|
محاولة قراءة جديدة في تجربة نزار قباني الحلقة الرابعة
محمد علاء الدين عبد المولى
الحوار المتمدن-العدد: 1429 - 2006 / 1 / 13 - 10:06
المحور:
الادب والفن
في علاقة النقد بشعر نزار قباني الشاعر نزار قبّاني هو واحد من أولئك الشعراء الذي يقدّم شعرهم مادة مثيرة للنقاد ، والأسباب معروفةٌ ، تبدأ من طبيعة الآفاق التي يبدع فيها نزار ، وهي آفاق ذات طابعٍ إشكالي ومشحون بالألغام ، ممّا تخلق عدداً لا نهائيّاً من ردود الفعل ، وأشكال الاستجابة لدى القرّاء والنقاد على حدّ سواء . إن العالم عند نزار قباني عالمٌ لا يتمّ الحوار معه بأعصاب باردة وعقلٍ ثابتٍ ونظرة أحاديةٍ ، عالم لا يتمّ التصالح معه كذلك ، كل ما فيه قابل للانفجار على يدي الشاعر، قابل لتشكيل بؤرة توتّر وصدام مع الذّهنية المهيمنة والنُّظمِ السّائدة . وهذا ما يترك ذلك العالم الشعري محطَّ أنظار الآخرين واهتمامهم ، من أجل قبوله أو رفضه معاً ، من أجل الدفاع عنه وتبنّيه ، ومن أجل الهجوم عليه والانقضاض على مضمونه بعنفٍ وذئبية . وفي النهاية يكتسب كل هؤلاء - كلٌّ حسب موقعه وزاوية رؤيته - جزءاً من المشروعيّة ، ولا سيّما أن مثل هذا العالم الشعري القبّاني عالمٌ مشتبك العناصر لا ينتهي الحوار معه في قراءة تدّعي استيعابه وحلّ جميع التباساته . من هنا تهافَتَ النقّاد على شعر نزار قبّاني مغتبطين بأنهم عثروا على مادة للعمل ، مغرية ، وقد تكون محرّضة لدى بعضهم من أجل اختبار أدواته النقدية ، ومفاهيمه حول موضوعٍ ما قد لا يكون على صلة بالشعر ، لكن شعر نزار يحوم من بعيد حول هذا الموضوع ، فلا يجد واحدهم مانعاً من إلقاء القبض على شذرة هنا وبقعةٍ شاردة هناك ، والعمل على تفخيمها والنّفخ في سطحها حتى تكبر ، لكنها تكبر في ذهن النّاقد وحده ، لا في النّصّ المنقود . إن شعر قباني أرضٌ معطاء ليمشي فوقها أفواج القرَّاء والنقَّاد ، وكلٌّ يبحث عن معجزة في الأرض ، وكلّ يصرخ فجأةً : وجدتُها وجدتها . ولكن تبقى الأرض قابلةً للتَّفتح أكثر وأبعد ممّا ذهب إليه هذا أو ذاك من النّقّاد . ولا نعدم أن نسمع الشاعر نفسه وقد أصيب بالملل من كثرة ما حرثته السّكك النقدية والمحاريث الثقافية المتعالية ، وقد وجدناه مراراً يعلن ضيقه بالنقد والنقاد ، إلى درجة أنه قبل رحيله بقليلٍ صرّح بأنَّ النقد لم يقدّم له شيئاً!. وقد سبق وأن أعلن في كتابه " قصتي مع الشعر " أنه لا يريد انتظار من يرسم له ملامحه وتكوينَهُ ، رَسْماً مشوَّهاً ، لا يريد أن يعطي غير القادرين على فهمه فرصةَ تقديمه إلى الآخرين بصورةٍ مقلوبة ، فليقدّم هو نفسَهُ بنفسِهِ للآخرين دون وساطة أحد . وبالفعل فقد نجح الشاعر نجاحاً باهراً في الوصول إلى الآخرين عبر شعره وحده لا عبر مشروع نقدي هنا أو هناك . ذلك أن القراءات النَّقدية لشعره كانت على ما يبدو آخر ما يفكِّر به " الجمهور " ! وكان الشاعر مكتفياً بما يثيره شعرُه مباشرةً ، مع إتقانه السَّاحر لأصول العلاقة مع هذا الجمهور ، وذلك ممّا رأيناهُ خلال الفصول السَّابقة . ولم يكن النقد ليستطيع أن يتجاهل شاعراً امتدَّ في عادات الناس على مختلف شرائحهم هذا الامتدادَ كلَّهُ ، وشكّل تحدّياً محرجاً لمنظِّري الحداثة في الشعر ولشعراء الحداثة الذين كانت علاقتهم مع الآخرين علاقةً غير متكافئة وليست ذات طابع نجوميّ ولا إعلاميّ ، مع استثناء شعراء التَّبشير الأيديولوجي الجماهيريين والمناضلين !. لقد وجد النقاد أنفسهم مدعوّين لتحليل هذا الشاعر الذي غدا ظاهرة أكثر ممّا هو شاعر. ولكننا لن نرى هذا الاهتمام المقنع من قبل النقاد ، وهذا بحدّ ذاته يدلّ على أمرٍ ما . وهذا ممّا يجد له تبريراته في نظرهم من خلال تجربة الشاعر نزار نفسها. فهي تجربةٌ لم تدخل في سوق الحداثة وجدلها وحروبها ، وكانت تجربة تصوغُ معركتها الخاصَّةَ دون ادّعاءٍ ووهمٍ يجعلان منها لعبة جوفاء لا جدوى منها . لقد افتتح الشاعر أفقَهُ الشعري من خلف كواليس الحداثة وسراديبها - إذا جاز التَّعبير - ففاجأ الجميع بقدرته المذهلة على حلّ كثيرٍ من أسئلة الحداثة والتّوصيل والحرية والمكبوت والمسكوت عنه ، حلاًّ تجاوز فيه سجالات المنظّرين ، وأخذ مكانَهُ المتقدّم في مشهد الشعر العربي . هذه التَّجربةُ ربّما لم يستطع النقاد الحداثويّون أن يقتنعوا بها من الأساس لأنها أفلتت من حساباتهم ، ولم تقدم لهم مغريات بمتابعتها ، لأنها كانت تجترح طرقها بسرعةٍ واختلافٍ وتمشي بين الناس كالنار بين الهشيم . لكن هذا لم يكن ليمرَّ دون تفسير . إن ذلك يؤشّر إلى موضعٍ من مواضع الخلل في تركيبة الحداثة كلها . وليس تجاهل الحداثيين لنزار قباني دليل صحّةٍ أبداً . بل كان مفترضاً فيهم درس هذا الشاعر وتحليل ظاهرته وتمثّل أبعاد تجربته ، بل والتّعلّم منها إن استطاعت تقديم ما يتعلمون منها . لقد استهانت الحداثة بنزار قباني استهانةً لم تكن لصالحها ، بل كانت مع استمرارها تشكّلُ خطأً في أساس العلاقة مع الشعر واللغة . وقد يظهر لدى الحداثويّين نوعٌ من التّرفّع عن الدّخول في مناطق ليست ( على قدّ مقامهم ) ، ومنها منطقة نزار قباني . وربّما ظنّ القارئ لأول وهلةٍ أن شعر نزار كُتبَ عنه أكثر مما كتب عن أي شاعر آخر. ومع وضع هذا الرأي على المحكّ نرى أنه غير صحيح . فما كتب عنه لا يوازي الأثَر الكبير الذي يمتلكه شعره في الناس والمتلقّين والسياسيِّين . وكانت ظاهرة نزار قباني تأخذ مسارها التّصاعدي بدءاً من العلاقة المباشرة بين شعره والآخرين كما سبق وأكّدنا . وربَّما هذا ما عناه نزار برأيه حول عدم تقديم النَّقد شيئاً له . على أن هذا النَّقد عندما قارب شِعرَهُ ، أفرز عدداً من النّقّاد استطاعوا - على قلّتهم - دراسة شعره عبر أوّليّاتٍ نقديّةٍ حقيقيّةٍ ، لم تكن تؤخَذُ بمنطق الإشاعات حول حياة الشاعر الشَّخصيَّة ، أو بلغة التَّحريم والتكفير ، إنها كانت تسعى لقَرْع باب الشعر بأيدٍ لا غاية لها غير فَتْح الباب بالطّرق المناسبة والعادلة ، لا بغاياتٍ هدّامةٍ تخوّن الشاعر أو تحمّل شعره أوزارَ الفساد والانحطاط في المجتمع العربي ، أو أسبابَ هزيمةٍ ما !. وقّدْ قدّمت مثلُ هذه الدراسات شيئاً لنزار قبّاني ، وأضافت إليه أشياء ، على عكس ما يعلق هو مراراً . فهو كان بحاجةٍ إلى من يتناول عالمه الشعري بأدواتٍ ذات صلةٍ بطبيعة الإبداع من داخله ، لا كما فعل معه نقدٌ إعلاميٌّ متسرّع يركب موجةَ الدّعاية والادّعاء ، وهو نقدٌ يستحقّ وصفَه بأنه لم يقدّم شيئاً للشّاعر . بل هو نقد لا يقدّم لأيّ شاعر أي شيء . إن الذي يريده أيّ شاعر من النَّقد ، كمطلبٍ مشروع ، هو قراءة الشعر برؤى عادلةٍ ، تكشف قدرة الشاعر على تقديم الجميل والممتع والمختلف ، وتُسجٍّلُ له مالَهُ ، وما عليه كذلك شريطة عدم إقحام المفاهيم الأيديولوجية الموظّفة توظيفاً لا يحترم قيمة الفنّ ولا يكترث بمستواه . لذلك نقول لقد أنصف بعض النقّاد شعر نزار وشكّلوا حمايةً له في وجه الأدعياء . وسوف نقفُ الآن مع أعمالٍ نقديةٍ مختلفةٍ عالجت شعر نزار بطرقٍ مختلفةٍ ، وهي كتبٌ صدرت في أوقات متباعدة ، منها ما اعتمَدَ الشّعرَ بأدواته وتصوّراته مدخلاً للقراءة ، ومنها ما اعتمد المناهج المسبقة والتي تقسر النّصَّ على أن يقول ما لا يريد قولَهُ ، وتُحمِّلُه ما لا يحتمل ، فتخرجه عن وظائفه ، مُدخلةً إيّاه في أوهامِ التَّحليل النّفسي.
