|
حدثنا عيسى بن هشام عن المحاكم
علاء السيد
الحوار المتمدن-العدد: 1431 - 2006 / 1 / 15 - 09:41
المحور:
كتابات ساخرة
حدثنا عيسى بن هشام انه في بلدٍ لا يكون إلا في الأحلام حتى لا يلاحقنا أحدٌ من أولاد اللئام : انه رأى فيما يرى النائم متوجهاً مع صاحبه الى إحدى المحاكم ، فوجد في ساحتها أقواماً ، وجوههم مكفهرة و ابدانهم مقشعرة ، أنفاسهم مقطوعة و أكفهم مرفوعة ، و شاهدَ باطلاً يُذكر و حقاً يُنكر ، و شاكياً يتوعد و جانياً يتودد ، و شاهداً يتردد و شرطياً يتهدد ، و حاجباً يستبد و محامياً يستعد ، و فتاة تتلهف و شيخاً يتأفف. و رأينا المحامين ، يشحذ كل منهم لسانه و يقدح جنانه ، استعداداً للنزال في ميادين المقال ، و تأهباً للدفاع في ميادين النزاع . فإذا به قد ارتج المكان و تماوج الزحام ، و أقبل القاضي في طريقه ماضي ، فتى من اجمل الفتيان قد أرسل لحيته قبل الآوان ، يتموج تحتها ماءُ الشباب كما يتموج الضوءُ وراء السحاب ، و هو في عنفوانِ شبابه و صبا أيامه ، يتألق وجهه حسناً و يشابه في القَد غصناً ، كأنه طائرٌ في مشيته من نشاطه و خفته . فقال لي صاحبي : من هذا الأمير و الكل وراءه يسير ، فقلت له : هو من حاز الشهادة فاستحق النيابة . فقال لي : نِعم المنزلةَ عند الله الشهادة ،فأصحابها أهل الريادة ، و لها في الجنة أعلى الدرجات ، و لكن كيف يكون شهيداً و هو على قيد الحياة . فقلت له : هذه الشهادة ليست شهادة الجهاد ، بل هي ورقة يتلقاها من العباد ، و القاعدة عندنا (ان الشهادة بلا علم ، خير من العلم بلا شهادة) . و تزاحم الناس على بابه و الكل يطلب حسن مآبه. و اذا بشابين رشيقين ، في قدهما رقيقين ، قد اقبلا يتبختران في مشيتهما و الطيب ينتشر حولهما، يرفعان رأسيهما اختيالاً و لا يلتفتان إلى ما حولهما إعجاباً . أحدهما يشق الهواءَ بعصاه و الثاني تلعب بالمسبحة يداه ، فشخصت إليهما الأنظار و تحولت نحوهما الأبصار ، و يدفع بالناس الحاجب حتى يصلا الى حضرة النائب ،فقام لهما من مجلسه و أمر الناس بالانصراف من حضرته ، و طويت المحاضر و رفعت المحابر . فقال لي صاحبي : هل هما مفتشان و على القاضي أميران ... فقلت له : ما أظنهما إلا زائران ...و للوساطةِ هما طالبان ... و أردت أن أعرف خبرهما و أقوم بكشف أمرهما ، فاستمعت إلى حديثهما يقولان للقاضي : و هل تُلهي الدعاوي الإنسان عن مجالسة الإخوان ، و غيرك لا تستغرق منه قضايا اليوم أكثرَ من ساعة ،و لا يحتاج لا الى نظارة ولا إلى سماعة ، و يكتفي ان يمر عليها بلحظه معتمدا على توقد ذهنه و كثرة تمرنه، فلا تضيع الزمان و هيا بنا الى منادمة الخلان ، و الكاتب عندك يكفي و هو في العدالة يوفي ،و سيذهب معنا المحامي فلان لكي يقوم بدفع ما ليس بالحسبان . فسألني صاحبي مستغربا : و كيف يميل من هو قاضي الى مجالسةِ واسطةِ هذا المحامي . فقلت له :ألم تعلم ان أمنية المحامي أن يكون مصاحبا لكل من هو قاضي ، لعله يصل بواسطة القضاء إلى أعالي الفضاء ، و إن كلفه ذلك ما كلفه و خرج منه ما أسلفه . و اعلم يا صاحبي أن المحامي الشاطر يكون صديقً للناظر ، و جليس المستشار و نديم القاضي المختار ،كي يُدير الدعوى كما يرغب و لا يعنيه حقٌ يطلب , فيعاقب من يشاء و يبرىء من يشاء ،و ما أعضاء المحاكم إلا طوع إشارته و رهنُ كلمته ، فلا حكمًا إلا بقوله و قضاءاً إلا بأمره ، يجتمع معهم في السهر و السمر ، يشاربهم و يؤاكلهم و يمازحهم ، و كل طلب له يجاب و لو كان من فوق السحاب ، و ليس لأمره من راد ، و كل ذلك بحسب المزاد . و أجابهم القاضي : انتظرا حتى انهي هذه الدعوى و اقضي فيها بما يكون للناس نعوة . و جاء الشاهد ...فسأله القاضي : عما يعلمه عن هذه الواقعة ..من مشاهد ... فأجابه الشاهد : إن للحادثة قصة عجيبة ....فقاطعه القاضي : لا لزوم للاحاديث الغريبة ...و قل لي معلوماتك الرهيبة ... فأجابه الشاهد : معلوماتي هي أنني .....قاطعه القاضي مستثقلا : لا لزوم لكثرة الكلام ...و اجبني عما سألتك في هذا المقام .. فأجابه الشاهد : هذا ما افعله ...و إنني قد رأيت ..... فقال القاضي متململا : قلت لك إنني لا اقبل التطويل و الشرح ... انصرف فلا فائدة من هذا الطرح .. و ليتفضل محامي الدفاع مع الاختصار ... و تنحنح المحامي باحتضار و قلب في أوراقه قائلا : إننا نتعجب من هذا الاتهام .. فقاطعه القاضي مشمئزا : اختصر يا حضرة المحامي الهمام...و ادخل في الموضوع ...و باشر في الشروع.. فقال المحامي متعلثماً مضطرباً : ان هذا المتهم .... فقاطعه القاضي نافذاً صبره : قلنا لك اختصر ... فقال المحامي و هو يتصبب عرقا : لما كان المتهم... فضرب القاضي بيده على الطاولة قائلا : المحكمة تنورت .......و القناعات ترسخت ... فقال المحامي ساخطاً : نلتمس البراءة.. و الرحمة .. و نطق القاضي بالحكم فاذا هو بالحبس و الغرم .... و طمأن المحامي موكله انه بالاستئناف سينالُ كُل حقٍ له ، و طلب من موكله تقديم عريضة للتفتيش حتى و لو طلعت على ما فيش . فقال له موكله: قدمها عني عسى يكون فيها فرج همي ، فأجابه أنه :لا يستطيع تقديمها بنفسه فإن علم القاضي بسعيه انصرف همه الى دعسه ، و تعمد في المستقبل أذاه بسببِ ما اقترفت يداه . و آن أوان الإستئناف ، فسار المحكوم في طلب العدل و الإنصاف . و سئل عن رئيس المحكمة ، فأجابوه : إنه كهل عاكف على العبادة ،نطقه أبداً استغفار و شهادة ، يمسي ليله قائماً و يصبح نهاره صائماً ، بين السبحة و أصابعه عهدٌ و ميثاق و بين السجادة و جبهته ارتباطٌ و التصاق . فنطق الرئيس بعد المداولة و المحاولة ...... براءة .... و صاح المحكوم : لا أنكر ان العدل محتوم ، و لكنه بطيء لا يحمل عبأه البريء ، و الأجدى أن تكون هذه النهاية هي الحكم منذ البداية ، فلا يلحق بي الهوان و الصِغار و يقع بي الحبس و العار ، بعد أن وقفت موقف التهمة و الإجرام و حل بي ما حل من التعذيب و الإيلام . المحامي علاء السيد عن كتاب (حديث عيسى بن هشام ) بتصرف منشورات مطبعة السعادة عام 1923 ميلادية
#علاء_السيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|