أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم تايه - كولاج الألم














المزيد.....

كولاج الألم


هاشم تايه

الحوار المتمدن-العدد: 1424 - 2006 / 1 / 8 - 10:41
المحور: الادب والفن
    


كنّا، نحن، مجموعة التراب المريض من الطلبة الجامعيين، من مُمَجّدي هِبات الألم، وكانت قصائد السيّاب التي كنّا نقرأها على ترابنا ذاك في كلّ مكان بعض تلك الهِبات، فيما كان شقيق الألم المهزول، الذي أطْلَعَنا عليه موتُهُ منتصف ستينيات قرن آلامنا العذب الفائت، أيّام كنّا في قماط الثانوية المركزيّة، الناطقَ الرّسمي بحرماننا المركّب.
أيّام دراستي في الجامعة التي كانت تبدأ من قاعدة التمثال لمسيحنا السيّاب، مُنشِد المياه والطين، وتعبر الشطّ على ظهر السلحفاة التي كنّا نسمّيها الطبكَة، لتنتهي في بريّة سُجِنَتْ خلف سور، حيث كان علينا أن نسلخ أربعاً من سنوات أعمارنا على مقاعدها السجينات... أيامئذٍ كان مقطع من (حفّار القبور) يأسرني، وكنت لا أفتأ أردّده هنا وهناك، ويعيد قلمي الفحم قراءته على أوراق رسومي الخجلات:
" وكأنّ بعض السّاحرات
مدّتْ أصابعَها العجافَ الشّاحبات إلى السماء
تومي إلى سرْبٍ من الغربانِ
تلويه الرّياح
في آخرِ الأفقِ المُضاء "
كان شيء من الغموض السّاحر يُسربلُني، شيء من اللّذة والانتشاء يصّاعد في كياني، وكان إيقاع الكامل بدمدمته، وحرف المدّ الذي لحق التفعيلة التي استطالت في آخر كلّ شطر يوشّحان ذلك الغموض وتلك اللذة بغلائل من ظلّ، كان الإيقاع يقرع إحساسي، ويشدّ شعوري ويجتذبني إلى عالم الصورة المشحون، ويُلقي بي على ورقي الرقيق فأرسم، بالقلم الرّصاص، السّاحرة العجوز والأصابع الهزيلة التي تكافح الرياح الهائجة من أجل غربانها السّود البعيدة تنبّهها وتدعوها إلى الوليمة- مقبرتنا..
كنتُ أقرأ هذا المقطع مستقلاً عن القصيدة، وأحسب أن مادته وكيانه كانا في يد السياب قبل أن يُحضِرَه حفارُ القبور- النصّ... وحين حضر هذا الأخير وجد المقطع مقعده بين مقاعد كائنات القصيدة وعاش فيها ككولاج أخفى هويّته بسبب جدارة روحه التي سرعان ما التقطتها الروح الهائمة في مقبرة السيّاب فغدت بعضَها العضويّ الذي لا ينفك عنها..
يبدأ المقطع- الصورة بـ (كأنّ)، أداة التشبيه لدى البلاغيين، لكنّنا لا نعثر على ما يفترض أن يكون، على ذمة البلاغيين، المشبّه، فقد طرده السيّاب مستغنياً عنه بالصورة الفريدة التي رسمها في كيان مكتمل للوحة تتمتّع بقدر من استقلالية لا تلغي علاقاتها بأعضاء النصّ كلّها، لوحة تدعم المناخ العام لإرادة الموت التي تطلقها الساحرة بإيماءة- نذير وتلهب رسالتها السوداء، وتؤدي وظيفتها الحيويّة الخفيّة المتمثلة في إشاعة الجوّ النفسي المؤثّر وتصعيد الإحساس بالمهيمنة الكبرى للنص الطويل، التي هي سواد العدم في مدينة- مقبرة كانت بحاجة إلى ساحرة تستحضر أرواح غربانها السود لتطعمها موتنا من أجل أن تعيش. ويكون علينا بعد هذا أن نقرّ بأن الصورة في المقطع هي تمثيل مكثّف للروح السائد المهيمن في كلّ مفصل من مفاصل القصيدة..
هذا المقطع كنتُ أجد روحه وأعضاءه في مقطعين آخرين من (أنشودة المطر):
"كأنّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام
بأنّ أمَّه التي أفاق منذُ عام
ولم يجدها،
ثمّ حين لجّ بالسؤال
قالوا له بعد غدٍ تعود
لا بدّ أن تعود"
و:
" كأنّ صيّاداً حزيناً
ينثر الشباك...."
خلال أربع السنوات التي ذرفتُها في جامعتي كنتُ وأقراني نمضي أبعد في كتاب السيّاب الذي غدا مناخاً عامّاً يُخدّرُنا، وظرفاً خاصّاً نعيش فيه، نحن مجموعة التراب المعلول، بكلّ قصيدة من قصائد ذلك الكتاب المدسوس اليوم في جيب التمثال السامي على ماء النهر وهوائه، الطالع من قلبه وفمه وأصابعه.
ومن بريّة الجامعة إلى بريّة المدينة ظلّ السيّاب، بالنسبة لكائن مثلي، كولاج الألم على حياتي التي عشتها بمجرّد صور سود مرسومة بالقلم الفحم على ورق رقيق ضاع معظمه أو تمزّق في حياة لم يسعها أن تقول كلماتها القليلة، التي عثرت عليها بين برّيتيْن، إلاّ بعد الخمسين...



#هاشم_تايه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لا أذودُ الطّيرَ عن شَجَرٍ
- صنائع الصحفي
- ديمقراطية تبحث عن مكان
- التشكيلي محمد مهر الدين فعل الرسم بين التجريد والرغبة في الب ...
- طريقٌ أم طرق ؟
- الرؤية الكونكريتية
- التشكيلية السورية هالة الفيصل الأنثى بعين الجسد
- أسمال ليست طاعنة في السن
- بصوت هادئ حمّال الأسيّة !


المزيد.....




- صور| بيت المدى ومعهد غوتا يقيمان جلسة فن المصغرات للفنان طلا ...
- -القلم أقوى من المدافع-.. رسالة ناشرين لبنانيين من معرض كتاب ...
- ما الذي كشف عنه التشريح الأولي لجثة ليام باين؟
- زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
- مصر.. عرض قطع أثرية تعود لـ700 ألف سنة بالمتحف الكبير (صور) ...
- إعلان الفائزين بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها العاشر ...
- روسيا.. العثور على آثار كنائس كاثوليكية في القرم تعود إلى ال ...
- زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
- -الأخ-.. يدخل الممثل المغربي يونس بواب عالم الإخراج السينمائ ...
- عودة كاميرون دياز إلى السينما بعد 11 عاما من الاعتزال -لاستع ...


المزيد.....

- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / أحمد محمود أحمد سعيد
- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم تايه - كولاج الألم