أوّلاً : " الكونُ الشّعريّ عند نزار قبّاني " (.) - محيي الدّين صبحي - هذا الكتاب ، في حدود معرفتي ، يعتبر من الكتب النّقديّة النّادرة حول شعر نزار قباني ، التي درستْ في عالمه الشعري بروحٍ مسؤولةٍ ، ورؤيا نقدية أدبيّة حقيقيّة . وهذا عائدٌ إلى عدّة أسباب . منها أنّ هذا الكتاب جاء بعد نحوٍ من ثلاثين عاماً على بدايات نزار قباني ، مع كل ما يعنيه هذا الزمن الطويل من شهرةٍ والْتباساتٍ واعتداءاتٍ فكريّةٍ على حريّة الشاعر . وجاء هذا الكتاب متصدّياً - دون أن يدّعي ذلك مباشرة - للقراءاتٍ السّطحية التي جابهت شعر نزار من بداياته . وقد فعل محيي الدين صبحي ذلك للمرّة الأولى عندما أصدر في عام 1958 كتابه " نزار قبَّاني شاعراً وإنساناً " مقدّماً فيه ما يمكن وصفه ببيان إعجاب واحتفال بالشاعر ، لكن هذا الكتاب الجديد الذي نحن بصدده ، هو الأهمّ لأنه يأتي بعد نضج الطرفين : الشاعر والناقد ، فقد برز صوت محيي الدين صبحي ناقداً مختصّاً بالعمل الأدبي وفق مناهج أدبية مستقلّة لا مزعومة . وعندما أصدر كتابه " الكون الشعري " كان يمتلك تجربةً هامةً في الممارسة النقدية ، كتابةً وترجمةً ، وله حضورٌ في المشهد النَّقدي الأدبي ، لا يمكن التّقليل من أهميّته . من أجل ذلك ، سيعاد في هذا الكتاب الاعتبار لفن الشّعر بصورة عامّةٍ ، ولشعر قباني بصورة خاصّة ، من حيث كونه المجال التَّطبيقي للدراسة . والنّاقد صبحي يدرك منذ البداية أنه يتصدّى للشعر بطريقةٍ أقرب للهدف الجمالي والأدبي . وإن لم يصرّح بذلك علناً ، فإنه من خلال مفاهيمه الأوليّة يعلن لا جدوى النَّقد الذي يذهب إلى دراسة ومعالجة " الموضوعات " لدى الشاعر . فيقول : " إن النّقّاد الذي يتحدثون عن " موضوعات الشاعر " ويبدأون بحثهم بقولهم : " يعالج الشاعر في القصيدة الفلانية موضوع كذا .." سيخفقون تمام الإخفاق إزاء شاعرٍ كنزار قباني خاصة ، وإزاء الشعر بوجه عامّ . " ص 39 . إن هذا القول يضمرُ دعوى بديلة يقترحها الناقد لتحلّ محلّ تلك الدّعوى التي يحكم عليها بالإخفاق لأنها تنطلق من فهم الأمر على أنه " يعالج الشاعر الموضوع الفلانيّ " . بماذا يتقّدم صبحي إذاً ؟. يقدّم النّاقد هنا فرضيّة " الكون الشعري " بديلاً عن الموضوعات والمحاور. فما هو هذا الكون الشعري ؟. إنَّهُ خلاصة ما يقدّمه الشاعر من تصوّراتٍ ومعاناةٍ في علاقته مع العالم وذاته وكائناته. وهو ليس محكوماً - لدى نزار قباني - بحدود العلاقة بين الذكر والأنثى . " ونحنُ في تجوالنا عبر هذا الكون ، قد يتبادر لنا أنه كون محدودٌ بحدود العلاقة بين المرأة والرجل ، أو محكوم بشرط الليبيدو واللُّهاث الأبديّ في ملاحقة الرجل للمرأة .. لكنَّنا هنا أيضاً نرتكب خطيئةَ البحث عن النَّبع في غير أرضه ، أو نرى في المحيط أصلاً لكلّ الينابيع ومهما يكن من أمر ، فإذا كان كل الناس يدّعون أنهم على معرفة وثيقة بالمحيط فإننا سنتركهم واللّيبيدو الذي يعرفونه ويفسرون الشاعر وشعره على أساسه ، وننصرف عنهم إلى نبع صغير شفّاف نزعم أنه يفسّر موقف الشاعر ويجلوه بما يساعدنا على المزيد من فهم هذا الكون الشعري وتملّي دقائقه واستكناه أسرار جماله .. إننّا ندّعي أنّ كلمة السرّ التي تفتح لنا مغاليق الكون الشعري عند شاعرنا هي كلمة " التّذوّق " . وهي كلمة ليست جمالية فقط ، كما يوحي مدلولها لأوّل وهلةٍ ، بل هي أيضاً : موقف . إن الشاعر يقف من العالم موقف المتذوّق . ليست المرأة ، وليس جمالها ، أو زينتها ، أو العلاقة معها أو الصَّبوة إليها سوى أمور يقف منها الشاعر موقف المتذوّق العابر أو المتملّي المستأني - وقفة قد تطول أو تقصرُ لكنها لا تبلغ حدود التّأمّل أو إعمال العقل وتقليب وجوه الفكر بأسباب تقود إلى نتائج " - ص 40 - . نستقرئ من هذا الاقتباس النقدي الطّويل نسبيَّاً النّقاط التالية : 1 - لا يمكن اختصار غنى العالم الشعري " الكون " لدى نزار قباني إلى موضوعة العلاقة بين الرجل والمرأة . فهذا الكون أبعد من هذه الثنائية . لذلك إن أي محاولة قراءة لهذا الكون انطلاقاً من مقولة " اللّيبيدو " - الفرويديّة - هي محاولة بائسة ستقود إلى نتائج ليست من طبيعة الجنس الأدبي. فهي كمن يبحث عن النَّبع في غير أرضه . 2 - كلمة السرّ التي تسمح بالدّخول إلى كون نزار قباني هي " التّذوّق " . وهي كلمةٌ بقدر ما تحمل معناها الجماليّ . بقدر ما توحي إلى ما هو أعمق من ذلك المعنى ، فهي " موقف " يتّخذه الشاعر من العالم . وهذا الموقف هنا معاناةٌ وإحساسٌ بالعالم عبر " تذوّقه " لا دراسته وتفكيكه وربط مقدّماته بنتائجه. فهذا عملُ العقل لا التّذوّق الذي يمنح الشاعر لحظات من التمتع بالكون بجمالِهِ ودلالاته . 3 - المرأة وأشياؤها - زينتُها ، العلاقة معها .. إلخ ، هي وسائلُ توصل إلى الغايات البعيدة وهي تجلّيات صغيرة للقضيّة الكبرى التي هي " تذوّق " العالم كموقفٍ منه . ولهذا لا يمكن الجمود عند علاقات الشاعر بالمرأة ولباسها وإغرائها ، واتخاذ ذلك هدفاً مطلقاً لذاتِهِ . إن الناقد صبحي هنا يثبت بُعد نظره وعمق أدواته النّقديَّة المنشغلة بالجمال الأدبي ، وكيفيَّة التّعبير عنه . لهذا لا يعتمد الناقد على صفاتٍ أُطلقتْ على نزار قباني مثل : شاعر عذري أو عاطفي أو غزليّ . لأن هذا فيه تحجيمٌ للكون المتنوّع للشاعر . فليست المسألة في شعره وقفاً على العواطف الحسّيّة ولا التّغزّل بأجساد النساء، إن كل ذلك كان بوّابات صُغرى ، ولا غنى عنها، من أجل التّوغُّل في اكتناه معنى العالم جمالياً . وهل أقدر من المرأة وصبواتها وملذات وجحيم الاتصال بها ، على تأمين مثل هذا التّذوّق الجماليّ للعالم ؟ . إذاً يضع صبحي الأمور في نصابها الأدبيّ لا الدّعائيّ ، ولا يتّخذ من مقولة اللّيبيدو مفتاحاً لقراءة امتداد جسد المرأة على مساحات كبيرة من شعر نزار . بل إنه في موقع تالٍ من الكتاب سيرى أنَّ هذا اللّيبيدو عند الشاعر أصيب بخللٍ ما " فأدّى به إلى التَّسامي باتجاه عبادة الجمال وتأمّله واستجلاء نواحي الفتنة والإغراء . مع أقلّ حدّ من الاستجابة الغريزيَّة المحضة وأكبر مقدار للاستجابة الجماليّة الصّرف " - ص 41 - . إنّ النّاقد هنا يقود المسألة نحو نقطةِ جريئة عندما يقلب الطّاولة على رؤوس المدّعين الذي يختصرون عالم نزار قباني إلى مجرد محرّض للغرائز والشهوات . وهو – الناقد صبحي - يقدم رؤية مناقضةً ترى وظيفة أخرى لـِ " الليبيدو " عند الشاعر . فهذا " اللِّيبيدو " انحرف عن مساره ، نتيجة خللٍ معين جعله يتسامى باتجاه عبادة الجمال . فالإغراء والفتنة هنا نوع من العلاقة مع كنه الجمال ، وليسا محرّضين على الغرائز . وفي هذا موقف نقديّ شجاع يحيط بكل افتراءات أعداء الشاعر والمهتمّين بنوع أكله وعطر إبطيه ، وعدد النساء اللَّواتي سلّم عليهنَّ أو كتب فيهنّ شعراً. أليست شجاعة أن يقدّم صبحي مثل هذه الرؤية التي تشير إلى انقلاب المطلب الغريزيّ إلى مطلب جماليّ ؟. هكذا يتحوَّل المطلب من لحظة الغريزة إلى لحظة تذوُق ما وراء الغريزة : تذوّق جمال الغريزة الخفيّ ، جمال إغراء الجسد . وإذا كان تصعيدُ الليبيدو شأناً يخصُّ المحلّل النَّفسي،فإن صبحي لا يريد أن يلعب هذا الدَّور ، بل يريد تقديم الفائدة لهذا المحلّل ، ونصحه بأن ينظر إلى الأمر نظرة شموليّة مثقّفة ، مبنيّة على نتائج النقد الأدبي والجماليّ ، ثم ليتوجَّه إلى دراسة الأمر درساً نفسيَّاً ، عندها سيرى المحلّل أنه أمام حالةٍ مطلقةٍ من الإبداع الأدبي ذي خصائص فنية وملامح جماليّة ، يمكن أن نحرّك فيها آلةَ التَّحليل النّفسيّ إلى حدٍّ معيَّن لا يخدش القانون الأدبي ، ولا يهدم الخصوصية المستقلّة للنّصّ الأدبي الذي لا يريد له صاحبه أن يتحوّل إلى شهادة إدانة وتجريم . يميّز محيي الدين صبحي بين ما هو نزار وما هو غير نزار ، أي ما يجعل من الشاعر هو هو ، لا حالةً دخيلةً على هويّته . ويحدّد ما يعنيه بذلك فيقول : " فما ليس نزاراً نجدُه في كل ما هو وصف خارجيّ مقصودٌ لذاته " - ص 56 - . وهذا الكلامُ ينقلنا إلى دور النّاقد الأدبي في تقييم مدى علاقة الشاعر بما يعاينُه : هل هي علاقةٌ داخلية ، أم تقف عند حدود ظاهر الشيء والمادّة أو التّجربة ؟ وهو على كلّ حال كلام يلامسُ ما هو مثلبةٌ في بعض عناصر هذا الكون الشعري عند نزار . فنزار عندما يكتفي بالوصف فإنما يخون حقيقَتَهُ ، ويخرجُ عمّا هو عليه ، وهذا شكلٌ من إقرار الناقد بصورة ضمنيّة بأنَّه ليس من ملامح نزار الحقيقيّة أن يصف مادة تجربته وصفاً خارجياً ، لأنه في الأصل غير ذلك ، وهذا لا يليقُ به . ويُعْتَبَرُ ذلك مثلبةً لأنّ إحساس الشاعر عندها يتعطَّل ، ويكون محايداً ، ولا انفعالات داخله تخصّ الموضوع الذي يتعاطى معه ، ويكتفي بتوصيف ما يراه. ويورد الناقد أمثلةً من شعره يعتبرها مضادّةً للخصائص النزاريَّة ، التي تفترض من الشاعر مستوى عالياً من الانفعال ، مستوى ما هو جديرٌ به . إنّ بَحْثَ النّاقد عن الخصائص النزارية ، يقوده للاعتراف بصعوبة عرض الأشياء التي تملأ الكون الشعري عنده " فهي أوّلاً ليسَتْ أشياء بل مخلوقات حيّة تتفاعل وتتحدَّث وتسمع لمن يتحدَّث إليها وتتأثّر مثلما أنّها تؤثّر " - ص 60 - . إذَنْ فأشياء المرأة ( ملابسها ، زينتَها ، حركاتُها ) ما هي مقصودة بذاتها ، بل هي أدوات يحقّقُ الشاعر من خلالها لذّةَ التّواصل مع جمال أكبر يكمن خلف هذه الأشياء ، وقَدْ تذكره أشياؤها بحركةٍ من الطَّبيعة أو لون شجرة أو إزهار موسم . ونزار لا يصف الملابس النّسائية والأشياء النّسائية لمجرّد وصفها ، فهو جرّب ذلك في بعض قصائده ففشل في تقديم متعة داخليّةٍ . لأن الأساس في ذلك كما هو واضح في شعره ، أن يُحاكي هذه الأشياءَ محاكاةً ، تُحيلُها إلى مصدر للجمال . فالمحاكاة تأخذ هنا ما وراء الأشياء ، وما توحي به ألوانها ومقاساتُها ، وليست محاكاةً وصفيّةً . ومن باب الفرز النّقدي بين ما هو نزاريّ وما هو غير نزاريّ في شعر نزار ، يفرق الناقد بين " الانفعاليّ " و " العاطفي " . معتبراً أن الثَّاني لا يغوص في عمق المعاناة ولا يفتحُ التّجربةَ على كل أبعادها .مكتفياً بردود فعلٍ غير مؤسّسةٍ على العمق . أمَّا الانفعاليُّ فهو عكس لك ، يحترق بداخل اللحظة ويحيا اللحظة كأنه يحيا في الأبد . ويُطلِق داخلَهُ حتى آخر طاقة فيه ، ينفعلُ بما يحسُّه انفعالاً صاعقاً . " إنّ نزار شاعر انفعاليّ وليس شاعراً عاطفيَّاً. شعرُه الوجدانيّ - أي المغرق في العاطفة ، أو المصاب بالميوعة - سيمكن أن نضمّه إلى ما ليس نزاريّاً في شعره " - ص 73 - . ويحقّ لنا أن نتساءل : ما الذي جعل الناقد متأكداً من أنَّ هذه الظاهرة (نزاريّة ) وتلك ( غير نزارية ) ؟ . ولما لا يُعتبر كلّه (نزارياً ) على اعتبار أنه كلّه واردٌ في نتاج الشاعر وليس مفترضاً افتراضاً . هذا تساؤلٌ يحقُّ لأيّ قارئ الوقوف عنده . ونحن نريد أن نقرأ ذلك على ضوء التصوّر الأشمل الذي وضعه الناقد لشعر نزار ، وهو تصوّرٌ أشار إلى ما هو ( كون شعريّ ) . وبناء عليه ، فإن كل ما يخالفُ نظام هذا الكون ، يعتبر دخيلاً عليه . وهذا ما جاء بعد أن ارتسمت ملامح معيّنة للشاعر ، بحيث صار له هويّةٌ معروفةٌ ، تتناسب معها كل التّفريعات والتّنويعات الأخرى . وكلُّ ما هو دخيلٌ على هذه الهويّة يلتقطه الناقد ويسمّيه نشازاً . إذاً كيف كان نزار انفعاليَّاً ؟ وما صلة ذلك بتذوّقه للجمالِ ؟ يحدّد الناقد بعضاً من عناصر هذه المسألة الشَّائكة . فيرى أن "الجمال الأنثويّ ليس فنّاً كلّه بل هو أيضاً إغراءٌ وإثارة في أساسه " - ص 80 - . ويرى أن الجمال الأنثويَّ مرتبطٌ بالمدينة لأن الإنسان الحديث ابتَعَدَ عن الطبيعة الأمّ بأنهارها وبساتينها وقمرها وسهرها . أي اتّجَهَ الإنسان بطاقاته الانفعالية والعاطفية ، بشكل كبير ، إلى المرأة وجمالها والإثارة الكامنة خلف هذا الجمال . لكن الناقد مرةً أخرى يوقفنا قليلاً ليضع الأمور في نصابها ، فهناك فرقٌ بين ( المثير ) و ( الجميل ) فالمرأة المثيرة تتطلّب منّا استجابةً سريعةً عاطفيَّةً. بينما المرأة الجميلةُ فتتطلّب الرَّغبة بالتأمل ، أي الانفعال بها بعمق ومساءلة اللحظة السريّة المختبئة وراء ظاهر جمالها . لكن ، أليست المرأة الجميلة ( مثيرة ) ؟ ومَنْ قال غير ذلك ؟ . ولكن ما صلةُ المتلقّي ، مَنْ يتلقّى ويتعامل مع هذا الجمال ، ما صلتُه به ؟ هل يستجيب استجابة سريعة، أم أن الجمال المثير يحفُر أثراً على المدى البعيد في روحه .؟ لا يوجد شيء في الطبيعة أو الإنسان مثير بحد ذاته ، إن ذلك متوقّف على طبيعة من يتلقّى هذا الشيء " هناك المنبّه ، المحرّض ، المثير . وفي مقابله نجد المتلقّي المنبَّه ، المثار " . إذاً ، يبدو أن المتلقّي هو الأساس ، وأنّ المنبّه حالةٌ عارضة . والمرأة في حدّ ذاتها : مرّةً تثير في المتلقّي التّأمل ، ومرّة تثير الإغراء ، ومرةً الشفقة ، ومرّةً القرف . وهذا يمكن أن يكون لدى متلقٍّ واحد . فكيف إذا كان هذا المتلقي شاعراً ، من طينة نزار قبّاني ؟ إن النّاقد يلتقطُ أنّ نزار ينفعلُ بالجمال الأنثوي مستثمراً ذلك في خلقِ صورٍ فنيةٍ وتشكيلاتٍ تنطلق عناصرها من مخيّلةٍ قادرة على نَقْلِ اللحظات الدقيقة أمام حواسه إلى عوالم فنيّة مجسّمةٍ وملوّنةٍ وحركيّةٍ . " كما أنَّ انفعاله لا يحمل إلاَّ إثارة بطيئة تميل إلى الهدوء والتأمل أكثر ممَّا تستسلمُ للغريزة الهوجاء . غير أنّ إيقاع التَّعبير لدى انفعال الشاعر بالجمال لا يخضع لطرازٍ واحدٍ من طرز الانفعال بل تختلفُ أنماط الانفعال والتّعبير لديه اختلافاً بيِّناً يخضع لقاعدة التّجويد الفنّي وإضافة جمال التّعبير إلى الجمال الأنثويِّ أكثر ممّا يهتمُّ بالتَّصوير الحسّيّ أو الشّهواني . " ص 96 ويتابع " فهو ليس شاعر شهوة بقدر ما هو شاعر تذوّق وتأمّل وانفعال فنيّ يُخضِعُ مرئيّاته لسحرِ الكلمات وفتنة تشكيل الصّور الجميلة في ذاتها ، ممّا يبتعد بشعره عن موضوعه الأساسي ويحلّ الفنّ لديه محل الرغبة ، فلا تصل القصيدة إلى القارئ إلاَّ مبرّأةً من كلّ ما يعدو الشعور الجمالي أو من معظمه . " - ص 96 - . واضحٌ أنَّ محيي الدين صبحي يسعى إلى تَحْليل أجزاء الكون الشعري منطلقاً من وجهة نظر تتلمَّس حدود الظاهرة الأدبية في سياقها الجمالي العامّ ، وهكذا يتبدّى العملُ النّقديُّ الحقيقيُّ الذي يعيدُ الجزء إلى الكلِّ المتساوق معه ، ويفسِّرُ الأشياء ضمن انتمائها إلى ما هو منطَلَقٌ نظريٌّ فلسفيٌّ تتحرّك علاقةُ الشاعر مع هذه الأشياء من خلال المنطلق المذكور . وذلك للوصول إلى النّاظم الأساسيّ للنّشاط الشعري . إنّ من مهمّة الناقد هنا أن يلمَّ شتاتَ التَّفاصيل في وحدةٍ تشكل المستندات التي ترتفع عليها أعمدة الكون الشعري . فالشاعر لا يبوح بنظريته ومنطلقاته دفعة واحدة ، فهذا يسيء إلى جوهر العملية الأدبية ، بل هو يذهب إلى بعثرة نظرته الكلّية عبر عشرات المقاطع والتجارب ، ويُسقط هذه النظرةَ على التَّفاصيل فيأخذ كلّ تفصيل بنصيب من الكلِّ . تاركاً للناقد الحقيقيّ ، أو المتلقّي الخلاّق إعادة الأجزاء إلى ينبوعها الأوّل الذي تصدر عنه. أمّا القارئ العجولُ ، الرَّاهن ، العابر ، فسوف تفوتُه فرصةُ المتعة الحقيقيّة الرّاسخة ، وسوف يقوم بظلم الشاعر ، عندما يجتزئ من بنائه الشَّامل عنصراً يتمّ إغراقُه بالضوء وحده ، في حين يُسدَلُ السّتار على العناصر الأخرى ، ومن هنا تنطلق الأحكام السّريعة على شعر نزار ، من أنه شاعر الشهوة ، شاعر النساء، نرجسي ، . . إلخ ، لأن كلّ هذه التعابير مصنَّعةٌ وفق قراءة جزئيّة لعالمه الشعري . والحقيقة أن شعر نزار نفسَهُ يمنح هؤلاء الجزئيين ما يساعدهم على جزئيتهم ، نظراً لما فيه من تفاصيل وأشياء صغيرة لم يكن الشعر العربيّ ليتجرّأ على مقاربتها ولا بأي شكل من الأشكال . لكن هذا لا يبرّئهم من تهمة أحاديّة النّظرة ، وضيق مجال الرّؤية عندهم . فنحنُ عندما نكون أمام تجربة شعريةٍ ، يُنتَظَرُ منَّا مقاربتها بأدواتٍ أدبية نقديّة أو ذوقيَّة ، أقلّ ما يقال عنها أنها يجب أن تعطى صورةً عن سعةِ الأفق الذي ندّعيه ، وهذه لحظةٌ حضاريّةٌ مهمّة في دراسة وقراءة النّصّ الأدبي ، هل يُقرأ بشمولية أم بجزئيّة ؟ . وكلا الحالتين يعبّر عن موقفٍ ما يدلّ على مدى تطوّر الذهنية الثقافية الرّاسخة فينا، ومن المؤسف أن الواقع أثبتَ لنا تخلّفنا في قراءة الشعر . قَد يقال إنّ هذه العقلية الحوارية من شأن الناقد المتخصّص ، فالقارئ العربي من حقّه أن يطلع على الشعر ولا يُطلب منه أن يتعامل معه بأدواتٍ هو عاجز عن حيازتها . مع ذلك لا بدّ من أن نفتّش دائماً عن قارئٍ ذكيّ ، وأن ندعو إلى تربية فاعلية القارئ على الوصول في قراءته إلى كيفيّةٍ ونوعيّةٍ تتّفقُ وما وصل إليه الشعر ، والأدب بشكلٍ عامّ ، وتلبّي مطامحنا في بناء إنسانٍ مبدعٍ في الأصعدة جميعها . على قرّاء نزار أن يكفّوا عن التّعامل مع شاعرهم من باب أنهم سيقبضون عليه متلبّساً بالحديثِ عن ثوب المرأة ، أو حمّالة نهدها ، أو المانيكور ، أو شكل مشيتها ، أو يدها التي على مقود السيارة . . . إلخ . فهذه الجزئيّات في النهاية محاولةٌ من الشاعر في الوصول إلى الأصل الثّابت الواقف وراء كل هذه الأشياء . وما يمثّله محيي الدين صبحي هنا - ناقداً - أمرٌ مهمّ جدّاً . فمنه يمكن تمثُّلُ درسٍ مفيدٍ في تذوّق الكون الشعري لدى نزار قباني . فهو يأخذُ القارئ إلى ما هو أبعد من الساق والحذاء والحُمرة والمرقص ... يأخُذُهُ إلى المدى الجماليِّ الذي تومئ إليه هذه المفرداتُ . ويشير عملُ الناقد هنا للقارئ من أجل استبصار أمثولة الحريّةِ التي كانت سبباً فكريّاً مهمّاً قابعاً وراء إبداعات نزار قباني . الحرية التي تبيحُ له التّطوير في العلاقة الشعرية بين الإنسان وأشياء المناخ الأنثويّ الصغيرة والمهملة ، الحرية التي تفتحُ للذّهن إمكانيات التأمل فيما هو مختلفٌ عن السائد ، ممّا يحرّض القارئ - حتى العاديّ - على إعادة النظر في تذوّقه للعمل الشعري بطريقةٍ تلائم طبيعة هذا العمل، لا بما يلائمُ التّصوّر الجاهز في ذهنِهِ هو . إن الناقد في تحليلاته يعلّم القارئ على تحرير النّفوس من الأغلال الذهنية المستقرّة في داخله لتتشبّع بحريّةٍ مفقودةٍ ، يصبح معها خطابُ الجسد شائعاً بين الأوساط ، بما يعنيه من جمالٍ وانفتاحٍ وإبداعٍ ورقيٍّ . إن القارئ السطحي ، سيقولُ عن قصيدة " تنويعات موسيقية على امرأة متجردة " ، يحلّلها محيي الدين صبحي ، سيقول عنها إنها إباحية غريزيّة تصفُ الجسد العاري وتسمّي أعضاءه بلا حياء ، وسوف يُستَثَارُ القارئ منها . أمّا الناقد فسيقول عن هذه القصيدة " ممّا يجعلُنا نعيش في كونٍ يموج بالحياة والحركة والحضارة ، ومما يجعل القصيدة تقول لنا فوق كل ما قالتْهُ : إن نشوء مثل هذا الجمال يحتاج إلى طبيعة خيّرة وحضارة تنعم بأسباب الطمأنينة والإشباع . هذه الإيحاءات المتعددة تذيب أثر الاندفاع الغريزيّ وتحلّه في محلول فنّيّ من الصور والأفكار والأخيلة التي أطلق الشاعر لها العنان فتدفّقت متنوعةً متغيّرة غنيّةً بالتّفاصيل الموحية بحالة جمالية تبعدنا عن سُعار الرغبة اللاّهبة الآنيَّة " - ص 107 - . وما قد يراه القارئ السّطحيّ نفسُه في أشعار نزار من مَشاهد مراهقة عاديّة ، تبرُز فيها دعوة الرجل للمرأة العابرة لمشاركته جلسَتَهُ أو مهدَهُ أو شمعتَهُ ، سوف تراه عين الناقد من زاوية مختلفةٍ تماماً . حيث نعثر على مفتاحٍ جديد يضعه صبحي بين أيدينا لفضّ مغاليق نزار قباني التي تبدو للوهلة الأولى سهلةً وعشوائيةً . إن الناقد يتحدث لنا عن " الصّبوة " كموقفٍ مضمرٍ في روح الشاعر اللاّهث وراء تداعيات ما هو جميلٌ . فالشاعر قد يرى امرأة جميلة من خلف زجاج مقهى حيث يجلس هو وحيداً ، تعبرُ الشارع تاركةً وراءها زوبعةً من الاستغاثات والنّداءات والتّنهدات . إنّ ما يحرّك الشاعر هنا هو الصَّبوة إلى الحوار مع موضوع الجمال المتمثّل بالمرأة . ولكن هذه الصَّبوة لا تعني نزوةً عابرة . وإلاّ لما انتهت بحزنٍ ووحشة . انتهاؤها بهذا الشكل يدلّ على أهميتها للشاعر ككائنٍ إنسانيّ "يصبو " دائماً إلى الجمال المطلق ، لمساءلته والسّرور به والامتلاء من الداخل بمعانيه . فعبورُ المرأة شيء عاديّ يتكرّر كل ثانية ، لكن لا يمكن للشاعر كإنسانٍ أن يغمض عينَهُ عن معنى هذا العبور ، لأنه سيخون عندها علاقتَهُ مع الأشياء . فالشاعر هو من المخلوقات الموكلة بالجمال ، لاستيقافِهِ ، والتّعبد في محرابه ، والاحتراق به . وعندما لا يتحقَّق هذا ، يمتلئ الإنسان / الشاعر بالوحشة والألم ، لإدراكه أن مثل هذا الجمال مرَّ سريعاً وعَبَرَ ، لم يٌقمْ هنا . ومن خلال رصد الناقد لنهايات بعض هذه القصائد ، يتّضح لنا سرُّ هذه الصَّبوة للجمال التي تولّدُ في نفس الفنان حزناً كبيراً يحسبُه الآخرون شيئاً آخر. فتنتهي قصيدةٌ ما بمثل هذا الحزن ، لكن ريثما تنتهي القصيدة يكون الشاعر قد أقام لهذا الجمال مساحةً يتركها ليتمتّع بها القارئُ عندما يجد نفسه أمام لوحة فنية حقيقيّة . يقول في نهاية إحدى القصائد: ما ضرَّ لو شاركتِني مائدتي في هذه الخمّارة المثرثرهْ لا تسألي ما اسمكَ ، ما أنتَ ؟ أنا رطوبةُ القبو ، وصمتُ المقبَرَهْ . . . وفي نهاية قصيدة أخرى ، وبعد أن تكتملَ صبوةُ الشّاعر في معاينةِ وتأمّلِ جمال المرأة على إيوانها ، ووصف أشيائها والزّمان والمكان المحيطين بها ، حتّى يبلغ في دقّة رسم الجزيئات المهملة مبلغاً يتوقّع القارئ معه أن ينقضّ الشاعر في النهاية على هذه المرأة والتّلذّذ بكل هذا الجمالِ الذي كان يصبو إليه. ولكن الشاعر يختمُ الموقف بهذا السواد والبكاء الداخليّ المرير :
كانت إذاً ممدودةً وكان يشكو الموقدُ
وكانت الأحراج تبكي والخليجُ يزبدُ
وفي صميمي غيمةٌ تبكي وثلجٌ أسودُ
