رمضان الصباغ
الحوار المتمدن-العدد: 1424 - 2006 / 1 / 8 - 10:15
المحور:
الادب والفن
مشكــلة الالــــتزام
د / رمضان الصباغ
أولا – سارتر والالتزام
(1) الشعر والفنون والالتزام.
I- الفرق بين الشعر والنثر.
ب- عدم التزام الشعر والفنون المختلفة , عدا النثر.
(2) الكاتب والالتزام.
أ- معنى التزام.
ب- معيار الالتزام.
جـ – نقد الاتجاهات غير الملتزمة.
ثانياً – الماركسية والالتزام :
(I) معنى ومعيار الالتزام.
(II) الالتزام والشعر.
(ج) نقد الاتجاهات غير الملتزمة.
ثالثاً – العلاقة بين موقف "سارتر" والاتجاهات الماركسية:
(I) معنى الالتزام ومعياره.
(II) الالتزام والشعر والفنون المختلفة.
(ج) نقد الاتجاهات غير الملتزمة.
أولا – سارتر والالتزام (1)
كان "سارتر" قبل الحرب العالمية الثانية يبدو ككاتب متمرد على المواصغات السائدة وعلى المألوف من الأمور , وكانت محاولاته المبكرة تتحرك فى نطاق يقوم أغلبه على المجانية والفردية , ولكن بعد الحرب , سجل "سارتر" تطوراً فــــى اتجــــاه الجماعيــــة , والمسئوليــة، تجلى فى طرحه لمفهــــوم الالتزام –" "Commitment Engagement" ولكن جاءت رؤيته لهذا المفهوم , أيضاً , ذات طبيعة خاصة , إذ رأى أن الكاتب The writer هو وحده الذى يخضع لمبدأ الالتزام دون الشعراء , وسائر الفنانين من رسامين أو موسيقيين وغيرهم.
(1) الشعر والفنون , والالتزام
كان "أفلاطون" أول من هاجم الشعراء من الفلاسفة فأخرجهم من جمهوريته(2) فارضاً وجهة نظره الفلسفية على الفن والشعر , والتى كانت بالغة الأثر على العصور التالية له.
ولكن هذا لم يمنع , فى العصر الحاضر , على الأقل , من أن توجد وجهات نظر لفلاسفة وأدباء تُعلى من مكانة الشعر , فقد جعله , الفيلسوف الوجودى "مارتن هيدجر" تأسيساً للوجود , وأيده الدكتور عبد الرحمن بدوى" عندما قال بأن الشعر يمثل الإبداع فى عالم الإمكان. وأن كلمة شعر جاءت من الكلمة اليونانية
من الفعل , يخلق "أى أن الشاعر "خالق" أو "مبدع" والفارق بين كلمة الله وكلمة الشاعر هو أن كلمة الله عقلية "نوئيتا" فى "النوس" بينما كلمة الشاعر انفعالية.(3)
وقد رأى "سان جون بيرس" أن الشعر يشكل طراز حياة , وحياة كاملة , فقد كان الشاعر موجوداً منذ الأزل وسيظل حتى النهاية , والشعر إن لم يكن المطلق الحقيقى فهو أقرب ما يكون إليه , والواقع يكشف نفسه ذاتها فى القصيدة.(4)
وقد قال الشاعر الصينى "لوتشى" : "نحن الشعراء نصارع الّلاوجود لنجبره على أن يمنح وجوداً , ونقرع الصمت لتجيبنا الموسيقى , إننا نأسر المساحات التى لا حدّ لها فى قدم مربع من الورق ونسكب طوفاناً من القلب الصغير بقدر بوصة"(5)
ولكن رغم هذا الإعلاء لمكانة الشاعر , فإن "سارتر" فى فلسفته الالتزامية قد أعفى الشعر من الالتزام , وكذلك الفنون المختلفة – عدا النثر – فهو وقد أخذ عن "هيدجر" المنهج "الفينومينولوجى" مطبقاً على الوجود , فإنه يخالفه تماماً فى رأيه فى الشعر.
والجدير بالذكر , أن "سارتر" قد بنى تصوره عن الشعر من خلال تفرقته بين النثر وبين الشعر , فترى ما هى الفروق التى أساسها بنى تصوره ؟
(I) الفرق بين الشعر والنثر
الشعر والنثر , كلاهما ينهض على أساس الكلمات , فما هى الفروق بين لغة الشعر ولغة النثر ؟ "ربما يكون فى وسعنا أن نشرح كتابة النثر Prose على أساس أنها استعمال للغة فى أشد حالات التعبير نقاءً , بينما فى الشعر فإن التعبير الانفعالى لا يكون محدداً"(6).
فالحالة الشعرية تجعل التعبير عنها لا يتطلب الوصول إلى معان محددة أو الإخبار بمدلولات معينة , فالكلمة الشعرية تمتلك قدرة على الإيحاء , وظلالها أكثر اتساعاً "والشاعر لا يختار الكلمات لأنها صحيحة لغوياً فحسب , بل يختارها لأنها الوسيلة لتوصيل ما يريد توصيله من حقيقة , ولكن كيف تأتى له معرفة ذلك ؟
الناثر يعرف متى تكون الكلمة صحيحة ولكن الشاعر يعرف متى تعبر الكلمة عن الحقيقة" (7) والشعراء حين يعبرون عن تجاربهم "فإنهم يصفون العمق على قيم الوجود , فلا ينبئوننا بالواقع الذى يخبرنا به الفلاسفة ورجال العلم , ولا النقاد … فالذى نجده دائما هو الحدْس بالمستقبل , وما هو متضمن ومتخير , وهم فى ذلك يختلفون فى قصدهم عن الفلاسفة فى تعاملهم مع اللغة"(8).
وقد كانت التفرقة بين الشعر والنثر من الموضوعات ذات الأهمية , فكانت تفرقة "بول فاليرى paul valéry" ذات مغزى , إذ رأى أن تلك العلاقة (بين النثر والشعر) : "تشبه صلة المشى بالرقص , فالمشى له غاية محددة تتحكم فى إيقاع الخطو وتنظم شكل الخطو المتتابع الذى ينتهى بتمام الغاية منه , أما الرقص فعلى العكس من ذلك بالرغم من استخدامه نفس أجزاء الجسم وأعضائه التى تستخدم فى المشى له نظام حركات هى غاية فى ذاتها"(9)
وإذا كان النقاد والشعراء والمفكرون قد فرقوا – كما أوضحنا – بين الشعر والنثر , فإن "سارتر" قد جعل من تفرقته بين الشعر والنثر , أساسا يرتكز عليه فى جعل الشعر غير ملتزم , فقد كتب : "فالشعراء قوم , يترفعون باللغة على أن تكون نفعية , وحيث أن البحث عن الحقيقة لا يتم إلا بواسطة اللغة واستخدامها أداة , فليس لنا إذن أن نتصور أن هدف الشعراء هو استطلاع الحقائق أو عرضها . وهم لا يفكرون كذلك فى الدلالة على العالم وما فيه. وبالتالى لا يرمون إلى تسمية المعانى بالألفاظ لأن التسمية تتطلب تضحية تامة بالاسم فى سبيل المسمى , وعلى حد تعبير "هيجل Hegel" يبدو الاسم غير جوهرى , فليس الشعراء بمتكلمين ولا بصامتين , بل لهم شأن آخر , وقد قيل عنهم أنهم يريدون القضاء على سلامة القول بمزاوجات وحشية بين الألفاظ , وهذا خطأ , لأن يلزم ذلك أن يزجوا بأنفسهم فى ميدان الأغراض النفعية للغة , ليبحثوا فيها عن كلمات توضع فى تراكيب غريبة , وذلك مثلا ككلمة (حصان) وكلمة (زبد) ليقال (حصان زبد) وعلى أن مثل هذا العمل يتطلب وقتاً لا حدّ له , لا يتصور التوفيق بينه وبين الغاية النفعية للغة , فتعتبر الكلمات آلات تستخدم, وفى الوقت نفسه يجتهد فى انتزاع هذه الدلالة منها"(10).
إن الاختلاف بين الشعر والنثر ينهض على علاقة كل من الشاعر والناثر باللغة, فالشعراء يخدمون اللغة , بينما الناثرون يستخدمونها.
ومع أن "سارتر" قد ركز تفرقته بين نوعين من التعامل مع اللغة (لغة الشعر , ولغة النثر) , إلا أنه جعل النثر نوعين , فلسفياً وأدبياً , وهذا هو ما جعل Peter Caws يكتب : "بالنسبة لسارتر فإنه توجد ثلاثة أنماط من الكتابة . فى الجانب الأول يقع الشعر الذى يستخدم الكلمات كأشياء طبيعية , وإن لم تكن طبيعية بشكل كامل.
… وفى الجانب الآخر يقف النثر Prose والذى تستخدم فيه الكلمات كرموز اصطلاحية وتبدو لذلك شفافة Transparent , فالذى نسمعه أو نقرؤه هو مضمون ما يقال أو يكتب ولا توجد كلمات تخرج عن ذلك , ولكن هناك نوعين من النثر , الأدبى Literary , والفلسفى Philosephical , الأول مازال يتلون بما يشبه الشىء الطبيعى للكلمة , بينما الأخير هو الذى ينطبق عليه ذلك المبدأ فى نقائه"(11).
والشاعر هو الذى يثرى اللغة بالألفاظ الجديدة , والتراكيب اللغوية المبتدعة ويعطى الكلمة قدرة على الإيحاء , ويجعلها تواكب التطور فى المشاعر والأحاسيس . وما أزمة اللغة فى القرن العشرين – على حد ما يرى "سارتر" – إلا أزمة شعرية . والكلمات بالنسبة للشاعر هى الأشياء , أو بالأحرى : مركز الأشياء , والشاعر كثيراً ما يجمع "هذه العوالم الصغيرة , التى هى الكلمات , شأنه فى ذلك شأن الرسامين الذين يجمعون فى لوحاتهم الألوان , يظن أنه يؤلف بذلك جُملا , ولكن هذا ظاهر عمله : إنه فى الحقيقة يخلق شيئاً , فالكلمات بوصفها أشياء تنقسم لديه إلى مجموعات , لتشابكها السحرى انسجاماً أو عدم انسجام , شأنها فى ذلك شأن الألوان والأصوات , فهى تتجاذب وتتدافع وتتنافى وتشترك فى صفات تكون وحدتها الشعرية التى تجعل منها جملة هى فى الوقت نفسه شىء من الأشياء , وفى الأعم الأغلب تسبق إلى ذهن الشاعر هيئة الجملة ثم تتبعها الكلمات ولكن هذه الهيئة لا تشترك فى شىء مع ما يطلقون عليه عادة : شكل الجملة النحوى , إذ أن هذا الشكل لا سلطان له على تكوين المعنى , بل إن تلك البيئة قريبة الشبه من مشروع يتهيأ به الفنان لخلق ما يريد , كذلك الذى يتصور به "بيكاسو" فى خياله قبل أن يمسّ ريشته , وقد يصير هذا الشىء بهلواناً أو ممثلا هزلياً"(12)
فالكلمات بالنسبة للشاعر ليست رموزاً دالة ولكنها أشياء . أشياء تنبض بالحياة لها تجسداتها ووجودها , وهى تتشابك وتنسجم وتتنافر فى آن , والجملة لدى الشاعر أشبه ببناء فنى أو تركيب يقفز إلى ذهن الشاعر , له سماته الخاصة والتى لا سلطان لها على المعنى.
"فالجملة لدى الشاعر ذات لحن وذوق : فهو يتذوق من خلالها مختلف الأذواق قوية محتدمة بما تحتوى عليه من نفى واستثناء وفصل . وهو يجرد من هذه العلاقات معان مطلقة , فيجعل منها خصائص حقيقية للجملة , فتصير الجملة ذات صبغة اعتراضية دون النظر إلى تحديد الشىء المعترض عليه , وبهذا نلْحظ هذه العلاقات المتبادلة – كما شرحنا – بين الكلمة الشعرية ومعناها , فمجموع الكلمات المختارة يؤدى وظيفته فى إبراز صورة الاستفهام صورة للتعبير الذى يتحدد بها . كما فى مثل هذا الشعر الجميل :
يا للفصول ! ولتمً قصور ! من لى بنفس غير ذات قصور
فليس هناك مسئول يوجه إليه الاستفهام ولا سائل : إذ الشاعر غائب وراء تعبيره , ولا يسمح للاستفهام هنا بجواب , أو بالأحرى : فى الاستفهام نفسه الإجابة"(13).
فالكلمات لدى الشاعر كيانات طبيعية , ومن العلاقات الكائنة بين الكلمات تأتى المعانى المطلقة . "وفى هذه الحالة لا تفصل بين الكلمة ومعناها , بل تصبح الكلمة والمعنى كياناً واحداً , وفى هذه الحالة لا يعود هناك محمل لجمع الكلمات بحيث تكون أفكاراً . وإنما تقوم بين الكلمات علاقات أخرى مغايرة , هى علاقات طبيعية شأنها شأن الكلمات ذاتها (14) إن اللغة لدى الشاعر تمثل كياناً مستقلا , وذلك عكس المتحدث أو الناثر اللذين يرميان من وراء الحديث أو الكتابة إلى الإفصاح عن معنى محدد.
فالشعر , على هذا الأساس , يكون التعامل معه , على خلاف النثر , فلا نرمى إلى الوصول إلى دلالات محددة من وراء القصيدة , ولا نقوم بتفتيت بنائها إلى كلمات دالة وجمل معبرة عن معانى , بل نتعامل مع القصيدة تعاملنا مع الشىء المجسد , والعيانى والمحسوس لا مع فكرة مجردة , أو مفهوم , أو معنى.
فالشاعر – كما يرى "سارتر" – " يرى الكلمات من جانبها المعكوس , كأنه من غير عالم الناس , وكأنما وقد حل بعالمهم قد وجد الكلام حاجزاً بينه وبين هذا العالم, فيبدو كأنه لم يتعرف الأشياء أولا بأسمائها , بل تعرفها تعرفاً صامتاً , ثم توجه نحو النوع الآخر من الأشياء فى نظره : ألا وهى الكلمات فأوسعها لمساً وجساً واختباراً وبحثاً فاكتشف أن لها نوعاً من الإشعاع الخاص بها , وأنها ذات صلات معينة بالأرض والسماء والماء وما سوى ذلك من المخلوقات"(15).
فإذا اختار الشاعر لفظاً ليدل به على شىء – فليس ضرورياً أن يقع اختياره على نفس الكلمات التى نختارها للدلالة على نفس الشىء , ذلك أن الكلمات "التى تبدو لغيره دوافع تقوده إلى معرفة ما حوله وتزج به وسط الأشياء , تظهر فى عينيه هو فخاً لاصطياد حقيقة أبيّة المراس , وموجز القول أن اللغة هى (مرآة) العالم . وبهذا يجرى لديه فى ذات الكلمة وفى استعمالها – تغيرات على نحو جديد – فجرس الكلمة وطولها , وما تختتم به من علامات تذكير أو تأنيث , ومظهرها فى نظر العين , كل هذا يجعلها ذات كيان حى به تمثل المعنى أكثر مما تدل عليه"(16).
