|
32 الأديان الإبراهيمية ودعوى النبوة
ضياء الشكرجي
الحوار المتمدن-العدد: 5418 - 2017 / 1 / 31 - 00:48
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هذه هي الحلقة الثانية والثلاثون من مختارات من مقالات كتبي الخمسة في نقد الدين، حيث سنكون مع مقالات الكتاب الثاني «لاهوت التنزيه العقيدة الثالثة»، وستتناول موضوع (النبوة)، الذي يمثل القضية المركزية في الأديان الإبراهيمية، والذي يمكن أن يعبر عنه أيضا بـ(الوحي) أو (الرسالة).
النبوة (النبوّة) على وزن فُعولة بصيغة اللين، وبصيغة الهمز تكون (النبوءة)، ومنها (النبي) على وزن صيغة المبالغة لاسم الفاعل فعيل بصيغة اللين، و(النبيء) كما يعتمدها مصحف ورش بصيغة الهمز للمتنبئ بصيغة الهمز والمتنبي بصيغة اللين. كان دائما هناك المتنبئون، ثم استخدم مصطلح (النبوة) و(النبي) كتعبير عن الإنباء عن السماء، أو عن الله، أو عن الوحي المرسل من الله إلى الرسول النبي. وحسب اللاهوت الإسلامي، كل رسول هو نبي، ولكن ليس كل نبي هو رسول، فلا يكون رسولا إلا من ينزل إليه كتاب، كموسى وعيسى ومحمد. و(رسول) صيغة مبالغة على وزن (فعول) لاسم المفعول للثلاثي رسل فهو (مرسول)، بينما الفعل الصحيح هو رباعي مزيد على وزن أرسَلَ يُرسِلُ إرسالا، وليس رَسَلَ يَرسِلُ رَسلا، ومفعول الرباعي مُرسَل، وليس (مرسول)، لكن العرب استخدموا أحيانا اسم فاعل أو اسم مفعول أو مصدرا لرباعي على وزن الثلاثي، كـ(الصلاة) مصدرا للرباعي صَلّى يُصلّي تصلية، لكنهم جعلوا مصدرها صلاة. نرجع إلى موضوعنا فأقول لكون أصل التبليغ ليس إلا ممكنا عقليا، فإنه إن ثبت، تبقى طريقة التبليغ التي هي النبوة من قبيل الأولى، ممكنا عقليا، لا يثبت العقل المجرد تحققها، كما وليس بمقدوره أن يثبت نفيها [من حيث المبدأ والمفهوم، إلا إذا انتفت بوجوب نفي مصاديقها المفترضة]. دون أن يعني أن الممكن العقلي لا يثبت في الخارج، فأنا كاتب هذه السطور، كما وأنت قارئها، كل منا وجود ممكن، لكننا موجودان فعلا، ووجودنا متحقق في الواقع الخارجي، كما كان من الممكن أن أحدنا أو كلانا لم يكن قد خرج من حيز العدم إلى حيز الوجود أبدا [أو من حيز (الإمكان) النظري إلى التحقق الفعلي في الواقع]، كما أن كلا منا كان عدما لكل الزمن الماضي منذ الأزل حتى خروجنا إلى الحياة، وسينتهي وجودنا - على أقل تقدير بصورته الدنيوية الحالية - يوما من الأيام. والنبوة كما سنفصل أكثر من حيث المبدأ ممكن عقلي، تحقق ظاهرا عند المصدقين به، أو ادعاءً عند مدعيه، ولا بد من التثبت من تحققه واقعا وتصديقا، أي بمعنى التحقق مما إذا كان الأنبياء حقا مكلفين من قبل الله، مبعوثين، وموحى إليهم منه تعالى، أو أنهم مُدَّعون بها غير صادقين، أو هم صادقون متوهمونها عبر هلوسة أصابتهم، كما يدعي بعض منكري الدين، وبالتالي منكري النبوة العامة كمفهوم، أو بعض منكري دين محدد، وبالتالي نبوة خاصة كمصداق. ولذا فإن طرح السؤال عن النبوة؛ أواجب عقلي هي، أم ممتنع، أم ممكن عقلي؛ إن هذا