طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 5399 - 2017 / 1 / 11 - 23:23
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كما رأينا من قبل ان كلا الماركسية الحقة وغير المبتذلة وفلسفة وايتهيد في الصيروة يرفضان الاختزال, مثل اختزال السلوك الانساني الى فعل جينات, ناقلات عصبية, او هرمونات الخ.
ان الجدل بين الاختزالية ونقيضها (او بين المادية المبتذلة والنظرية العضوية) يتجسد في البدء بقبول الوجود الحقيقي للأشياء العلمية المعينة - الذرات والإلكترونات، الجاذبية، والضوء، الخ, والقضية قيد النقاش هي إذا كنا قادرين على تفسير كل شيء - على سبيل المثال، كل العمليات البيولوجية، بما في ذلك السلوك البشري (والذي يشمل العقل و/أو الوعي الذاتي لدى البعض، في حين يُستبعد العقل و/او الوعي الذاتي لدى البعض الآخر) - من خلال تلك الكيانات (الجزيئات, الذرات, الالكترونات الخ.) كما يزعم دعاة الاختزالية والميكانيكية، او أننا يجب علينا استدعاء شيء آخر، الذي قد يكون من نمط العلاقت المُنظِمة او خصائص نظام مضاد للاختزالية ويتصف بالعضوية (1).
يقول وايتهيد أن عليه ان نبدأ في مكان آخر. ليس مع الأشياء، ولكن مع "الاحداث" التي هي أحداث رباعية الابعاد، أي الصيرورات. فجميع المعارف، وكل الكلام، مستمدة من تجارب الأحداث. الأشياء العلمية - الذرات، وما إلى ذلك - هي ليست اساسية, بل مشتقة وهي تركيبات فكرية تُخترع لمساعدتنا على فهم الأحداث.
هذا الرأي يقلل من حرارة الجدل. الاختزال ببساطة يفعل ما يقول انه ينوي القيام به، أي أنه يختزل تجربة الحدث الى تركيبة مجردة فكريا. ويمكن تلمس ذلك في معاملة الاختزاليين التبسيطيين لنظريات فرويد في التحليل النفسي. فكما شرحت في مكان آخر (2), فان الكثير من اتباع الماركسية الاختزالية قد هاجموا التحليل النفسي بتهمة اللاعلمية. من الأسباب الرئيسية لاتهام التحليل النفسي باللاعلمية هو استخدام فرويد (رائد التحليل النفسي) لعيّنة صغيرة من المرضى لبناء نظرياته، إضافة إلى عدم استخدامه ما يسمى «منهج البحث العلمي أو التجريبي» لإسناد فرضياته. ولكن اولائك الماركسيين أيدوا بشدة نظريات العالم الروسي بافلوف وخصوصا ما يتعلق بتطبيقاتها في مجال علم النفس، وذلك لكونها قائمة على تجارب فسلجية عصبية، هذا برغم أن تلك التجارب أجريت على الكلاب وليس على البشر. إن تجارب بافلوف هي فسلجية عصبية، أي بيولوجية، وليس من الممكن اختزال علم النفس بالكامل إلى البيولوجيا. كما إن الإدعاء بأن نتائج ما يجرى من تجارب على الحيوان يمكن تعميمها على البشر هي موضوعة خاطئة فلسفيا وعلميا كخطأ الموضوعة المعاكسة (أي تعميم الأحاسيس البشرية على الحيوان). اما بخصوص لاعلمية التحليل النفسي، فيمكن القول إن عدم استخدام فرويد (والمحللين النفسيين عموما) للمنهج التجريبي الوضعي فـي أبحاثه عن الامراض لا يعني لاعلمية منهجيته. إن Feyerabend، أحد أكبر فلاسفة العلم في القرن العشرين، قد بيّن من خلال تحليله التاريخي لتطور العلم بأن تطور المعرفة أو العلم لا يسلك مسلكا خطياً، فليس هنالك من طريقة واحدة أو منهجية محددة تضمن تطور المعرفة، حيث إن العلم والمعرفة يتطوران بشكل فوضوي (3). كما إن باحثين، مثل Glymour، قد كشفوا بأن منهج البحث الذي اتبعه فرويد يشبه شبها كبيرا منهج البحث الذي اتبعه نيوتن في صياغة نظرياته (4)، مما يساهم في تعزيز الاستنتاج بأن التحليل النفسي علم. علما اني اتفق مع ما قاله نيتشه انه حتى العلم الطبيعي (بضمنه الفيزياء باعتبارها ملكة العلوم الطبيعية) لا يعني أكثر من كونه وجهة نظر لتفسير العالم (5).
ونحن نعلم ان ارسطو اعتبر الحقيقة الشعرية اعلى مقاما من الحقيقة التاريخية واعتبر الشعر اكثر فلسفية من كل الكتابات. يتفق الشاعر الانكليزي (William Wordsworth, 1770-1850) مع أرسطو في هذه المسألة ويمنح الشعر موقعا ساميا, باعتبار ان الشعر يتعامل مع الخاص او المحلي والعام او العالمي على حد سواء. وهدف الشعر هو الحقيقة العالمية. والشعر مخلص للطبيعة. ويعتبر وردزورث الشعر "صورة" "الإنسان والطبيعة". يضع الشاعر في اعتباره أن له هدف وهو إضفاء المتعة. والشعر يكيّف نفسه لينسجم مع الاختراعات والاكتشافات الطبيعة. وسيخلق الشعر لغة جديدة لإيصال الأفكار الحديثة. ولكن الحقيقة أن الشاعر هو من النوع الذي يرى في قلب الأمور ويمّكن الآخرين من تحقيق هذه الرؤية نفسها. الحقيقة الشعرية تربط جميع البشر بالمحبة والشعور بالتضامن (6).
