|
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -8-
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5421 - 2017 / 2 / 3 - 00:29
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الوقفة الثالثة. من عرف نفسه، فقد عرف ربه. إذا كان الطريق الذي نسلكه، هو دليل الاختيار عندنا فيما نقدر عليه، وإذا كان ما نراه فيه هو الحقيقة، لا ما نتصوره حين سبكنا المعاني في ذواتنا بقيود اللغة، فإننا لن نجد في الكلام اختصارا أشد من قولنا: إذا كان نفسنا طريقا إلى السماء المواجهة لنا، فما الذي سيجعلنا نوقن بذلك، ونحن نعشق ما عساه أن يجعلنا نلتئم بما غاب عنا من مدرات الإدراك.؟ وما هي الطريقة المتبعة في نيل السبل، ونحن لا نقاس إلا بما حزناه من حظ في لحظة الوصول.؟ وما هي العلوم التي يجب أن نتحلى بها، ونحن نمخر عباب هذه المعاني السالبة لنا بقوتها.؟ إن الصوفي كما قلنا فيما مضى، لا يعني أنه متميز بكونه قد طويت له الأرض بين أطباق المدى، فلم ير في سعيه ما تنفثه الأوجاع العويصة من أحزانها، ولم يشهد في شوقه ما تهمس به من إغوائها، بل هو ذلك المتألم بما يبنيه، والضجر على ما يهدمه، لأنه لا يرفع شيئا من سطوحه، إلا ووقع غطاءه عليه، فهو في عمقه يتمم شيئا ذا بال، ولكنه في واقعه ينسف شيئا لا يبقى على حال، إذ ليس معتنيا إلا بالاستماع إلى صوت الحقيقة التي أنتجها العقل حين انتظم مع النواميس التي تضمن له بقاءه، ولا مهتما إلا بغايته التي توهمه بأنه يمتلك في كسبه حقيقة الكون كله. ومن هنا، يكون شأنه موافقا لغيره، وإن اختلف طريقه إلى نهايته، لأنه لا يبني فعله إلا على نظر، وما بدا لغيره فيه من قدر، فهو موصوف به مع كدر. إذ لا يجوز أن يكون أكثر من كونه بشرا، وإلا انطفت فيه جذوة الالتزام بما أوجده اللطف معه أمرا، واختبارا. وهنا يسافر الصوفي بين مجاهل الاختيار، ولا يدري إلى ما سيؤول إليه من قرار، إذ هو وإن كان ابن وقته، فلا يعني عنده شيئا سوى أنه نسخته، ولو كان ذلك نفسا يقرب به المسافات المتلاشية بين عينيه، إذ لا يدل ذلك إلا على انتقاء سبيل محدد للوصول إلى الحقيقة، وإن جاهد ما يحرك أغصانه من مفاتن الطبيعة، ويبعده عن دائرة الظل التي رسمها لأفياء النهاية، لأنه لا يريد إلا أن يدرك مفتاح الحلقة المفقودة، فيأتيه من المعرفة بالنفس والزمن ما يشفي الغلة، بل من غبن المطالع يرد عليه ما يبقي جرحه منبثرا، وهو يحتاج إلى علاج لا يصيره منبطحا ولا منكسرا، فيستحوذ عليه من علامات البؤس ما يجعله كسيرا. فما هو العلاج الذي يسعفه في نفي الازورار عن دائرة النور.؟ هل في استيعابه للفكرة التي تكرهه على الاختيار.؟ أم هناك سر آخر، ينتظر منه أن ينفض الغبار عنه باستمرار.؟ ولعله إذا استطاع أن يفقهه، ملك مغلاق بيت سره، لأنه في تلك المرتبة، سيخرج من حمأة التعدد إلى عين الوحدة، وهناك تنشأ نظرية المعرفة عند الصوفي تامة، وتأتي منه كاملة، لأن معارف الصوفية ليست كما يراها قوم أنكروا التصوف تفصيلا، وجملة، فقالوا بالتلفيق في النظرة، والتحريف في الفكرة. بل هي التدرج في السير نحو المثال الجامع، والمقام الساطع، وهم لم يجعلوه بداية للسير البارع، بل هو المآل الذي تعود إليه علامات النهاية، والعودة المبرورة إلى السيطرة على الذات الفتية. وحينئذ يتجلى مسمى العلم حقيقة، لأن