يمثل سؤالا مركزيا للمذهب العقلي-التأويلي-الظني. [يبدو أني كتبت الموضوع خلال الأشهر التي اعتمدت فيها المذهب الظني عام 2007 أو في فترة الانتقال من المذهب الظني (أي الإيمان الظني بالدين) إلى عقيدة التنزيه (أي الإيمان العقلي اللاديني).] تبقى إذن مسألة النبوة من الناحية العقلية من الممكنات، فلا هي من الممتنعات العقلية كما يذهب إليه بعض اللادينيين، ولا هي من الواجبات العقلية كما يذهب إليه الكثير من الدينيين العقليين، ولذا فلا يقين فيها لا إثباتا ولا نفيا، بل تبقى قضية ظنية، من وجهة نظر العقل المجرد، أي المحايد دينيا [وبالنسبة لللاإلهيين أي الملحدين فالنبوة سالبة بانتفاء مقدمتها، أي الإيمان بوجود الخالق]. ولكن ربما يقال لخطورة القضية، لا بد من الالتزام بلوازم النبوة والوحي والدين، وترتيب الأثر على ذلك، وإن كان القطع فيه أمرا ممتنعا من الناحية العقلية. هذا بالنسبة للنبوة العامة، أي كمفهوم، أما بالنسبة للنبوة الخاصة، أي كمصداق، كنبوة إبراهيم وإسحاق وإسماعيل ويحيى وداوود وموسى وعيسى وبطرس (پيتروس) ومحمد وأحمد وبهاء والباب، فإنه إذا ما صحت، فلا بد من التثبت من توفر ثمة شروط، لا يثبت صدقها إلا بها. فلننظر ما هي هذه الشروط: 1. البشرية: أن يكون من البشر، وليس من طبيعة غير طبيعة البشر وبمؤهلات خارقة عن الطبيعة وفوق مقدور البشر، ليتحقق له أن يكون أسوة صالحة للمخاطَبين بدعوته فيما يدعو بها إليه. 2. العصمة: وهي ليست كمالا مطلقا، بل كمال نسبي، وبالضبط هي الكمال الإنساني الممكن الذي يتناسب مع خطورة المهمة الإلهية التي يضطلع بها النبي، ومع اختيار الله سبحانه وتعالى لشخص النبي، الذي لا يخطئ لعلم الله المسبق بأحوال عباده، والذي لا يمكن أن يقع على من لا يكون مؤهلا، كأن لا يتمتع بقدر كاف من الذكاء، وحسن الاستيعاب، وأمانة ودقة التبليغ، وحكمة الخطاب، والوعي الاجتماعي، والصفاء الروحي، والخلق السامية، والانسجام فكرا وعاطفة وسلوكا مع روح الرسالة المكلف بتبليغها. وإذا كانت العصمة بهذا المعنى النسبي ممكنة التحقق في أي إنسان بقدر أو بآخر، فهي واجبة التحقق عقلا في حال اختيار الله لإنسان ما لمهمة إلهية كالنبوة أو غيرها، وإلا فلا يبقى معنى لتدخل الله في اصطفاء أشخاص غير مُصفّين أنفسهم من الشوائب المخلة بدورهم الخطير والتكليف الإلهي. 3. العقلية والعقلانية والإنسانية: أي ألا تكون دعوته مشتملة على ما يتعارض مع ضرورات العقل الفلسفي منه والأخلاقي، فلا تكون دعوته خرافية، ولا ناسبة إلى الله ما لا يليق به تعالى، ولا ظالمة للعباد، متعسفة بهم، مهينة لكرامتهم، مفاضلة ومميزة بينهم بما لا يجوز التفاضل والتمايز، متشنجة تجاه غير المقتنعين بالدعوة، عنيفة في مواجهتهم بلا مبرر معقول، ولا محملة المؤمنين في لوازمها ما لا يطيقونه من تكاليف مبالغ فيها. على ضوء هذه المعايير يخلص التنزيهيون إلى نفي صدق المصاديق المدعاة لمفهوم النبوة، بسبب تحقق التعارض على أنواعه المذكورة، وغيرها، مما سيرد تفصيله.
