|
الغائب قصة قصيرة
يعقوب زامل الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 5429 - 2017 / 2 / 11 - 04:04
المحور:
الادب والفن
لم يكن في حياته حاظر كما هو في غيابه الأبدي ، انما كان كالماء متدفقا أدار المفتاح في قفل الباب من الداخل . أطفأ النور ، وفي العتمة صر السرير تحته . لحظة ألقى على الوسادة رأسه الصلب بارتخاء للنوم .. كان الظلام صلباً في الأنحاء، كأنه الغابة، أعمى . الأشياء التي تلاشت في العمى، غدت شيئية باردة، مظلمة، توالدت في السر كأنها بداية اللحظة الأولى! الصمت الوخم، المغامرة التي خلفت أبان انتشارها مسحة رقيقة.. خشخشة موحشة.. متلفعة، ومن مكان سحيق، هست أدران الهوس، طنيناً ثابتاً، كأنه من شيطان صغير ملصوق في جدار الظلمة. في أقل من ثانية استدار الزمن قاسياً ألف دورة. ليسقط عقبها في زاوية ميتة. الزاوية التي كان فيها جسمه طافياً، بارداً، مسترخٍ، ومتنفس في العدم المدهش.. في الحاضر المتفوق، الساكن، المتخشب. مثل نخلة معمرة خلفت مستقبلها تحت الحياة التي تسكن طافية في الأعلى، ان مرت.. فأنها لن تتكرر أبداً. وكان هو في الظلمة مثل جدار.. لا يعرف ان كان قائماً.. أو مائلا. مستلقٍ على ظهره، أو منكفئ على وجهه، بلا مستقبل، حاضر فقط، انه حاضر الماضي الدائم. يوم من رحم الأمس، مثل الواو المتصلة بالياء الأولى، ومرفوضة بتثاقل عن ميم متعجرفة… متعالية. متكور، أحس بالحرارة تأتيه من الفراش الذي انطرح عليه، قبل أن يتكشف الظلام، كانت له هيأة أخرى، متشنجة، ملمومة، فم صغير منكمش على أسنان مصطكة، مثل فأر خائف، وجفنين جامدين على جانبي نظر ناشف، مخبوء في العتمة، وجانبي وجه محددين، تحت أنف ناتئ. وكان يائساً، بائساً أكثر من الجمع الحاشد، عيناه مثل عيني دجاجة عجوز، صغيرتين، ضيقتين، تبحثان في الجوف المعتم البعيد، بانتظار (كودو) النبأ الطيب، عن شيء يأتيه. أما هم، فكانوا محتشدين، محلقين، أمام نافذة الاستعلامات. النافذة السمراء المعتمة، كانت يائسة أيضاً، وكانت مغلفة بالرؤوس والأيدي المشرعة، يتصايحون، مأخوذين بالدهشة المتورمة. وكان هو خلف الحشد، مقذوفاً. يتطاول على الظهور، مشرعاً ساقيه تحته، مثل ديك يائس يهم بالانقضاض كرة أخرى. كان لحاء متصلب من نظر أخيه المهيأ للرحيل يسقط ثقيلاً بين دفتي ظهره. ـ سأذهب .. وكان جسده مشغولاً بتسوية أرض حديقة المنزل، البور، هارباً من حركة الوداع معه. وكان يشعر به خلف ظهره المنحني، كرر قوله: ـ سأذهب .. يحس بالفراغ الممتلئ بالقسوة : (( لا أستطيع أن أحول بينك ، وبينه .. )) وكان يحس بوجوده خارج البيت ، تحت نثيث المطر الناعم .. واقفاً ، لا يريم ، ينتظر خروجه النهائي . والآخر بيده كيس صغير من النايلون . أزرق , وبالأخرى بيرية سوداء . وكان الفقدان ثالثاً في مكان آخر ، ناءٍ . ينتظر هو الآخر. وثالثة قال ، حين استدار نصف دورة على نفسه : ـ سأذهب ! وتحت مظلة من الدموع أشاح بوجهه هامسا: " أذهب " الشيء الفارغ لا ينطق، وافترقا. الوجه الملّوح بالحزن على الظهر المنقوع بالمطر والخيبة. وعلى ذات الإنحناءة القاسية، أنغلق بلعومه على بحة بكاء أخرس. كان يسمع شخط حذائه على إسفلت الطريق المبلولة بالمطر. نظر في ظهره، وفي ظهر الآخر، فتيقن ان الذي يجرجر خلف سويداء الرحيل رجليه، لن يعود ثانية. كان مع رحيله يسيران معاً، أليفين. انقلب على جانبه، كان ظهره محروراً. شيئا فشيئا، تكشفت العتمة عن ظلال كالحة. كانت ترتجف بلا أجنحة. الوجوه المنعمة بالصبر، اندلقت، تطايرت، توسدت