|
قصة قصيرة: سنوات الكلب والنباح
عبد الرحيم التوراني
صحفي وكاتب
(Abderrahim Tourani)
الحوار المتمدن-العدد: 5419 - 2017 / 2 / 1 - 22:11
المحور:
الادب والفن
صباح الأحد، نزلت وكلبي أميغو إلى البحر. كنت أمشي مرحا مثل طفل، أخطو فوق رمال الشاطئ الناعمة البليلة، متلذذا برذاذ الموج، الذي كان يصلني باردا، تلامس حبيباته المالحة وجهي الحليق. وأميغو يمشي خلفي حانيا رأسه، أنفه الأسود المدبب ينشط مثل جهاز كشف معادن أو كآلة كسح للألغام. يشمشم ما تحت أرض البلل. فجأة ظهر شاب بلباس رياضي، يتبعه كلب، كلب من سلالة "الراعي الألماني". ما أن وقعت عينا أميغو الجميلتين على سليل الألمان حتى قصده لاهثا. من فترة لم يلتق أميغو سوى بالقطط، هررة لا تثير فيه أي رغبة لمشاكستها، هذه المرة يصادف صديقي كائنا من بني جلدته. لكني رأيت الكلب الآخر يهرب مختفيا وراء صاحبه. كان أضخم قليلا من أميغو. وأنا جريت صوب أميغو ونهيته عن التحرش بمن لا يعرف. - لا يا أميغو.. تعال.. عيب.. لا تفعل... تراجع... هيا سندخل... وأميغو لم يكن هنا ليسمع ويطيع. أخذ يلهث قافزا فرحا بالكلب. وانقطع فجأة حبل التواصل فيما بيني وبينه في لحظة عائمة. - أميغوووو... أميغوووووو... جرى الشاب هاربا يسبقه الحيوان الألماني، وأميغو يلاحقهما كسلوقي وراء طريدة. ظللت واقفا في مكاني، مراهنا على صواب أميغو وعودته لي. لكن ظني خاب. عندها مشيت في الاتجاه الذي سلكه الشاب ومعه الكلبان. مشيت بعيدا على الشاطئ أفتش عن أميغو، صائحا بأعلى صوتي باسمه، لعله يسمعني ويعود لندخل إلى البيت، كانت صيحاتٌ في واد، ولا حياة لمن تنادي. غربت شمس النهار وخارت قواي. لم يفدني أي واحد من القلائل الذين صادفتهم. لا أحد منهم رأى كلبا يشبه أميغو على امتداد الشاطئ، ولا شاهد الشاب الرياضي وكلبه الألماني. رجعت منهكا حزينا خائبا. اتصلت ببعض أفراد العائلة وبأصدقائي القريبين، أخبرتهم. نشرت على حائطي بالفيس بوك إعلانا عن تغيب أميغو مصحوبا بصورته المفضلة لدي. هي نفس الصورة التي طبعتها على ملصق صغير ووزعتها على المارة بالحي، وألصقتها على أعمدة الإنارة في الشوارع وعلى جدران الأحياء القريبة من الشاطئ. *** إعلان كلب مفقود (صورة أميغو ملونة) ضاع مني كلب من سلالة بورزوى اسمه "أميغو" بشاطئ عين الذئاب بتاريخ كذا ... الرجاء المساعدة في العثور على هذا الكلب في حالة العثور يرجى الاتصال برقم الهاتف: ... *** صرت كلما رن هاتفي أسارع للرد، لعل خبرا سعيدا وصل بالعثور على أميغو. أخبرت كذلك مصلحة الشرطة، وهناك رأيت عندهم كلابا بوليسية تشبه كلب الشاب الرياضي الذي صادفته في الشاطئ. وتساءلت في سري كيف يتحول الذئب إلى راعٍ ثم إلى بوليسي؟ إن الله لم يخلق الكلاب عند بدء الخليقة، لكن الإنسان هو من دجَّن في العهود الغابرة قبائل من الذئاب وحولها إلى كلاب، وزرع فيها قيم الصداقة والوفاء واللطف، حتى صارت بعض الكلاب أصدق وألطف وأوفى من بني البشر. سخر مني الكثيرون. توصلت ببلاغات كاذبة عن العثور على صاحبي، عرض علي البعض شراء كلب من نفس السلالة، أما والدتي فعزتني: - البقية في رأسك يا ولدي.. اللهم في الكلب ولا فيك يا ابني... - أنت لا تفهمين ما معنى علاقتي بأميغو يا أمي... أشارعلي آخرون أن أخصص مبلغا ماليا مهما لمن عثر على أميغو، وكذلك فعلت، وساعدتني صديقة قديمة تعمل في راديو محلي على إذاعة بيان البحث عن المتغيب، أي البحث عن الكلب المفقود. فتشت في الدروب والشوارع الخلفية، وفي أسواق بيع الكلاب من دون جدوى. مرّ شهر بالتمام، لم يعد خلاله أميغو إليَّ. زاد حزني أكثر، لم أتوصل إلى سر لغز الشاب الرياضي وذئبه الراعي البوليسي. وأميغو من سلالة البرزوى، لا أعرف مقابلها ومعناها في لغتنا، برزوى لطيف وأنظف من قطة، أخذ صفة القوة من جده الذئب، وصفة الوفاء من بعض أنبل البشر. ورغم مظهره الخامل أحيانا فهو رياضي بلا منازع. لم أتوقف عن مشاهدة ألبوم صور أميغو، وإعادة تشغيل الفيديو الوحيد الذي سجلته له مرة ونحن تحت أشجار الكاليبتوس الباسقة في غابة بوسكورة بضواحي الدار البيضاء. كنت أتفرج على الصور والشريط كأني أتعرف لأول مرة عليه. واكتشفت أن كل ما في أميغو أجمل وأروع مما كنت أظن وأعتقد. في الأسبوع الثاني من الشهر الثاني، توصلت بمكالمة من مجهول يساومني على مبلغ كبير إن أردت إرجاع أميغو المخطوف. قلت له أريد أولا أن أراه، فأرسل إلي فيديو على الوات ساب يظهر فيه أميغو وأمامه عدد مؤرخ بنفس تاريخ اليوم من جريدة "الشرق الأوسط". وكان العنوان الرئيسي على صدر الجريدة السعودية يقول: " معارك الفرصة الأخيرة: "المعارضة والنظام يتطاحنان في حلب"، لكني قرأت الحاء كافا. مما زاد من حزني ومن خوفي على أميغو. أخبرت البوليس، الذين قاموا برسم "أوطو بورتري" للشاب الرياضي وفق المعلومات التي أفدتهم بها عن ملامحه وشكله. عاد الشاب الرياضي الخاطف، في ساعة متأخرة من الليل، إلى تهديدي بقتل أميغو لو أنا تماديت في التماطل، وأخبرني أنه على علم بمخالفتي للاتفاق وإشعاري البوليس. قال لي بلهجة قاسية: - لن يعيد البوليس الروح لأميغو عندما تجده مشنوقا على عمود نور، أو لما أرسل إليك رأسه المقطوع. ثم عمد إلى إسماعي نباح أميغو، نباح استغاثة وتوسل. وأقفل بعدها السماعة. يومها بكيت كما لم أبك من قبل. أتمنى من كل قلبي أن لا يصيب أحد منكم ألم فقدان حيوان عزيز لديه. ما أقساها من تجربة فظيعة، لا يحس بها سوى من تم تغييب أعزائهم وذويهم خلال الحرب، أو في المعتقلات السرية زمن سنوات الجمر والرصاص، أجزم أن التجربة القاسية الأليمة هي ذاتها. تم اعتقال صاحب التهديد، واتضح للأجهزة