ورأى "سارتر" هنا متأثر إلى حد كبير برأى ستيفن مالارميه
"Mallermé Stephane" الذى كان يرى أن الشعر يصنع من الكلمات , لا من الكلمات كتعبير عن الأفكار , ولكن مما أسماه "مالارميه" (الكلمات نفسها) كأحداث حسية , وباختصار الكلمات كالأصوات التى تحملها"(17).
وقد ردّ "جويد وموربورجو – تاجليابو –Guido Morpurgo-
Tagliabue (18) التفرقة التى يفترضها "سارتر" بين الشعر والنثر إلى "مالارميه" مشيراً إلى أنه افتراض يأخذ به عدد كبير من المنظرين من "كروتشة" إلى النقاد الجدد . فالشعر فن , أو نشاط تخيلى مجانى وراء الخير والشر الفن تخيلى والتخيلى سلب ونفى , وأنه تعديم لما هو واقعى . وإذن فهو يختلف عن عالم النثر , عالم الحرية والمسئولية.
(ب) عدم التزام الشعر والفنون المختلفة , عدا النثر
بعد أن فرق "سارتر" بين الشعر والنثر , ووضع الشعر مع الفنون , فإنه يؤكد على عدم التزام الشعر والفنون المختلفة , وإنما الذى يقع عليه الالتزام فقط هو النثر.
فقد كتب "سارتر" فى "ما الأدب" :
"ونستطيع أن ندرك فى يسر حمق من يتطلب من الشعر أن يكون (التزاميا), نعم قد يكون مبعث القطعة الشعرية الانفعال أو العاطفة نفسها , ولم لا يكون مبعثها كذلك الغضب والحنق الاجتماعى والحفيظة السياسية ؟ ولكن كل هذه الدوافع لا تتضح دلالتها فى الشعر كما تتضح فى رسالة هجاء أو رسالة اعتراف"(19).
وإذا كان الناثر مسئولا عن مجتمعه , وعصره وعن الأحداث التى يعاصرها سواء كانت اجتماعية أو سياسية , وإذا كان مندرجاً فى العالم , فإننا , على حد قول "سارتر" – "لا نستطيع أن نأخذ على الشاعر أنه يتنكر "بصفته شاعراً , لمسئوليته كإنسان , قد نأخذ عليه أنه ليس أكثر من شاعر , أى عدم إدراكه لمسئولياته كإنسان أيضاً , لكن لا نستطيع أن نأخذ عليه أنه لم يشترك كشاعر فى معركة اجتماعية , أو حركة إنشائية"(20).
وإذا كان الكاتب (أى الناثر) هو حرية تتوجه إلى حرية القارئ , لأن هدف الناثر هو الحرية فإن الشعر فى رأى "سارتر" ليس هدفه الحرية . هدفه نفسه وليس له هدف خارج ذاته(21) , فالشاعر يعرض ما يواجهه من مشكلات من خلال رؤيته الذاتية, مواقفه فى جوهرها نفسية , ولا تخرج عن نطاق ذاته , وبهذا يكون موقع الشاعر خارج العالم فى العزلة.
وكما رفض "سارتر" أن يجعل الشعر ملتزماً , كذلك كان شأن الفنون , فالرسم والنحت والموسيقى لا يمكن أن تكون ملتزمة , "أو بالأحرى لا تفرض على هذه الفنون أن تكون على قدم المساواة مع الأدب فى الالتزام(22) , لأنه إذا كانت معانى ودلالات الشعر هى نفسها كلمات الشعر , فكذلك "دلالة الألحان – إذا جاز أن نسميها دلالة – ليست شيئاً خارجاً عن الألحان نفسها , فهى مغايرة للأفكار التى يستطاع الإعراب عنها بطرق كثيرة على السواء , سم هذه الألحان , إذا شئت , مرحة أو حزينة ولكنها ستبقى فوق أو دون كل ما تستطيع أن تقول عنها , وليس ذلك لأن عواطف الفنان أغنى وأخصب من الألحان , بل لأن تلك العواطف , التى ربما كانت أصلا لما اخترع من موضوع , حين ظهرت فى صورة ألحان , اعتراها تغير فى جوهرها وتبدل فى قيمتها . فصيحة الألم تدل على الألم الذى أثارها . ولكن لحن الألم هو الألم نفسه وشىء آخر غير الألم . فلم تعد الألحان رمزاً يحال بها على الألم , ولكنها صارت شيئاً من الأشياء . (23) فكما أن الكلمة فى الشعر تتحول إلى شىء thing يختلف عن الرمز الدال , كما هو الحال فى النثر , فإن لحن الألم هو الألم نفسه بالإضافة إلى شىء آخر , وليس مجرد دال , أو رامز للألم , ولذا لا جدوى من البحث عن المعانى التى يعبر عنها اللحن , أو الصورة أو اللوحة , لأن كلا منها قد استحال إلى كيان خاص "فالمعانى لا ترسم , ولا توضع فى ألحان"(24).
وتأسيساً على ذلك , فإنه إذا كان من الحمق أن نطلب إلى الشاعر أن يكون ملتزماً فإن من الحمق أيضاً مطالبة الفنان التشكيلى , أو الموسيقى بالالتزام – كما يرى "سارتر".
والآن يمكننا أن نتساءل : هل عملية الفن مجرد انتظار سلبى لانبثاق الصورة أو الإيقاع فى أعماق الّلاوعى ؟ وهل القصيدة أو الصورة حدث سرى ينعزل عما سواه ؟
إن ميلاد القصيدة بالنسبة للشاعر – على حد ما يرى – "أرشيبالد وكليش – ليس حدثاً سرياً ولا يتضمن قطباً كهربائياً مغروزاً فى حوامض الذات , بل قطبين اثنين – الإنسان , والعالم إزاءه" (25) فليس بوسع الشاعر تجاهل العالم , كما لا يمكن أن يتجاهل ذاته.
وإنه ليبدو أن "سارتر" يتعسف فى موقفه من الشعر الذى يبنيه على أساس الفصل بين لغة العواطف ولغة العقل . وإننا نتساءل : هل يوجد هذا الفصل الحاد فى الواقع بالفعل ؟ أم أن "سارتر" قد لوى عنق المسألة حتى يطوعها لأفكاره . وهل أقام "سارتر" وجهة نظره على استقراء للشعر ؟ أم أنه بنى نظريته على أساس أخلاقى نظرى يبتعد كثيراً عن عالم الشعر , والفن !!
إنه من الواضح أن لفلسفة "سارتر" اليد الطولى فى التأثير على أفكاره – التى سردناها – فى الأدب والفن , فقد كانت كتاباته الأدبية بمثابة معالجة لأفكاره الفلسفية ذاتها (26).
(2) الكاتب والالتزام
إذا كان "سارتر" قد وضع حداً فاصلا بين الشعر والفنون المختلفة من جهة , وبين النثر من جهة أخرى , جاعلا من لغة النثر موقفا من مواقف العقل , إذ تتجاوز نظرتنا فى النثر الكلمات وتمضى نحو الشىء المقصود . فالكلمة أداة لنقل الفكرة , ونحن ننساها بمجرد أداء مهمتها , فلغة النثر فى جوهرها نفعية.(27)
فقد اتخذ "سارتر" ذلك أساساً ارتكز عليه فى جعل النثر ملتزماً دون سائر سائر الفنون , فكاتب النثر هو الذى يملك موضوعاً وحيداً هو الحرية , الكتابة عبارة عن دعوة موجهة من حرية الكاتب إلى حرية القارئ , والكتابة مسئولية , ولذا فإننا نجد "سارتر" يكتب فى "ما الأدب؟",
"لنكتب أولا لنقول شيئاً للأحياء , ولا يضير ألا يبقى لأحفادنا الذين لن يحسوا بقيمة الحوادث الراهنة إلا الإعجاب بأسلوبنا ولكن لا يحسن بنا أن نتوخى الأسلوب لذاته , إن المسئولية والصدق يأتيان أولا , والأسلوب والجمالية فى المحل الثانى". (28) فالهرب من العصر والواقع الاجتماعى سواء اتخذ الشكلية Formism أو الأسلوبية Stylism إنما يمثل – فى رأى "سارتر" – خيانة من الكاتب لقضيته , قضية الأدب , وتفقد على أثر ذلك الكتابة قيمتها , وفحواها , بل ويكف الأدب عن أن يكون أدباً . فالأثر الأدبى مطالب بأن يكون مسئولا عن العصر بكامله – أى عن وضع المؤلف فى العالم الاجتماعى وانطلاقا من هذا الاندراج المتفرد – عن العالم بأسره وذلك بقدره ما إن هذا الاندراج يجعل المؤلف – كما فى كل إنسان – كائناً موضوعاً موضع تساؤل عينياً وفى كينونته بالذات كائناً ليس يعيش اندراجه فى شكل استلاب وتشيؤ وكبت" (29) , بل يكون مسئولا مسئولية كاملة , وفى حالة واعية دائماً, وحاضراً ومندرجاً فى العالم , وهذا هو ما يشكل الأساس الذى يقوم عليه الالتزام عند "سارتر".
فما هو هذا الالتزام ؟
(أ) معنى الالتزام :
لقد رأى "فيليب تودى" أن الهدف النهائى للفن – عند "سارتر" – هو إصلاح هذا العالم بتصويره كما هو , ولكن كما لو كان منبعاً للحرية الإنسانية , بكلمات أخرى , إن هدف الأدب , هو أن يفعل ما أراد "روكنتان" Roquentin أن يفعله بعد سماعه (بعض هذه الأيام Some of these days) : قهر صدفية العالم بجعله حاضراً كما تبغى ذلك إرادة الإنسان".(30)
إذا كان هدف الأدب هو قهر صدفية العالم , أو نفى العنصر الطارئ فيه , فإن هدف ومعنى الالتزام يتحددان كما رأى "سارتر" كما يأتى :
"يرمى التزام الكاتب إلى إيصال ما لا يمكن إيصاله (الكينونة – فى – العالم المعيش) مستغلا القدرة التى تنطوى عليها اللغة المشتركة الشائعة من اللاإعلام , كما يهدف إلى البقاء على التوتر بين الكل والجزء , بين الكلية والتكليل , بين العالم والكينونة – فى – العالم , على اعتبار أن هذا التوتر هو معنى عمله , والكاتب يُواجه فى مهنته بالذات ويصارع التناقض بين الخصوصية والعام".(31)
والكاتب الملتزم , خارج الأثر الأدبى , وداخله فى نفس الوقت أو بمعنى آخر , هو يلاحظ التجربة المعيشة من الخارج , ومنغمر فى الحياة وفى تجاربها أيضاً , هو مثقف بالماهية والجوهر وليس على نحو عارض – مثل غيره من المثقفين الآخرين . ويسمى الكاتب (ملتزماً) "حين يجتهد فى أن يتحقق لديه وعى أكثر ما يكون جلاءً, وأبلغ ما يكون كمالا بأنه (منجز) , أى عندما ينقل لنفسه ولغيره , ذلك الالتزام من حيز الشعور الغريزى النظرى إلى حيز التفكير . والكاتب هو الوسيط الأعظم وإنما التزامه فى وساطته . غير أن من الحق أن نحاسبه على أساس حالته فى المجتمع , وعلينا أن نكون على ذكر من أن حالته لا تنحصر فى أنه إنسان وكفى , بل فى أنه – على وجه التحديد – كاتب أيضاً , فقد يكون يهودياً أو تشيكوسلوفاكياً أو من أسرة من أسر الفلاحين , ولكنه كاتب يهودى وكاتب تشيكوسلوفاكى ومن أرومة الفلاحين"(32)
فموقف الكاتب الملتزم ينطلق من وضعه , وعلى أساس هذا الوضع فإنه يلعب دوره بالنسبة لجمهور قرائه , ويجب ألا يقع تحت تأثير بعض العوامل الذاتية التى تدفعه إلى أن "يلعب دوراً سلبياً أو مسفاً بعرض مساوئه ووجوه شقائه ومظاهر ضعفه , بل عليه أن يتمثل إرادة حازمة تشق طريقها إلى النجاح عن قصد على نحو ما يكون عليه كل إنسان فى الحياة , من أنه فى نفسه محاولة على حدة من محاولات الوجود"(33).
الكاتب حر , ولذا فهو يتوجه لحرية القارئ , وهو مسئول , ومسئوليته هى التى تجعله يتخذ موقفاً محدداً , طارحاً خلفه مظاهر الضعف , ووجوه الشقاء والإسفاف.
يكتب "بيتر كاوس" : "عندما نسمى الأفعال ونحددها فإنها تصير مسئوليات Reponsibilities , ومسئولية الكاتب الخاصة هى التى تمنحه اسمه لأن صمت الكاتب نوع من الفعل : (فإذا ما اختار أحد الكتاب الصمت على جانب من جوانب الحياة , فإن لدينا الحق فى أن نسأله : لماذا تكلمت عن هذا دون ذاك ؟ فما دمت من أجل إحداث تغيير , وليس هناك طريقاً آخر للكلام , فلماذا أردت تغيير هذا دون ذاك ؟ لماذا تريد تغيير طريقة صنع طوابع البريد دون تغيير الطريقة التى يعامل بها اليهود فى البلد المعادى للسامية Antisemitic countery"(34)
أى أن معنى الالتزام يكمن فى الفعل , وتحمل المسئولية , وهذا يقودنا إلى سؤال : إذا كان الكاتب مسئولاً ومسئوليته تحتم عليه عدم الصمت على جانب من جوانب الحياة , فما هو المعيار الذى يحدّد هذه المسئولية ؟ وهذا يقودنا إلى نقطة جديدة , نبحثها فى الفقرة التالية وهى : "معيار الالتزام".
