفكر الكونيّ ألأنسانيّ المُطعم بآلأدب و المحبة و الجّمال و الأناقة و حبّ الخير, من خلال وضع برامج للتربية و التعليم تؤكد على ذلك بدءاً بدور الحضانة و الرّوضة ثم الأبتدائيّة حتى الدراسات العليا, بدل المناهج الحالية التي تؤكد على العنف و الحرب و القوة و التسلط و الظلم(2), و لا يتحقق ذلك إلا مع وجود نظام إجتماعي حقوقي عادل حاكم بين الجميع, ليكون" آلسعي معراجاً للصالحين بهذا الوجود", و بغير ذلك ستحل الكوارث الكبرى و الطبقية و المظالم في نفس الأنسان و آلمجتمعات ككل, و كما نشهده اليوم بشكل يشمئز منه كل قلب سليم(3)!
و يستلزم تحقيق ذلك عبور مدن العشق السبعة للخلود في هذا الوجود(4) ليرتاح إلى الأبد من عناء الدّنيا و فلسفة البلاء المتداخل فيه، و يبدو أنّ تحقيق ذلك بات أمراً بعيد المنال مع وجود كل هذه الحكومات الظالمة و كلّ هذا الظلام و الفساد الذي أحاط بآلبشر في (عصر ما بعد المعلومات) الذي كبّل الأنسان و أحال بينه و بين معرفة سرّ أسرار الوجود المتمثل بنهج سيد العدالة الأنسانية عليّ بن أبي طالب الذي أسّس أوّل مدرسة تطبيقية عملية في هذا المضمار من خلال حكمه الفريد المُمتد بعد الرسول الخاتم و آلخلفاء الراشدين.. حيث جعل الفكر الكوني مدرسة واقعية ساوى فيه بين نفسه و هو رئيس 11 دولة وقتها مع أيّ فقير أو عاجز في تلك الدّول؛ ساوى بين وزير الدفاع و بين أيّ مواطن آخر؛ ساوى بين القاضي و المواطن كه حق الحصانة لكل منهما؛ ساوى بين الحاكم و المحكوم؛ ساوى بين الرئيس و المرؤوس, في تفاصيل الحقوق والعطاء الذي كان بمستو واحد للجميع, حيث أثبت عملياً من خلال تلك المصاديق, بأنّ هدف (السّلطة) و (النظام) ليس لأجل [بلوغ لذة ، أو إشفاء غيظ ، و لكن إطفاء باطل ، و إحياء حق ، و ليكن سرورك بما قدمت ، و أسفك على ما خلّفت ، و همّك فيما بعد الموت](5).
الهدف من تطبيقات الفكر: هو تعبيد الطريق أمام الناس ليكونوا عباداً لله فقط لا لأيّ مخلوق آخر سواءاً كان ملكأً أو قائد أو مسؤول أو زعيم أو وزير, أو حتى خليفة أو نبيّ لكل الأنسانية.
و قد أشارت و أوصت بآلمناسبة رئاسة هيئة الأمم المتحدة عام 2002م في زمن كوفي عنان بضرورة الأقتداء بحكومة الأمام عليّ(ع) كأفضل و أعدل حكومة في التأريخ إعتمادا ًعلى دراسة هامة لمجموعة من الأخصائيين في مجال التأريخ و علم الأجتماع و الأنتربولوجيا, حيث عمّمت إثر ذلك كتاباً مع ملف خاص لجميع حكومات العالم عن طريق ممثليها في الأمم المتحدة تدعوها إلى الألتزام بذلك النهج(6)!
هنا حلقة مفقودة .. أو أفقدت .. بين الماضي و الحاضر الأنساني؛ بين الحقب التأريخية السوداء التي مرّت على البشريّة و تفرعن الطواغيب الذين فسّروا الدِّين و القيم الأنسانية بحسب مقاساتهم و مشاربهم و أهوائهم و منافعهم, لذلك فقدنا تلك الحلقة الهامة التي أسّست لثقافة كونية عظمى كسبيل وحيد للتخلص من الفوارق الطبقية و الدكتاتوريات القديمة و الحديثة؛ الشخصية و الجماعية؛ الحزبية و القبلية, ألأميرية و البرلمانية؛ الجمهورية و الملكية, و غيرها من الأنظمة الظالمة التي قرأناها و شهدناها على مرّ العصور.
بغض النظر عن تلك المرحلة المفقودة التي أعتبرها بوصلة الحق نحو السعادة .. يعتبر الباحثون إنّ (تايلور)(7) هو أوّل من وضع تعريفاً علمياً مفهوميّاً للثقافة, عندما قال:
[ألثقافة أو (آلحضارة) بمعناها الإناسي الأوسع، هو ذلك الكلّ المُركّب الذي يشمل المعرفة و آلمعتقدات و آلفن و آلأخلاق و آلقانون و آلأعراف و آلقدرات و آلعادات ألأخرى آلتي يكتسبها آلإنسان باعتباره عضواً في المجتمع].