قصص الأنبياء في الكتب (المقدسة) قصص الأنبياء في الكتب المقدسة للديانات الإبراهيمية الثلاث الرئيسة فيها مشتركات كثيرة، كما وفيها تفاوت طفيف أحيانا، وحاد وجوهري أحيانا أخرى. وبما أن موضوع الأنبياء، من وجهة نظر العقل المجرد والمحايد دينيا، هو من المواضيع التي تقع في دائرة الممكن العقلي، مما ينفي كونها واجبا عقليا كما يصر معظم الدينيين، كما ينفي كونها من الممتنعات العقلية كما يصر الكثير من اللادينيين، وذلك من حيث أصل النبوة، أي وجود ثمة تكليف إلهي لأشخاص مصطفَين منه تعالى للتبليغ والإنذار والتبشير والأمر والنهي عنه سبحانه، ومن حيث أصل حصول القصص المنسوبة إليهم، أو كل أو بعض تفصيلاتها، ذلك بقطع النظر عن التصديق، أو عدم التصديق بنُبُوّتهم ورسوليتهم، فهي من الأمور التي لا نملك إذا تجردنا من اعتماد مقولة دينية لهذا أو ذاك الدين دليلا على حصولها، إلا عبر الثقة بالمصدر، بالنسبة لمن يؤمن بإلهية مصدر الخبر، وهو الكتاب المقدس الذي يؤمن به. فإذا ما توثقنا من صدق أحد المصادر الراوية لتلك القصص، يكون ذلك مبررا للتصديق بها، إذا لم يكن عرضها من قبل الواحد أو الآخر من الكتب المقدسة بدرجة من اللامعقولية، بحيث يجعل نفس المصدر موضع الشك في مدى صدق إلهيته. وإذا ثبت صدق أحد هذه الكتب كوحي إلهي، تبقى تلك التفصيلات من قصص الأنبياء التي تتناول الجوانب الإعجازية خاضعة لفهم سنبحثه بشكل مستقل لاحقا. فهم من وجهة نظر العقل المجرد، إما رسل وأنبياء مُكلَّفون من الله، أو هم شخصيات مؤمنة إصلاحية؛ مؤمنة بالله واليوم الآخر وبوحدانيته تعالى، دعَوا إلى الإيمان به سبحانه وعبادته وتوحيده والتمسك بقيمه حسب اجتهادهم، أو أرادوا تصحيح السائد في زمانهم من عقائد، رأوا انحرافها، كما واقترنت دعوتهم الإصلاحية الدينية في بعض الأحيان بدعوة إصلاح اجتماعية، على الصعيد الأخلاقي أو السياسي أو ما سواه، أو يكون هناك دافع آخر لدعوى النبوة، قد يختلف من حالة إلى أخرى، أو يكونون قد انطلقوا بدوافع، ثم واصلوا دورهم باستجداد دوافع لاحقة مغايرة. [كما يبدأ كثير من قادة ثورات تحرير الشعوب بصدق في النضال في سبيل تحرير شعوبهم من الطغيان أو الاحتلال، ثم يتحولون هم إلى مستبدين، بعدما تكون لهم السلطة، فيستعبدون شعوبهم بعدما حرروها من الاستعباد على يد غيرهم]. أما وجود مشتركات في سرد تلك القصص بين الكتب المقدسة للديانات المختلفة، فيمكن تفسيره بأحد تفسيرين على ضوء فرضيتين: 1. إذا كانت هذه الكتب والدعوات إلهية المصدر، فمن الطبيعي جدا أن تكون دعواتها وقصصها متطابقة، وبعكسه يكون التفاوت هو الأمر غير الطبيعي في ذلك، ولعله الداعي إلى الشك بصدقها جميعا، أو بصدق بعضها. 