|
هل قوة الدولة من قوة دينها؟
سعادة أبو عراق
الحوار المتمدن-العدد: 5390 - 2017 / 1 / 2 - 22:24
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
توارثنا في ثقافتنا الإسلامية بعض الآيات القرآنية التي نجد فيها الارتباط واضحا بين القوة المجتمعية والقوة السياسية وبين قوة الإيمان والتمسك بالإسلام ، وهي ( ان الله ينصر من ينصره ) و ( وما النصر إلى من عند الله ) ، وبالتالي استقر في نفوسنا أن العقيدة القوية الصادقة والصافية في النفوس هي البنية التحتية لبناء دولة أسلامية وبناء مجتمع متماسك وحضارة إنسانية راقية. ولقد كانت هذا الفكرة هي الملهمة للإمام حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين الذين ذهبوا إلى رفع سوية الإيمان عند المسلمين، وشعارهم مقولة الإمام مالك بن أنس ( لا يصلح آخر هذا الدين إلا بما صلح أوله ) بمعنى أن بناء الدين في النفوس يجب ان يكون الأرضية الصالحة التي تبنى عليها كل تفاصيل الحضارة القويمة السعيدة. ولقد شاعت هذه الفكرة بما جعل الناس يعتقدون أن الرفعة السياسية والرفاهية الاجتماعية ستتحقق يشكل حتمي لو كنا مخلصين صادقين في نوايانا، ولقد استهوى هذا المشروع قطاعا كبيرا من عامة الناس للمشاركة به، فوجدنا جماعات من المبشرين والداعين يجوبون الشوارع ويخيمون في المساجد ويدقون الأبواب ويقومون خطباء في الحافلات العامة ومجالس العزاء والمنتديات, أن فكرة الدعوة إلى الله التي انطلقت في أوائل الثمانينات من القرن الماضي ، لم تجد معارضة شعبية إطلاقا، وذلك بما يكنه الناس للدين ولرجالات الدين من احترام وتقدير، ولكن بعد هذا المشوار الذي ناف عن الأربعين سنة لم نجد منجزا واضحا سوى لبس الخمار، ذلك أن هؤلاء البسطاء المتحمسين لنشر الدين من الشباب والكهول الذين انطلقوا من قول رسول الله (بلغوا عني ولو آية) ذهبوا يتقمصون شخصيات الصحابة رضوان الله عليهم، وفي أذهانهم أيضا أن الناس سادرون في جهلهم كما البدو في الصحراء، وهذا العمل اشبه بالمسرحية الهزلية مما خلق ردة فعل منفرة، لأنهم لم يكونوا على مستوى علمي وثقافي وأفكار جديدة تتناسب والعصر الحديث. وبغض النظر عن متابعة هذا المشروع، فإنها فكرة خيالية لا يمكن أن تتحقق منها، فلا يوجد مجتمع له نفس السوية من الاعتقاد والإيمان، فالصحابة الأبرار في عهد الرسول لم يكونوا هم كل المسلمين، إنما كانوا فئة النخبة، أما باقي القبائل التي أسلمت لم تكن لها نفس السوية، لذلك فإن الإقرار بهذا التصور، يجعل من البدء بتمكين الدين من النفوس كشرط أولي لبناء دولة قوية ومجتمع حضاري حديث متفق مع العصر، ما هو الا عمل عبثي محض، أما وإن الذين يقومون بهذا التبليغ ليسوا من ذوي الكفاءة، فإن المسألة تصبح أكثر مأساوية، وتدل على انفصام الشخصية، إذ لا يجوز ان تفترض بنفسك القدرة والقدوة الصالحة والمعرفة الواسعة، لتهدي قوما بلغوا من العلم والمعرفة والتدين أكثر منك، إنها تمثيلية هزلية لكنها غير مسلية. ولنذهب إلى مناقش هذه الفكرة التي استهلكت منا جهدا ووقتا وفكرا دون طائل. 1 - على من يحمل هذه الفكرة محمل الجد، كمشروع لا بد منه، ان يعي تماما أن التاريخ لا يعيد نفسه، وان الزمن الذي يؤثر في جسمك وتفكيرك وبئتك، بحيث لا تستطيع أن تفعل كبيرا ما كنت تفعله صغيرا، هو ايضا فعله في المجتمع، لذلك فإننا في هذا العصر لا يمكن أن نعيش أو نفكر أو نتصرف تصرف شعب أو أمه عاشت في زمن مضى، إن الزمن لا يسير بشكل دائري، بل بخط مستقيم لا يلوي إلى الوراء. إذن فعلى الذين يعتقدون ان الدين الذي هو عماد الدولة لا يصلح آخره إلا بما صلح اوله، انما يسيرون عكس السنن الطبيعية التي خلقها الله، ولا يمكن ان يعودوا بنا إلى المربع الأول، لأن ذلك مستحيل إلا في الخيال العلمي. 