إدراك معاني النفس في الرسوم المقابلة للمنزلة، هو إدراك لكل شيء يمشي فينا بجهد، وقوة، إذ هي ماهية الجسد في رأي، او هي قدرة الذات على السير والجري، وكلاهما لا يستقيم الأمر به إلا بإدراك الصوفي لدلالة واحدة، وطيه لشتات المعاني في بؤرة معينة. لأن النفس هي الأرض التي تتراقص عليها كل الأمارات الأخرى، والمنزل الذي ينطوي على صفاء المورد المرتجى. والوعي بها عند اقتضاء العهد لتمام الوفاء، هو الإحساس بالمجال الأكبر الذي هو مسرح الأقوال والأفعال بلا اجتزاء، بل هو المكان الذي نتوطنه بأحلامنا، والمنبت الذي تنفجر منه أوهامنا، إذ ما هو بأوضح صيغ الأحاديث إلا نفس جامعة لأنفاس تحتضننا في حقيقة واحدة. وزعمنا أنها لا تقبل الكثرة، وهي لم توجد في أصلها إلا لتعددنا، هو الذي يغذي تميزنا عن غيرنا، وأي عزوف عن هذا المعنى المبدد بين أساطير أنظار عقولنا، سيجعلنا نفقد سيرنا الموصول حبله بالسماء الممتدة في أفق نظرنا، لأن الأرض عند اشتداد الحاجة إلى الظلال الذي تغرقنا في سبات الألم، ما هي إلا وأد لكل الحقائق التي تفصح عنا بواضح الكلِم. فالوحدة التي لا تقبل الكثرة هي النفس المنبثة في الأشياء التي نكسبها قبل أن نكسبنا، وهي التي نحرث بسيط حياتها بزروع أمانينا، لكي نجني منها المعنى الأكمل في الحقيقة المحبرة بين ظنوننا، وما لم نع ذلك بتمام اللغة التي نعبر بها عن معانينا تحصيلا، فإن الفهم لما تناثر على الحضيض سيكون مشتتا، ومبلبلا. إن الحياة تتضمن كل ما يثري فينا مادة العنف والصراع والمأساة، لاسيما ونحن نجتاز على براري الألم عبر المراحل المختلفة، فسواء ما ترك فينا معنى مخزيا يغدو وجوده إلفا مألوفا بيننا، أو ما خلف فينا كراهية منبوذة في أحوالنا، أو ما نتج عنه ارتياب يحيرنا في سلوكنا، فكل ذلك يحفر أخاديد العناء في سوي أنظارنا، وينقش على ملامح الوجود صورة منكوشة بين أعيننا. وما دمنا ننتظر عودتنا المحمودة إلى ذلك الأمل المكنون في أعماقنا، ونعشق أوبتنا إلى ذواتنا بعد حوبتنا، ومنذ أن خبرنا موارد قوتنا، ووجدنا أننا لا نمتلك إلا طاعة الاستسلام لذلك الأمر العظيم الذي لا نطيق أن نحمل منه إلا اليسير في طاقتنا، فإننا سنعيش هذا الضجر الذي يزايلنا أحيانا، فنرى أن ما نعانيه من مأساة بين الدروب الصادعة بالصدود، سيكون له في صوغ أفق استشرافنا حد من الحدود، وإذ ذاك نحس في نهايته بأننا صرنا سعداء، وغدونا نودع العناء، وكأننا نشعر بأننا نبني لنا قبة التآخي على مهاد الصفاء، ونهدم كل شاخص يحول بيننا وبين الوفاء. وأحايين كثيرة تصير أوضارها حقيقة، لا نرقب لها في مطلوب الشوق نهاية، بل نتيه في تصريف ضرورتها، ونحتار في تدبير صروفها، لعلنا نخلد إلى لحظة سارحة معها، تشعرنا بأننا فرادى على أرض لا تنبت إلا أشواك الغربة، ولا تحيي في رميمنا إلا إياس الوحشة. وهنا نسير سيرا متعرجا في الطريق الدني، لا لرغبة في المشي، وإنما لتدبير شأن ارتباط الأرض بما كمن فينا من صلصال، وتيسير المرور نحو الفناء بين ظلمات بطنها المترع بالغوائل. لأننا ما لم نتقين بأن زمام الحياة لا ينقاذ إلا لمودع لزوالها، وموقن بأنه لا يملك فيها إلا ما عن له منها، فإننا سنضجر لما يعتري تعاقبه فينا، وسنكل مما نجابهه من صلادة راسخة معها، إذ ما حقه الثبات في أصله، لا ينفذ إليه ما كان التغير جوهرا في كنهه. وإذا كانت هذه حياة الإنسان في النظر إلى المعاني المتوارية وراء الأشياء المحسوسة، وهو ينطلق من المعلوم إلى المجهولات الخفية، ويتحرك من المعلولات المعقولة إلى الوجدانيات المخزونة في مكنوناته المستورة، فهل الصوفي جعلها جنته، أو محل أمانه.؟ لو جعلها هكذا في وضع صورة لسمات نفسيته، فإنه قد حد مساحات الحديقة بحواس مترعة بحيوانيته. وإذا فعل ذلك بمقتضى نزيف رغباته المكبوتة، كان جهده موضوعا لخدمة ذاته بزوال روحه المحرومة، وإذ ذاك يكون التصوف قانونا يتوسل به في البقاء، لا موردا يحرره التأمل لموضوع الفناء. وهل نتجت حيرة الإنسان إلا من لهب أوتار شهواته، ودفق أوصال رغباته.؟ أجل، إذا انتفت هذه المؤثرات التي تعتبر ضرورة في مخاض الحياة المترعة بالغرائب القصوى، حاص الحظ في تقدير حقيقة المعنى، وحاد بنا الباطل نحو المجاهل الغائرة المغنى. وهل الشهوة إلا معنى الرغبة في الخلد، ومنتهى الشهوة في الوكد، لأن ما لم ننله منها بالسعي، والكد، هو الراغب في الطلب، والظاهر في الجلب. وما دام ذلك لا يتأتى منه إلا جوهر الوجود لها، وسواء أنكرنا ما يصدر عنها من قيمتها، أو عبدنا ما تسبله علينا من وهج حرارتها، فإن فيها معنى البقاء، وسر العناء. وهل الخلد إلا معنى مستحر في كل شيء قائم بلا غطاء.؟ هذا المعنى قد أدركه الشيطان حين أصر على لفظ الرفض، فكان منه الاستنكاف الذي هو حظ الأنا على بساط الأرض، وهو الذي لم يدرك فحواه آدم إلا حين أغراه الظفرُ به، فكان منه الهبوط إلى عالم آخر معلول بشرور ذريته، وموجود للاستقرار إلى حين يفني كل ما هو بارز من أفراحه، وينتهي كل ما هو صارم من أتراحه. ولذا، يكون الصوفي مزدوج الحقيقة بين رباعية المعاني المكونة لهوية شخصه، والمحددة لمعالم أثره، لأنه يستحضر أولا حقيقة الألوهية القائمة بالأمر، وهو لا يستدل بذلك إلا على تفرده بالاعتبار، ويستحضر ثانيا جمهرة الملائكة في خشوعها المجلل بالهيبة، وهو لا يستدل إلا على حال الطهر حين تنتفي عن مقامه عوارض الاعتراض على المنة، ويستحضر ثالثا اغترار إبليس في جمال الربوبية، وهو لا يستدل إلا على وجود الضدين في عالم الطهرانية، ووقوع المشيئة فيه على الاختيار الفردي لمعنى الحقيقة، ويستحضر رابعا آدم في قدس تميزه، وخشوعه في حضرة ربه الذي خلقه لحيازة أرضه، ورعاية سمائه، ثم يستجلي من المقام كيف سمع الكلام من عوالم الملكوت بلا تورية، وكيف نسيه عند اجتراحه للخطية، وهو فيما يصوغ من معان تدبر شأن الخلق، لا يستدل إلا على مقام العبد في حضرة الحق، وكيف أهبط من علوه إلى دنو الحرج، والضيق، ثم كان من ذريته الإفساد بين الحمى، وسفك الدماء بلا هدى. وحينئذ يشهد بقاء الصفة على موصوفها، وصفاء الذات في رقيها إلى محلها، إذ لو حازها من إدراك إبليس لمعنى السجود الذي رفضه رغبة في حرية الذات وصونها، لما بقيت دقائق التوحيد مقدسة في رهبوته، ومسبحة في رحموته. وهنا تتلاءم هذه الرباعية في الحضرة الإلهية عنده، وهي في نهايتها صوت الله والملاك والشيطان والإنسان في عمقه، ووسم الحقيقة لهذا المخلوق المتماسك في جوهره المقدور له. وهو في ذلك الالتفاف لا يعاني من مأساة مصيره، ولا يتألم من مقارعة مسيره، فيكون كالشيطان الذي رفض السجود تنزيها لربه، ولكنه قبل به تقديسا لمعناه في ذاته، وإنما يتألم من