(ب) معيار الالتزام :
لقد جعل "سارتر" الكاتب يهدف إلى (تغيير العالم) , وهو مطالب أيضاً بالوقوف إلى جانب المضطهدين , والتقريب بين البشر , وهذا يتضح أيضاً فى أدب "سارتر" إذْ اختار (أورست) أن يقتل (إيجست) و(كلميتمنسترا) وتحمل المسئولية , وحرر الناس من القدرية والتخاذل . ولكن هل يعنى هذا أن المعيار الذى يلتزم على أساسه الكاتب معيار أخلاقى ؟
ماذا كان يحدث لو كان (أورست) قد اختار عكس ما قام به ؟ "ما الذى يتغير فى مضمون المقولة الوجودية عن الحرية والاختيار والمسئولية ؟ سيقال إن المحك دائما هو (خير) (35) الإنسانية كلها , ولكن خير الإنسانية طبقاً لـ"سارتر" ليس مقولة قبلية , إنما هو بعينه ما يرى الإنسان أنه خيرها . فإذا رأى أن الخير يكمن فى الانضمام للكاثوليكية فهو صحيح من الناحية المنطقية الوجودية , وإذا رأى العكس فهذا صحح كذلك . إن الحكم فى التحليل الأخير يظل متعلقاً بما يراه هو , ولا أحد سواه"(36)
إن هذا يعنى أن الكاتب يمكن أن يختار الشىء ونقيضه , الدفاع عن المضطهدين , أو الفاشية (37) ولا يكون متناقضا مع المفهوم "السارترى" للاختيار.
لقد أكد "سارتر" على أن "مسئولية الكاتب ليست شيئاً سرمدياً أو مجرداً , إنها مسئولية مباشرة ومحددة , إذ يجب أن يوجه اهتمامه الفكرى دون تقاعس يوماً بيوم لمشكلة الغاية End والوسائل The means , وبمعنى آخر , لمشكلة العلاقة بين الأخلاق Ethics والسياسة Politics" (38) ورأى أنه من المحال أن يكتب أدب جيد بعواطف شريرة – وإن كانت العواطف السامية ليست معطاة مسبقاً وعلى كل امرىء أن يخترعها بدوره"(39)
لقد وضع "سارتر" قواعد للالتزام ومعايير , وفى نفس الوقت , لم يكن فى "الوجودية مذهب إنسانى" يجعل للأخلاق وجوداً قبلياً , ويجعل – فى كل فلسفته – الإنسان مشروعاً , وهنا يتناقض "سارتر" مع نفسه :
فكيف تكون هناك معايير للالتزام من دون أخلاق قبلية ؟ فإذا افترضنا وجود معايير للالتزام – جعلنا الأخلاق قبلية , وبالتالى فإن الالتزام يقوض فلسفة "سارتر" الأخلاقية , وبالتالى فلسفته كلها المرتكز على "المشروع الإنسانى" وإذا صممنا على عدم وجود أخلاق قبلية , فمعنى ذلك , ألا يقوم الالتزام.
ربما يكون الحل فى قول "سارتر" بأن العواطف السامية ليست معطاة , ولكن على المرء أن يخترعها , ولكن هذا قد يوقعنا فى (الدور) ,فاختراع العواطف السامية يفترض معنى (السمو) فى ذهننا , وهو ما يقوض فكرة "سارتر" بعدم وجود أخلاق قبلية.
لعل هذا التناقض يوضح , إلى أى مدى , كانت نظرية "سارتر" فى الأدب الملتزم – كما ترى "إيريس موردخ" – توصية للكتاب الذين يرتبطون بالكتابة فى حين أنها ليست تأكيداً لطبيعة الكتابة , فنظرية "سارتر" – "فيها من الدعوة والنداء أكثر مما فيها من الدراسة والاستقراء"(40)
ولكن رغم هذه التناقضات فى محاولة "سارتر" فرض معايـــير للالــتزام ترفضها فلسفته فإن "سارتر" فى طرحه لمفهوم الالتزام يبقى معلقاً أهمية الكاتب وقيمته على المسئوليات التى يضطلع بها , والتى تعتبر المشكلات الاجتماعية والسياسية فى مقدمتها.
(ج) نقد الاتجاهات غير الملتزمة
لم يقدم "سارتر" تحليلا منظماً للاتجاهات المختلفة , وإنما جاءت آراؤه أو انتقاداته لها – فى (ما الأدب ؟ ) فى ثنايا الفصول المختلفة , وهو إذْ يركّز اهتمامه (أو جاءت كتاباته وفيرة نسبياً) عن (الفن للفن) , و(السريالية) إلا أنه قد أبدى رأيه فى عجالة عن الكلاسيكية , والرومانتيكية , والواقعية (التى مر عليها مرواً عابراً).
وقد رأى "سارتر" أنه توجد كلاسيكية "فى كل مجتمع ساده استقرار نسبى, ونفذتْ إليه أسطورة خلوده , أى عندما يقع الخلط بين الحاضر والأبدية , وبين حقائق التاريخ ومزاعم التقاليد , وحين تثبتْ الفروق بين الطبقات إلى درجة لا يتجاوز الجمهور الامكانى فيها بحال حدود الجمهور الفعلى وحين يكون كل قارئ رقيباً عل الكاتب وناقداً اكتملت فيه صفات النقد المتواضع عليها , وعندما يبلغ ما يسود المجتمع – من مذهب دينى أو سياسى من قوة السلطان –درجة تصير فيها حدودها صارمة حتى لا يقصد بحال إلى اكتشاف مجالات جديدة للتفكير , وإنما يقصد إلى مجرد صياغة المعانى الشائعة التى تعشقها الصفوة , بحيث تصير القراءة – وسبق أن رأينا أنها هى الرباط المادى بين الكاتب وقرائه – بمثابة احتفال تقليدى للتعارف الشبيه بالتحية , أى بمثابة توكيد يحتفل فيه بأن كلا المؤلف والقارئ من عالم واحد , ولهما أفكار واحدة فى كل الأشياء . وبذا يكون كل إنتاج فكرى عملا من أعمال التأديب , ويصير الأسلوب – فى نفس الوقت – أعظم مظهر لذلك التأدب من الكاتب حيال قرائه".(41)
والكاتب الكلاسيكى على وفاق مع جمهوره الذى يعد العمل لعنه بناءً على موقفه المتميز الذى يجعله على غير وعى بالتاريخ , وما يشغله هو العقيدة وإجلال الملك والحب والحرب والموت , ومراعاة آداب التقاليد ,وهو لا يهتم باكتشاف الحقائق العميقة الجديدة فى داخل الإنسان , والصورة النفسية فى القرن السابع عشر مقصورة على التعبير الفنى عن الأفكار التى تجرى فى نفوس الصفوة من أعضاء المجتمع , والمسرحيات تستلهم من الذوق المسيطر للطبقة للأرستقراطية , والمجتمع – المكون من أعضاء الطبقة العليا – يتعرف على نفسه عبر الأفكار التى كونها عن نفسه , فهو لا يريد أن يوحى إليه بصورته , ولكن أن ينعكس ما يعتقد أنه صورته . ولذا فالأدب الكلاسيكى أدب متكلف , ومتحذلق , يعبر عن تقاليد البلاط والحكم وآداب اللياقة فى القرن السابع عشر".(42)
وإذا كان جمهور الكلاسيكية فى القرن السابع عشر على وفاق مع كاتبه , وكان المؤلف فى القرن الثامن عشر يتصرف فى جمهورين كلاهما جمهور فعلى , فإن "الرومانتيكية" جاءت – على حد قول "سارتر" – "فى أوائل عهدها محاولة فاشلة لتجنب مثل ذلك الصراع الصريح بين الكاتب . وقرائه ببعثها لهذه الثنائية فى الجمهور , واعتمادها على الأرستقراطية ضد البرجوازية ذات النزعة الحرة"(43)
ولكن أدب القرن التاسع عشر تخلص من المذهب الفكرى الدينى , ورفض خدمة المذهب الفكرى البورجوازى , وأرادت الرومانتيكية أن تكون مستقلة عن كل نوع من أنواع التشبع , وقد كان الخطأ أن الرومانتيكيين لم يكونوا أدركوا بعد أن الأدب فى ذاته مذهب فكرى على حد قول "سارتر" - , وأبى الكاتب أن يمتهن الأدب بالتوجه – إلى جمهور محدود وبقصره على موضوع خاص , وزعم أنه إنما يكتب لنفسه أو لله , جاعلا من الكتابة مهنة ميتافيزيقية أو محاسبة للضمير وصلاة , أو أى شىء آخر سوى إنها اتصال بالناس , ورأى "سارتر" أن خلوة الفنان خلوة زائفة من جهتين , فهى لا تشفّ عن علاقة حقيقية بالجمهور العام فحسب بل تشفّ كذلك عن تكوين جديد لجمهور من المتخصصين , وقد ظهرت نتيجة لذلك – فى رأى "سارتر" – (طبقة الكتاب) (44) , وصار الكاتب بذلك غريباً عن عصره مستوحشاً , ومستحقاً (للعنة) , "وليس لكل الأدوار التى يطلبها سوى غاية واحدة : هى الالتحاق بمجتمع رمزى , له صورة الطبقة الأرستقراطية فى النظام القديم"(45), وهذا يدفع الكاتب إلى التهوين من شأن المهن , وهو لا يبقى بنفسه غير نافع , بل يدوس كل عمل نافع , وهنا ينشأ التصور الجمالى الذى يشيد بانعدام النفعية , وهو (الفن للفن) حيث يتفق هذا الاتجاه مع البارناسية والواقعية والرمزية , فى أن الفن استهلاك محض.
وإذا كانت الواقعية – أدب استهلاك , فإن خطأها الأساسى – فى رأى "سارتر" ينبع من "اعتقاد أصحابها أن الواقع ينجلى بالتأمل فيه , وأنه يمكن تبعاً لذلك تصويره تصويراً لا تحيز فيه , وكيف يكون هذا ممكنا ما دام التحيز فى الإدراك نفسه , وما دام مجرد تسمية الأشياء فى ذاتها يتضمن تغييرها ؟ ! وكيف يستطيع الكاتب أن يكون كما يشاء بالنسبة للمظالم التى ينطوى عليها هذا العالم ؟ (46)
وإذا كانت الواقعية بالنسبة لـ"سارتر" أدب استهلاك , شأنها فى ذلك شأن الفن للفن , فإن الأدب التجريدى كان – فى رأيه بمثابة لبّ الترف والإسراف , لأن خلق أدب لا ينتفع به , يعنى أنه ليس من هذا العالم , ولا يذكّر بشىء فيه , فقد أدراك أصحابه أن الخيال حاسة مجردة من كل قيد ووظيفتها جحود الواقع , موضوع الفن فيه مبنى على أساس تقويض الواقع"(47)
وإذا كان "سارتر" قد وصف أدب القرن التاسع عشر – (الممثل فى المدرسة الرومانتيكية) وما تفرع عنها , وبعد مروره السريع على الواقعية – بأنه أدب استهلاك , فإن مذهب (الفن للفن) وإن كان "كانط" يعتبر مقدم أساسه الفلسفى قد حظى منه بالنقد العنيف . فيكتب (فى مقدمة الأزمنة الحديثة) : "إن الكاتب الذى يتبع تعاليم دعاة الفن للفن , يهتم قبل كل شىء بكتابة آثار لا تخدم شيئاً البتة , آثار ليست ببعيدة عن أن تبدو جميلة , وإن كانت مجانية حقاً , ومحرومة من الجذور فعلا , وهكذا يضع نفسه على هامش المجتمع , أولا يقبل بالأحرى أن يمثل فيه إلا بصفة مستهلك محض , وعلى وجه الدقة كطالب متمتع بمنحه".(48)
فالفن الخالص Pure art والفن الفارغ Empty artسواء بسواء , والدعوة إلى مثل هذا الفن – فيما يرى "سارتر" –ليست إلا ذريعة "تذرع بها نكرات القرن الأخير" (49), لأنهم أبوا أن يسلكوا سبيل التجديد والكشف , وأن يبدعوا شيئاً ذا قيمة وأنهم يقعون فى تناقض فادح – فى رأيه – "فهم يقولون : لا ينبغى للكاتب بحال أن يشغل نفسه بمسائل الحياة المادية العارضة , كما لا يجوز له مطلقاً أن ينظم كلمات لا معنى لها , ولا يقتصر بحثه على الجرى وراء الجمل أو الجمال الصور التى تساق فيها … ووظيفته مقصورة على أداء (رسالة) لقرائه . وما (الرسالة) إذن ؟ (50)
فإذا كان الكاتب مشغولا بما هو جمالى بحتً , بما هو بعيد كل البعد عن المشكلات التى تعتمل داخل المجتمع فإنه بالضرورة لن يكون باحثاً عن المعنى أو الدلالة , وبالتالى لن تكون له رسالة , وبذا يثبت تهافت أصحاب هذه النظرية – فى رأى "سارتر".
ولكن قد يقول البعض , بأن أصحاب هذا المذهب (الفن للفن) إنما يتجهون إلى قيم خالدة لا ترتبط بالحياة اليومية بشكل مباشر , كأن يكون الحديث عن الحرية , أو العدالة أو الخير بشكل مطلق.
على هؤلاء يرد "سارتر" متخذاً من الحرية مثالا فيكتب : "وسهولة التحدث على عجل عن القيم الخالدة فيها مزلق خطير : إذ القيم الخالدة جدّ هزيلة . ولو نظر إلى الحرية نفسها من زاوية الخلود لبدت غصناً جافاً , إذ هى كالبحر فى حركة لا تزال تبدأ أبداً فليست هى سوى الحركة التى بها دائماً يتخلص المرء مما يعوقه , فيتحرر , والحريّة –فى أشكالها – لا تمنح , بل على المرء أن ينتصر على شهواته وجنسه وطبقته وأمته , فينصر بذلك على الآخرين".(51)
فالحرية مرتبطة بما هو عيانى , مشخص , والحديث المجرد عنها ليس إلا كالحديث عن شىء هزيل جاف , فالحرية تكتسب فى موقف , "ولما كان الإنسان محكوماً عليه أن يكون حراً فإنه يحمل على عاتقه عبء العالم كله : إنه مسئول عن نفسه بوصفه حالة وجود" (52) , والإنسان مسئول عن كل شىء , اللهم إلا مسئوليته نفسها , لأنه ليس الأساس فى وجوده "فكل شىء يجرى إذن كما لو كنت مرغماً على أن أكون مسئولا"(53) وبذا فلا يمكن تناول موضوع الحرية بخفة – خارج الواقعى والعيانى والمشخص , وبعيداً عن المسئولية , وهذا هو ما يقوض دعوة القائلين (بالفن للفن) – فى رأى "سارتر".
وإذا كان "سارتر" قد بدا عنيفاً فى هجومه على (الفن للفن) , وفى طرحه لمفهوم الالتزام كمقابل له – كما أوضحنا خلال الجزء السابق من هذا الفصل – فإن مبدأ (الفن للفن) قد وجد من يدافع عنه , ويهاجم مفهوم "سارتر" فى الالتزام , بلغة لا تقل سخرية أو تهكماً عن لغة "سارتر".