2 - وأن يعلموا ان الله قد خلق المجتمعات البشرية وجعلها أفرادها طبقات بعضها فوق بعض ابتداء من المتخلفين عقليا إلى العباقرة، من المجرمين الأفاقين إلى المصلحين الصالحين الأطهار، من الضعفاء الذين هم عالة على المجتمع إلى الأقوياء الذين يرفعون من شأن مجتمعهم وأمتهم. من هنا نجد أن التعامل مع كل الأفراد على أنهم عنصر واحد متشابه هو أمر لا يستقيم مع الواقع ، لذلك فإن الذهاب إلى اعتبار كل أفراد المجتمع أسوياء في الفهم والتفكير، وبالتالي على قدر واحد من الدين، هو أمر لا يمكن أن يكون. 3 - هنا يجب أن ندرك أن العودة إلى أسلمة المجتمع كافة بسوية عالية هو أمر ممتنع من الناحية الواقعية، ولا يمكن القبول به كنظرية لتفسير التاريخ، حيث اقتنعنا صغارا بأن الدين هو الذي بنى لنا حضارة من الشرق إلى الغرب ما هو إلا قراءة ناقصة، فالدولة الأموية لم تنشأ لأن الدين عن الناس أصبح أقوى منه في عصر الخلفاء الراشدين، ولم تنشأ الدولة العباسية على انقاض الدولة الأموية لأن التدين في الدولة العباسية كان أقوى منها في الدولة الأموية، وهكذا لا نستطيع أن نقول أن رفع مستوى العقيدة أو انخفاضها، هو السبب الرئيس في قيام الدولة أو سقوطها. 4 - وعلى مدى تاريخنا لا نستطيع أن نجد شاهدا واحدا على أن العقيدة الصرفة كانت عاملا في رقي أمة أو انحطاطها، كما لم نستطع أن نجد في تاريخ الحضارات أن العقيدة الدينية مهما كانت، أو الأيديولوجيا التي تبنتها كانت العامل الحاسم، والذين يمكن لهم أن يستشهدوا بقيام الاتحاد السوفيتي انه قام على العقيدة الشيوعية، نقول أن الشيوعية ليست تصورات ذهنية إنما هي مشروع اقتصادي لإدارة موارد البلاد بشكل جماعي وتوزيع الثروة وتحقيق الكفاية لكل فرد، إنه مشروع يمكن أن يكون مصيبا ويمكن أن تعتوره أخطاء قاتلة، ويمكن أن ينفذ بشكل صحيح ويمكن العكس أيضا. 5 - علينا أن ندرك أن جميع هذه الدول لا تقوم على عقائد مقدسة، بمعنى أنها لا تنظر إلى العالم بمنظار عقائدي جامد ومستمر، حتى الأيديولوجية الشيوعية سقطت لأنها لم تستجب لتطورات الزمن، ذلك أنها عجزت عن استيعاب التطور والتغير الذي حدث في النصف الأخير من القرن الماضي، لكن عقلية التشفي التي ناقشنا بها انهيار الاتحاد السوفيتي حجبت عنا النظرة الموضوعية واكتشاف الحقائق، وتعلم الدروس, 6 - أما وقد قطعنا شوطا خلف فكرة أغرتنا ذات زمن، لا بد لنا الآن من أن نتوقف عن السير خلفها، للخروج من هذه الوهدة التي غرقنا بها عن قصد وغير قصد، وننظر إلى حضارة عصرنا نظرة الفاحص المحايد، تاركين خلفنا كل أحكامنا المسبقة، التي استقيناها صغارا من الكتب المدرسية، وما كان يتلوه علينا الشيوخ والوعاظ بأننا كنا أسياد العالم، وندرس بتمعن وحيادية، عمّا جعل الأوروبيين أسياد العالم، وما تبعهم من صينيين ويابانيين وهنود وأمريكيين وغيرهم ، وبقينا نحن نعالج الحلم كأنه حقيقة. 