رشا ممتاز
الحوار المتمدن-العدد: 5427 - 2017 / 2 / 9 - 16:05
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تواكبت ذكرى ميلاد كوكب الشرق سيدة الغناء العربي أم كلثوم مع نهائيات كأس افريقيا التي لعب فيها المنتخب المصري واحتفاء الجماهير المبالغ فيه بالحضري , لتثير في نفسي الشجون و يسرح خيالي للمقارنه بين زمنين …
حيث كانت الشوارع والطرقات شبه خاويه وحرص الناس على التجمع في المقاهي لمشاهدة المباريات في مشهد يذكرك بحفلات كوكب الشرق العظيمة التي كانت قادره على إفراغ طرقات المحروسة المزدحمة من المارة, فقد كان الشعب المتدين ((بخلقه)) حريصاَ على حفلات أم كلثوم بقدر حرصه على اداء صلوات الروح جماعة والذوبان في خشوع على انغام فرقتها الموسيقية المبدعة وترددات حنجرتها الذهبية الفريدة .
كانت أم كلثوم رمزاَ لمصر الحديثة, مصر القوية الليبرالية القادرة على التأثير في العالم العربي , لينطلق تميزها العابر للقارات من خلال فنونها وثقافتها ,من بغداد للرباط ويشع على العالم .
مصر الثقافة و الفن والادب , مصر التي تجسدت في عظمة ام كلثوم الست التي رغم تدينها الصوفي الجميل لم تضع ابداَ الحجاب رمز الانكسار والعورة على رأسها , لتبدوا بطلتها المهيبة في عظمة وشموخ الهرم . .
كانت قدوه للنساء في العالم العربي , جمعت بين الوقار والقوة والذكاء والموهبة , فكانت بأناقتها ايقونة تنعكس على جمال واناقة معجبيها الحاضرين لحفلاتها .
كانت لمصر الريادة في الفن الراقي الذي يوحد شعوب العالم متجاوزاَ الاختلافات الثقافية والعرقية والدينية, ذلك المحتوى الاثيري الذي يمس مشاعرك ووجدانك ويفجر طاقات الحب بداخلك ليرتقي بك لأعلى افاق الانسانية .
عندما اقامت ام كلثوم حفلها الوحيد خارج حدود العالم العربي واختارت مدينة النور باريس ,فرغت التذاكر فور صدورها وحرص كل من الفنانين العالميين شارلز ازنفور وانريكو ماسيس على حضور الحفل , كما ارسل لها الرئيس الفرنسي شارل ديجول برقية شكر واعجاب ..
اصابتني حاله من المشاعر المتضاربه بين الفخر والحزن , عندما قابلت طبيبه فرنسية في أحد المستشفيات وحكت لي ان والدتها الفرنسية كانت حريصة على شراء أسطوانات كوكب الشرق فور وصولها باريس , وكانت الأسرة تجتمع مساءاً للاستماع اليها , و رغم كونهم لا يفهمون كلمات الأغنية الا انها لازالت تتذكر اللحن وتستعيد معه ذكريات والدتها و اجمل أيام طفولتها كلما تردد اسم مصر على مسامعها .
يبكي القلب على مصر وحالها الذي تدهور وانحدر , فشتان بين الفن الراقي الذي يشكل ويصهر الوجدان و بين كرة القدم التي أصبحت تنافس الايدولوجيات السياسية و الدينية في قيادة القطيع من اتباعها بمختلف مستوياتهم للتعصب والتطرف والتي خلفت وراءها الكثير من الضحايا والدماء ..
فلازلت حتى الان حين تجمعني الظروف بشخص جزائري ويعلم بأني مصرية أصاب بالارتباك عندما اراه يحاول متلعثماً تأكيد حبه للمصريين واستنكاره لما حدث من شغب وعنف بسبب كرة القدم ومتعصبيها , وكأنه ينفي عن نفسه تهمه لم يرتكبها , فأرد عليه بأنني أيضا اقدر الجزائر وشعبها و لا انساق خلف تلك الحماقات ولا اكترث بمباريات كرة القدم.
وقد كان جل ما اخشاه ان يتكرر الامر ذاته في مباراة مصر مع المغرب , حيث لم تخلوا من التراشق بالألفاظ والعبارات النابية على صفحات التواصل الاجتماعي , كنت اشعر بالغضب الشديد ولا املك الا الصمت عندما مررت بالمقهى الذي اجتمعت فيه بعض افراد الجالية المصرية في باريس لتشجيع فريقهم وسب الفريق الاخر بعبارات والالفاظ نابيه ..
كنت اخشى ان تتطور الامور وتسوء العلاقات مع بلد جميل ومتميز كالمغرب بتقاليده العريقة الساحرة, لمجرد تشجيع لعبة رياضية عبثيه مثل كرة القدم .
ولعل من رسائل القدر التي لم ينتبه لها الكثيرون هو تزامن تلك المباريات مع ذكرى احداث بورسعيد الدامية , التي خلفت وراءها 72 قتيل ومئات الجرحى في اسوء حادث شغب رياضي في تاريخ مصر وكرة القدم , ووفقاً للشهود فقد رفع جمهور الأهلي لافتات كتبوا عليها عبارات مستفزه مثل (بلد الباله مجبتش رجاله) فشتعل فتيل الغضب فى الفريق المقابل وتحول اللقاء الرياضي لساحة حرب طاحنه ملطخه بالدماء والاشلاء , وايا كانت خلفيات وملابسات الامر فلا شك ان التراس النوادي الكروية تصدر عنهم تصرفات همجيه حمقاء والفاظ نابيه وكانهم محجوبي العقل ومسلوبي الاراده !!