فقد كتب : "آلان روب جرييه" : "ماذا يتبقى من الالتزام ؟
لقد بشر "سارتر" , الذى كان قد رأى خطر هذا الأدب المصلح المهذب للأخلاق بأدب فاضل يهدف إلى إيقاظ الشعور السياسى عن طريق إثارة مشاكل مجتمعنا ويحاول أن ينجو من روح الدعاية بإعادة القارئ إلى حريته , ولكن التجربة شهدت بطوباوية المحاولة , لأن الاهتمام بتوضيح شىء ما (شىء خارج الأدب) يدفع هذا الأخير إلى التراجع والاختفاء . إذن لنعطى فكرة الالتزام المعنى الوحيد الذى يمكن أن يهمنا , أى بدلا من أن يكون الالتزام ذا طبيعة سياسية , فيصبح بالنسبة للكاتب وعياً تاماً بالمشاكل الحالية للغته الخاصة . واقتناعاً بأهميها ورغبة فى حل هذه المشاكل من الداخل , فتلك هى فرصة الكاتب الوحيدة فى أن يظل فناناً , وبالتالى يستطيع بطريق غامض وبعيد أن يكون نافعاً فى شىء , بل ربما خدم الثورة"(54)
ففكرة الالتزام لدى "سارتر" يراها "جرييه" وقد أخفقت , ويرى ترجمة الالتزام إلى وعى الكاتب بلغته الخاصة , لأن الاهتمام بتوضيح شىء ما خارج الأدب يدفعه إلى التراجع والاختفاء , بل ويضيف "جرييه" فى سخرية : "إن ما يلزمنا الآن هو أن نكف عن النظر بجدية إلى اتهامات الافتقاد إلى الأسس , وأن نكف عن الخوف من (الفن للفن) كما لو كان أسوأ الشرور , وأن نرفض الخضوع لهذا الجهاز الإرهابى الذى يشهر فى وجوهنا ما أن نتكلم عن شىء آخر غير صراع الطبقات أو حرب التحرير".(55)
ولعله يتضح أنه إذا كان "سارتر" الذى رفض أن يتناول الكتاب "الحرية" بخفة وعدم اهتمام , وقد ناقش مفهوم (الفن للفن) بخفة , ولم يكن نقده يتوجه إلا إلى المضمون وبشكل خارجى فقط , ولذا فقد جاء نقد "جرييه" أيضاً بنفس الدرجة, فكان ساخراً أكثر منه محللا , ومن الخارج , فلم يقدم رداً متماسكاً على وجهة نظر "سارتر" . وربما يلتمس البعض لـ"سارتر" العذر لأنه عندما ناقش "الفن للفن" إنما كان بمثابة تقديم لطرحه لمفهومه عن التزام , ولكن الرد على ذلك هو أن "سارتر" كرر سخريته من هذا المبدأ مرات عديدة , وكان يمكن أن يجد فى هذا المبدأ بعض المواقف الإيجابية , كما كان يمكن أن يقارن (56) بينه وبين نظريته فى عدم التزام الشعر والفنون المختلفة , خاصة إذا تذكرنا موقف "سارتر" فى المتخيل" والذى أوضحناه فى الفصل الثانى من هذا الكتاب.
وإذا كان "سارتر" قد دشن تقديمه للالتزام بهجوم عنيف على مبدأ (الفن للفن), فإنه أثناء طرحه لمفهومه عن الالتزام , ووظيفة الكاتب , قد هاجم المدارس المختلفة , ولكن المدرسة التى حظيت بأشد الهجوم , وأبلغ الاهمام هى "السريالية Surrialism".
ورغم أننا نجد صدى للسوريالية , ممثلا فى الكتابة الأوتوماتيكية , كما فى "الغثيان" (التى تمثل نمطاً من السوريالية الناقصة) (57) , كما نلحظ أيضاً فى سلوك "بول هيلبر" فى قصة إيروسترات" ما رآه "بريتون" , أبسط مظهر للعمل السوريالى , وهو "النزول إلى الشارع بمسدس فى اليد , وإطلاقه على الجمهور على سبيل الصدفة , وبقدر ما يستطاع (58)"فإن "سارتر" قد انتقد "السوريالية" انتقاداً مراً فقد رأى أن السورياليين كتبوا من أجل استهلاك الأدب , وتقليد طيش الأشراف فى الطبقة الأرستقراطية الميلاد . وقد احتموا فى الكتابة الآلية , مؤكدين على أن الكاتب طفيلى , واستهلاكى محض ؛ وظيفته إحراق أموال المجتمع المنتج.
والبورجوازية ابتسمت لهذا الطيش (السوريالية) لأنها لا يعنيها أن يحتقرها الكاتب "فهذا الاحتقار ليس له أثر يذكر , ما دامت هى جمهوره الوحيد وهو لا يتحدث إلا إليها وهى موضع سره . وتلك صلة توحد ما بينهما , وحتى لو حظى بالتوجه إلى الشعب , فأى حظر يخشاه البورجوازيون منه فى احتمال إثارة الدهماء حين يشرح لهم أن البرجوازى مسفّ فى تفكيره ؟ هذا , ولا يحتمل قط أن تستطيع قضية الاستهلاك المحض أن تخدع الطبقات العاملة , ثم إن البرجوازية تعلم حق العلم أن الكاتب منضم خفية إلى حزبها : فهو بحاجة إليها لتبرير فنه فى عدائه ومعارضته , ومنها يتسلم الأموال ويتمنى المحافظة على النظام الاجتماعى ليستطيع أن يشعر بأنه مستلب , وبالاختصار هو متمرد وليس بثائر"(59) وذلك لأن عملهم مجانى، هو مسلاة , ولا ضرر منه للبورجوازية , وهم لا يهدفون إلى تغيير المجتمع , ولكنهم يهدفون – فى رأى "سارتر" – إلى تدمير الثقافة وهدم اللغة , فقد حاول الأدب السوريالى تدمير اللغة , وبمداخلة الكلمات بعضها فى بعض , وبذا يدل السكر على الرخام والرخام على السكر , وتشكك الساعة اللينة الملمس فى ماهيتها , وتنهدم الأشياء الموضوعية لتدل دلالة فجائية على الذاتية , إذ يقصد كل منهم إلى تعرية الحقائق فى خصائصها , ويلذ له أن يضع صور العالم الخارجية نفسها (بين قوسين) وأن يخضعها للخدمة الحقيقة المدركة بعقولنا , ولكن الذاتية تمحى بدورها لتتراءى من ورائها موضوعية مستترة , هذا , ولا يؤدى كل ذلك إلى هدم حقيقى واحد لشىء من الأشياء , بل الأمر على النقيض من ذلك : فبالمحو الرمزى للذات عن طريق التقويم والكتابة الآلية , والمحو الرمزى للأشياء عن طريق اختراع أشياء موضوعية تمحو نفسها بنفسها , والمحو الرمزى للغة فى القضاء على الرسم بالرسم والقضاء على الأدب بالأدب , بواسطة ذلك كله تابع السورياليون مشروعاً طريفاً , هو تحقيق العدم بالإفراط فى الإضافة للوجود , وكانت وسيلتهم إلى الهدم هى دائماً الخلق"(60).
لقد كانت "السوريالية" تعبيراً عن أفكار "فرويد" التى حاول "بريتون" أن يدخلها إلى السوريالية , فكان الاعتقاد فى أن العقل الباطن يهبنا حقيقة أصدق , أى الحقيقة العليا "بينما العقل الواعى يعمل بذهن تقليدى غبى وأكبر شاهد على ذلك هو نشوب الحروب وما إليها , وفضلا عن ذلك أوحت أهمية الأحلام فى نظرية "فرويد" بفكرة الحلم كمادة فى لوحاتهم وكتاباتهم . وهذا بدوره أوحى إليهم بالاهتمام بالرمزية الجنسية والمعالجة الصريحة للموضوعات الجنسية" (61), وهذا كان ما لا يرضاه "سارتر" لسببين :
أولهما : أنها تنبع من الأفكار الفرويدية التى يفرضها.
وثانياً : أنها تعتبر حركة مناهضة للالتزام.
وإذا أعلنت السوريالية أنها جاءت , من (رامبو) , سخر "سارتر" منهم قائلا : "قد كان "رامبو" يريد على الأقل أن يرى حجرة استقبال وسط بحيرة , ولكن السوريالى يريد أن يكون دائماً على وشك رؤية بحيرة وغرفة استقبال : فإذا التقى بهما مصادفة سئم منهما أو انتابه الخوف , أو خف لينام مقفلا مصاريع حجرة نومه . وموجز القول : يرسم السوريالى كثيراً ويسود كثيراً من الورق ولكنه لا يهدم شيئاً حقيقياً"(62).
فإذا كان "رامبو" قد أعلن ثورة على عالم الأشياء , وكان يهدف إلى الهدم والتغيير فإن السورياليين فى رأى "سارتر" – لم يكن هدفهم (هدم شىء حقيقى) , وإذا كان "رامبوا" شاعراً نبوئياً , يعلم ويتنبأ , فهم يخشون من حلمهم ونبوءاتهم . فليست الحقيقة المباشرة للثورة السوريالية , فيما يرى (برتيون) على حد قول "سارتر" – "هى إحداث تغيير ما فى نظام الأشياء الطبيعى والظاهرى بقدر ما هى خلق حركة فى "العقول" فهذا العالم موضوع مشروع لا يتجاوز حدود الذاتية , شبيه بما سموه دائماً الانقلاب الفلسفى"(63).
وإذا ما أعلن "أندريه بريتون" بأنه ماركسى , وأكثر استقامة فى (ماركسيته) من الكثيرين الذين يستسلمون لكل أسلوب من التسوية مع الأفكار الجمالية والأعراف الأخلاقية التى تتعلق بالمرحلة الأخيرة من الحضارة الرأسمالية فالسوريالية – كما شرحها (أندريه بريتون) متأثرة تأثراً عميقاً بديالكتيكية – ماركس المادية (64) , إذا ما أعلن ذلك "بريتون" فإن "سارتر" يكتب موجها نقده إليهم (أى للسورياليين) "إن هؤلاء الكتاب الذين لا يزالون شباناً يريدون على الأخص – القضاء على أسرتهم وعلى عمهم القائد ,وابن عمهم القس , كما يرى (بودلير) فى ثورة فبرار عام 1848 فرصة لا حراق بيت القائد أوبيك Aupick وقد ولد هؤلاء الكتاب فقراء , ولذلك كانت فيهم عقد تجب تصفيتها , من الحسد والخوف ثم هم ثائرون كذلك على ما فرضه عليهم غيرهم من ضائقات : من الحرب التى كانوا حديثى عهد بها مع ما اقتضته من الرقابة والخدمة العسكرية والضرائب وغرفة إدارة الحرب الزرقاء فى ثيابها السماوية , وحشو الرؤوس بالدعايات , وكانوا جميعاً ضد رجال الدين , لا يزيدون فى ذلك ولا ينقصون عن الأب "كومب"(65).
فقد كان "سارتر" يرى أن التحالف بين الماركسية , وبين السوريالية , ليس إلا مرحلة أمام الحزب الشيوعى , وأسماها بالمرحلة (السلبية) , ويدلل على ذلك بأن الحزب الشيوعى الفرنسى , انصرف عن السوريالية عندما انتقلت روسيا السوفيتية , ومعها الحزب الشيوعى الفرنسى , إلى دور التنظيم الإيجابى والبناء , وذلك لأن اللقاء بين السوريالية وبين المطمح الثورى البروليتارى قد تم عام 1930 , حيث تحول عنوان المجلة الخاصة بالحركة السوريالية من (الثورة السوريالية) إلى (السوريالية فى خدمة الثورة) ذلك أن السورياليين وجدوا أن الشرط الأول لتحرير الفكر يبدأ بتحرير الإنسان (66), لكن هذا اللقاء لم يستمر , بين السوريالية والحزب الشيوعى الفرنسى , لدرجة أن أشد الانتقادات جاءت من أعضاء الحزب , وتحالفت السوريالية مع التروتسكية , فرأى "سارتر" فى هذا التحالف نوعاً من استخدام التروتسكيين للحركة السوريالية لأنهم مطاردون ولا يزالون فى المرحلة السلبية للنقد.
وهكذا فقد وجد "سارتر" أن الحركة السوريالية , لا تهدف إلى تغيير العالم ولا تنزع إلى الالتزام , وقد أخفقت بسبب جمهورها الذى اختارته , فهى مع إدعائها بأنها ثورة , فإنها كانت حصناً للبرجوازية , ولم تشكل فى يوم خطراً عليها , وكانت علاقاتها مع الماركسية , هى علاقات فى مرحلة سلبية لا تلبث أن تنتهى بالقطيعة عندما تنتقل الماركسية إلى البناء.
وقد كانت انتقادات "سارتر" تنصب أساساً على مضمون هذه الحركة , وهو لم يكن يعنيه ما كان لديها من قفزات فى مجال التعبير الفنى , والإبداع الشكلى , وإنما هو قد وجه تفسيراً للأدب فى الجمهور , وبالتالى كانت نوعية الجمهور الذى تتوجه إليه هو سبب إخفاقها.
وفى حديث "سارتر" عن السوريالية نلاحظ أنه يؤكد على الأدب بشكل خاص , ولكنه يشير فى أحيان غير قليلة إلى الرسم , والشعر مصوباً انتقاداته , على أساس أن السوريالية تبغض الالتزام , وتبحث عما هو تخيلى , خارج عن الواقع , وهذا يناقض نظريته فى الالتزام والتى لا يخضع للالتزام فيها غير (النثر) , وإذا أضفنا إلى ذلك موقفه من "بيكاسو" حيث كان يرى أن الحزب الشيوعى لا يستطيع استيعابه , والبرجوازية هى التى تشترى لوحاته (67) , فى حين نعلم أن "بيكاسو" فنان مبدع , وقد مر بعدة مدارس منها (التكعيبية , والسوريالية) والأخيرة كان من قممها , فهذا يوحى بأن "سارتر" كان قد مر فى عجالة على السوريالية , ولم يكن يفطن إلى تناقضه , حيث لم يفرق بين هذه المدرسة فى النثر , وغيره من الفنون , كما لم يكن مهتما بمراجعة آرائه السابقة , وربطها مع آرائه اللاحقة حتى تستقيم نظريته.
ثانياً – الماركسية والالتزام
(أ) معنى ومعيار الالتزام
تعتبر فكرة الالتزام نقطة ارتكاز للمفاهيم الماركسية فى الجمال , إذ تربط الماركسية بين الفن وبين المجتمع مؤسسة ذلك على نظرية الانعكاس Reflexion وهى لا تفرق هنا بين فن وآخر , فكما عبر "هنرى لوفافر" عن ذلك , بأن الفن ليس أيديولوحية , ولكنه "له علاقات مع الأيديولوجية , إن له محتوى أيديولوجى (يتراوح فى حظّه من الوضوح وفى كونه سياسياً عن وعى" (68) , فالكاتب أو الفنان , إنما يعبر عن وضع اجتماعى , وموقف تاريخى محددين , وإذا كان صراع الطبقات ليس هو المبدع الخلاق , ولكن المبدع الخلاق هو البحث عن تعبير صحيح عن جميع العلاقات الاجتماعية القائمة على قاعدة (69) معينة وصراع الطبقات يؤلف جزءاً جوهرياً من هذه العلاقات , ويعتبر وجهاً أساسياً من وجوه الموقف التاريخى.