ويعتقدُ النّاقد - ونحن معه - أنّ مثل هذه المواقف تُبعد عن الشّاعر صفة المباشرة في علاقته مع إغراء الجسد ، وتزيلُ عنه تهمة أنه يستثارُ غريزيَّاً بهذا الجسد . فمثلُ هذه النهايات تدلّ على أنّ الشاعر يُنهي مشهد الجسد على مزاجه هو لا على مزاج وتوقُّعِ القارئ ، فهذا تابعٌ لروح الشاعر وحده . إنّ مزاجَهُ وطبعَهُ قد يولّدان لديه صوراً مليئةً بالحزن النّبيل أمام الجسد . وهذا نوعٌ من احترام الجسد ، وإعطائه قدرةً على إثارة الانفعال الدّاخليَّ البعيد . ولا يكفي انتشار أسماء مساحة الجسد مهما كان عارياً في القصيدة لنقول إن الشاعر إباحيّ وشهوانيٌّ بطريقة مريضة . هذا إسقاطٌ لعامل الشعور الجماليّ أمام جمال الأنثى ودلالات جسدها ، وإغفالٌ للطّاقة الإيحائية الهائلة الكامنة في مادة جسد الأنثى . وهي في كلّ أحوالها طاقةٌ - لأنها إيحائية - لا تقفُ عند حدود تسمية الأعضاء والزينة والملابس تسميةً مباشرةً ، إنَّ هذا تحصيل حاصل ، ينبغي لعين المبدع تجاوزه للحصول على الإشعاع السري القابع خَلْفَ هذه الأشياء والأجزاء . وهذا ما استطاع نزار قبّاني تحقيقَهُ بجدارةٍ فذّة . وكم رثى نزار الذَّات الإنسانية في عجزها عن التّواصل مع الآخر ، وفي فشلها في صنع حوارٍ طبيعيّ مع الحلم والجسد ؟ . كم ارتبط الجسد عنده بالدموع والكآبة والنّفي والطّعنِ والاغتراب والتّشيّؤ ؟ . كم من القصائد أعلنت عجز الشَّاعر وانكساره في مقام الآخر ، الذي هو المرأة ، معبّراً بذلك عن قلق نفسيٍّ له جذورُه الاجتماعية والثقافية ، الموروثة والسّائدة ؟ . ومن المؤسف، والمضحك المبكي أنّ بعضاً من هذه القصائد - بعد تحوّلها إلى أغنيات - كانت تحرّض ( جمهور الشاعر نزار قباني ) على التّمايل على أنغامها والرّقص الهابط على إيقاعاتها ، في الوقت الذي تغترب فيه القصيدة الحقيقيَّة عن متلقّيها النّبيل ،ويبقى منها الرّهز والتّصفيق والدّبكة!. ولا أحد من ثلّة الرّاقصين والرّاقصات استوقَفَهُ نَزْفُ الشاعر في القصيدة التي يرقصون عليها . . إنه جمهور يرقُص على دم الشّعر . . ! . إذا كان الأسلوب هو الرّجل ، فإن أسلوب نزار قباني هو نزار نفسُهُ . بمعنى أنّ ما نجدُه - ويشير إليه صبحي - من تقلّباتٍ واختلافاتٍ في شعر قباني ، إنّما مردّه إلى ( طبع) الشاعر . والطّبعُ كما يرى صبحي ، أصيلٌ ، بعكس المزاج ، الطارئ . ومن طبيعة الطّبع أنه انفعاليٌّ نزقٌ لجوجٌ ، غيورٌ ، فوضويٌ ، متقلّبٌ ، متلافٌ . وهذا ما يفسِّر سرعةَ الانفعال عند الشاعر . ولأنه ذو طبع عصبيّ ، فإنَّه يشكّل صوره الفنيّة تشكيلاً سريعاً عفويَّاً نزقاً ، ممّا يعطي الصّور في مثل هذه اللحظة بعداً حيوياً متوهّجاً . لهذا تكثر النساء عند الشاعر . وتتناقض علاقاتُه معهنّ ، وتختلف مواقفُه إلى درجة يُلغي فيها بعضُها بعضاً . وفي سياق الحيويّة الناتجة عن مثل هذا الطّبع ، يرى النّاقد أن نزار غالباً ما يحيا الزمن الحاضر ، اللحظة الماثلة للعيان ، فيكثر عنده استخدام الفعل المضارع ، تأكيداً على سرعة استجاباته لما يعاينُه ، لكنها استجابةٌ وإن كانت نزقةً فوضويّةً ، فلأنّها نابعة من نبعٍ هو في الأصل له هذه الصِّفاتُ نفسُها . وباعتبار أنَّ الناقد بدأ يستخدم مفهومات ( الانفعال - الطّبع - ) فإنه يفعل ذلك ليرى حقيقة الوضع النفسيّ للشاعر . وحالته السيكولوجيّة وأثر ذلك على شعره وأسلوبه . لكن الناقد عندما يستعير المفهومات النّفسية ، فإنه لا يمارس أي نوع من أنواع قَسْرِ النّصّ ، أو ليّ عنقه ليتناسب مع المفهوم النَّفسي ، أي لا يعطي الأولويَّة للنّفسيّ ، بل للشّعري ، قارئاً الشعري مستفيداً من النّفسي بالقدر المتاح . لأنه في سياق تحليله للشعر ، تعترضُهُ حالاتٌ غنيّةٌ بالدلالة النفسيَّة . أي أنه وجد في النص ما يبرّر له اللجوء إلى استخدام مفهومات المزاج والطبع ، والصّفات النفسيّة الأخرى . بحيث لا يصبح البعد النفسي عبئاً على البعد الأدبيّ ، ولا يحدّ من حرّيّته ، ولا يشكّل غطاءً يحجب جمال اللغة وانفعال الشاعر بالأشياء . لهذا لا نرى صبحي مهووساً بالتنقيب عن عقدة نفسية ، أو شذوذ نفسي في شخصية الشاعر ، كما فعل بعضُ النقّاد الذين اتَّبعوا منهج المحلّل النفسيّ للشاعر . إن البُعد النفسي هنا مفيدٌ في إضاءة الشخصية الفنية للشاعر . مثلاً . يرى الناقد أن الشاعر ( عصبيٌّ ) . وعلمُ الطِّباع يرى أن العصبيّ ذو ترجيع قريب . ويستنبط سبب كثرة استخدام صيغتي المخاطب والحاضر ، من كون هذا الشاعر ذا مزاج قويّ يتحكّم فيه طبعُه . وعندما لا يجد الشاعر امرأةً يخاطبها ، فقد يستحيل في بعض المواقف حضور المخاطب ، " فلا يكون من الشاعر إلاَّ أن يجرِّد من نفسه شخصاً يخاطبه إشباعاً لحاجته في تلبية الانفعال ذي الترجيع القريب " - ص 131 -. وعندما يورد مثالاً على ذلك من قصيدة " رسائل لم تكتب لها " يعتبر هذه القصيدة " نموذجاً أخّاذاً للتشرّد النَّفسيّ لدى العصبي . إنّ فيها من صفات العصبيّ التقلّب في العواطف " - ص 131 - . إن تلوين وتقلب العواطف والانفعالات يصبح على يد الناقد الأدبي سبباً في تشديد الشاعر على ذاتيّته وفقدان الموضوعية ، على ضوء العلاقة بين الذات والموضوع ، حيث قصائده كلها بلا استثناء . وكما يرى صبحي " تقوم على ضمير المتكلم " - ص 132 - . ولا يحمّل صبحي الشاعر في ( مزاجه ) وطبعه النَّفسيّ أكثَر ممّا يحتمل هذا الطبع وذاك المزاج . ويبدو من خلال التعامل الناقد مع البعد النَّفسيّ للشاعر أن الناقد يعزل هذا البُعد عَزْلاً مخبريّاً بحجة التَّحليل النَّفسي لشخصية الشاعر، لهذا يتم الرّبط بين البُعد