حيث يتوحد المشجع مع فريقه بشكل تضيع معه الحدود الفاصلة بينه ككيان انساني وبين ناديه ككيان اعتباري , فيضيع معها عقله ويفقد السيطرة على نفسه كإنسان واعي, مدرك و قادر على التمييز, فلا يرى مشجعي الفريق المنافس كبشر ولكن يختزلهم في مجرد فانلات تحمل راية العدو وتتحرك باسمه و يتحتم عليه سحقها وتمزيقها !!
ورغم كونه لم يتمرن ولم يكدح ولم يلعب ولم يتعب ولم يحصل على أي مكافأة ماديه, الا انه ينسب الفوز لنفسه الي لحد الذي يدفعه لارتكاب الحماقات وهو لم يبرح مكانه في مقاعد المتفرجين !!!!
لازالت اتذكر تلك الليله عندما كنت طفله صغيره مع اخوتي الصغار في صحبة والدي مسافرين بالسياره لمدينة بجوار الاسماعيلية و فاجأه وجدنا انفسنا داخل الإسماعيلية وكانت هناك لسوء الحظ مباراة بين الأهلي والإسماعيلي وانتشر مشجعي النادي الاسماعيلي في الشوارع , كانوا اشبه بكائنات همجيه مجنونه تتحرك بلا عقل أو وعي , وعندما سقطت اعينهم على لوحة السيارة وعليها ملاكي القاهرة جن جنونهم وكأنهم عثروا اخيرا ًعلى فريستهم !! برغم عدم اهتمام والدي بكرة القدم او تشجيعه لأي فريق طوال حياته , ومع ذلك كان رؤية اسم القاهرة على اللوحة كفيلا بتصنيفنا في معسكر الأعداء وبالتالي نزع الادمية عنا واختزالنا في مجرد تيشرت يحمل شعار الفريق العدو ويجب سحقه وتمزيقه !
استشاطوا غضبا واخرجوا الهراوات وبدأوا في تحطيم السيارة والتلفظ بعبارات نابيه في حقنا ولم يفلح صراخنا وبكاءنا داخلها في ايقاظ عقولهم او تنبيه مشاعرهم المنومه فقد كانوا اشبه بكائنات الزومبي , ولولا ان والدي كان يحمل سلاحاً مرخصاً اخرجه واطلق عدة طلقات في الهواء كانت كفيلة لتفريقهم لستمروا في تحطيم السيارة فوق رؤوسنا ..
ولان المصاب بمتلازمة التعصب الكروي يعاني من غياب العقل وبالتالي المنطق فلا تتعجب عندما تراه يشجع ناديه الي الحد الذي يرفع فيه من استطاع تسجيل هدف او صده لدرجة التقديس ! كما حدث مع الحضري حيث رأيت البعض يطالب بعمل تمثال له والبعض الاخر يراه هو الدكر الوحيد في مصر ! و بالتالي زعيم المرحلة !! بل اقترح احدهم جمع توقيعات لتفويضه رئيسا للجمهورية !!وسترى نفس الأشخاص في اليوم التالي يشتمون نفس اللاعب لو ضعف اداءه ولم يقتنص الفوز !!
ووصل الامر منتهاه عندما اختلط الهوس الديني بالهوس الكروي فانتج خليط عجيب من الخبل المركب !! , واطلق دراويش الكره على فريق مصر الذي حمل على مدار تاريخه لقب فريق الفراعنة , اسم فريق الساجدين ! واصبحت التحليلات الكرويه تقارن بين سجدات اللاعبين وايهما اكثر شرعيه من الاخرى !! بل وتخطت السجده هدف الشكر و اصبح لها طموح اكبر فى خدمة دولة الخلافه و تحولت لوسيلة للجهاد وغزو ملاعب اوروبا ونشر الإسلام !!!
ولا أدري ما معنى السجود عقب كل هدف اذا كنت قادر على شكر الله في سرك ولست بحاجه لهذا الشكل البائس من الاستعراض الرخيص الذي شاع في حياتنا و فرغ الدين من معناه وحوله لمظاهر منفره يزايد الجميع على بعضهم فيها ويتناسب مدى اظهارها طردياً مع انحدار المجتمع!!
و لا ادري هل يسمح أيضاً للاعب مسيحي ان يرشم الصليب عقب كل هدف ؟ وما هو رد فعل الجماهير اذا ما قام بذلك ؟؟
اه نسيت ان اختيار المسيحيين في الفرق الكروية المصرية شبه معدوم بعدما تم تحويل ارض الملعب لمسجد طاهر لا يجوز تنجيسه !!
كان لا بد من حشر الدين في الملاعب كما تم حشره في كل مجالات حياتنا ليتحول الي مظاهر قشريه رخيصة تفقد الحياة منطقيتها والدين قدسيته.
فقد بدأت اولى مظاهر الانحدار و التحول من العصر الذهبي لعصور الانحطاط , في سبعينات القرن الماضي مع انتشار المد الوهابي مدعوماً بأموال البترودولار , عندها تحولت عقيدة مصر الليبرالية من بلد الثقافة و الفنون إلى مصر الإسلامية بلد كرة القدم وفريق الساجدين !! و من الفخر بأم كلثوم و عبد الوهاب و فاتن حمامة و نجيب محفوظ و طه حسين , الى الهوس بحسن شحاتة و الخطيب و حسام حسن و ابو تريكة والحضري .. تنازلوا عن ريادة دامت لهم لعقود على الشاشة الفضية و خشبات المسارح و صفحات الورق …
وعن صياغة جمهور راقي من الواعيين المثقفين و استبدلوها بشبه ريادة على نجيله خضراء حولوها لمسجد وقطيع من الدراويش المتعصبين !
#رشا_ممتاز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