|
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -7-
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5389 - 2017 / 1 / 1 - 13:05
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية الوقفة 7 وهكذا يكون كل الناس صوفيين بما أوردناه من تفريق بين مناطات المعنى، وتحديد لمساحات المجلى، لأن التصوف يظهر أثره في فلسفة التعامل مع مركب المعاني الذاتية، وكيفية بناء نسق التمازج مع الصور الموحدة للحقائق الإنسانية. وإذا انجلت لنا هذه الحقيقة التي تجمع شتاتنا، وترمم قلاعنا، فلا محالة، سنلمس طريقا يفسر لنا تنوع الظواهر الروحية، وتعدد طرق معانيها العرفانية، وتماثل حقائقها في التجارب البشرية، وتشابك أعراضها في الظواهر الاجتماعية، ولو بدت لنا خصوصياتها متنافرة، وغدت غاياتها متصارعة، لأن الإيقان بمقتضى التعدد في صور اليقين، يجعلنا روحانيين، ويصيرنا متعالين، ولو غرقنا في يم الماديات، وولغنا في وحل الشهوات، وشربنا صديد الغفلات، لأن المعنى الذي يسيطر على الذوات في جنوحها نحو يم المجهول، ومهما كان قعره متضائلا عند الأفول، لا يتأتى لنا فهمه إلا إذا جعلنا تناقضه روحا تجري علينا أقدارها التابعة لمقامنا في الوعي، ومثالنا في الجري. وهنا نكون قد أقمنا الحجة على وجود مشترك بين نوازع الاكتساب في دائرة البشر، ولو اختلفت المنابع، والمشارب، والآبار، لأننا لا نثير سؤال الله إلا في الأماكن المجللة بالآلام، ولا نفقه ضرورته إلا في زمن الآثام. وما لم يكن هذا السؤال نابعا من عناء الإنسان، وضجره، فإنه لن يتحدد له سير في الطريق الموصل إلى مورد طبعه، وحقيقته. لكن أين يتجلى الفرق بين السبل التي نختار منها بكدنا سبيلا واحدا، نجعله مسيرا لأنفاس تتفتق فينا طرائق قددا.؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ليس هدف قصدنا، ولا غاية أملنا، بل نعني أن السبيل الواحد الذي يقطع في نجدنا زفير المطالب، لا يؤدي في اعتبار كثير ممن دافع عن وحدته إلا إلى النهاية المقدرة بالفراسخ، والأميال، والوهاد، والسهوب، لاسيما إذا غشي الأماكن ظلام، وتجهم، وكآبة، وضباب. كلا، بل السبيل في أوضاعه الحقيقية التي يفرضها الوضع اللغوي الدقيق، لا يفضي في أنظار تحدس المعنى العميق، إلا إلى تصور الجهة عند مدرك القصد على التحقيق، وهي في نتيجتها انحراف عن مغرب الشمس إلى مشرقها عند الرؤية، وانجذاب إلى الأين في كون لا تحده الأنظار، ولا الفكرة، لأن السبل المتعددة فينا بالحد، والناحية، ولو ظهرت لنا متكاثرة في النهاية، هي التي تؤدي حقيقة إلى الكنه المقصود بماهية الرعاية، وكلها ضمان للحصول على مستقيم الخط في طريق العناية. ولذا قال القرآن المنزول علينا لكسب الوقاية: والذين جهدوا فينا لنهدينهم سبلنا. فلا غرابة إذن إذا كانت كثرة السبل في بحر الوحدة توصل إلى بحبوحة الحقيقة، لأنها هي الأنفاس التي نقطع بها طول مسافات سيرنا على الطبيعة، لكي ندرك من شساعة الكون تمام شرعة المعرفة. وأي نفس أبرز السر المكنون في عمق الذات السوية، كان أقدر على أن ينيلنا جمال المنحة، والهدية. إذ المراد هو البحث عنه في كل ظاهر، وباطن، والطلب له في كل أثر يعظم به التوحيد في