والماركسية ترى أن الكاتب مطالب بالوقوف فى صف التقدم , أو حسب التعبير الماركسى فى صفّ الطبقة الصاعدة , والفنان الحقيقى هو الذى يدفع المجتمع إلى التغيير , والفن وسيلة للسيطرة على الواقع , ومن ثم فإنه يلعب دوراً فى تطور الإنسان المتناغم الشامل (70) وهدف الفن العظيم هو تقديم صورة للواقع ينحلّ فيها التناقض بين المظهر والواقع , الجزئى والعام , والمباشر والتصورى .. الخ حتى أن الشيئين ينصهران فى تكامل تلقائى فى الانطباع المباشر للعمل الفنى.(71)
فالكاتب والفنان ليسا معلقين فى فراغ المجتمع الطبقى , وإنما هما بالضرورة ينتميان إلى طبقة اجتماعية محددة – رغم قدرة الكاتب على تجاوز وضعه وكذلك الفنان , ولذا فهما ليسا محايدين , وإنما ينحازان إلى أفكار محددة , ومصالح محددة ووفقاً لذلك , فهما بالضرورة يلتزمان بمواقف محددة , تنبع من الأيديولوجيا التى يلتزم كل منهما بها . وقد حدد الكاتب الماركسى "إرنست فيشر" معنى الالتزام كما يلى :
"ليس معنى الالتزام أنه ينبغى على الفنان أن يتقبل ما يمليه عليه الذوق السائد , وأن يكتب أو يرسم , أو يؤلف وفقاً لمرسوم رقم كذا , أو كذا , وإنما تسليمه بأنه لا يعمل فى فراغ , وأنه فى آخر الأمر ملتزم بالمجتمع , وكثيراً ما يحدث كما أوضح "ماياكوفسكى" منذ أمد طويل , ألا يكون هذا الالتزام الاجتماعى العام متفقا مع التزام واضح بمؤسسة اجتماعية معينة , وليس من الضرورى أن يفهم كل الناس العمل الفنى ويقرّوه منذ البداية . فليست وظيفة الفن أن يدخل الأبواب المفتوحة, بل أن يفتح الأبواب المغلقة".(72)
وإذا كان "ماياكوفسكى" لم يفرض على الفن أن يتبع مؤسسة معينة , فإنه يرى "أن هناك بالإضافة إلى الألوان الزيتية وأثمان اللوحات مسائل سياسية محددة"(73) فالكتاب والفنانون مشدودون بحكم أوضاعهم الاجتماعية , ومواقفهم الأيديولوجية , إلى المشاركة فى المسائل السياسية , فعندما قال توماس مان Thomas Mann بأن السياسة هى عمل كل إنسان , فإن الملاحظة الضمنية فى ذلك , هى أن الكتاب عام 1930 لم يستطيعوا أن ينسحبوا إلى البرج العاجى وأن يرفضوا الاشتراك فى الفوران الاجتماعى فى ذلك الوقت" (74) , فإذا كان على العسكريين أن يقتحموا ميادين الحرب , فإن الكلمة – الطلقة كانت هى مبرر الكاتب.
وإذا كان "فيشر" , و"ماياكوفسلكى" وآخرون , يرون أن الفنان لا يعمل وفق مرسوم أو تبعاً لمؤسسة معينة , إلا أن هذا ليس هو رأى . كافة الماركسيين فقد أوضح "لينين Lenin" فى مقال (التنظيم الحزبى والأدب الحزبى Party Organisation and Party literature ) : "أن ظروف الثورة البرجوازية الديموقراطية The Conditions of bourgeois demortic reveoluion تتطلب من الطبقة العاملة وحزبها صياغة جلية لموقفها ليس فى قضايا السياسة وحسب , بل أيضاً فى مجال الفنون (75) . وقد رأى "متشنكو" أن "الافتقار إلى الالتزام الحزبى لا يكون إلا قناعاً Mask لالتزام من نوع آخر"(76) . أى بأفكار البورجوازية , والتى لا تعبر عن الوضع الثورى , وإنما تعبر عن موقف متخلّف تجاه الأحداث والواقع , بل والالتزام بالحزب, وبالشعب هو الذى "دفع مشكلة البطل الإيجابى Positive Hero إلى الصدارة"(77).
ولكن إذا كان الفن ملتزماً بالحزب البروليتاى , وجاعلا من الواقعية الاشتراكية قاعدته الأساسية , ومرتكزه الجمالى , وخروج الكاتب على هذا يعتبر خيانة للأدب وللفن , هل يمكن أن يكون الفنان الذى يتبع هذا النهج صادقاً ؟
يرى "ميتشنكو" رداً على هذا , أنه : "فى حديث "لينين" عن عمل الفنان والكاتب نراه يوجه الأنظار إلى القوة والصدق فى العواطف التى يصورها فى العمل الفنى والأدبى , فقد أثار اهتمامه الاتهام العنيف الذى وجّهـــه "ليــو تولســتوى (78) L. Tolstoy" إلى الأوتوقراطية والكنيسة , وفضْحه الدائم للرأسمالية المشحون بأعمق المشاعر والسخط التام . وهكذا فإن تفسير المبدأ اللينينى فى الالتزام على أنه لا يعدو أن يكون مقولة فلسفية تغض الطرف عن الطبيعة الانفعالية للأدب والفن والأصالة فى موهبة الفنان , وهو ما زلنا نواجهه فى صحافتنا , يمثل إفقاراً لهذا المفهوم".(79)
وقد أكد أيضاً , "جون فيريفبل" الماركسى الفرنسى بأنه يجب على الكاتب بدلا من أن يكتب "بهرجاً أدبياً سياسى الاتجاه أن يغوص فى الحياة نفسها وأن يصور بوسائله الفنية ما يراه"(80), ورغم هذا فإن رأى كل من "متشنكو" , و "فيريفبل" يبدو لصيقاً بصيغة الإلزام أكثر منه الالتزام الحر , فأن يكون الكاتب مضطراً إلى الالتزام بالحزب , وإلا اعتبر خائناً , للحزب وللفن معاً , وفى نفس الوقت أن يبدو كما لو كان مريدا لموقفه , فإن ذلك يعبر عن تناقض جلى , وإن كان "التمييز بين الأدب السياسى Political Literature. والدعاية (البروباجاندا) Propaganda يعتبر معقداً إلى أبعد حد , ويتوقف على مقدرة الكاتب على التمييز بين وعيه الاجتماعى His Social Consciousnss وما يلزم نفسه به فى فنه"(81) , كما يرى "فرديريك برسون" "فإن هذا التمييز ليس هو المعيار الذى يحكم على الأديب أو الفنان , وإنما يجب أن تُفصل لغة الفن عن لغة السياسة . وإن كان الفنان بالضرورة يعيش فى عصر معين , ويعبر عن آمال وأفكار معينة , وله موقف من كل ما يدور فى المجتمع , فليس ضرورياً أن يكون موقفه واضحاً وضوح موقف السياسى , وقد وقع المفكرون السوفيت فى هذا الخطأ – الدمج بين الفن والسياسة – خاصة من اتبعوا "زدانوف".
وقد رأى السوفيت أن الالتزام كمقولة علمية Scientific Category لا صلة له بالمرة بالذاتية , فهو يطلب "تحليلا موضوعياً للواقع"(82) – على حد قول "لينين".
وقد كان لفترة الحكم الستالينية أثراً بالغاً على المفاهيم الجمالية , فقد أعلن فى المؤتمر الأول للكاتب السوفيتى عام 1934 , "أن الرفيق "ستالين" قد عين كتابنا مهندسين للنفس البشرية"(83) وجاء فى المعجم الفلسفى الصغير أن "رجال الفن السوفيتى هم مهندسو النفس البشرية , يقدمون على تربية العمال بالروح الاشتراكى والحماس الذى لا حد له للحزب الشيوعى والروح لوطنية السوفيتية" (84) وقد انتشرت النظرية السوسيولوجية الفجة Vulger Sociology , وضاع كتاب المسرح , "نتيجة لوقوعهم ضحية نفى الصراع" (85) والذى يعتبر وفقاً للمبادئ اللينينية , من سمات المجتمع الاشتراكى الذى انتفت فيه الطبقات . ولكن رغم سطوة الستالينية فقد كان فى الكتاب من يخرج على المفهوم الستالينى (أو الزدانوفى) للأدب , فقد كان الكتاب أعضاء الاتحاد البروليتارى الروسى للكتاب , وأعضاء "حركة الثقافة البروليتارية" , يقيمون فنهم ليس على المبادئ الماركسية اللينية لانعكاس الواقع , ولكن على المفهوم الذاتى لـ"بوجدانوف Bogdanov" (86) للفن كنظام سيكولوجى.(87)
وقد حاول عدد من الكتاب والفنانين – فى المجتمع السوفيتى – إدخال النزعات المعاصرة فى الأدب والفن فى التصور الماركسى . وقد هاجم هؤلاء الكتاب, الكتاب الرسميون , أو الأكثر تمسكاً بالنظر السوسيولوجية . فقد كتب "متشنكو" :
"هذا هو "ف . لاكشين V. Lakshin " واحد من نقاد المجلة (88), يزعم أن علينا أن نحكم على العمل الأدبى والحياة التى يصورها (على أساس شهادة الكاتب وحدها) , ويرى الكاتب أن هذا من (أبجديات علم الجمال المادى ABC of Materialist Aesthetics رافضاً كل الآراء الأخرى باعتبارها تقوم على الجمود المذهبى "الدوجماطيقيا Dogmatic" (89).
وكانت أشد الانتقادات قد جاءت من "تروتسكى" أحد الأعضاء البارزين فى الثورة البلشفية ورفيق "لينين" والذى شكل معارضة قوية للستالينة كلفته النفى ثم الاغتيال وكان الفن أحد مجالات معارضته , وقد اتصل بالسوريالية , وكتب – عن الفن فى عهد ستالين بأنه "سوف يدخل التاريخ كتعبير حاد عن التدهور العميق لثورة الطبقة العاملة ومع ذلك فإن سجن الفن الثورى فى برج بابل لا يمكن أن يستمر للأبد , فليس للحزب الثورى أن يزعم بأية حال أن مهمته الأساسية هى توجيه الفن لأن مهمة بهذا الشكل لا يمكن أن ترد إلا على أذهان أثملتها السلطة – كتلك التى يتمتع بها زعماء البيروقراطية فى موسكو – إن الفن مثله فى ذلك مثله العلم , لا يسعهما تلقى الأوامر , لأن طبيعتهما لا تسمح بذلك".(90)
وقد انتقد أراء "تروتسكى" فى الفن النقاد السوفييت الحاليون , على سبيل المثال "متشنكو" إذ كتب : "وقد اكتشف الكتاب الروس الطبيعة الاستسلامية المعادية للينينية فى آراء "تروتسكى" عن تطور الأدب والفن الذى خرج بشعار (ليست مناهج الماركسية هى مناهج الفن The Methods of Marxisms is not the methods of art ورأوا فى هذا الشعار محاولة لابعاد الفن عن المعترك الأيديولوجى وإعلان التعايش السلمى فى المجال الأيديولوجيى , وهو أمر لا يعنى فى فترة (السياسة الاقتصادية الجديدة NEP) سوى الاستسلام لنفوذ العناصر البورجوازية".(91)
وكان أيضاً من نقاد , وجهة النظر السوسيولوجية السائدة فى الاتحاد السوفيتى الكاتب النمسوى "إرنست فيشر" : فقد رأى أن "العقائديين الجامدين من الماركسيين Dogmatic Marxists يرون الأدب والفن وكأنهما نوع من صدفة الحلزون Snails shell كنتاج لظروف تاريخية واجتماعية محددة , وليس أكثر من ذلك"(92) , كما عارض وجهة النظر السوفيتية الكاتب الهنغارى "جورج لوكاتش" فقد كتب : "فى تعارضنا مع الماركسية السوفيتية المبتذلة فإن المادة التاريخية تبين وجود تطور أيديولوجى لا يتحرك بشكل متواز آلى ومحدد من قبل مع النقد الاقتصادى للمجتمع" (93) وأضاف بأنه فى العمل الفنى يوجد تشيع نحو الموضوعية "هذا التشيع يجب أن يوجد مكثفاً بوضوح وتميز لأن موضوع العمل الفنى يجرى تنظيمه بوعى على يد الفنان تجاه الفن".(94)
وقد كانت آراء الماركسيين تتضارب , وتتعادى , مما يظهر أن مفهوم الالتزام, والذى جاء كتعبير للعلاقة بين الفن والمجتمع (95) , لم يكن مغزاه واحداً عند كافة الماركسيين بل اختلف بين الواحد والآخر , كما تأثر بعلاقة المعبر عنه بالسلطة أو الحزب , وقد وصل فى أغلب الحالات إلى نوع من الإلزام من جهة الحزب أو المؤسسة , والطاعة والخضوع من جانب الفنان والأديب , وفى أحيان أخرى , إلى التعبير عن التحرر الإنسانى فى معناه العام (كرأى تروتسكى) (96)أو الوقوف فى منتصف الطريق كما فعل المفكرون السوفييت الحاليون , الذين انتقدوا بهوادة الزدانوفية , والستالينية , ولكنهم مازالوا يصرون على الالتزام الحزبى.
(ب) الالتزام والشعر
بالرغم من أن الماركسيين –بصفة عامة – لا يفرقون فى تطبيق الالتزام على فن دون آخر إذ تكون الفنون جميعاً جزءاً من البناء الفوقى , إلا أننا نريد أن نفصل – إلى حد ما – موقفهم من الشعر , حتى نصل إلى لبّ المشكلة.