7 - العمل الجاد في هذا الاتجاه يجب أن يكون قائما على دراسة الحاضر وليس الماضي، فالحاضر ينبئنا انه لا يوجد في الوقت الحاضر دولة دينية أو دولة ايديولوجية وذلك للأسباب التالية: أ - لم يعد الصراع بين الشعوب صراعا عقائديا، وما عاد العالم مكونا من مؤمنين وكفار، وما الصراع الحالي إلا صراع نفوذ وهيمنة وسيطرة اقتصادية، فالرجل الاقتصادي لا يهمه دين من يشتري بضاعته ورجل الأعمال لا يهمه دين من يعمل في مصنعه أو مؤسسته. ب - لم تعد وسائل الحروب التقليدية ذاتها كالسيف والرمح والحصان وغيرها، التي كان من الممكن توفرها والحصول عليها وخزنها في كل بيت، بل ادوات حرب متطورة، لا تباع لنا إلا بعد تجاوزها زمن الصلاحية، وتصنيع أسلحة أكثر تطورا. ج - ومن ناحية أخرى فإن تهيئة الجنود للحرب - كما كانت قديما - ، تعتمد على مهارة اللعب بالسف والرمح, وان الحرب لا تحتاج إلى كثير من الإعداد، فكل المواطنين هم جنود احتياط مستعدون للحاق بالجيوش، ولكن ما نراه اليوم من معدات عسكرية هي غاية في التعقيد والتطور بحيث يكون تدريب الجنود على هذه المعدات طويلا ومكلفا. د - إن البندقية التي كانت هي العامل الأهم في حروب القرن التاسع عشر، لم تعد ذات جدوى فاعلة في خضم السباق المحموم بين الدول على اختراع أدوات وآلات حربية جديدة تحرص كل دولة على سريتها لكي تفاجئ العدو بها، ومن هنا ندرك أن الغلبة العسكرية تكون لمن يملك السلاح الحديث الذي يفاجئ الخصم ويربكه وبالتالي يلحق به الهزيمة، فسليمان القانوني انتصر باستعماله البارود على قنصوة الغوري في مرج دابق حيث كان المماليك يحرمون استعمال البارود. هـ - إن اختراع آلات حربية جديدة أكانت حاملات طائرات أو غواصات أو أسلحة كيماوية ونووية، أو أساليب تجسس وأقمار صناعية أو تصنت على الأعداء أو بناء قواعد استراتيجية وغيرها لا يتأتى بالتمني والدعاء إلى الله ان يرزق ملوكنا ورؤسائنا بطانة صالحة، ولكن بوجود بنية تحتية من التكنولوجيا المتطورة والتي تتزايد باستمرار. و - التكنولوجيا كلمة يندرج تحتها علوم من كل نوع، تتشابك وتنتج علوما ومعرفة جديدة، يصعب على المتابع تقصيها وفهم جوهرها وأغراضها، هذه التكنولوجيا لا تنزل مع المطر، إنما تنبع من مؤسسات البحث العلمي التي يصرف على ما تجريه من دراسات وأبحاث وتجارب - ليست مضمونة النتائح - مئات الملايين، وهناك مصانع نستطيع أن تنفذ عمليا أية فكرة تريدها هذه المؤسسات، وهناك شعوب تشعر بمواطنتها وتقدر توجه حكوماتها وتساعدها في تحقيق أهداف حضارية يسعون جميعا إلى تحقيقها. ز - إذن فالدولة الحديثة القوية تقوم على التكنولوجيا، هذه التكنولوجيا تصنع الاقتصاد والسلاح معا، وهذان المنتجات هما ما يجعلان الدولة قوية، ويضعانها فب مرتلتها اللائقة بين الأمم، وليس قوة إيمان الناس أو ضعفه، التكنولوجيا هي ثراء معرفي مفرط، يتضاعف تضاعفا هندسيا، بمعنى الإثنان يغدوان أربعة والأربعة ثمانية والثمانية ستة عشر وهكذا ،فأي دولة سنقيمها ونحن لم نبدأ بعد في اكتساب العلم والمعرفة والتكنلوجيا؟ وأي دولة هذه التي سنقيمها اعتمادا على العقيدة الدينية؟
#سعادة_أبو_عراق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سكيولوجيا الحروب
-
قصة قصيرة - وقفة
-
مصطلح الأنتصار( 2 ) تبعات الاعتقاد بان النصر من عند الله
-
مصطلح النصر في العقيدة الإسلامية( 1)l
-
قصة قصيرة / خذوني معكم
-
ذكرى
-
ما يمنع احتفال المسلمين بميلاد المسيح
-
ملاك الشعر
-
هل المعجزة ضرورية للإيمان؟
-
من أين نبعت فكرة الإعجاز العلمي للقرآن الكريم؟
-
أين الإعجاز في القرآن الكريم
-
رحلة
-
الحافلة/ قصة أدب غرائبي
-
هل كان مع الإسراء معراجا؟
-
ترشيد الدعاء
-
وصية
-
من قسم البشر إلى كفار ومسلمين؟
-
نجومية رجال الدعوة
-
هل نحن بحاجة إلى دعاة؟
-
إلى الذين يستنكرون المولد النبوي
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|