الفؤاد، والبيان. وإذا كنا قد أدركنا رغبة الإنسان على اختلاف أنماط سيره في رص خط الوصول، وسبك هوية الموصول، فإننا نؤكد معنى قائما بلا امتياز، ونوضح حقا جليا بلا انحياز، لأن طبيعتنا جبلت على التحول، والتغير، ومزجت بالرغبة في البقاء، والاستئثار، وغذيت بالأمل في القوة، والانتشار. لكن هل يمكن لنا أن نميز بين جلب المعارك التي نخوضها على بساط الحياة تلك المعاني الظاهرة بقلقها في وعي الصوفي، ونقول بأنها هي التي تبين لنا كيف اندلقت ذاته من وراء أحراش الألم بعنفوانها القوي، لكي تتجاوز ما غرس في الذاكرة المتعبة بالنسيان، فتغدو سؤالا محيرا في عقل يستمرئ السكون.؟ ربما قد يبدو هذا غريبا، والقول به عجيبا، لاسيما إذا استحضرنا عدم التميز في الحظ إلا بالحصول على النتيجة المرغوبة وهي الخاتمة غير المعلومة، والوقفة الخاشعة لنيل المثوبة. لكن إذا كان في الأمر ما يثير زفير الغرابة، وفيه حقيقة ما يهدينا إلى كسب المناعة، فإن إدراك مدار الاختلاف، ومناط الائتلاف، هو ما يجعلنا نتجاوز النزاع حول الحدود المعذبة للإنسان بلا لطف، والمحيرة له بلا عطف. لأن الوعي الحقيقي عند طلاب المعرفة الصوفية الدقيقة، ليس فيما يحصل لهم من قراءة القراطيس العريضة، بل فيما يقتنصه الجهد من غابة المكابدة، لأنها عين محاورة مغابن الذات بالمجاهدة. فلا غرابة إذا سافر طائر الشوق من فنن إلى فنن، لكي يقطع الطريق إلى شعف المعاني والقنن، لأن غاية الجهد فيما يظهره المقام بين الأعماق، لا فيما يطويه العقل بين الأوراق، أو فيما ينطق به اللسان من أذواق. إذ المعنى المخزون في دائرة الذات، قد تضيق عنه العبارة في النقش، والنحت، لأن المعرفة ذاتية، وما تراءى لنا من صور في البواطن الغامضة، فهو إما نسخ لما نقرأه، أو رشح لما نتذوقه، وكلاهما نعبر عنه بالتجريد المتسم بحدود إدراكنا، أو بالترميز المتصف بانفعال عقولنا، لأن مشكلة المعرفة في الصوغ الأبعد، هو ما نشهده من عجز النفوس عن استجلاء المعاني بالنظر الأحد، إذ ما هي إلا أحد أمرين، لا يظهران إلا لإثبات التفصيل بين مقامات اليقين: فإما شيء لا قدرة لك عليه، وأنت تستظهره في حدود ما تطيقه، وإما شيء قريب الإمساك بما فيه تجريد، وأنت تستوحيه بذاتك المجللة بالتفريد. لعل ما نراه سائغا في المقال، وسابغا في المحال، أن الصوفي لا ينفصل عن غيره، ولا يفضل ما سواه، إلا لكونه سلك طريقا للوعي، واختار مهيعا للسير إلى حقيقة الأمر في المكنون الأزلي، لأن اختلاف الأفكار في الذوات، هو الذي يصير الطرق متعددة في الخطوات، إذ الأقرب منها، هو الأولى في الاقتداء بها، لأن تضييع الأوقات في طي الأماكن الممرعة بالأوحال، هو السبيل الأوعر في نيل حجة الوصول. إذ الوقت نفس، وما فات منه فلن يرد إلى دقائق الساعات، والأجراس. وما نحن إلا مجموعة أنفاس، وفي كل خطوة تذوب منها طائفة بين الأرماس. ومن هنا، فالصوفي لم يتميز إلا بسلوكه لألحب الطرق في المعقول، وذلك يقينه في عقيدته التي يتوسل بها لكسب الصدارة بالمنقول، وحجته ما يجده من أذواق في حضرة الحق، ودليله ما يشهده من نيته البارزة عليه بلا تلفيق. لكن ألا يكون هذا حكما على الظاهر، والتصوف ما هو إلا لغة الباطن المستور.؟ قد يكون هذا إرادة نقشتها ضروب العناء في حرد الصوفي، وهو بذلك يخالف عهد الشيوخ في قديم الدليل، والرأي، لأنهم حاربوا ما يبديه التصوف من مظاهر تميزه، فقالوا بالتجريح لمن أظهر ملامح خصوصيته على بارزه، وهم ما رأوا ذلك إلا خروجا عن هداية الطريق، وما عدوه إلا كشفا لمستور تبرزه أسمال النفاق. ومن هنا، لن تكون تجربته في مشترك ظاهره، لأنه محكوم بحرية فعله في واقعه، بل تؤتى من باب باطن ذاته، وهو الحاكم بالمحصول منه على موضوعه، ومحموله. ولرتبما قد يكون ظاهره مستساغا للحكم عليه، لكن كيف لنا أن نحكم على شيء لم نره، لاسيما والباطن مكتوم، والظاهر ما هو إلا سحنة لسنوخ ما نتصوره في العمق المزموم.؟ لعل ما يرد علينا في هذا المقام، هو الذي يحتاج إلى تأويل، وتصريف، لئلا نقع في الزيغ، والتحريف، لأن ظاهر التجربة مكتسب بالضرورة الاجتماعية، لكن باطنه منتخب جسيمه للذات الواعية العاقلة. إذ الصوفي يجسد بهويته مثالا للمتوله المنسرح الروح، وهو في هذا ينازل معنى آخر بما يجود به من نفيسه بين سبل الرباح، لأن تفرد السير ليس في وضع القدم على نقطة الوصول، بل في الكيفية التي حصل التآلف بين المعاني عند الحصول. ومن ثم، فالصوفي حين أعلن عن رسم البداية، فهو لا يريد إلا إثبات عوزه إلى دائرة النهاية، لأنها لا ترتجى إلا في الحياة الزائلة، وهي إما تعب يؤلمك وصله، وإما أمل يفرحك فقده. فهل كانت النهاية المقررة بموت الذات عن المعنى قرحا عنده، وحزنا فيه.؟ كلا، لم تكن النهاية في عقل باطنه إلا بداية استعداد لما تشرق به شمس الحقيقة الجلية، ولم تكن النهاية في كسبه إلا لحظة سارحة بين زمن غير محصور بالحدود المدركة للعقول الفتية، لأنه في غور ما يضع عليه قدم الانطلاق، يحصل له الانسجام بمنتهى الآراء الحاصلة في النتيجة باتفاق، إذ التميز هنا يقع بالإدراك للمعالم المحددة القصد، وحينها يكون ما بين المراحل من صوى، ومُدد، هو المراح الذي نزل عليه المعنى غضا طريا، لكي تغدو الغاية المكشوفة في النظر صفيا، جليا. لكن كيف نالت الصوفية الحظوة، فتمتعوا بما في الفناء من جلوة.؟ خاض الناس في هذا زمنا طويلا ذيله، وتاهوا فيه بدافع استكشاف عاقبته، لكن الصوفي الذي نطق بالحق، لم يعرج إلا على قائم في العمق، وهو الذي يحدده، وهو الذي يلتبس به في سيره، لأنه لم ينطق بشيء لم يكن جاريا على الألسن، بل تعددت في حصره عند إرادة البيان. فلذا لم يكن تميزهم في كونهم فتقوا من العناء طريقا غير معلوم، بل من كونهم عاشوا بين الناس بأجساد ترفض المقام المزموم، وترسم لخطوات الذات صورا محررة المعنى، لعلها تسعد بالكمال عند تساوي الخطوط في الحظ المعرى. ومن هنا أخطأ كثير ظن التصوف بلها، وغباء، لأنه قاس العقل بما يعيشه السعي بين المناكب من شقاء، ولم يدر أن مسمى العقل هو محل الاختلاف، وأنى لما تضاربت فيه الأنصبة أن يصير مقاما للائتلاف، إذ العقل ما هو إلا النباهة في أقصى حدودها، وأي نباهة أعلى من أن تنال من الدنيا سلامتها.؟ ربما قد يضيع من المتصوف كثير من سبل راحته، لكن هدفه الأبدي حين جرى به السلوك نحو نبع حقيقته، لم يكن إلا طلبا لما فقده غيره، وهو معرفة الإله بما تقتضيه حكمته، ونيل مدلول الفناء في نور ملكوت قدسه. فلا غرابة إذا كان مرمى نظر من استغرب أمره، فهاجم قلاعه بما تنطوي عليه السريرة من كرهه، لأنه لم يستبعد رغبته في غايته، بل ظن معرفته غير قائمة بما تطلبه المقامات من صفاء العقيدة في ديانته، ولولا ذلك، لما عده معتدل الآراء ضمن دائرة المسلمين، لأنه لم يبرح في ظاهره دائرة الملة، والدين، بل كان الاستظهار لمعاني الانطلاق من الكثرة إلى الوحدة صعب التصور في الإدراك الشخصي، فلم يظهر للمعاند كيف ينتقل الصوفي من الرسم النفسي إلى الحد الروحي. وهنا كانت العبارة إشارة، ورموزها إحالة، لأن منطق الحقيقة في المعرفة، أن يحاسب كل واحد على وعيه بمفهوم الأشياء في حدود اللغة. وإلا، فإن ما يرد من كلام له احتمال، لن يكون في واجب التقدير لمحموله محلا للتأويل، بل سيصرف إلى المعنى المفهوم عندنا، وإذ ذاك سننبذ من خالف ما ندرك لفظه بمحدود ما يفيده فينا. ومن هنا، فإن اتهام الصوفية بما نخاله عقلا، سيبعدنا عن الحرية التي نراها أملا، لأن تنوع الطرق في سير العباد إلى الغاية السامية، هو الدليل على اختلاف الأدوات في الطرق الوافية، بل ليس ذلك إلا من مسميات الاجتهاد في كسب الغاية الوافرة. ولذا، لا يستساغ أن ننفي أثر التجربة الماضية، ولا أن نستهجن الوسائل الحاضرة، لأن امتزاج التجارب في حركة الطرق الموصلة إلى الحدود المتآلفة الكلية، لا يفرد أحدا بتهمة ابتداع وسيلة غير متبعة في النصوص المعتبرة. وإلا، فإن طاقات البشر قد تعددت، وسبلهم قد تنوعت، وإن اتحد المبدأ في الوحدة، وتنافر عند بعض في الكثرة. فالمتصوف لا ينطلق من المكان غير القابل للاشتراك، بل ينتهي إلى المحل الذي يدل التكاثر فيه على الاشتباك، إذ المراد هو الوحدة، وهي نبع من زلال الأحدية. وتأسيسا على هذا، فإننا ما زلنا لم نحدد معنى التفوق في تجربة الصوفي، ولم نبين خطوط الافتراق مع غيرها في الجهد البشري، لكن ألا يجدر بنا أن نتساءل، ونقول: هل هذه التجربة غامضة، وتحتاج إلى إظهار لها بالأدلة الدافعة.؟ أم هي في وضوحها بسيطة المورد، وقريبة المعهد.؟ إن النبش في التراث الصوفي، هو كالفتش عن التاريخ الإنساني، فكلاهما يتسم بالتنوع، والاختلاف، لأنه مصدر يلم نوازع الإنسان بين فضاء المصالح المتدافعة الأطياف. وما دام الاتفاق على مصدر واحد غير متعين، فإن القول بذا أو بذاك في الرأي المستحسن، هو الذي يقرب المسافة بين الرغبات، لئلا يحصل التعارض المفضي إلى رديء الأحكام المحررات. ومن هنا، فإن المعرفة إما حسية، وإما عقلية، ولكل واحدة منهما أهلون، وبنون، لأنهما تعبران عن اختلاف نظر العيون، فذي قبلت ما تراه العين دليلا، وتلك قادها العقل المحكوم بالوحي إلى سبيل شهدته جليلا. فكيف نسوق المطايا بزمام واحد، ثم ندعي أننا نملكه بالنص الفريد.؟ ربما صاغ الناس في هذا كلاما عظيما، لكن ما أجده رأيا كريما، هو ذاك الذي نظر إلى بريق عين الصوفية، فشهد فيه قلق القلب عند موارد الحقيقة، فقال: إن التجربة قلبية، فهي إذن لا تستخبر إلا من معانيها الذاتية. ومن هنا، فإننا نعنون حياتنا بهذه المعرفة التي تجعلنا نقدر الحقيقة الذاتية، ونقدس المعاني الشخصية، لأنها تدل علينا في مركب يحتوي الضدين، ويتضمن النقيضين، الوجود، والعدم، والأمل، والألم، والخير، والشر. وما لم نتحقق من حدود هذه المعاني في تجربتنا، ورتبنا فروضها في الواقع بفعل بشري متسم بإنسانيتنا، فإننا سنكون أمام حقيقة واحدة، لم يجعل أصلها إلا للانتظام بين المسالك المورودة. وإذ ذاك سيكون الحكم علينا بمقدار امتلاك الإنسان للقوة التي تجعله وكيلا على الأرض وديارها، ورقيبا على سكانها، وحريصا على لغاتها. وإذا ختمنا صك العقد على هذا الالتفاف الذي يصير به الفرد إلها في البشرية المحدودة، فهناك ستنتهي الحقائق في السيرة المحبوبة، ونكون ملزمين بسلوك مهيع واحد، يبدو فيه الإنسان عبدا بلا جسد. ولذا يكون التصوف حرية، لا سلوكا خانعا في البرية، ولا مظهرا خاضعا للمنة، لأنه التعبير الأبين عن سر تنوع الفهوم في الملة. وذلك ما يدل عليه قولهم: الطرق إلى الله بعدد أنفاس البشر. إن عسر التمييز بين الحقائق المشتركة، ولها في احتمال ألفاظها مناح متعددة، وغايتها إسعاد الذات بمتعة غموض المعاني المخزونة في قاع الأفكار الباقرة، والآراء الظاهرة، والأفعال الظافرة، والأخلاق الفاضلة، هو الذي يجعلنا نكد في إدراك الأقوى من الأضعف، والأثقل من الأخف، لأن استنباط الأحكام من الأشياء المتكاثرة الجزئيات، يصيرنا حيارى في رص حدود الكليات، إذ ما أن نكتشف فيها سرا حتى ندرك فقرنا إلى درك ما سواها من ظواهر الأمارات، وإذ ذاك يعن لنا أن نقول برغبة: إذا عرفنا لب الحقيقة، فلم لا تستجيب لعجزنا في الطبيعة.؟ قد ورد هذا الرد المتنور في تواريخ البشر، وقال به من شرف برصين الرأي الأبهر، بل ما تيه القصد الذي عبر عنه الإنسان في صحيح الأخبار، إلا دليل على وجود خيارين متناقضين في الذات، لا يكون أحداهما قويا في الشهوات، إلا وكان الثاني ضعيفا في الإرادات، لأنهما يتناوبان حياتنا، ولا يكلان من مقارعتها بالحجج التي تغري هممنا، لعلها تسلين لذا في النزع، أو تستكين لذاك في الطبع، وهكذا في كل الحقائق التي تحتمل النقيضين، إذ لم تسلم منهما أي معرفة تقومت بالنصين، وسواء ما كان منها ناتجا عن صريح العقل، أو ما كان بارزا بالفضل في صحيح النقل، بل طواها النقيض تحت عطفه، وغدت هي الند في تباينه. لأن تنوع النوازع في الاختيار، هو الذي يجعلنا نشعر بشيء مفقود في الظاهر، أو مجهول في الأثر، وذلك ما يرغمنا على الجلب، رغبة في وافر الطلب، بل هو الذي يحدد عظيما من جسيم همومنا، ويفجر كثيرا من عسير غمومنا، لأننا ما اختلفنا في كوننا نحس بالوجود في الموجود، أو في كوننا نشم رائحة الأرض بين المهاد، ونعشق مسك السماء بين الوهاد. كلا، لم نختلف في ذلك يقينا، لكن أين اختلفنا.؟ ربما لم يحدث هناك اختلاف إلا من حيث سريان الحقيقة التي نفقدها في كثير من صوراف الأزمان، وفي نواح متدافعة نحس بأنها تحكمنا بامتنان، وفي أحايين متباينة تبدو لنا عليها قدرة الطي، والإذعان. أجل، لم يكن الاختلاف عربونا على أننا نستبق الوجود، إذ هو غير متفاضل في أذهاننا عند التحديد، بل نحس به ما دمنا نتمتع به، وإذا فقدناه، صرنا في عداد الموتى، وإذ ذاك لا خبر يجوز له أن يروى، لأنه لم يعد أحد من قبره، فيذكرنا كيف شعر بالوجود حين تلاشى