يكتب "جورج طومسون George Thomson" : "إن وظيفة الشعر , مازالت كما هى دائماً , فى سحب الوعى من العالم المدرك Preceptual world إلى عالم الخيال , فإذا قارنا لغة الشعر باللغة الشائعة , فإننا نجدها أكثر إيقاعية وتخيلا وتنويعا وسحراً , والحال , فى حياتنا الاجتماعية نجد أن العوامل التى تعمل على تميزنا الإنسانى اقتصاديا واجتماعياً وثقافيا تغذى الاختلافات الفردية إلى حد كبير. وإذْ ذاك فإن العمليات العقلية للحياة الواعية توحى باختلافات عديدة بين الأفراد، وهكذا فإن اللغة الشائعة التى تعتبر متوسطاً لوعيهم موسومة بأكبر حرية فى التعبير الفردى , ولكن عندما ننام أو نحلم , ونبتعد عن العالم المدرك فإن فرديتنا تصبح ساكنة وتلعب دورها فى النبضات الأساسية , والابهامات الشائعة بيننا التى تُثَّبِط Inhibited فى حياتنا الواعية . عالمنا الحالم أقل فردية وأكثر تنسيقاً من عالم اليقظة . والشعر يمثل نسقاً من عالم الحلم . ولاقتبس من "بيتس Yeats" إذ يقول : "إن هدف الإيقاع هو إطالة لحظة التأمل , واللحظة التى فيها ننام ونصحو معاً وذلك باسكاننا بالمشاعر الخادعة للضجر , بينما تجعلنا نستيقظ بالتنوع , فتحتفظ بنا فى تلك الحالة من التسامى , والتى يكون فيها العقل متحللا من كل الضغوط الإرادية وغير مقيد بالرموز والإشارارت".(97)
و"طومسون" يربط هنا بين الشعر والحلم والسحر , والخيال , والتأمل والتسامى ويرى أن لغة الشعر تسمو على اللغة اليومية الشائعة التى تتحول فيها الكلمات إلى رموز دالة وتفقد إيحاءاتها بكثرة التداول , وذلك لأن "الشاعر تؤذيه الكلمة التى تنتقل من يد إلى يد كأنها قطعة نقد الصغيرة , إلا أنها تسقط فجأة على الأرض محدثة رنيناً , فهى لم تعد قطعة عملة , بل كجرد قطعة معدن ورنينها يثير فى النفس انفعالات دفنت منذ أمد طويل تحت أعباء اللغة المتداولة فى حياة كل يوم إن الكلمة فى القصيدة لا يكون لها معناها الموضوعى وحده بل يكون لها أيضاً معنى أعمق , معنى سحرى" (98) , والشعر فى رأى "طومسون" , نوع من الكلام , وإذا أردنا أن ندرس أصل الشعر , فإننا يجب أن ندرس أصل الإنسان , لأن الكلام أحد السمات المميزة للإنسان , ولذا يجب أن تعود القهقهرى , إلى البداية … , وحينئذ فإننا سوف نجد الكلام عند البدائيين يعتمد على الإيقاع والتصوير إلى حد يجعله يشترك مع الشعر فى هاتين الخاصيتين , وإن كان حديثهم شعراً , فإن شعرهم سحرى وشعرهم غناء , وغناءهم كان مصحوباً بالحركات الجسدية وقد صمم لكى يحدث تغييراً ما فى العالم الخارجى , ليفرض الوهم على الواقع (99) والشعر وثيق الصلة بشيئيين , الكلام والعمل , وهما أهم ما يميز الإنسان عن الحيوان , ولذا فالشعر وثيق الصلة بالسحر , والخيال والتأمل , وأيضاً وثيق الصلة بتغيير العالم أى أن للشعر وظيفة مزدوجة (التأمل – التغيير).
وإذا كانت لغة الشعر ليست هى اللغة الشائعة والمألوفة , فهل معنى هذا أن الشاعر . عندما يشحن ألفاظه بالانفعالات يكون وحيداً , منفرداً منفصلا عن الناس , متقوقعاً داخل ذاته ؟
يجيب "طومسون" بأن "الشاعر لا يتحدث إلى نفسه فقط The Poet speaks no for himself بل لمن يتبعه من الناس , صراخه صراخهم , وهذا كل ما فى وسعه أن يفصح عنه , وهذا هو ما يجعله عميقاً ., إذا تكلم من أجلهم فإنه يجب أن يعانى معهم ويعمل ويناضل أيضاً معهم) .(100)
ما دام الشاعر لا يكتب لنفسه , لذا فإنه يجب أن يتواصل مع الآخرين , وأسباب هذا التوصل تكمن فى مشاركتهم – ليس كإنسان , ولكن أيضاً كشاعر – أى أن يكون واحداً منهم رغم أن لغته ليست لغة الحياة اليومية.
الشعر , وإن كان يختلف فى النوع عن النثر , إلا أن لديه صلة بالمجتمع , "فقد عبر الشعر البورجوازى خلال القرن الثامن عشر عن روح الصناعة لدى البورجوازية الصغيرة الصناعية Petty Manufacturing Bourgeoisic وأجنحة من الطبقة الرأسمالية من ملاك الأرض الذين كانوا مقدمة لميلاد الرأسمالية الصناعية.."(101)
فالواقعية الاشتراكية ترى أن الشاعر – رغم أنه يوحى , ويستخدم لغة أشبه بلغة السحر على حد قول "طومسون" , وصلت إلى حدّ ربط البعض بين مفهوم "طومسون" ومفهوم السريالية (102) – إلا أن الشاعر يهدف إلى تغيير الوضع الاجتماعى إلى التعبير عمن يوصل إليهم , والشاعر فى مجتمع ما , هو مرآة لهذا المجتمع – وإن كان ذلك لا يتم بشكل واضح نسبياً كما فى النثر – فالشعر , وسائر الفنون , تشكل جميعاً جزءاً من البناء الفوقى للمجتمع الذى يعبر عن العلاقات الكائنة فيه , وفقاً لنظرية الانعكاس اللينينة.
وإذا كان الشعر ملتزماً – فى الماركسية – فإن الفنون جميعها أيضاً ملتزمة فمضمون "الشعر , والفن هو المصلحة العامة , وهى نفعية , ولكنها نفعية أحلتْ القيم الاجتماعية محل القيم الفردية المحضة فكان الشعر سلاحاً من أسلحة إقرار العدالة الاجتماعية . وقد اتخذ الشعراء لهم مركزاً يتفق وحريتهم فى الخلق والإبداع , ولكن فى داخل قفص النفعية والالتزام , فصارت أجنحتهم مراوح وارتبط خيالهم بملابسات المجتمع والمادية التاريخية".(103)
وهكذا فإن الماركسيين – مع إقرارهم بأن الشعر نمط خاص من الإبداع إلا أنه بالضرورة ملتزم , وهذا هو ما دفع "ليون تروتسكى Leon Trotsky" إلى دراسة المدرسة الشكلية فى الشعر The Formalist School of Poetry والتى رأى أنها رغم سطحيتها Supericialiy ورجعيتها إلا أن لديها شيئاً مفيداً , وهو رؤيتها المستقبلية Futurists , فرغم احتكارها تمثيل الفن الجديد , إلا أنه لا يمكن إلقاءها بعيداً عن عملية إعداد الفن للمستقبل , ودرس أيضاً أساسها الفلسفى , فرأى أنه نوع من المثالية العقيمة مطبقة على مسائل الفن , إذ أنهم يتبعون "القديس جون St. John" ويعتقدون بأنه فى البدء كانت الكلمة In the beginning was the ward ولكننا – "تروتسكى" والماركسيون – نعتقد بأنه فى البدء كان العمل.(104)
فالشاعر والفنان والأديب , جميعهم كائنات اجتماعية , تملك قدرة على الفعل , وفى نفس الوقت تقع تحت طائلة المجتمع , فهى لا تملك الحياد , ولا بد أن تنحاز – فى المجتمع المنقسم إلى طبقات – إلى إحدى الطبقات المتصارعة , والالتزام الاشتراكى هو الذى يلتزم بآمال الطبقة الصاعدة – وهى فى المجتمع البورجوازى الطبقة العاملة . هذا بالإضافة إلى كل التباينات فى الآراء التى تنسحب على كل ملتزم , والتى تشكل ظاهرة واضحة فى داخل نطاق الماركسية.
(ج) نقد الاتجاهات غير الملتزمة
كتب "روجيه جارودى Roger Garaudy " : "الواقعية لا تعنى أن تقدم صورة دقيقة للأشياء والأحداث والناس , إنها تعنى المشاركة فى إبداع العالم Creating the world عبر عملية دائبة التشكل , وأن نضع الإصبع على إيقاع نبضه العميق".(105)
وبهذا أعلن عن نوع من الواقعية يختلف عن المفهوم الشائع , والذى يسوى بين الواقعية Realism والطبيعية Naturalism جاعلا من هذه الواقعية تعبيراً عن اتجاه الماركسية الجمالى.
ولكن مما يجدر ذكره أننا نواجه آراءاً مختلفة أيضاً داخل الفكر الماركسى الجمالى منها ما يتفق مع الرأى السابق لجارودى , ومنها ما يجعل الواقعية اشتراكية Social Realism كالسوفييت الحاليين و "لوكاش" , ومنهم من يرفض الواقعية , ويضع مكانها مفهوم "الفن الاشتراكى Social art كـ "إرنست فيشر" , فهو على سبيل المثال يقول : "إن مفهوم الواقعية فى الفن – لسوء الحظ – مفهوم مطاط , وغير محدد Indefinite , فالواقعية توصف مرة بأنها اتجاهاً , وبأنها تطوير للواقع الموضوعى , وتارة أخرى بأنها أسلوب Style ومنهج Method وكثيراً ما تضيع الحدود الفاصلة بين هذين التعريفين".(106)
هذا الاختلاف يجعلنا نواجه تباينا واضحاً فى الآراء تجاه المدارس والاتجاهات المختلفة , شأن ذلك شأن الخلافات فى المواقف العديدة الأخرى , خاصة بالنسبة للموقف من الاتجاهات والمدارس المعاصرة.
فإذا كانت الواقعية , (أو الاتجاه الماركسى) , "ترفض مثالية الكلاسيكية وتفسر النموذج على أنه نموذج اجتماعى وليس نموذجاً إنسانياً عالمياً مطلقاً , كما ترفض ما تفرضه الكلاسيكية من وضع سلم لشرف الموضوعات ونبلها"(107) وغيرها من خصائص الكلاسيكية وإذْ ترى أنها – أى الكلاسيكية – تعبر عن أوضاع اجتماعية وتاريخية معينة لم تعد موجودة الآن , ولذلك فالموقف منها أصبح واضحاً وجلياً , فإنها (أى الواقعية) أو أنهم (الماركسيون) بدءاً من الرومانتيكية , تبدأ البلبلة , والاختلاط.
كتب "ج . بليخانوف" : (فى نفس الوقت بالرغم من أن الرومانتيكين والبارناسيين والواقعيين الأوائل كانوا يثورون ضد الانحطاط فى بيئتهم الاجتماعية , فإنه لم يكن لهم هدفاً تجاه العلاقات الاجتماعية التى تعتبر الجذر لهذا الانحطاط , وعلى النقيض من ذلك , بالرغم من أنهم يلعنون البورجوازيين , فإنهم يقدسون النظام البورجوازى"(108)
وإذا كانت هذه الحركة بطبيعتها متناقضة لأنها جاءت تعبيراً عن وضع متناقض , هو وضع البورجوازية , التى نادت بالحرية , وكانت تعنى بها حريتها هى كبورجوازية والتى تتعارض مع حرية الشعب , والتى نادت بالعديد من المبادئ المتضاربة , إذا كان ذاك وضعها , فإن النتيجة الحتمية هى إما أن تذوب (أى الرومانتيكية) فى الوضع البورجوازى أو تتمرد عليه وكان نتيجة هذا الاختيار – ونظراً لتناقضها "أيضاً" أن نشأ الفن للقن الذى نتج – كما يرى – "بليخانوف" – من "انعدام الانسجام بين المشتغلين بالفن وبيئتهم الاجتماعية".(109)
وقد رأى "بليخانوف" أن (الفن للفن) كان ثورياً فى موقفه من البورجوازية فكان رفض الفنانين للبورجوازية , وللتعامل مع أخلاقها التى تخضع لشريعة السوق رفضاً ثورياً حتى أنه يشيد "بيوشكين Pushkin" لأنه أدرك أنه "من العبث إعطاء دروس لرعاع المجتمع فاقدى الإحساس الذين لا يدركون شيئاً , وكان مصيباً حينما ولاهم ظهره فى كبرياء ولو أخطأ فى شىء , فإنما كان خطؤه لأنه لم يوسعهم هزءاً وسخرية أكثر مما فعل ! وهذا من سوء حظ الأدب الروسى".(110)
وكذلك رأى "إرنست فيشر" فى الفن للفن , فى بداية سيطرة البورجوازية موقفاً ثورياً , ولكن ما هو الموقف الآن من الفن للفن ؟
يقول بليخانوف : "لقد أصبحت فكرة الفن للفن غريبة فى هذا العصر … " ويضيف : "إن نظرية الفن للفن لا تنتج ثمرة طيبة ثمرة فى الظروف الاجتماعية الحالية" (111) لأن الفنان الذى كان لا يملك فى عصر تسلم البورجوازية الحكم , فى القرن الماضى , نظرية علمية ,أو دليلا يرشده إلى كيفية مواجهة هذه الطبقة , أصبح الآن لديه هذه الأداة , وبالتالى أصبحت العزلة تشكل ملاذاً للبورجوازية التى تريد أن تبعد الفنانين والأدباء عن موقع المواجهة . فالموقف الحقيقى للفنان اليوم فى رأى الماركسيين هو الموقف الملتزم.
وإذا كان الماركسيون قد رأوا فى الرومانتيكية مدرسة ثورية فى بدئها , حيث كانت معبرة عن البورجوازية الصاعدة , فإن هذا الموقف استمر حتى بعد أن جاء مكسيم جوركى M. Gorky وجعل من الرومانتيكية الثورية أو (التقدمية) مدرسة معبرة عن آمال الاشتراكين الثوريين , وقد اعتبر العديد من الكتاب السوفييت الحاليين ذلك الرأى وأخذوا به , وأضافها بعضهم إلى الواقعية الاشتراكية , ولكن هذا الرأى لم يلق القبول لدى جميع الماركسيين , بل قد هاجمه بشدة بعضهم , على سبيل المثال , المفكر الهنغارى , "ج . لو كاتش" الذى لم يعبأ بما يشكله "جوركى" بالنسبة للماركسيين سواه , فكتب : "إننا جميعاً نعلم أن الرومانتيكية الثورية كانت فى العشرين سنة الأخيرة إحدى العلامات المميزة للواقعية الاشتراكية فكيف أمكن للرومانتيكية – رغم الجاذبية التى تصاحب هذه الصفة – أن تصبح فجأة جزءاً من الجماليات الماركسية , على الرغم من أن "ماركس" ولينين لم يستخدما هذا الاصطلاح قط إلا بازدراء ساخر , وفى رأيى أنها ترجع إلى نفس السبب الذى من أجله توجد الطبيعية فى الكتابات الاشتراكية : وهو "مذهب الذاتية الاقتصادى" و "المذهب الإرادى" اللذين أنتجتهما عبادة الفرد . إن الرومانتيكية الثورية هى المعادل الجمالى لـ"مذهب الذاتية الاقتصادى" . (112) ويشن هجومه على هذا المذهب , إذ أنه يصور الواقع تصويراً فجا , مع أنه أكثر غنى وثراءً.