غربته التي استوحش بها ظاهره، وغدا بها حريصا على باطنه، لأنها محل النزول إلى حضيض الشرور الآثمة، وموئل الصعود إلى نبع الأنوار الساطعة، وذلك ما يردده الصوفية حين يقول بنفَسه: من عرف نفسه، فقد عرف ربه. إن محاولة الإفلات من المصير المشترك بين الناس، وهو الشعور بلحظة الموت، والإياس، لأنهم يرونها تنزع منهم أغلى ما يملكون في الطبيعة، وهو الحياة لهذا الجسد الذي لا يأتي عليه الزمن إلا وأذله داعي المرض، والشيخوخة، هو الذي جعل الصوفي ينظر إلى شيء يتعلق به، ويشد على حبله، ويقبض على أمره، لأنه في جلائه خفي، إذ لا يدرك إلا بشهود قوي، وما لم يكن له عليه دليل، فكيف سيرد عليه من باب عقله العليل. وهنا يجد سؤال الحياة المترع بالإجابات الغامضة مجالا لكي يحدد الرؤية نحو الكون، والطبيعة، والإنسان، لأن الانطلاقة من ألوان زهوها هي الأساس للبنيان، وهي التي نتميز بها عما سوانا، إذ لا فصل بين المعاني إلا في تقديرنا، ما دمنا نحس بأننا ملزمون بالرضى عن فروض ما نعيشه، وسواء فيها ما كرهناه، أو ما رغبنا في نواله، لأنه هو الذي يجسد حقيقتنا في الوجود، وهو الذي نحفد إليه من تجليات الشهود. لكن اختلف الحظ عند من فرق بين الأمر الإلهي، وبين المشيئة في الاختيار البشري، فإما آخذ بالأول بلا نظر إلى التالي، وإما قابض على حدود الثاني، وكلاهما يرسمان بداية النزاع الإبليسي في السماء، ويحددان أثر هذا الجدال في عالم الأرض المضرج بالنزوع نحو البقاء. ولهذا اقتضى الفصل فيما بين الآثار، أن نعرف حدود ما هو كامن فينا من أمر، وما يعن لنا من مشيئة في القدر، لئلا تضيع اللحظة التي نؤمن بأنها متسامية، ونخال النسبة إليها متعالية. إذ معرفتها في الذات الفتية، هي معرفة لله بالحقيقة، وإلا كان الأمر حاصلا في القدرة الأزلية، وواقعا في الدائرة الآدمية، وإن كنا نخالف المشيئة في ترتبيها للقانون الأمثل الذي يحدد أفعال حياتنا المختلفة. وهنا يكون الصوفي منتهجا لشريعة الذات التي هي أفق الضرورة في المعرفة العرفانية، وهي الكامنة في الأنفس إذا نالت فضل البصيرة، "وفي أنفسكم، أفلا تبصرون." لكي يستخرج منها المعاني الإلهية القائمة فيها، والمباني الطبعية الممتزجة معها. وإذا حصل ذلك بتمام الإدراك لها، قامت فينا المعرفة بمعاني الربوبية، ومرامي الألوهية. لعل نسيان الإنسان لكنه الأصلي، ومهده الذي نشأت فيه روحه قبل أن يكون أثرا لحوادث تتعاقب عليه بالتوالي، هو الذي سبب كثيرا من الانحرافات التي أدت إلى التشظي، وأودت في العلاقات الإنسانية بالأمل الرضي، لأن نسيان اللحظة التي أرخت لبداية الصراع في عالم السماء العريض، هو الذي يجعلنا نظن أن فعل الشر طارئ على الإنسان ذي المنزع المتعارض، ولا علاقة له بحدوثه، وأي خطا يقع في سلوكه، ما هو إلا نتيجة منحرفة في سيرة ملزومة لفكر متباعد عن الحقيقة المتجلية عليه. وذلك ما يقول به الفكر الديني في لحظته، ويعول به لسان الوعظ في غفلات أوطاننا، وكأنه الصورة الحقة التي لا تقبل الجدال عندنا، لأن تحديد انحراف الإنسان في مروره على طرق غير معبدة بالخطوات السليمة، هو الذي يمنحنا التبعيض في محل لا يقبل إلا الأشياء الكاملة. ومن هنا يكون التجزيء للفعل الإنساني محضنا لفعل الانحراف الذي نحاربه، ويصير التبعيض حقيقة للاستواء الذي نقصده. ولا شيء أضر بالذات