|
المسيحية كشكل من أشكال الإنحطاط عند نيتشه
عماد الحسناوي
الحوار المتمدن-العدد: 5397 - 2017 / 1 / 9 - 21:37
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يمكن القول أن النقد النيتشوي للمسيحية ينتمي إلى ما يعرف لدى نقاد الفلسفة و مؤرخها بالحدث البروتستانتي، نسبة إلى الإصلاح الديني البروتستانتي الذي انطلقت شرارته من ألمانيا على يد الألماني مارتن لوثر. وقد شاركت الفلسفة الألمانية في هذا النقد في مختلف المجالات، اختلفت بحسب الإتجاهات الفلسفية للفلاسفة الألمان الذين قاموا بهذا النقد. ويلاحظ أن نقد نيتشه للمسيحية طال تاريخ النقد الألماني بكامله. نحن هنا إنطلاقا مما كنا قد أتينا على ذكره سنحاول إبراز طابع النقد النيتشوي للحداثة عموما و للفلسفة الألمانية خصوصا من خلال نقده للدين المسيحي و تحديدا في كتابه "عدو المسيح" الذي لا نستطيع أن نعتبر عملا نقديا كلاسيكيا على غرار الأعمال النقدية الأخرى التي تناولت الدين بشكل عام. إذا كان هذا الكتاب يشن هجوما نقديا على المسيحية، فهو من جهة أخرى لا يمثل بحال من الأحوال الأعمال النقدية الكبرى التي تناولت الدين في نقدها التاريخي، ونعني بذلك، على سبيل المثال العمل النقدي التاريخي لريتشارد سيمون الذي نشر عام 1678 كتاب بعنوان "التاريخ النقدي للعهد القديم" و هو العمل الذي اعتبره النقاد عملا نقديا بامتياز للكتاب المقدس، و الذي رأى فيه هؤلاء كتابا في غاية الصغار إذ إن سيمون إهتم بهذا العمل بالمخطوط نفسه و بجبره و حروفه. و الأمر كذلك يتعلق بالنقد الذي أقدم عليه اسبينوزا، حيث حاول في كتابه "رسالة في اللاهوت و السياسة" إن يقدم نقدا للكتاب المقدس على مستويات عدة، من حيث مناسبات الروايات الواردة فيه، و زمن القصص واستخدامات اللغة بشكل يفصح عن تاريخية النص الديني بالكامل، و ينسف فكرة القداسة جملة و تفصيلا، ويعمل على إلغاء المفارقة و التوحيد بين النبوة والمعرفة الفطرية بشكل لا يسمح بإظهار النبوة كمعجزة سماوية. بالنسبة إلينا فإن نقد نيتشه المغاير لأشكال النقد السالفة، يغدو مفهوما من حيث كونه نقد يمهد لنقد الميتافيزيقا، بنقد انحطاطها التاريخي. إذ ان نيتشه هذا جاء متجاوزا لنقد الدين المسيحي كنص مقدس، وهو ليس معنيا بالكشف عن تاريخية النص المسيحي، بقدر ما كان معنيا بالانحطاط في شكله المسيحي، ومنه إلى الإنحطاط في شكله الميتافيزيقي الفلسفي الناجم عنه أصلا. إنطلاقة نيتشه في معالجته للانحطاط المسيحي تبدأ مع عده المسيحية تطورا معكوسا ضمن مسيرة التاريخ، المسيحية التي رأى فيها نيتشه تطورا إلى الوراء، و بالمناسبة فإن نيتشه لا يرى أن هذا التطور المعكوس كان قد اختصر على المسيحية فقط، بل إن التاريخ عموما لم يخل من حالات مماثلة، فبدلا من السير بخط تصاعدي من الأدنى إلى الأعلى، صار التاريخ بعكس هذه الوجهة من الأعلى إلى الأدنى. فالبشرية كما يقول نيتشه "لا تمثل تطورا نحو الأفضل أو نحو الأكثر قوة، أو نحو الارفع. ولعل فكرة الترقي فكرة حديثة، بمعنى فكرة خاطئة، فالأوروبي اليوم صار أدنى قدرا من أوروبي عصر النهضة. و التوسع المتتالي لا يعني إطلاقا ولا بأية ضرورة تساميا أو تناميا أو اقتدارا. المشكلة الأولى التي يلمسها نيتشه هي مع التاريخ عموما، الذي لا يسلك سلوكا مطردا نحو الأمام، بقدر ما يسير إلى الخلف. وجدير بنا أن نشير إلى كنا قد تحدثنا عليه سابقا حول موقف من التقدم التاريخي، فهو و إن كان يقول ما يقوله محاولا إبراز قوله هذا، وكأنه احتجاج على حركة التاريخ التي لا يؤمن بها، والتي تشير إلى الأمام، فإن هناك تلميحات تؤكد على رفضه التقدم التاريخي، وكذا الحتمية التاريخية التي قال بها ماركس.