النَّفسي والهدف النّقديّ الفنّي المحض . حيث لا يتحوّل هدف النقد إلى ما يشبه عملية تصفية حساب نفسية مع الشاعر ، بل يبقى محافظاً على المسافة الفاصلة بين النّصّ الأدبي ومكوناته الجمالية والنفسية ، وبين كون هذا النّصّ وثيقة إدانة يُتَّهم من خلالها الشاعر بأنه معقد ومنحرف نفسياً . محيي الدين صبحي ، كناقد أدبيّ ، لا ينفي أثرَ العوامل النفسية في تكوين النص الأدبي، لكن يبقى هذا النّصُّ بين يديه نصّاً أدبيّاً يحاوَرُ من خلال مكوناته جميعها ، اللغوية والفنية والأسلوبية واللّونيّة ، نصَّاً له مفاتيحُه المتلائمة مع انتمائه لهويّته الأدبية ، لا نصّاً ينتمي إلى ملفّات المحلّل النفسي . فالأساس في عمل صبحي هو تبيان ملامح ( الكون الشعري ) عند نزار قباني. وفيما هو يفعل ذلك يجد أنّ المزاج والطّباعَ عناصر من جملة العناصر المؤلِّفة لهذا الكون . لهذا تنتفي من نصِّه النّقديّ الأحكام الاتّهاميّة والعدوانية والتي تنتقص من قيمته الجمالية ، بل على العكس تماماً ، يرى أن المزاج وتقلّب الانفعالات والكآبة ، إلى ما هنالك ، كل ذلك ممّا يقوّي السّمات الفنيّة لشعر نزار . وعلى سبيل المثال فإنَّ الشاعر يأخذه الغرور بأنه خالقُ كلّ ما للمرأة التي يحاورها ، من جمال وحظوة وخلود ، وألاّ وجود لها خارج صَدْرِهِ ، وخارج شعره ، وأنها تفقُد حتّى مبرّر وجودها بمعزلٍ عن الشّاعر . وبكلّ ما في هذا الموقف من غرور ، فإن النّاقد لا يتصيَّد من ورائه أسباباً لإلقاء تهمة العقدة والمرض عند الشاعر ، بل يرى أن الحقّ كلّ الحقّ مع الشاعر في هذا. فالشاعر - كمفهومٍ - يحيا في علاقة قصوى ، بإمكاناتها ومحفِّزاتها ، مع الجمال ، ويخلق المرأة على مزاجه ويفتتح لها آفاقاً ما حلمت بها ، ولا يمكن أن تكتشفها إذا رفع الشاعر يده الخالقة عنها . ومن هذا المنظور الجماليّ لماذا لا يكون للشاعر الحق في ذلك ؟ . بل إن صبحي يرى أنّ " الشاعر على حقّ في هذا الموقف من زاوية علم النّفس والفلسفة الحديْثَين " - 145 - . ويعيد ذلك إلى أن الإنسان عندما ينفعل ويستثار بالجمال لا يكون في حالة تفكير منطقيّ وعقلانيّ ، إنه ينفعل به على سبيل ممارسة عادة أصيلة في الإنسان يتوارثها عبر الأجيال . إن النّاقد يؤكّد على ضرورة الوقوف إلى جانب الشاعر ولا بدّ أن نبحث له عن مبرّرات في الفلسفة وعلم النفس ، لا أن نتخذ من هذهِ العلوم ما يدين الجانب الجمالي والشعري عنده . يلاحظ القارئ أنّنا كلّ مرّة نتوقّف عند النّقطة التي نسعى لتوضيحها والدفاع عنها وتأكيد أهميتها . وهي ضرورة قراءة شعر نزار قباني على أنَّه منتج جماليٌّ أدبيٌّ ذو غاياتٍ تمسّ حرية الإنسان بصورة عامة ، والمرأة بصورة خاصة ، ومن المهمّ العمل على كشف أعماق هذا المنتج الأدبي بطرائق القراءة الأدبية لا القراءة الارتجالية . ومرّةً بعد مرّة نؤكد أن الناقد محيي الدين صبحي يقدّم مثل هذه القراءة النقدية المنهجية ، التي تريد أن تنفض الغبار الذي علقَ بتجربة نزار من خلال تكوين مفاهيم شائعة عنه وعن شعره ، لتقديمه على أنه أولاً وأخيراً شاعرٌ ذو مشروعٍ أثَّر على ذائقة القارئ ، وسيبقى حاملاً للكثير من أسئِلَتِه في مضمار لغة الجسد وثقافته ، وفي ميدان الأدب المجابِهِ لأيّ شكل من أشكال التّسلّط على جسد الإنسان ، وبالتالي على فكره ومستقبله . وفي فصل الشعر والشاعر ، يطرح الناقد المشكلةَ الأكثر التباساً والتّي ساهمت في تكوين الصّورة الشائعة عن نزار قباني والتي تدخل منها قائمة طويلةٌ من الاتّهامات والافتراءات . هذه المشكلة تتلخّص في : هل ننطلق في قراءتنا للشعر من موقف المطابقة بين النّصّ وصاحبه مطابقةً مطلقةً ؟ أي هل يمكن أن يكون النصّ الأدبيّ سيرة شخصية لكاتبه ، يتمّ من خلاله التّعرّف على تفاصيل حياته وفضح أسراره ووقائع تجاربه ؟ أم أنّ النّصّ الأدبيَّ يعتمدُ فيما يعتمد عليه على خدعة القارئ وإيهامه بأن ما يقرأه المتلقي هو أمرٌ واقعٌ وهو جزء من ممارسات صاحبِه ؟ . وإذا كنَّا لا ننفي الصِّلة بين الحياة الشخصية والعمل الأدبي ، لكن من الجدير بنا على صعيد توسيع استقبالنا الجماليّ لهذا العمل الأدبي ألاّ يتمّ تحويله إلى وثيقة ومستندٍ حَرفيٍّ، يعكسان الجانب الشخصي من حياة الأديب . وهذا أمرٌ لا يمكن التّهاون به . وعدم حسمه يدلّ على أمّيّةٍ عمياء في معرفة أصول التجربة الأدبية كما يدلّ على تخلّفٍ في بنية استقبالنا للنّصوص الأدبيّة. إنَّ الشاعر قد يضع حياته الخاصة كمصدرٍ من مصارد الكتابة ، وهذا من حقّه تماماً ، لكنّه يعتمد في ذلك على لعبةٍ خطيرة تتمثّل في تحويل الخاص والشخصي إلى إشاراتٍ وعلاماتٍ ورموز تُحيل ما هو خاصّ إلى حيّزه الشامل الذي يلتقي فيه القارئ والشاعر والإنسان بصورة عامّة . وهذه الإحالة ممّا هو شخصي إلى ما هو كلّيٌّ هي التي تشكّل اختباراً لقدرات هذا الشاعر على تمثُّل التّجربة فنيَّاً . والتّجربة الفنيّةُ على أية حالٍ تستدعي لغةَ المجاز والمفارقة مع الواقع والوقائع ، كما تستدعي الجانب التّخييليَّ الذي يُخرج الكلام من ثنائية الصدق والكذب إلى رحابةِ الدلالةِ الفنيّة المتعدّدة . ففي التَّخييل الذي هو أسٌّ من أسس أي عملٍ إبداعيّ يكفُّ السّؤال عن مدى مطابقة النّصّ للحياة الشَّخصيَّة . ويشير محيي الدين صبحي إلى " أنه يجب ألاّ ننسى أنّ الفنّان قد " يجرّب " الحياةَ بشكل مختلفٍ عن غيره وضمن حدود فنّه : فهو يشاهد التجارب الواقعيّة وعينُه على فائدتها في الأدب ، كما أنها تأتي إلى ذاكرته مصوغةً صياغةً جزئيّةً حسب التَّقاليد الفنيَّة والمفهومات المسبقة " - ص 176 - . فالأديب لا يمتنع - وهو يتذكر تجاربه أو يعايشها - عَنْ القيام بنقلِ واقعةٍ ما متخيّلةٍ ، ويوهم المتلقي بأنها قد حدثت فعلاً ، فهو حرٌّ بتطويع الواقع والوهم معاً لعناصره الفنية الخاصّة به ، مِنْ حيث أنه أمينٌ على هذه العناصر لا على التجارب الشَّخصيَّة . من هنا خطورة العلاقة بين القارئ وشعر نزار قباني ، فهذا الشاعر وقَعَ تحت ظلمٍ هائل وافتراءاتٍ متتالية ، ربما لم تَقَع لشاعر عربي مثله . وأعتذر من القارئ هنا إذا استعرتُ من علاقة المشاهد بالسّينما ، حالةً أضيء بها سوء العلاقة مع شعر نزار قباني . . فمشاهد الفيلم السِّينمائيّ السَّاذجُ والمتخلِّفُ ، خاصة في بداية تعرّف المشاهد العربيّ على السّينما ، هذا المشاهِدُ واقعٌ تحت أساليب الخدع السِّينمائية التي تضخّم من الحادثة وتجعل منها خرافةً . كما أنّ هذا المشاهد الساذج سيصدّق أنّ ما يقوم به الممثّلون هو أمرٌ حقيقيٌّ ، فهذا تكسَرُ جمجمتُه ، وتهشّم ذراعُهُ ، وتلك تُغتَصبُ ، وهذا يتزوج البطلة ، والآخر يغرق ، وقد تغرق سفينة كاملةٌ كما هو الحال في الفيلم المشهور ( تايتانك ) . فهل من المعقول بحقّ وعي المشاهد أن يتخيّل للحظةٍ أن ما يراه هو واقعٌ حقيقيٌّ ؟ . أم أن الممثل هنا يؤدّي دوراً بطريقة فنية تهدف إلى التّأثير في المشاهد وتحقيق المتعة له ؟ . هل نقول إنَّ الشَّاعر يفعَلُ الشيء نفسه ؟ . كيف يرضى القارئ بحق مستواه العقلي أن يصدّق أن كل ما يقوله الشاعر من أحداث ووقائع وحوارات وفضائح ، هو كلُّه واقعٌ يحياه الشاعر ؟ . أليس الشاعر - هو الآخر - يقدّم لوحات فنيّة تتشكّل من هنا وهناك ... وذلك لإمتاع القارئ وخلق علاقة جمالية معه . ؟ إنني مرّة أخرى آسف لهذا التّبسيط ، لكنّه من باب الاحتجاج على ما قام به عددٌ من النّقّاد - كذا - ! - بحقّ الشّاعر نزار قباني عندما راحوا ينسجون أوهاماً قائمةً في أذهانهم وحدهم . وبدل أن يساهم مثل هؤلاء النقّاد في الدفاع عن الإبداع بعناصره وملامحه حوّلوا شعر نزار إلى فيلمٍ سينمائيٍّ صدّقوا أن ما يجري فيه هو واقعٌ صادقٌ بالمطلق . وهذه أكبر خيانة للعمل النّقدي الذي يتعامل مع الأدب دون قراءته من داخله . وفي الوقت الذي يستسهلُ فيه القارئ البحث عن حياة الشاعر بين كلماته وسطوره ، فإن هذا الشاعر يكون داخلاً في صراع صعبٍ مع اللّغة والخيال والمجاز ، تغلبه اللغة تارة ويغلبها أخرى ، يسيطر على أداة الخيال ويشتقّ الحلم الذي يلائم طموحه الفنّيّ . وهو في النّهاية صراعٌ يدلّ على صعوبة التّجربة الإبداعية ومشاقّها . صراع لا يهدف إلى إضاعة الوقت والجهد من أجل الكلام عن وقائع شخصيّة ، بل يهدف إلى تقديم قصائد جميلة ممتعة مدهشة تليق بمشاعر القارئ الجمالية وحلمِهِ . إن الشَّاعر المهتم بالرسم بالكلمات ، يجد أن كلّ الدروب أمامه مسدودة ولا خلاص إلاّ في اللغة . وهذا يعكس احتفاءً بأهمية اللّغة وأولويتها وتقديمها على ما يجري في الحياة والواقع . حيث لا قيمة لما يجري ، خارج انتمائه إلى اللُّغة . مما يدلّ على أن هناك غايات تخصّ العمل الأدبيّ يسعى نزار قباني لتحقيقها . وكل ما هو في خانة التَّجارب الخاصَّة قابلٌ ليكون مادةً تساهم في إغناء اللحظة الإبداعية . وفيما يرسم الشاعر بالكلمات ، يبتعد عن سطوة الأحداث ودلالتها المباشرة ، ويتحرَّر منها ، رافعاً سلطة اللّغة الشعرية ، ولا يهتمّ بعدها إن كان ( صادقاً أو كاذباً ) بالمعنى الواقعيِّ الحرفيِّ ، بقدر ما هو معنيٌّ بالصدق مع شروط فنّه وحدها . وهو القائل : ما شأنُ أفكاري ؟ دعيها جانباً
إنّي أفكّر عادةً بأصابعي
إن تفكيره بالأصابع يجيز له التخيُّل والدّخول في منطقة الأحلام المحرَّمة والمتع المكبوتة ليتعايش معها على أرض الفنّ وليس بالضرورة على أرض الواقع . الأمر الذي فات على من كان يقرأ شعره قراءة الباحث عن فضائح يشهّر به من خلالها ، عندما اعتبر الكثيرون أن كل كلمة وحركة في شعره يجب أن تكون متطابقة مع حركته على أرض الواقع. إن محيي الدين صبحي يتّجه إلى شعر نزار قباني مستعملاً مفاتيح استنبطها من داخل التجربة الشعرية لا من أحكام مسبقة . ولم يكن يهتمُّ بحمل أطروحاتٍ هجينة غريبة عن جنس الفنّ الشعري ولم يبحث لمثل هذه الأطروحات عمّا يسندها ويدعمها في الشعر . وهو بذلك يعطينا أمثولةً مفيدةً عن كيفية تناول الشعر ، وشعر نزار بخاصّة ، بكلّ التباساته وتناقضاته وتشنّجاته ، تناولاً لا يضمر النّوايا السَّيئة ولا الحسنة كذلك، فالنقد يعمل خارج التفتيش في النوايا . إننّا مرّة جديدة نرى في كتاب ( الكون الشعري عند نزار قباني ) عملاً نقديَّاً جريئاً على صعيد إعادة الاعتبار لقراءة الشعر قراءةً لا تُخرجُه من هويّتِهِ الذّاتية وتحوّله إلى أشياء أخرى . لذلك فهذا الكتاب لا تندرج أهميّتُه في كونه عن شعر نزار قباني ، بل هو عملٌ نقديّ متميّز في نقد الشعر . .
#محمد_علاء_الدين_عبد_المولى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محاولة قراءة جديدة في تجربة نزار قباني الحلقة الثالثة
-
محاولة قراءة جديدة في شعر نزار قباني الحلقة الثانية *
-
قصائد قصيرة
-
حلقة أولى من سلسلة دراسات نقدية عن تجربة نزار قباني
-
صحوُ القصيدة
-
حِوَارٌ مع المفكّر السّوري د. برهان غليون
المزيد.....
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|