وكمثال على سوء تعامل العلم الاختزالي مع انظمة علمية وفكرية تتصف بالعضوية هو انه عندما فرض الشيوعيون في الصين في الخمسينات على المستشفيات ومدارس الطب تدريس الأفكار والأجراءات التي يتضمنها كتاب The Yellow Emperor s Classic of Internal Medicine (كتاب الإمبراطور الأصفر للطب الداخلي) واستخدامها في علاج المرضى (7)، اصاب الذعر العديد من الخبراء الغربيين (من بينهم الحائز على جائزة نوبل في الفسيولوجيا العصبية واحد فرسان بوبر، Sir John Eccles). وتوقع Eccles انهيار الطب الصيني. ولكن ما حدث كان عكس ذلك تماما. فقد أدى الوخز بالإبر، والكى، التشخيص بالنبض إلى رؤى مبتكرة وأساليب جديدة للعلاج (3).
يؤكد عالم الجينات Waddington, ان وايتهيد, انسجاما مع فلسفة الصيرورة, يعتبر الاحداث هي الموجودات الحقيقية (1). كل حدث له طابع واضح، ولكن هذا هو نتاج لتحقق وحدة عضوية لاجزاء منفصلة, concrescence, لعدد لا حصر له من الأشياء (التي هي في الأساس علاقات مع غيرها من الاحداث), والمؤدي, كمحصلة, إلى وحدة عضوية. في العمل العلمي نسعى, من جهة، الى صياغة الأشياء البسيطة التي تعبر عن العلاقات السببية بين أهم الأحداث، ولكن في نفس الوقت علينا أن نضمن أن هذه الأشياء تشمل العدد الضروري للاجسام الفرعية اوالثانوية (sub-objects). فحوى فكر وايتهيد لا يسعى لتبسيط او اختزال فج. ففي كل مرة نختزل, نترك شيئا. والأفكار العلمية هي أكثر ثراء وأقرب إلى الطبيعة كلما تجنبت الاختزال.
يقول Waddington انه طبق أفكار وايتهد على علم الأجنة embryology على النحو التالي. عندما بدأ العمل، كانت المفاهيم الشائعة في علم الأجنة التجريبي تعني أشياء مثل "القدرات", Potencies. ان مفهوم قدرة التطور إلى نسيج عصبي مفهوم بسيط، ولكنه كان في الواقع فارغا تماما من اي معنى لأنه لا يمكن تحليله إلى أي شيء آخر. ولكن Waddington استخدم مبادئ وايتهيد كبديل لهذا المفهوم. أن التطور يعتمد على أنشطة أعداد كبيرة جدا من الجينات. كان لا بد من المفترض أن يتم تحميع هذه الأنشطة معا لتؤدي إلى نوع موَحد نسبيا من العمل، على سبيل المثال، إلى تشكيل خلية عصبية محددة، بدلا من خلية عضلية. ستكون هذه العملية مشابهة للوحدة العضوية concrescence كما اشرت اليه اعلاه, التي تشترط إشتراك عدد كبير من دوائر التحكم في تفاعلات سبرانية cybernetic وهلم جرا. والسبرانية, كما هو معلوم, هي علم التواصل وانظمة التحكم التلقائي في المكائن والانظمة الحية. وعلاوة على ذلك، فإن هذه الوحدة نفسها هي صيرورة. وهذا يعني ضمنا أن التوحيد ليس توازنا من نوع ال homeostasis,، أي مجموعة من التفاعلات التي تضمن نظام مستقرا. بدلا من ذلك, هنالك ما يسمى homeothesis، التي تتحقق باستقرار نوع من التغيير. عندما يتعرض النظام التطوري الى اضطراب, فهو لا يعود إلى الحالة التي كانت في وقت وقوع الاضطراب، ولكن يرجع الى المسار الذى استقر فيه التغيير. ويدعى مسار استقرار التغيير "chreod"، والنظام برمته chreods في نطاق تطوري معقد كفيل بتحويل البويضة إلى مشهد ابييجيني.
يتبع
...........
المصادر
1. Chapter 5: Whitehead and Modern Science by C. H. Waddington
http://www.religion-online.org/showchapter.asp?title=2066&C=1859
2. الـماركسـية والتحليل النفسي
http://www.althakafaaljadeda.com/talal_alruba2e.htm
3. Paul Feyerabend
Against Method
Outline of an anarchistic theory of knowledge
https://www.marxists.org/reference/subject/philosophy/works/ge/feyerabe.htm
4. Glymour, C. (1974). Freud, Kepler and the Clinical evidence. In: R. Wollheim (Ed.), Freud. New York: Anchor
5. Nietzsche, F. (1972). Beyond Good and Evil. Harmondsworth: Penguin
6. Wordsworth s Views on Poetic Truth
http://www.literary-articles.com/2010/02/wordsworths-views-on-poetic-truth.html
7. The Yellow Emperor s Classic of Internal Medicine
https://www.amazon.de/Yellow-Emperors-Classic-Internal-Medicine/dp/0520229363
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