ولكي يخرج من هذا المأزق، ويتهرب من هذه المواجهة ولكي لا يوصف بالطابع الرجعي لمجمل إنتاجه الفلسفي، فإنه يلجأ إلى الإنحطاط لوصف حركة التاريخ تلك، على نحو يبرز أن تطور التاريخ و تاريخ التطور إنما هو تطور انحطاطي، وأن تاريخ التطور ليس سوى تاريخ تطور الانحطاط. إذا كان التاريخ بما له و ما عليه تاريخ انحطاط كما رأينا حتى الآن، فإن تحسس نيتشه لهذا الانحطاط مرده إلى أن نيتشه الذي يسعى إلى تحقيق الإنسان الأعلى، كان عليه أولا تصفية الحساب مع التاريخ، ومع التراكم التاريخي، وديالكتيك، طالما أن التاريخ لا يسير فيه التطور و تصاعد القوى في خط متوازي والاقتدار والتناهي، وأنه بدلا من ذلك غالبا ما أفضى اسبعاد تلك المعاني. إن التاريخ البشري اذ وصل إلى إنتاج المسيحية فإنه قد قضى على كل فرصة كان من خلالها يمكن إنتاج إرادة القوة و التسامي و الاقتدار. وهنا يظهر انحطاط المسيحية و التاريخ معا، في قطعهما الطريق أمام ولادة الإنسان الأعلى. فهذه المسيحية كما يقر نيتشه قامت "بحرب مستميتة ضد ظهور الإنسان الأعلى، ضد القوة، و انحازت إلى كل ضعيف و منحط وفاشل." وبهذا تكون المسيحية قد اعادت إنتاج الانحطاط. أما كيف فعلت ذلك؟ فهذا يعود لوقوفها بحسب نيتشه ضد القيم العليا و اعتبارها خطيئة و ضلالات، مما يشير إلى أن نيتشه يهدف من وراء ذلك إلى إعتبار المسيحية مشروعا و منهجا لتكريس الإنحطاط، الذي هو في تناقض مع المشروع النيتشوي السامي إلى تحقيق إرادة القوة، وهذا كله لا يجعل نيتشه يفهم المسيحية ضمن الشروط المادية التاريخية التي أفضت اليها، و بالقيمة نفسها التي تجعله يقدم المسيحية على هذا النحو. ومن خلال هذه الشروط المذكورة يقوم نيتشه بتقديم أسطورة العدمية وربطها بقيم الانحطاط في محاولة مقصودة لتحويل الأنظار عن الاغتراب الديني للإنسان الذي يعادل إغترابه الاقتصادي، والذي يجعله يناضل ضد الدين كما ضد الظروف الاجتماعية والاقتصادية لوجوده الدنيوي. إذ ان تاريخ المسيحية عند نيتشه يتحول إلى تاريخ العوز والاحتياج، وينتهي إلى نشر القيم العدمية تحت اسم القداسة. وهنا نقف عند محاولة نيتشه لجعل الدين عموما والمسيحية خصوصا نوعا من الإيديولوجيا، فهذا التزييف المشار اليه أفضى إلى عدمية مغلفة بالقداسة، وهو في نهاية المطاف طابع إيديولوجي يأخذ نيتشه على عاتقه أن يشرحه بإسهاب. لكن هذا الشرح النيتشوي بدوره لا يعدو أن يكون هو نفسه إيديولوجية أخرى تحتاج بدورها إلى شرح ونقد تاريخي.
#عماد_الحسناوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خلاصة المشروع النيتشوي
-
فلسفة التاريخ عند هيجل
-
حقيقة العذاب
-
الكتابة الجينالوجيا كبديل للكتابة الميتافيزيقيا
-
قلب الأفلاطونية عند نيتشه
-
نيتشه قارئا لكانط
-
طرق العقل بالمطرقة الجينالوجية
-
الميتافيزيقا عند نيتشه
-
صيغ الوجود عند مارتن هيدجر
-
الميتافيزيقا في الفلسفة الديكارتية
-
الميتافيزيقا الأفلاطونية
-
ما الميتافيزيقا ؟
-
الوجود و الماهية في فلسفة نيتشه
-
أزمة العقل عند نيتشه
-
دور الثقافة الأروبية في ظهور البربرية
-
خيانة الضيوف للجسد
-
الدين الكوسمولوجي كبديل للدين التاريخي عند كانط
المزيد.....
-
ترامب يأمر الجيش الأمريكي بتنفيذ ضربات جوية في الصومال
-
تظاهرات في مدن ألمانية ضد سياسة الهجرة المدعومة من البديل
-
نتنياهو: سنواصل العمل لتحقيق أهداف الحرب
-
شاهد.. نيران وحطام طائرة متناثر في الشوارع إثر الحادث الجوي
...
-
مصر.. اجتماع عربي لرفض تهجير الفلسطينيين
-
صحيفة: في الغرب يدركون أن بوتين يعرف نقطة ضعفهم
-
اختفاء معلومات وبيانات مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية من
...
-
السودان.. الجيش يعلن استعادة السيطرة على عدة مدن في ولاية ال
...
-
دانماركي يحرق مصحفا أمام السفارة التركية في كوبنهاغن (فيديو)
...
-
واشنطن: يجب إجراء انتخابات في أوكرانيا
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|