2. إذا كانت مُؤلَّفة من قبل بشر، فيكون التطابق أيضا طبيعيا، لأنهم إنما يدعون لشيء واحد، أو متشابه في كثير من أسسه وملامحه وأهدافه، ويكون من الطبيعي أن يقتبس اللاحق من السابق، وتظهر بعض حالات التعديل أو الإضافة أو الحذف. والتفاوت يمكن هو الآخر أن يفسر بأحد تفسيرين: 1. إذا كانت هذه الكتب والدعوات إلهية المصدر، ولكن يكون قد طرأ على السابق تغيير بشري من بعد النبي المعني، فيأتي الدين اللاحق بتصحيح ما طرأ على السابق، وهنا قد يُشكَل على أنه كيف يسمح الله سبحانه بتحريف وحيه، وهو القادر على حفظه وتوفير أسباب ذلك الحفظ، هذا من حيث القدرة الإلهية الواجبة عقلا، أما من حيث الحكمة الواجبة عليه سبحانه أيضا، فمن الحكمة ألا يترك كتابه ووحيه ورسالته عرضة للتحريف. وهنا يُجاب على تبرير أن الله لم يتكفل بحفظ ما كان مقررا مسبقا منه تعالى نسخه بوحي لاحق، والتبرير لا يخلو من ضعف، فلعله يكون الأقرب إلى الحكمة وإقامة الدليل على صدق الوحي، هو حفظ السابق غير محرف، واعتراف اللاحق به، مع الإتيان بجديد يكمله، أو ناسخ ينسخ المراد نسخه منه، مع بيان أسباب النسخ والتعديل والإضافة والحذف، دون أن يتناقض معه أو مع بعض ما يطرحه. وهذا كله يحتاج إلى تأمل في الأدلة والأدلة المضادة، حيث يتنافى مع الحكمة الإلهية [واللطف الإلهي] أن يترك رسالاته السابقة عرضة للتحريف والضياع، ثم يأتي برسالة ناسخة لتلك الرسالات، أو مكملة لها، أو مُنْهِية لسريان مفعولها، فيُقال أن الحكمة واللطف الإلهيين يستوجبان حفظ الناسخ دون المنسوخ، ومع هذا يقال أن السابق المنسوخ الذي ضاع ولم يحفظ من الله هو دليل صدق اللاحق الناسخ، لإنبائه به، وهو إنباء يقول به الناسخ وينفيه أتباع المنسوخ. بهذا كله كأنما يحدثنا عن إله مُضلِّل ومُضبِّب ومُشوِّش للإنسان، الذي لا حول له عندما يقع ضحية التضليل والتضبيب والتشويش الإلهي، ثم يعاقبه ربه على ذلك، تنزه الله عن كل هذا الذي ينسب إليه، وتسامى فوق كل التقولات عليه، تألقت آيات جماله. [حيث يتوعد الله حسب الرسالة الأخيرة أي الناسخة المؤمنين بالمنسوخ أو المدعى منسوخيته غير المصدقين بالناسخ أو المدعى ناسخيته بالخلود في نار جهنم.] 2. إذا كانت هذه الكتب والدعوات بشرية المصدر، وهي نتاج محض اجتهاد بشري ليس إلا، فمن الطبيعي أن اجتهاد المجتهدين وخيال المتخيلين من البشر متفاوت فيما بين بعضه البعض، كما تتفاوت المصالح والتحديات. فإننا نكاد نجد أكثر ما ذكر في القرآن مذكورا في العهد القديم والعهد الجديد، مع إضفاء تنقيح، إضافة، أو حذفا، أو تحويرا، أو تصحيحا، بحسب رؤية المؤلف اللاحق، فيما لم ينسجم معه مما طرحه المؤلف السابق، فبرر ذلك كما يبدو، بدعوى أن الناس أحدثوا على ذلك الكتاب المقدس السابق، ما لم يكن منه، فضيعوا منه أشياءً، واستحدثوا أخرى، وحرفوا غيرها. [كما إن في القرآن الكثير من أقوال كهنة، أو متنسكين، أو حنفاء، أو شعراء، قبل الإسلام.] وأخيرا لا بد من الإشارة هنا، إننا إذا بحثنا في الأنبياء في العهد القديم، وجدنا أن منهم مَن هُم مجرمو حرب، ومرتكبو جرائم إبادة جماعية، ومنهم من يعيش هوس الجنس، ومنهم المصابون بالهلوسة، ومنهم الدجالون، والمتآمرون على بعضهم البعض، مع إن ليس كل من يطرحهم القرآن كأنبياء هم أنبياء في العهد القديم، بل كثير منهم ملوك أو قضاة، ولكنهم يُطرحون أيضا بدور إلهي، وهم ذوو تواصل مع الله، مما يعني أنهم ليسوا بعيدين عن مفهوم النبوة، لا أقل بالمفهوم الإسلامي لها، فيما يتعلق بمخاطبة الله لهم وتكليفهم بتكاليف.