منه، ولو أخبر بذلك غير نبي، لكان كلامة موضوعا في الرواية، والحكي، إذ لا وجود لذلك المعيار، ولو قاس ذلك المجهول في الاعتبار، لعده بزمن الأرض، وهو المحسوس لنا بوافر الفروض. ولهذا لم نختلف في وجوب الوجود، بل في ممكنه الذي لن نستظهره بالحدود، إلا حين نجد في كهف أنفسنا بردوته، ونفقد فيه حرارته، وإذ ذلك سنعلم كيف نشأت منا الرطوبة، وكيف تغدو جميلة في اليبوسة. تلك هي الذات حين تسع كل ما يمشي على الأرض من ناطق، وجامد، وتمتد إلى كل الأمداء التي يهدى إلينا ثمين الجهود، أو حين تعذب الإنسان بالأتعاب المضنية، وتثقله بالأرزاء المدنِّفة، لأنه ما وجدها، إلا حين عرفها، وما فقد ما كمن فيها، إلا حين جعلها ثابتة لا تتحرك، ومادة جامدة لا تدرك، ولو جعلها هي ذاته في كل أحواله، لما عاندها بكل حروبه. إذ لم توضع في جبره، واختياره، إلا لتكون صوت عقله، وواقعه، وهويته. ومن هنا، نلخص إلى نتائج لا بد من ذكرها، حتى نستبين كيف تعددت الطرق في أنفاسها: الأولى: إن اختلاف الموارد التي نستسيغ النهل من معينها، يجعلنا نقدس التضحية في سبيل نيل صفائها، لأنها مشرب نرتوي به، ومنبع نستقوي منه، إذ ضمان بقاء الحياة بين رياض الرسوم، لا يكون صدقا إلا باستلذاذ ما طاب فيها من طعوم. وإلا، فإننا سنصل إلى مجلى الحقيقة جميعا، ونحن لم نختلف حينئذ فيما خرصناه مطلعا رائعا، بل سيكون ما نلناه مفردا، ولو أردنا أن نبدده بددا. وهنا، سيغدو التعدد ضرا، والتنوع شرا، لأننا لم نفتح في طريق الحقيقة إلا بابا واحدا، لا يكون الورود عليه مطلوبا، ومحدودا، إلا إذا كان المشي اللاحق جاريا فيه على حذو سابق الأثر، والطريق إليه موضوع للسير عليه بلا حذر. لكن هل صح ذلك الرأي في كمال الطلب عند تغير السبب، وباب الله مفتوح لكل ظمآن ذي أرب.؟ الثانية: إذا قلنا بأن معنى التقرب يتعدد في باب العمل، والكسب، فكذلك فهم الناس غير متساو في اختلاف المنازل، والرتب، لأن ما يصير به الاطمئنان مشهودا عند فرد، هو عين ما يغري الآخر على شرب البقاء من كدورة المورد. ومن هنا، فإن في شدة الاختلاف بين ما يمكن لنا سيره ببطء، أو بسرعة، ما يغني عن التشاجر حول المعاني المحتضنة لغوامض القضية، إذ لا يتفق أي سبيل مع غيره في الكمية، ولا يتناسب مع ما عداه في الكيفية. الثالثة: إن حديث محبي الوجود في حضن الحرية، لا يكون موئلا تستظهر به صحة الرواية، إلا إذا منحنا هذا الكائن تمام مسؤوليته، وجعلناه مختارا لإرادته. وإلا، فإن الأفكار العتيدة، والمعاني التليدة، لن تُحقق مقصدها، ولن تفي بمرادها، لأن تمام الحرية في الامتلاك، ولا كسب إلا أحسست بأمان رغباتك. وإذ ذاك، فعن أي سبيل يتحدث من رام اتهام الناس بأفعالهم، وهو لم يهبهم ضرورة حريتهم.؟