الأمنية أنه مجرد عاطل يائس لجأ إلى النصب والابتزاز. وبعد أن تمكن اليأس مني، واستأصل مني كل أمل، سلمت بالقضاء والقدر، فوجئت ذات صباح مبكر بعودة أميغو، أو ما بقي من أميغو. كان شبحا، نحيفا وجائعا وقذرا، غير قادر على النباح. ما أن رآني حتى انحنى عند قدمي باكيا. أخذته إلى المصحة للاعتناء به وإعادته لي كما كان. أخبروني أن من خطفه سرق منه بعض الأعضاء. أعضاء تصلح للاستعمال في أعمال السحر والشعودة أو تليق لزرعها في أجسام البشر، لكنهم لم يحددوا هذه الأعضاء، وأنا لم أرد أن أعرف. ظل أميغو بضعة أيام في العناية المركزة قبل نفوقه، وساعة نهايته حكت لي عاملة المصحة أنه تكلم ونطق بلغة بني آدم. قالت: - يا للعجب العجاب، سوف لن يصدقني أحد إذا قلت إن كلبا تكلم بلغة البشر.. - هل تذكرين شيئا مما قاله المرحوم أميغو..؟ - ربما تكلم عن فاكهة الرمان.. إذا أسعفتني ذاكرتي.. - ليس الرمان بل الرماني... ردت عاملة المصحة بالإيجاب: - معك حق.. الرماني.. قال.. قلت للمرأة: - ذاك اسمي... ثم ماذا قال حبيبي أميغو...؟ - نطق وهمهم بكلمات غير مفهومة.... - حاولي.. رجاء.. حاولي التذكر... - كلمات مثل... الظلم.. أو الظلام.. القتلة.. ثم نبح نباحا قويا وسقط هامدا. لما حكيت هذه الحكاية لبعض الناس اتهموني بالجنون. - كيف لكلب أن يتكلم..؟ وقال أخي الكبير: - عد إلى رشدك يا ابن أمي وأبي، الكلاب لا تتكلم لغتنا ولا يمكن لها ذلك، بخلاف هذا يمكن لك أنت أن تنبح. وفاء لأميغو قررت أن أتخلى كل مساء عن الكلام، صرت أغلق علي غرفتي ليلا وأنبح وأعوي مثل كلب أو كذئب جائع. صار الجيران يظنون أن الذئاب تهاجم ليلا المنطقة. هذا يعني أني نجحت. عوائي تحسن أكثر، وربما دنوت من التحول إلى ذئب أو على الأقل إلى كلب متأصل من ذئب أصيل.
(الدار البيضاء، المغرب)
#عبد_الرحيم_التوراني (هاشتاغ)
Abderrahim_Tourani#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دم بكل الألوان
-
القمقوم
-
رؤوف فلاح.. فارس يترجل ...
-
امرؤ القيس في درب مولاي الشريف
-
عليكن الثامن من مارس إلى يوم الحادي والثلاثين
-
آلام -شوك السدرة- تصل إلى المنتهى
-
قبْرٌ.. وبِأيِّ ثَمَنْ؟
-
خبر مرعب
-
سيدة غرسيف
-
قص: المعنى
-
إدريس الخوري بخير..
-
اعتقال قابيل وإخلاء سبيله
-
وسام على صدر -زعيم- المليشيا ( التكريم الملكي للكاتب المغربي
...
-
هزيمة حارس المرمى
-
اقتراض زنزانة
-
شيء من الذاكرة.. حول انتفاضة 20 جوان 1981 الدامية بالدار الب
...
-
ق.ق.ج: حساب
-
قصة واقعية: حكاية داعشي في قطار فاس - مراكش
-
بصدد منع فيلم حول دعارة الخليجيين في المغرب: -الزِّنا اللِّي
...
-
(بمناسبة خطبة الوزير الحبيب الشوباني والوزيرة سمية بنخلدون)
...
المزيد.....
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|