من محاربتها للشيء بالشيء عينه، لأن الانحراف لا يقاوم إلا في الصيرورة، لا في الفعل الذي يكون كثير منه قدرا محتوما على البشرية. وهنا لا ينتج الانحراف من الحائدين عن الصراط المستقيم، بل أظهر وجه فيه عند ابتغاء الكمال، والتمام، أنه ينشأ أيضا من الأسوياء الذين لهم سبق فضل، وغدوا مع الزمن المفجوع أهل منة، ونبل. ولذا فإن تصور جماع مادة الانحراف في دائرة الأشقياء، هو مغالطة فجة يجادل بها من اغتال ناموس الأسوياء. إذ النظر يقتضي عند العودة إلى المعنى الأول، أنه نتج في سيرة إبليس حين استحال رفضه للسجود رد فعل عنيف بين روافد الأمل، توقف فيه عند حدود الأمر، ولم يقبل بالمشيئة التي اقتضت أن يكون الفعل سويا في النظر، ومهما بدا منحرفا في الخبر، لأن السجود في أصله الذي وضع معه المعنى على مسماه، لا يكون إلا لله. وتلك هي الأوامر الأزلية. وأي سجود لغيره زيغ عن الحقيقة. وهنا توقف إبليس عن الفعل لعدم إدراكه لمغزى السجود في المقام الإلهي، وهو قيام المعنى في المشيئة بالأمر الأزلي. وأي فصل بينهما، لن يؤدي إلا إلى الاستكبار عليهما. وذلك ما حدث في رفضه، فقد أبى، واستكبر، فلم يقبل بالمشيئة التي أرغمت الجباه على السجود له بشرع الأوامر، ولو في صورة تجسد لنا أنها انحراف عن حقيقته، وهي في عينها ذات توحيده. وهنا كان الاستكبار معنى نشأ من اعتقاد الذات كمالها في قدس من لا وجود لها إلا به، لا استكبارا يدل على الخيلاء في حضرته، إذ المقام ليس محلا للزهو، ولو غفل عما فيه من علو، لما ترامى نظره إلى ما في عمقه من غلو، بل هي الغفلة في محل العلم، والمعرفة، والتشدد في محل السماحة، والبساطة. وهكذا ينزع المتشددون منزع الشيطان في الاستبداد بالأمر الديني، وهم ليسوا إلا منتحرين بما لم يؤولوه من معان لم تكشفها مجازات الكلام الأزلي. ويتجلى ذلك في كل فترات التاريخ البشري، ففرعون حين قال مجاملا بالصفاء الذاتي: "إني أخاف أن يبدل دينكم، وأن يظهر في الأرض الفساد،" لم يكن إلا متشددا في إصلاحه لإيالة أراد أن يكون ربها الأعلى بإخلاد. لكنه ولأمر ما تحول الرب إلى إله في صورة فرعون الشقي، لأنها ستنبني عليها كثير من قيم الفساد التي نشأت في مجتمعات بني إسرائيل، إذ بدونها لن يكون هناك أثر لكثير من الأحداث التي كونت العقل اليهودي الأصيل، ورتبت مع استمرار الصراع صميم العقل المسيحي، وأثرت بقوة منطق ماسكها على العقل الإسلامي، لأن لغة الخلاص في صولة الإنسان، لم تنشأ إلا من الشعور بالظلم، والطغيان، ولم تكبر إلا في محيط يهين الطبيعة، والإنسان، وهي الدالة على تلازم ادعاء الألوهية للجبروت، والعدوان. وهنا يكون فعل الإله مطلوبا، وحرص الإنسان عليه مرغوبا، لأنه هو الصورة المثلى التي يبحث عنها في خاصته، وهو هتاف الحرية الذي يرفعه مع المنبوذين والمحرومين في مجتمعه. إذ لا وجود لفعل العدل في الحق والواجب إلا إذا تعارك عليه الفريقان، فذا يحرره من العدوان، وذاك يجره إلى كسب كنهه بلا إيمان. ومن هنا، فإن رجوع إبليس إلى خلق الاستكبار، وهو قد قارن بين لغات الأخبار، وقاس بين أعيان الآثار، واستدل بعجزه عن الفعل على الجبر، واكتفى بعدم قدرته على كسب الاختيار، ثم فصل بين الأشياء المتجاورة في معدن اليقين عند حقيقته، هو الذي كان سببا في إغواء آدم بنصحه، والتدليس عليه في