المعاجز في قصص الأنبياء تكاد تكون جميع الديانات الإبراهيمية مقترنة بعقيدة المعجز النبوي، أي تلك الظاهرة الخارقة للعادة التي يظهرها الله على يد نبيه، من أجل دعم دعواه بالنبوة، ودفع الناس للتصديق به، أو إلقاء الحجة عليهم. ومصطلح (المُعجِز) أو (المُعجِزة) هو اسم فاعل للفعل الرباعي المزيد (أعجز، يُعجِز، إعجازا)، من الثلاثي (عَجَز، يَعجَز، عَجزا)، يعني كما هو واضح جعل الآخر في حالة من العجز، أي إتيان فاعل الإعجاز، أو المُظهَر من الله على يديه المُعجِز أمرا يعجز المُظهَر له المُعجِز عن الإتيان به، مقترنا بالتحدي ودعوى النبوة. وتسمى المعجزة حسب المصطلح القرآني أيضا بالآية، إذ لفظ (الآية) يرد في القرآن بأربعة معاني؛ المعجزة، الغضب الإلهي، العلامة الكونية على القدرة والإتقان الإلهيين، المقطع من السورة بين فاصلة وأخرى من الفواصل القرآنية. وقد تظهر الظاهرة الخارقة للعادة على يد غير الأنبياء، من صِدّيقين وقِدّيسين وأئمة وأولياء، وهذا ما يصطلح عليه في الإسلام بالكرامة، تمييزا له عن المعجزة المختصة بالرسل والأنبياء حصرا. والمعجزة [حسب رؤية اللاهوتيين الدينيين العقليين] إذا كانت من الممتنعات العلمية، فهي ليست من الممتنعات العقلية (الفلسفية). وهذا يفسر على أن ما كان ممتنعا علميا، أي على ضوء نواميس الطبيعة وقوانين العلوم الطبيعية، فهو ممتنع الإتيان به على من هو خاضع لتلك النواميس والقوانين، أو السنن كما يصطلح القرآن، ألا هو المخلوق (الإنسان)، ولا تسري استحالة الإتيان بذلك على الخالق، لأنه هو الذي خلق الطبيعة وقوانينها ونواميسها، وجعلها سارية على مخلوقاته، غير معجزة له سبحانه في خرقها أو تعطيلها. وهناك تفسير آخر مفاده أن الله لا يعطل عند إظهار المعجزة قانونا من قوانين الطبيعة، بل يوظف من أجل إظهارها قانونا من قوانينها غير المكتشفة من قبل الإنسان، على أقل تقدير في زمن ظهور المعجزة. [الفهم الأول كان مني في مرحلة من المراحل، وربما قال به بعض المفسرين، أما هذا الأخير، فهو ما كان يذهب إليه المرجع الراحل محمد حسين فضل الله، وهو مما سمعته منه مباشرة، وربما طرحه في بعض محاضراته أو بحوثه.] وهنا تبرز إشكالية زمنية المعجزة، لأنها إن كانت قد تحققت، فهي حجة على من شاهدها، أو وصله خبر حدوثها بالتواتر الذي لا شك فيه، لاسيما من الأجيال القريبة من زمن حدوثها، بحيث يكون شهودها ما زالوا على قيد الحياة، أو الناقلون المباشرون حديثي عهد بها، بحيث يكون تعاهدهم على الكذب أو الوهم ممتنعا عادة، أو من الضعف من الاحتمال إلى درجة تقترب من الامتناع [بل لطالما عشنا تواتر قصة من الخيال تتناقلها أجيال، رغم عدم تحققها]. ثم إن المعجزات ظهرت في عصور