وكذلك رأى "بوريس شوكوف Boris sukev" أن الرومانتيكية لم تستطع فهم التناقضات الاجتماعية بصورة كاملة وفى شمولها , فقد بالغت فى دور الفرد The Role of the individual مضيفة طابعاً كلياً على عالمه الداخلى وقاطعة كل صلاته بالعالم الموضوعى".(113)
فقد أخذت الاتجاهات الماركسية – عدا التى تتشبع للرومانتيكية الثورية – "على عاتقها القضاء على تمجيد الذات الفردية المنعزلة , والحد من الارتكاز الأساسى على الخيال الواهم"(114) , ولكن الأمر لم يقف عند نقاد معارضين للرومانتيكية , وآخرين معها بل إن "العديد من النقاد السوفييت أشاروا إلى رومانتيكية تقدمية وأخرى رجعية" (115) ثم تطور إلى اتخاذ هذا المنهاج – تقسيم المدرسة إلى شطرين –منهاجاً عاماً يمكن تطبيقه على الاتجاهات الحديثة , والتى يتضح أن موقف "الماركسيين" منها يزداد تعقيداً , إذ يشير "الكسندر ماياسينكوف Alexander Myasnikov "إلى أن النقاد التشيكوسلوفاك رأو " أنه يمكن تطبيق الفكرة على المناهج الأوروبية الأخرى . فهم لا يتحدثون قط عن رومانتيكية رجعية وأخرى تقدمية , بل يتحدثون عن واقعية نقدية Criticial Realism تقدمية وأخرى رجعية , وحتى عن (حداثة) Modernism رجعية وأخرى تقدمية . وهم يقولون أنهم يستخدمون مصطلح "الحداثة" استخداماً يختلف عنه فى الاتحاد السوفيتى , فهم لا يعنون به الفن الرجعى وحده بل الفن الحديث إجمالا , ومن ثم يميزون بين نوعين من الحداثة , ووفقاً لرأيهم فإن مصطلح الواقعية الاشتراكية Social Realism لا يتسع بما يكفى لكى يحوى ثراء الفن التقدمى فى تشيكوسلوفاكيا وعلى هذا يقترحون استعمال مصطلح أكثر اتساعاً فى رأيهم وهو (الفن الاشتراكى) الذى يجمع بين الحداثة التقدمية بوصفها إحدى نزعات الفن الحديث وبين الواقعية الاشتراكية".(116)
ويزداد الأمر تعقيداً عندما يرد – على رفاقه التشيكوسلوفاك – محدداً بأن التعارض بين الواقعية والحداثة كان منذ عهد طويل , وقد ظهر فى القرن المنصرم عندما بدأت الأفكار المستحدثة Modernist Ideas فى الظهور أول الأمر عند الرمزيين , حيث دار صراع أيديولوجى وجمالى مرير بين الاتجاهين , بين اتجاه (ثورى , جذوره فى أعماق الشعب والحزب الشيوعى ) , و (اتجاه ينهض على التعبير الذاتى ويمعن فى الذاتية إلى حد بغيض) , وهذا الاتجاه فى رأيه – له أنسابه التى تعود إلى الرمزية والمستقبلية والتصويرية والتعبيرية والتكعيبية والسوريالية … الخ التى تنأى بعيداً عن المجتمع وتعادى الواقع وتضرب بجذورها فى المثالية الذاتية والفردية والشكلية Formalism ".(117)
ويصل الهجوم مداه على الاتجاهات الحديثة فى الأدب والفن عندما يقول "الكسندر ديمشتز Alexander Dymshits " : بأن الفن الحداثى Modernist Art" هو فن … البورجوازية المتدهورة , وهو غير مقبول لدى أشياع الواقعية الاشتراكية".(118)
وكذلك نعت "بليخانوف" المدرسة المستقبلية , باسم "الانحطاطية" وقال عنها "تروتسكى" (119) بأنها سطحية , ورجعية , وإن كان قد رأى فيها ما يمكن الاستفادة منه , ورأى "الكسندر ديمشتز" أن "الفن الواقعى , إنسانى – دائماً – إنه يتشرب حباً عميقاً للبشرية , ورغبة أكيدة فى مساعدة المجتمع ودفع التقدم , بينما , على الجانب الآخر , نجد أن الشكلية Formalism والتجريدية Abstractionism غير إنسانيتين , إنما تحتقران التحليل العميق للشخصيات , ونتحرفان باهتمامهما إلى تشويه صورة الإنسان".(120)
وفى مضمار الهجوم على الأدب الحديث , اعتبر "نيكولاى ليزروف Nikelsi Leizerov الأدب الوجودى أدبًا يستخدم نماذج من الواقع الحى، لكى يطرح مفاهيم فلسفية تشوّه الواقع مع إشاعة الوهم بالصدق الواقعى فى تصوير الحياة، ويضرب مثالاً "براوية" "البيركامو" الغريب(121) (المنبوذ) The outsider إذ يرى أن هدفها هو إثبات عبثية وخواء الوجود الإنسانى، وهو يشيد بمقدرة الكاتب الفنية، ولكنه يرفض بشدة مضمونه الذى لا يتفق – مع ما يراه (المنهج الواقعى)- ويعمل على تعميم فهمه لرواية الغريب على الأدب الوجودى كلّه(122) وهو نفس الفهم الذى نراه متداولاً فى "القاموس الفلسفى" – إصدار دار التقدم – إذْ يرى أن علم الجمال الوجودى نظرية مثالية ذاتية للفن والإبداع الفنى ويدمج بين الوجودية (فى الفن) وبين الطبيعية فى تصويرها لانحطاط الإنسان وللجانب المعتم Dark side للوجود الإنسانى، ويرى القاموس، أيضًا أن الفن لديهم يعمل على إيقاظ العواطف اللاواعية للفرد. وعلم الجمال الوجودى يعكس التدهور الروحى للمجتمع الرأسمالى المعاصر"(123).
ويكتب "سيرجى موزنياجون Sergei Mozhnyagun" بعد أن يربط بين الاغتراب Alienation والامبريالية Imparialism ساخرًا من الوجوديين: "أما الوجوديون، من ناحية أخرى، والذين يرون الإنسان وجودًا منعزلاً بلا مُعين فإنهم يعتبرون الاغتراب، أى التضاد بين الإنسان والمجتمع مبدأ أبديًا ومطلقًا"(124).
وهنا نجد خلطًا بين كافة الاتجاهات الوجودية، بل وصلوا إلى الدمج بين الوجودية والطبيعية، متجاهلين ما يمكن أن نراه عند "سارتر" من أدب المواقف، والمضاد لأدب "مارسيل" الذى يخضع لحتمية قدرية – كانت محل نقد عنيف من "سارتر".
ولكن، رغم الهجوم الشديد على الاتجاهات (الحديثة) فى الأدب والفن من جانب العديد من الكتاب الماركسيين، لاسيما السوفيت منهم، فإن هذا لم يمنع تغلغل هذه الاتجاهات داخل الاتجاهات الماركسية، سواء فى الاتحاد السوفييتى أو خارجه، مما دفع "متشنكو" إلى أن يقول : "نحن لا ننكر مدارس معينة فى الفن البورجوازى المعاصر تسعى حقًا إلى قطع الصلة التى تربطها سواء بالعالم المادى، أو بالمتطلبات الروحية للناس العاديين. وإنه من الجدير بالأسف أن نقدم هذه النزعات الضارة فى صورة العملية الطبيعية فى تطور الفن والتصور الماركسى الجديد له"(125).
بل ونجد أن الكاتبة الاشتراكية الهولندية "هنريتا رولاند – هولست Henrieta Roland – Holst فى دراستها عن علم الجمال الاشتراكى تؤكد قائلة: أنه "من المعروف للجميع ومما لا يحتاج إلى تذكير أن الفن ليس فى حاجة إلى هدف خارجه ويرى معناه فى ذاته"(126)، مما يصل إلى الدعوة لمبدأ "الفن للفن".
ويتضح التناقض فى المواقف عندما نجد ثلاثة من الكتاب الماركسيين يكتبون عن "كافكا" ، وهم : "سيرجى موزنياجون" ، "جورج لوكاتش"، "روجيه جارودى"، فإذ يرى الأول أن "كافكا" ينتقد الرأسمالية ولكن انتقاداته غير مقنعة لأنه يستمد نقده من ما أسماه (بغضب النفس Anger of he soul) فلم تكن الرأسمالية وحدها فى نظر "كافكا" ممثلة للعنف الشامل، بل أيضًا كانت الثورة الاشتراكية وتعاطف "كافكا" – فى رأيه مع الثورة الروسية لم يجعله يعتبرها تحولاً تاريخيًا لأنه كان متأثرًا بفكرته الراسخة فى ذهنه عن شبح البيروقراطية المفزع، فقد كان يقول: إن كل ثورة تنتهى إلى صورة من البونابرتية التى تحتضن الثورة فلا تبقى سوى نوع جديد من البيروقراطية(127) جاعلاً نقده ينصب أساسًا على آراء "كافكا" أكثر منه على أدبه، ولم ير تناقضًا فى عمل "كافكا" يعكس تناقض واضطراب العصر علمًا بأنه لو اهتم برأى "إنجلز" عن "بلزاك" الذى أوضح أنه بالرغم من أن "بلزاك" كان من أنصار (المشروعية) لكن رواياته تعتبر مرثيات لذلك المجتمع الذى كان يناصره وقد وصف (أى بلزاك Balzac) الفترة ما بين عامى 1816، 1848، مقدمًا لوحة حية من الأحداث عن تقدم البورجوازية إلى السيطرة على المجتمع وانهيار مجتمع الإقطاع(128).
أما "لوكاتش"(129) فرغم أنه رأى فى "أعمال كافكا يتحقق إدراك الواقع الذى يؤدى إليه هذا بأكبر قدر من التماسك والإقناع، وبأنه ينتمى إلى الكتاب الواقعيين العظام، إلا أنه أدانه بشدة، رابطًا بينه وبين "كيركجارد"، لأنه لم يتجاوز تصوير الطابع الشيطانى لعالم الرأسمالية الحديثة وعجز الإنسان فى مواجهته وخلاصه بالطبع، ولأن موضوع قلقه لا يزال بعيدًا عن ذروة تطوره التاريخى.
أما "روجيه جارودى"(130) فيرى "كافكا" كاتبا واقعيًا عظيمًا، أقام التحامًا بين الإبداع الشعرى والحياة، وهو ليس كاتبًا يائسًا ولكنه شاهد على عصره، وأعماله الأدبية تعبير عن موقفه من العالم، وهى ليست صورة منقولة ومتواكلة كما أنها ليست نبوءة تسرف فى الخيال، وتتمثل عظمة كافكا فى نجاحه فى خلق عالم أسطورى لا ينفصل عن عالمنا الواقعى بل يكوّن معه وحدة، ويجعل كافكا صاحب النصيب الأعظم فى كتابه (واقعية بلا ضفاف).
وهذه المواقف المتباينة تؤكد ما نراه، من عدم وجود وجهة نظر ماركسية واحدة، وإنما توجد اتجاهات ماركسية متباينة تجاه المدرسة الواحدة.
ولعل الموقف من "السوريالية" يزيد الأمر جلاءاً ووضوحًا، خاصة إذا علمنا أن السوريالية أقامت دعوتها على أساس أن "بريتون"(131) كان يعتبر نفسه ماركسيًا، والماركسية أهم الروافد التى ترفد السوريالية بفلسفتها فقد كتب "سيرجى موزنياجون": "ولكن سوف يكون صحيحًا لو أننا سلمنا بأن "السوريالية" نوع من الكآبة والغضب تكبل الإرادة، وتخنق الاحتجاج. فقد أكد آراجون Aragon فى مقالته عن إيلوار Eluard بأن الشاعر الموهوب يمكن أن يكون شاعرًا حقيقيًا للشعب فقط عندما يرفض السوريالية".(132) فكأن هذا الموقف السلبى هو الذى يجعل الشاعر شاعرًا شعبيًا.
أما القاموس الفلسفى – الصادر عن دار التقدم – فقد جاء به، عن "السوريالية"، أنها التعبير عن السمة المميزة لأزمة المجتمع الرأسمالى Th Crisis Of Capital Society وأن جذورها الفلسفية جاءت من المثالية الذاتية "لفرويد" التى تعتبر الفن ك (شىء) As thing، وإنه ناتج ووظيفة للشهوانية. ويرى (القاموس أيضًا) أنه وفقًا للسوريالية فإن الفن ينبع من الإثارات الجنسية، ومن الخوف من الموت ومن الحياة. وتناقضات المجتمع الرأسمالى التى شطرت الرأسمالية إلى شطرين، بالخوف والعجز عن مواجهة العالم الواقعى الناتج عن هذه التناقضات، هذه التناقضات جعلت السورياليين يجدون بعض الصور التى أمكنهم تجسيمها مشيعين القرف والإشمئزاز من الواقع والحياة نفسها , والسوريالية من وجهة النظر تلك تؤكد على الهذيانات Hallucinatons والحالات المرضية Pathological Cases والتشاؤم واليائس.
ويضرب (القاموس) مثلا على بعض السورياليين فيضع بينهم (ت . س . اليوت) وكافكا , و"باوند" وغيرهم.(133)
والجدير بالذكر هنا أن القاموس لا يشير إلى أن السوريالية تتخذ من الماركسية أحد أركانها الأساسية , ولا يشير إلى موقف "تروتسكى" المناصر لها والذى اعتبرها المدرسة المعبرة عن الاتجاه الماركسى , والأكثر من ذلك , هو الوقوع فى الأخطاء الفادحة , كأن يعتبر الشاعر الإنجليزى (ت . س . اليوت . T . S. Eliot) شاعراً سورياليا , وكذلك "آزرا باوند" , أو اعتبار "كافكا" كاتبا سورياليا , وهى أخطاء لا تغتفر , وهى وإن كانت توحى بشىء , فإنها إنما توحى بخلط ودمج بين كافة الاتجاهات الحديثة ووضعها جميعا فى سلة واحدة ونسبتها إلى شجرة واحدة فى مواجهة الأدب السياسى (ولا أقول الأدب الإشتراكى).
وفى حالة السوريالية أيضا نلاحظ أن المواقف متناقضة أيضا , فبينما يشترك "تروتسكى" فى تحرير البيان السوريالى , ويرى "بريتون" أنه ماركسى ثورى , وفإننا نجد أن "آراجون" السوريالى السابق يهاجم السوريالية بعنف جاعلا الكفاح ضدها كفاحا ضد "التروتسكية" , كما أننا نلاحظ الهجوم العنيف من النقاد وعلماء الجمال السوفييت الحاليين , وكذلك الموقف الرسمى المتمثل فى ما جاء فى القاموس الفلسفى.