أكتاف غيرها، مثل ثمار دفلى ميتةٍ.. في تواز ثابت نحو النافذة المصبوغة بالعتمة الواهنة، بانتظار القادم. طيور واطئة، داكنة، تتدلى في طيرانٍ ميت. وكانت أسنانه مصطكة، تغور بداخل شفتيه المزمومتين. الوجه الساكن، اليقظ بلا حراك، ينتظر بقنوط، عبثية اللا منطق. وببطء متدرج كان جسده يرتخي أحياناً، وقبل أن يتقلص من جديد عاجلاً. يكتسب قدرة عجيبة على امتصاص الشر، الشر المتدحرج كنقطة زئبق. بين الرؤوس التي تشبه مزرعة البصل. كان رأسه في الخلف، يشاهد مثل الجميع أثريات متحجرة في قوالب كارتونية قديمة، مركونة في جوانب الواجهات الزجاجية، كأنها في متحف. أثريات سبقت تاريخ الجميع. شيء كالتسلية المجمدة.. الضائعة كالمستقبل. لكنها وبهذا الاجتياز المضني، استحقت كل هذه الأحتفالية المندهشة. وكان الجميع يلّوحون اليها بمناديلهم وفاءً. ـ سأذهب! قال وقد أحس بالجزع والملل. ـ ((لا تذهب.. ستأتي قائمة أخرى.. )) صوت من بين الواجهات الزجاجية قال: ـ عيب يا جماعة أنتم كبار، ولستم صبية. قال آخر معقباً: ـ الأطفال أعقل، والله اندفع ثالث صائحاً: - أرفع كوعك عن رأسي. ومن جوف الزحمة الغائرة بين الأقدام، تناه صوت: ـ أخوان من رأى فردة حذائي؟ أما الذي تسفَّد بحديد النافذة، صاح مستغيثاً: ـ أنتم عميان؟ لا أحد في الغرفة وباستسلام، هدأ الحشد. سكنوا متلاصقين للمرة الـ…. وتحت أقدامهم، سقطت خيبة، فأخذوا يتجاملون ملوحين بالنظر الباسم، والعرق النتن. مظلة وقوف الباص، كانت فارغة، كأنها أعدت لاستقبالهما، والبيوت المبللة واجهاتها، كأنها مقرورة بدت يائسة، مصطفة على جانبي الطريق كانت تشهد مرور ( المعجزة )، المتفاخرة، تحت المطر. وثمة أطفال تراكضوا تحت النثيث بطيش منفعل. وغيوم سوداء ما تزال تتجمع منذ الصباح الباكر في سدرة السماء الغائمة. وثمة ضوء منزو يبقر جانب من عتمة الأشياء. الاشتقاقات الكئيبة، السائحة في الأعالي، والجوانب، وعلى الأرض، صنعت كرنفالاً للنظر الجامد. أما الأشياء التي ترنو بلا أسباب، تبدو غير حقيقية. وكان يتأملها على نحو بَرِم، ناشفاً، غائماً بغموض، كأنه القناع الهادئ، وكان الفراق جانحاً، وسط الطريق المبقع بالماء، ضاج، حائر، مثل جرح تحت المطر. ومن خلف سياج الدارة البليلة، كان يقف كالتمثال، لم يقل شيئاً في الوداع.. ليس سوى أكثر من النظر. على جانبي النظر المخبوء في العتمة، وبين الطيور الواطئة، الداكنة، تسرب فكره: (( ذهب.. نعم، لكنه لم يعد، هل هذا حق؟.. )) . وكانت الوحدة، مثل الكرة، مستلقية على بطنه، كرة مدهشة، تتنفس (( ما الذي جعله لا يعود.. مثل آخرين؟ )) الكرة النائمة على بطنه، لها أكثر من عنصر إغراء لا يقاوم ((.. رأيته بعيني يذهب وإياه، ما الذي أخره عن العودة معه؟ )) رغوة الغياب، الغياب الأملس، الولود، تخفق كأجنحة فراشة، أنقلب على الجانب الذي كان فيها هسيسها واضحاً ((أليس للفعل.. ردة فعل؟.. أين الردة الأكيدة؟ كل الأشياء لها طرفين في المعادلة، حين تكون حقيقية، حتى الرحيل، فأين الطرف الآخر يا ترى؟)) تطايرت فقاعات الرغوة، مثل الممكنات.. والقياسات.. والأشباه المعقولة. فكر بالنسبية ومنطق السبب، وقانون نتائج السليقة، وفي علل العقدة. لكنه لم يصل لقناعة! كان يشعر بغزارة الغربة، منتظراً للعزاء، حزيناً. بالأمس كان رقيقاً في مخمل الحزن.. أليفاً، طرياً، غير أنه، هذا اليوم.. كان متعصباً، متصحراً، جافاً، مثل ترابٍ في صيف. وكانت له رائحة من حمى الغيظ، قوية (( أية مهزلة؟ )) وكانت به حاجة لبوقٍ من نار ليوقظ الموتى، يسألهم عن الذي كان بيده كيس أزرق من النايلون، صغير، وبالأخرى بيرية سوداء . منقاداً خلف سويداء الرحيل المضني ((أين اختفى ؟ )) ، كما يسأل الأحياء الذين بدون ذاكرة. والذين يرتجفون الآن تحت الأغطية، لحظة يضجون مثل النحل في متحف العرض القديم. (لماذا لم يعد؟ ). إنقلب كرة أخرى على ظهره فوق الفراش المحرور، قال: (( خراء )) فكر: ((إنه طريف.. طريف على نحوٍ غريب، ومبالغ .. أن أكون طافياً في الفراغ.. الظلام، أبحث في العلة والسبب والفقدان، عن رجلٍ ذهب، ومن غير ما سبب لم يعد …)) ـ ((…أش … أقطع الكلام! )) فتح عينيه، كانت ظلال سميكة، تصنع نفسها في براعم الضوء، وكان الحشد، يتحرك مثل نبأ سيء، مكسوراً ومحروثاً. - (( أقطع الكلام )) أصر الصوت. انسكبت على الرؤوس، والأردية، رخويات من الصمت، تلذذ ساقي الحانة بها، فراح يصفر بتناغم، أحس بطعم الخمرة القمرية، في حلقه، تمنى لو يشربها بالكامل، حتى يثمل. الذي انسحق على سفود الشباك صاح عالياً: ـ جاء النائب ضابط بالورقة. مات كل شيء.. ومن جديد رقصت ميتة، أيدي الجميع فوق الرؤوس، وعلى الأكتاف. رخويات طينية. اندلق النظر في كؤوس الصمت.. طفح، حتى انسكب، لم يشرب أي منهم، كانوا بحاجة إلى حماسة للسكر. وإلى طيف للشهوة. ـ سأقرأ… لا تقاطعوا! والذي يسمع يخرج. وكانت قصيدة عصماء، أبيات موزونة، موزونة قوافيها على أهلة النياشين والأوسمة والنجوم والأشرطة. وكان الموتى داخل الغرفة متيبسين في أغلفة قديمة. الصور شاعرية، شفافة. الرموز الحية والإيحاءات الدالة البارعة تنفرط على الرؤوس والأسماع بكرم لذيذ. ينفرط الحشد، واحد من هنا، واثنان من هناك، وكلما كثرت خلخلة الحشد، احتشدت الصور الشعرية لتملأ جو الحماسة البديعة. وكان الجمال فائضاً، يتنفس على مهل بين الأفئدة، والعيون المأخوذة، يأخذ المكان في الشهيق، ويلقي الزمان بالزفير. يشعر الجميع براحة مخدرة، يتحلل الحشد، تتماسك القصيدة. القدم التي داستها الأقدام عفواً، تحللت، تماثلت للراحة، ومثل الرؤى، طارت التي داستها بعنف وحين دب الخدر فيها، انتشت . عربد الباقون ((أقرأ .. أقرأ ..)) وكان الوقر يسد الآذان. وفي الرأس دفق شاذ لتبلد اليقظة والحلم. في الطرف. كان أحدهم يبكي.. لقد تحطمت كأس خمرته. أدبه رجل قريب منه قال: (( وللأرض من كأس الكرام نصيب..)) امتلأت جوانح الباكي، اعتصر عن عينيه جميل الدمع، وخرج بعيداً عن الحشد الذي بات صغيراً. وشيئاً فشيئاً.. كان انفلاش الحشد يتوسع.. يتقلص .. شيئاً فشيئاً، حتى غدى وحده ، نظر إليه شاعر المعلقة الجميلة قال: ـ ما يبقيك..؟ ـ لا شيء .. أنتظر النهاية.. ـ لقد وزعنا عظام الشهداء على الجميع.. لا شيء باقٍ، أخرج. ........ نشرت في مجلة ( الاقلام ) العراقية. بغداد 11/12/2007
#يعقوب_زامل_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شقي بن كسير !. قصة قصيرة
-
دبيب التملك..
-
اسفنديار.. قصة قصيرة .
-
سيناريو الحلم والانهيار.. قصة قصيرة.
-
ماذا إذا شحَ المُعنّى؟!..
-
قراءة في كتاب...
-
كان أسمه - أنا - !..
-
ديرم أسمر...
-
على وشك...
-
تصلب الحب قصة قصيرة
-
حكاية الشعبة (د) سيناريو قصة قصيرة
-
لعمق جهاتكِ وجهي...
-
موشح.. لما يعتري!..
-
عليلا شفيتَ..
-
بُنية القص في ( الغائب )..
-
الغريبان والعنكبوت قصة قصيرة
-
كن أول من يحطم الارض كأسه!..
-
هكذا .. حدث هذا ببطء!.
-
لمحاولة أبعد !..
-
سوق الجمعة ....
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|