قسمه، وهو قد شهد كل الحقائق التي ابتدأ الفعل الإلهي وجود ماهيتها بالمشاورة، وأقام البراهين على المراد منها بالمحاكمة، ثم ختمها بإهباط آدم إلى عالم الكدورة، ومعه الذي أخرجه من مقامه بأمانيه الكاذبة، لكي يفارق قدس الملاك الذي يفارق دنس الخطيئة، ويصاحب مظهر الانحدار بين دروب وصمت بالرديئة. لكن الذي ميز آدم في ضرورة ناسوته، هو عدم تجاوز ألم ندمه إلى المجادلة على فعله، بل كان انكساره في محل الهيبة خنوعا منه، واعترافا بخطئه. ولو لم يتب مما أحدثه في جنة الطهر بفطرته، لكان الشقاء في واضح ظهوره مآلا لمصيره، لأنه لم يبرز على عدوه إلا لكونه لم يستكبر، ولو استكبر في التقدير، لقاتل إبليس غضبا على ما فقده في مقام التدني، وإذ ذاك ستنتهي ثنائية الخير والشر في العالم الأرضي، لأنه بدون اتصافه بما وجد له من أمر، لن يكون مولدا لتناقض أسرار البقاء في جنس البشر، ولن يصير موردا للشيطان المنتحل جنده لصفات الأخيار، ولا مهبطا للملائكة المتواردين على الديار بالأسرار. وهنا ماز عن غيره، وفاقه، وفاته، لكي يخلص لما وضع فيه من صراع، وما أنتج في دائرته من نزاع. فالله معه في سره، وعلنه، لأنه قد منحه الحياة بلا رغبة منه، وإبليس يعيش في خياله، ويترنح في وهمه، وهو الذي أغراه بالحياة الفانية، وأغواه عما نقش في عمقه من المعاني الخالدة، لئلا يظن الإنسان أنه مدرك لحقيقته، فيكون معرضا لما تمليه عليه غرائر قوته، وحدته. وكلاهما معنى للصلاح، والفساد فيه، إذ لا يستقيم المعنى في سيره إلا بضده، ولا ينتهي إلا حيث يبتدئ فيه غيره. وكل جهد فيما يقدمه، أو يؤخره، إنما هو لتحرير الذات من أغلالها، وآصارها، لكي يعود إلى الأصل الأول الذي يستحق به حظوة السجود بلازم الأوامر الإلهية القاضية بسموها، وعلوها. وهكذا، فإن ما وقع فيه العقل الديني من حروب حول جدلية التوحيد، هي من حصاد تلك الحرب التي ابتدأها إبليس حين اعتقد تمام المعرفة بإيقاع السجود للواحد دون ما سواه من العبيد. وهنا كان إبليس معتنقا لفكرة التوحيد بمفهومها الجبري، ومحمولها القدري، لأنه لم يكن متعرفا على حدود المعاني في القدر الأزلي. ولذا يكون الإنكار على تجليات المشيئة في مصاديق الأمر بأنماط تدل على اختلاف الموارد وتعددها، وتؤكد على وجود الحقيقة في تنوع المصادر، وتباينها، هو الذي أغرى المتشددين على جحود معاني التصوف بين مدلولات المعرفة، فخالوا ما عبرت عنه العادة من أنواع العلاقة مع المطلق خروجا عن التوحيد، وهو معنى غائر في القلب الذي يبحث عن كنه التفريد، لا مبنى ظاهرا يعطل ظواهر الكثرة في مسمى الوحدة الموسوم بالتجريد. ومن هنا، فإن اليقين بتكاثر صور المعاني، وما يستلزمه من تنافر طرق الارتباط بالحقيقة المقصودة باختلاف المساعي، لن يصرفنا عن طبيعة التوحيد التي تآلفنا على حدودها في تمييز الأذواق، ما دامت معاني الواحدية تنفجر بين طيات الأعماق، وتنجلي بها غوامض الحقائق، لأن أسمى مظاهر معالم التوحيد، هو في تنوع المورد، وتفرد المقاصد. إذ لا تنصهر حقيقته معنا، إلا إذا أيقنا بأننا نبحث في بحر العدد، عن معاني الامتداد، لكي نصل إلى أصله الذي هو محل وجوده، ومكمن قوته. إن الصوفي في كبده، يواجه عالم أرضه، لعله يتخلص منه، وينجو من علائقة الآسرة لجسده، وينازل غموض إسرائه نحو السماء، وهو بذلك يستفتح