لكنهُ – أي تايلور - ليس أوّل من إستخدم هذا آلمصطلح في علم ألإناسة (ألأنتربولوجيا), و هو نفسه كان، في استخدامه لهذا المصطلح؛ متأثراً بعلماء آلإنتربولوجيا الألمان ألذين قرأ لهم، سيما (كَوستاف) كليم G.Klimm الذي كان يستخدم كلمة kultur بمعنى موضوعي لا سيما حينما كان يحيل إلى الثقافة المادية وهو ما كان مخالفاً للتقاليد الرومانسية الألمانية.
كان التردد عند تايلور بين كلمتي “ثقافة” و ” حضارة” سمة من سمات سياق تلك الفترة, و إذا فضّلَ في النهاية استخدام كلمة "ثقافة" فذلك لأن كلمة "حضارة" حتى بمعناها الوصفي البحت؛ تفقد طابعها كمفهوم فاعل حينما نطبقها على المجتمعات "البدائية" بسبب أصلها اللغوي الذي يرجع إلى تكوّن المدن، و بسبب المعنى الذي اكتسبته في العلوم التاريخية حيث تدلّ فيها على المنجزات الماديّة التي كان تطورها ضعيفاً في تلك المجتمعات.
و بناءاً على ما أقررتهُ سابقاً و في بداية هذا البحث أيضاً؛ بكون (الفكر) نتاج (الثقافة), و كذلك إعتقادنا بأن إرجاع الأمور للجذور و الأصول هي الأفضل علمياً للوقوف على الحقيقة و معرفة سرّ الوجود؛ لذلك سنسلط الضوء و نركز من الآن و صاعدأً و بشكل مُكثف على مفهوم (الثقافة) لكونها هي آلأصل و آلأساس المكوّن للفكر الذي هو محور موضوعنا و عنوان مبحثنا – محنة الفكر الأنساني - و لا حول و لا قوة إلا بآلله العلي العظيم.
عزيز الخزرجي
مفكر كونيّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أشار الباري تعالى و هو المعلم الأول لقضية (الغراب) الذي علّم الأنسان الذي كان يجهل أبسط مبادئ الحياة و المعيشة, حتى كيفية دفن الميت في سورة المائدة/31, حيث يقول تعالى : [فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه, قال ياويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين].
(2) في العراق و مع مرور الزمن تمّ إبعاد أو إهمال الكثير من المناهج الأدبية العربية و النصوص التأريخية التي تؤكد القيم و المثل و الآدب و اللغة و دور العرفان و العقيدة في تحقيق الحياة الطبيعية الآمنة في المجتمع بدعوى أن العلوم و التكنولوجيا هي الأهم, و كانت النتيجة أن خريجي الجامعات لا يقدرون كتابة مقالٍ أو حتى رسالة صحيحة.
(3) قرأت خبراً غريباً و مؤسفاً قبل أيام يُدلل على مدى الأنحطاط الأخلاقي و الفواصل الطبقية في المجتمعات, خصوصاً العوائل الحاكمة و المسؤوليين على الشعوب المغلوبة على أمرها, مفاد الخبر أنّ كلّفة سعر بدلة آلعروس لأحد مشايخ الخليج وصلت لأكثر من 16 مليون دولار أمريكي, لتلبسها ساعة أو ساعتين فقط, ثم تنزعها لتضعها في المخزن للأبد بلا فائدة, و هكذا نشهد حالات التبذير و الأسراف و الفساد في معظم العوائل الفاسدة الفاقدة لأبسط المشاعر الأنسانيّة, بينما مقابل هذا تجد مئات الملايين من البشر يعانون الفقر و الجوع و المرض.
(4) إدوارد تايلور(1832-1917), إنثربولوجي بريطاني, له الفضل في وضع الأساس الأول لتعريف الثقافة.
(5) نهج البلاغة لابن أبي الحديد, تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم - الجزء 18.دار احياء الكتب العربية, عيسى البابي الحلبي و شركاه, ط2, (1967 م – 1387) هـ.
[فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة ، أو شفاء غيظ ، ولكن إطفاء باطل ، وإحياء حق ، وليكن سرورك بما قدمت ، وأسفك على ما خلفت ، وهمك فيما بعد الموت].
(6) للتفاصيل, راجع بحثنا الموسوم بـ؛ [ السياسة و الأخلاق؛ مَنْ يحكمُ مَنْ]دراسة مكونة من 12 مبحثاً.
(7) للأطلاع على تفاصيل ألأسفار لعبور المحطات السبعة, راجع مباحثنا المركزة في مؤلفنا الموسوم بـ:
[أسفارٌ في أسرار الوجود].
#عزيز_الخرزجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