لم تكن فيها آليات التوثيق من الدقة والحصانة من الخطأ، لتكتسب القدر المطلوب من الموثوقية، فكم من أسطورة أو وهم جرى تناقله بالتواتر عبر أجيال وأجيال. وليس لدينا من المعجزات الدالة على صدق النبوات ما هو خالد، بحيث تكون قيمتها الاستدلالية في عصرنا مساوية لقيمتها الاستدلالية في عصر ظهورها. المسلمون يقولون وحدهم بالمعجزة الخالدة، التي هي القرآن، فيقولون بالإعجاز البلاغي، والإعجاز العلمي، والإعجاز التاريخي، والإعجاز العددي، ولكن كل من هذه الإعجازات ليست موضع إجماع عند علماء المسلمين أنفسهم، ربما باستثناء الإعجاز البلاغي، وهو موضع بحث، وليس من المسلَّمات أو مُبَرَّأ من تسجيل الملاحظات عليه. هذا كله يدعو أصحاب الديانات جميعا إلى أن يقدموا أدلة من نوع آخر، غير دليل المعجزات. ففي هذا البحث لا أقول بعدم إمكان وجود دليل على صدق النبوات والأديان والكتب المقدسة أو صدق بعضها، بل كل ما أريد تثبيته هنا هو أن المعجزات غير ثابتة لأهل زماننا، ولذا لا تصلح لنا كدليل. هذا إضافة إلى ما أشار إليه الكاتب سعدون محسن ضمد أن المعجزة حتى لو ثبت صدقها، لا تصلح كدليل على صدق النبوة، فلا يمكن لمرشح - والمثل مني - لرئاسة الدولة، لاسيما في دولة ذات نظام رئاسي، فيثبت أهليته للمنصب من خلال الإتيان بما يعجز عنه غيره، مما هو أجنبي على موضوع رئاسة الدولة، كأن يقفز من الطابق الرابع، من غير أن يُكسَر له عظم، أو يُصاب بأي أذى.
#ضياء_الشكرجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رؤية في سبل الإصلاح الحقيقي والشامل 4/4
-
رؤية في سبل الإصلاح الحقيقي والشامل 3/4
-
رؤية في سبل الإصلاح الحقيقي والشامل 2/4
-
رؤية في سبل الإصلاح الحقيقي والشامل 1/4
-
31 الإيمان العقلي وموقفه من بعض مقولات الأديان
-
30 ثلاثية العقل مقابل ثنائيته عند محمد أرگون
-
29 التشابه بين تجربة سپينوزا وتجربة لاهوت التنزيه 3/3
-
28 التشابه بين تجربة سپينوزا وتجربة لاهوت التنزيه 2/3
-
27 التشابه بين تجربة سپينوزا وتجربة لاهوت التنزيه 1/3
-
26 مع د. إبراهيم الحيدري في النزعة التنويرية في فكر المعتزلة
-
25 مع توفيق الدبوس في مقالته «ابن رشد وما يجري اليوم»
-
24 الحضارة العالمية وفلسفة إخوان الصفا
-
23 عقيدة التنزيه كإيمان فلسفي لاديني
-
22 العقلانية والروحانية لدى كل من الديني واللاديني والمادي
-
21 كم أفلحت وكم أخفقت الأديان في تنزيه الله؟
-
20 خاتمة ومقدمة وبطاقتي كإلهي لاديني
-
لا حل إلا بالعلمانية
-
خطأ الدعوة لإلغاء المحاصصة
-
لو عاد المالكي لقتل آخر أمل للعراق
-
19 الإشكال الأخير على أدلة وجود الخالق والخلاصة
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|