لعل ما يقدسه الإنسان حين يبحث في ذاته عن علة هوانه، هو ما يرغب فيه من دفع الشبهة عن واقعه، لأنه لا يتعلل إلا بشيء فقده، ولا ينهل إلا من نبع يرويه، وما لم يحزه في طبيعته، فلن يكون مهتديا في سلوكه إلى حقيقته. الرابعة: إن الأنفاس من النفْس، وهل هي إلا كلية الذات في جوهر التأسيس. فلا غرابة إذا كان النفَس صعودا نحو الكمال، لأنه به ينال مقام الجلال. بل هو المرقاة إلى كامل الإنسان، ولو تعثر الوصف عند جزل البيان. ولذا، فإن التعدد في مناحي الهداية، هو الترغيب في طي منعرج الصراط بجناح الرعاية. فالطرق الموجودة للنفاذ، ومهما كايس المحتال عليها باللواذ، لا يسري عليها سار بلا دليل قائم بالحجة البينة، إلا وكان محتملا لمهيع الضلالة، لأنها لا تنال إلا بيقين يحده ما صاغته النبوة من الاستقامة، وإلا، تاه الجواد في بحر الظلمة، وصار الأقف متجهما بالكآبة، لأن قوام التجربة، ليس في مرسوم الحرية، بل فيما تقيد به من معرفة. الخامسة: إن الأحدية لا تتعدد، ولكن المسير إليها يتجدد، فيكون عند ذا بوسيلة، وعند ذاك بطريقة، لأن البراهين عليه كثيرة، وكل قياس فيها قابل للدلالة. وإلا حملنا اللفظ على ظاهره، واعتبرنا من ينطق بهذا في حجته، هو المفرق لروابط الجماعة. وذلك مما لا يفصح به داعي السلامة، إلا إذا نفى الاحتمال في الكلام، وزعم كل لفظ لا يقوم إلا بوضعه على حقيقة لا تقبل عنده الجزئية، ولا التقسيم. لأن المقصود بالطرق، ليس هو ما تؤدي إليه من غاية مجافية للحقيقة عند التدقيق، إذ المراد هو ابتغاء الوسيلة في القصد، لا اختلاف جنس النتيجة عند الحد، وهل سيصدق قول متهم الصوفي بالتعدد في الألوهية، وهو في مستهل يقينه نفى وجود الآلهة، لكي يكون عقده صحيحا في معرفة ألطاف الصمدية.؟ يتبع
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -6-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -5-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -4-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -3-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -2-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -1-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -5- الأخير
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -4-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -3-
-
تنبيهات وتعليقات -2-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -2-
-
تنبيهات وتعليقات -1-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -1-
-
مبهمات الذاكرة
-
العلم حين يصير صناعة (الأخير)
-
العلم حين يصير صناعة -الأخير-
-
العلم حين يصير صناعة -5- الأخير
-
العلم حين يصير صناعة -4-
-
العلم حين يصير صناعة -3-
-
العلم حين يصير صناعة -2-
المزيد.....
-
تحليل: رسالة وراء استخدام روسيا المحتمل لصاروخ باليستي عابر
...
-
قرية في إيطاليا تعرض منازل بدولار واحد للأمريكيين الغاضبين م
...
-
ضوء أخضر أمريكي لإسرائيل لمواصلة المجازر في غزة؟
-
صحيفة الوطن : فرنسا تخسر سوق الجزائر لصادراتها من القمح اللي
...
-
غارات إسرائيلية دامية تسفر عن عشرات القتلى في قطاع غزة
-
فيديو يظهر اللحظات الأولى بعد قصف إسرائيلي على مدينة تدمر ال
...
-
-ذا ناشيونال إنترست-: مناورة -أتاكمس- لبايدن يمكن أن تنفجر ف
...
-
الكرملين: بوتين بحث هاتفيا مع رئيس الوزراء العراقي التوتر في
...
-
صور جديدة للشمس بدقة عالية
-
موسكو: قاعدة الدفاع الصاروخي الأمريكية في بولندا أصبحت على ق
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|