ببراق سيره بابا من أبوابها الشماء، ويستهدي في جمالها إلى مركز النور الفياض على الكون، والمتفجر في الإنسان بالاستخلاف على الأبدان. ومن هنا، يكون الصوفي مجسدا لقصة رمزية في تاريخ الديانات، وهي قصة الإسراء والمعراج التي يتم بها كمال المقامات، لأن معاني الوصول مختلفة من حيث كونها طرقا متعددة، تؤدي إلى نتيجة موحدة، وهي القرب من الحضرة الإلهية، ولكنها متحدة من حيث كونها غايات المسير نحو المصير المشترك بين البشرية. ولذا كان لكل رمز ديني في التاريخ الروحي الإنساني سير، وبراق، ومعراج، لأن ذلك يكشف نوع السلوك المستظهر للحقيقة بطرق من الطرق المعتبرة في الصعود، والعروج، ويوجه السير البشري إلى الالتفات نحو وجهة واحدة في النهاية، وإن اقتضت الحرية الإنسانية تعدد السبل في البداية، لأنها هي المحيطة بكل الأفعال الطارقة لباب السماء، والداخلة إلى بحبوحة السناء. وهذا مما يستوي فيه الخلق جميعا على السواء. إذ لو نظرنا بعين الحقيقة إلى ما نيلت به جواهر المعرفة من مسارب متباينة، فإننا سنجد الإنسان لم يتعب إلا في استظهار هذا المنفذ الذي تصير بها الأشياء بمعان محبوبة، ودوال مرغوبة، ولم يضجر إلا لكون الطرق محفوفة بمخاطر تصده عن وجود سبيل يتعلق فيه بأهداب الحقيقة الجامعة، عساه أن يكسب تلك الخاتمة في النهاية الكاسرة. يتبع
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -7-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -6-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -5-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -4-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -3-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -2-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -1-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -5- الأخير
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -4-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -3-
-
تنبيهات وتعليقات -2-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -2-
-
تنبيهات وتعليقات -1-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -1-
-
مبهمات الذاكرة
-
العلم حين يصير صناعة (الأخير)
-
العلم حين يصير صناعة -الأخير-
-
العلم حين يصير صناعة -5- الأخير
-
العلم حين يصير صناعة -4-
-
العلم حين يصير صناعة -3-
المزيد.....
-
حماس تعلن مقتل 4 من مقاتليها بغارات إسرائيلية في الضفة الغرب
...
-
-5 شبان يمارسون التأمل-.. مقطع فيديو قد يفك لغز حرائق كاليفو
...
-
-أيها الدموي.. يا وزير الإبادة- هكذا قاطعت سيدتان خطاب أنتون
...
-
سفن -أسطول الظل- تتحدى العقوبات الغربية وتحافظ على تدفق الأم
...
-
عرض نتنياهو لا يُفوّت.. ما هو ثمن بقاء سموتريتش في الحكومة و
...
-
زيلينسكي يزور بولندا لحل قضية استخراج رفات بولنديين قتلوا عل
...
-
أردوغان يطالب إسرائيل بالانسحاب من أراض احتلتها ويتحدث عن أك
...
-
فيتسو سيحضر احتفالات 80 عاما على النصر في موسكو على رأس وفد
...
-
رئيس بردنيستروفيه: روسيا ستزود بلادنا بالغاز كمساعدات إنساني
...
-
تقرير يتحدث عن شروط مصر لتطبيع العلاقات مع سوريا الجديدة
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|