وهو نفس التناقض الذى كان تجاه "بيكاسو" الذى رأى "جارودى" أنه "إنسان ومصور يلتهم الدنيا بعينيه , ثم يفرزها بيده , وبين العينين واليد يوجد رأس وقلب إنسان تجرى من خلالهما عملية تمثيل وتحول" (134) , وبينما كان "بيكاسو" مشكلة المشاكل بالنسبة للحزب الشيوعى الفرنسى , فلم يستطعْ أن يستوعب عالمه , وقد شاع عنه الكثير إلى حدّ اضطرار "جارودى" – التأكيد على أنه إنسان وليس أسطورة "وليس نبيا أو بهلونا أو نيزكا سقط علينا من الفضاء أو شيطانا لفظه الجحيم , أو صانع معجزات"(135).
فقد كان الفهم الخاص للالتزام من قبل الماركسيين الفرنسيين (أعضاء الحزب الشيوعى) عدا "جارودى" , والذى طرد منه أخيرًا , كان هذا الفهم الخاص يقع تحت تأثير الآراء الرسمية السوفييتية التى تضيق نطاقه , وبالتالى تحكم على كافة الاتجاهات والمدارس بالعقم , ومما هو جدير بالذكر , فإننا نلاحظ أيضاً , فى هذا المضمار (نقد الاتجاهات غير الملتزمة) أن الماركسيين لا يقفون فى خندق واحد , وإنما تتعدد الاتجاهات , بدءاً من الاتجاه الذى يرفض كافة المدارس والاتجاهات التى لا تجعل من الواقعية الاشتراكية , بأكثر مفاهيمها فجاجة (الالزام الحزبى) أساسا لها , مرورا بالاتجاه الذى يمكن أن يستوعب الواقعية النقدية والرومانتيكية الثورية , وتنتهى إلى الاتجاه الذى يستوعب كافة مكتسبات الفن المعاصر ويوسع من نطاق الواقعية لتشمل الاتجاهات الحداثية , وهذا يوضح بجلاء إلى أى مدى , يجب فى تعاملنا مع المفاهيم الجمالية الماركسية , أن نحذر من الموقف الدوجماطيقى الذى يؤكد على وجود (علم جمال ماركسى) أو اتجاه ماركسى واحد.
ثالثا : العلاقة بين موقف "سارتر" والاتجاهات الماركسية
إن مفهوم الالتزام , بالرغم من أنه ليس مفهوما أدبيا خالصا إلا أنه وجد تفسيره البالغ الدقة فى حقل الأدب والفن , وكان نتيجة لتطبيق هذا المفهوم هو أن يلعب الكاتب دورًا فى الصراعات التى تعتمل فى العصر , وذلك لأنه لا يؤدى واجبه كفنان أو أديب وحسب , بل لأنه يعرف قيمة هذا المبدأ – ويتميز الأدب الملتزم – على حد ما يرى "ماكس أدرث Max Aderth" بعظم واقعيته ووضع المؤلف فى الحياة , وإن كان هذان لا يمكنهما إبداع فن , إلا أنهما يرفعان من قيمته , فهما يساعدان على جعلنا واعين بواقعنا الفعلى , وزيادة إحساسنا المسئولية , بالإضافة إلى أن الأدب الملتزم يساعد على ترشيد استمتاعنا الجمالى إنه يجعله ذا وظيفة اجتماعية."(136)
وبالرغم من أنه قد يبدو أن مفهوم الالتزام واضح ولا لبس فيه , إلا أن مجرد التعامل مع هذا المفهوم يوضح إلى أى مدى يختلط معناه , وقد كان هذا واضحاً فى طرح الموضوع بين "سارتر" والاتجاهات الماركسية , وقد اتضح أنه إلى جانب الاتفاق بعض الآراء , إلا أن ذلك لم يمنع وجود خلافات عميقة أيضاً , وسوف نوضح العلاقة بين آراء "سارتر" والآراء الماركسية كالآتى:
(أ) معنى الالتزام ومعياره
(1) لقد رأى "سارتر" أن الكاتب الملتزم ينطلق من وضعه , والذى على أساسه يلعب دوره بالنسبة لقرائه , هادفاً إلى قهر صدفية العالم , وإصلاحه بتصويره كما هو , أى كمنبع للحرية الإنسانية , ويكمن معنى الالتزام فى الفعل وتحمل المسئولية , فكان المعيار الذى يلتزم على أساسه الكاتب معياراً أخلاقياً.
هذا بينما أقام الماركسيون مفهوم الالتزام على أساس نظرية الانعكاس , إذْ يعكس الأديب أو الفنان الوضع الاجتماعى القائم والعلاقات الاجتماعية الكائنة فى المجتمع على أساس أن الأدب والفن معاً يشكلان جزءاً من البنية الفوقية للمجتمع التى تعكس البنية التحتية له . هذا بشكل عام , ولكن اختلفت التقديرات بين أن يكون الكاتب أو الفنان ملتزما بالخط الحزبى Party Line أو أن يكون مع التحرر الإنسانى العام , أو فى موقف وسطى بينهما – كما أوضحنا فيما سبق – وفى هذه النقطة فإننا نجد أن "سارتر" قريب جداً من الماركسية , وخاصة من الاتجاهات التى توسع مفهوم الالتزام وتجعله مع التحرر الإنسانى بشكل عام , وإن كان مفهوم "سارتر" لا يقوم على أساس متين , فى علاقته بالوضع الاجتماعى , إذ استبدل الجمهور بالعلاقات الاجتماعية القائمة فى عصر أو وضع معين.
(2) لقد استنتج "سارتر" (137) الالتزام من طبيعة الأدب , وهكذا كانت نقطة بدايته مقامة على ماهية مثالية أكثر منها على الدور الطبقى للأدب فى أى مرحلة من مراحل التطور الاجتماعى , والنتيجة هى أن تعريفه الشهير للأدب كوعى بالوجود وذلك لما يأتى :
أولا – لأن ذلك الوعى يجب أن يكون وعياً اجتماعياً يعتمد على ممارسة اجتماعية محددة , وذلك بإدراكه القوى التى يستند إليها والقوى التى يناضل ضدها , فالكاتب الملتزم يصبح أكثر وعياً بانخراطه كإنسان , ومسئوليته ككاتب , وبأن هذين لا ينفصلان . وقد وضع "بريخت Brecht" "الكاتب الماركسى" المعنى كما يلى : يوجد القليل مما يمكننى القيام به , ولكن بدونى فإن الحكام يكونون فى أمان تام …
ثانيا – الفعل الذى يقود إليه الوعى ليس فعلاً فردياً … وبالنسبة للماركسيين فإن الالتزام يتضمن الروح الحزبى ويشترك بين مجموعة واسعة . وإن كان "سارتر" عام 1948 رأى أن الكاتب الملتزم هو الذى يوجد خارج حزب الطبقة العاملة فقد كان يبرر موقفه بأن الحزب الشيوعى الفرنسى ليس ثورياً بقدر كاف.
ثالثا – لعل ربط "سارتر" بين الالتزام والوعى بالوجود يعود إلى أنه لم يفطن إلى أن الالتزام برز فى القرن العشرين , والانطباع الذى يمكن أن يصلنا منه هو أن الالتزام كان ينبغى أن يظهر مبكراً جداً عن هذا القرن . ولكن من جهة أخرى فإن الاتجاهات الماركسية أوضحت أن الالتزام نشأ اليوم To day وبالدرجة الأولى بسبب تعاظم حدة الصراع الطبقى , وحدة التناقضات بين قسمى المجتمع المتضادين Opposed sections of society التى جعلت الأمر يزداد صعوبة لو بقى الكاتب محايدًا , وذلك أن الكثيرين ممن نبذوا الالتزام أحسوا بالحاجة إلى تبرير موقفهم . كما أوضحت الاتجاهات الماركسية أيضاً أن ضيق نطاق الاحتكار الرأسمالى , جعل الحال بين المثقفين والطبقة العاملة لم يعد قائماً بين عدد محدود من الأفراد كما كان عندما صاغ "ماركس" و "إنجلز" بيان الحزب الشيوعى Manafesto of the Communist party بل أصبح الآن ظاهرة اجتماعية Social phenomenon فالالتزام يعكس التغيرات الاجتماعية , وأصبح الآن يعكسها بشكل أدق , بل وأصبح فى وسعه مساعدة التغيرات اللاحقة.
ولكن , وحتى لا نكون متعسفين فى هذه النقطة , فإن "سارتر" قد أشار بوضوح إلى عدم إمكانية الحياد بالنسبة للكاتب فى مواجهة الصراعات التى تدور فى المجتمع والعصر , ولام بعنف "فلوبير" و (الأخوين جونكور) لصمتهما إزاء (كوميون باريس) وأكد على ضرورة دفاع الكاتب عن المضطهدين والانحياز إلى الطبقات ذات الطابع التقدمى فى المجتمع , بل ودعا إلى محاربة الاضطهاد فى أى مكان.
وبذا فإن "سارتر" رغم أنه لم يؤسس التزامه على أساس نظرى ماركسى صرف , إلا أنه فى النهاية يلتقى مع الماركسية – رغم ضياع بعض المعانى منه – ويمكن أن يرجع ذلك إلى علاقة "سارتر" بالماركسية التى تحمل نوعاً خاصاً من العلاقة (ذات تعقيد شديد أوضحناه فى الفصل الأول) , وهو أيضاً بالإضافة إلى ذلك يختلف مع الماركسية فى بعض المنطلقات – والتى أوضحناها فى الفقرة السابقة . والتى أشار إليها , (ر . م . البيريس) فى كتابه عن "سارتر" كما يلى :
"ينبغى أن نقرر أن الالتزام الذى يتحدث عنه "سارتر" ليس هو أبداً آخر الأمر التزام الحزب الشيوعى , إن الحزب الشيوعى يفترض الدخول فى منظمة , وقبول خط السير العام , أما الالتزام فى رأى "سارتر" فيقوم بكل بساطة على أن يكون للمرء رأى فى الأحداث الاجتماعية والسياسية , وأن يصرح بهذا الرأى ولكنه يحتفظ لنفسه بحريته الفردية".(138)
ولكن حتى فى هذه النقطة , إنه يتفق مع "مايا كوفسكى" الذى رأى أنه ليس من الضرورى الالتزام بمؤسسة اجتماعية أو سياسية معينة , ومع "تروتسكى" و"إرنست فيشر" و "جارودى" أى مع المفكرين الماركسيين الذين رأوا فى الكتابة أو الإبداع الفنى عملا يختلف عن السياسة . فالتزام الكاتب يصدر عن حرية . وإن كانت آراء "سارتر" قد تعارضت مع الماركسيين , من النقاد والكتاب السوفييت الحاليين, ومع أتباع "زدانوف" والمتأثرين بـ"الستالينية" ومع "لوكاتش" الذى خلط بين جميع الاتجاهات الوجودية ,إذْ رأى أن الإنسان بالنسبة لهذه الاتجاهات جميعاً , انفرادى بطبيعته , غير اجتماعى , غير قادر على إقامة علاقات مع الكيانات البشرية الأخرى."(139)
وبهذا يتضح أن مفهوم "سارتر" لمعنى ومعيار التزام , قد نهل من الماركسية وإن كان "سارتر" فى تعامله معه كان وجودياً من نوع خاص , وماركسياً ايضاً من نوع خاص , أو كان "سارترياً يحمل تناقضه الخاص وفهمه الخاص , وقد ارجعت الباحثة الإنجليزية "إيريس موردخ" (140) موقف "سارتر" هذا إلى نموه تحت ظلل السوريالية, وارتباطه بالصراع السوريالى الشيوعى , وتأثره برومانسية "تروتسكى" ومشاركة السوريالية معاناتها العميقة وحرارة التجربة ولكن هذا التفسير يبدو غير مقنع لأن "سارتر" رغم أنه توجد صلات ما بينه وبين السوريالية , إلا أنه نقدها نقداً مراً – بل ونقد صلتها "بتروتسكى" أيضاً , ولذا فإننا نميل إلى رد موقفه هذا إلى إصراره على أن يكون وجودياً ينهل من معين "الفينومينولوجيا" والمتأثر بالخصوص بـ"مارتن هيدجر" أكثر من "هوسرل" وفى نفس الوقت أن ينهل من معين الماركسية , ماركسية "ماركس" ,واضطلاعه بدور فى الحياة , دور مؤثر وفعال.
وقد كان معنى الالتزام ومعياره بالنسبة لـ"سارتر" يقوم على التزام من نوع خاص "إذ يرى أن الإنسان الملتزم هو الإنسان الذى يستشعر بالمسئولية تجاه من يتبعه من الناس"(141) . وهذا الالتزام يمكن أن يتسع ليستوعب الالتزام بالمسيحية أو أى عقيدة أخرى، قد تخالف آراء "سارتر" نفسه, فقد كان الالتزام بالنسبة له يحمل إلى حد ما جانباً تجريدياً وفضفاضًا.
(ب) الالتزام والشعر والفنون المختلفة :
لقد رأى "سارتر" عدم التزام الشعر والفنون المختلفة , على أساس ما رآه من اختلاف بين لغة الشعر ولغة النثر , وبين ما يمكن أن نسميه الرمز أو الدال فى النثر وهو ما لا يمكن الوصول إليه فى الشعر والفنون , ورأى أن النثر وحده , هو الذى يهدف إلى الحرية , وهو فى هذا يختلف مع الآراء الماركسية بشكل عام , التى ترى أن الفنون والآداب جميعاً تشكل جزءاً من البناء الفوقى , ولذا … فما يسرى على نوع ما من الآداب أو الفنون إنما يسرى على غيره , فالشعر , والفنون المختلفة , ملتزمة وفقا لهذا المنطلق , وإذا كان "فيشر" يرى أن لغة الشعر لغة خاصة , وربط "طومسون" بين الشعر والحلم والسحر , فإنهما لم يغفلا وظيفة الشاعر الاجتماعية, ودوره.
وتلك نقطة اختلاف أساسية مع الماركسية , وإذا كان "سارتر" لم يشر فى هذه النقطة إلى الماركسية , أى أنه لم يدّع أنه يبنى نظريته على أساس معارضة الماركسية , فإننا نرى أن هذا الموقف جاء مصطبغاً بأفكار الشاعر الفرنسى "مالارميه" – كما أسلفنا – وجاء أيضاً فى محاولة منه للإبقاء على مجال يمكن أن تستمر آراؤه فى "المتخيل" – والتى ناقشناها فى (الفصل الثانى – على العمل فيه , إذ كان الشعر لا واقعياً , ومتخيلا . وكذلك الفن , رغم أنه فى (المتخيل) حاول أن يطبق أفكاره على شتى أنواع الفن والأدب (حتى التمثيل).(142)
(جـ) نقد الاتجاهات غير الملتزمة
لقد كان موقف الالتزام "السارترى" يقرب من موقف الالتزام الماركسى فى كثير من المواضع (143) – مع بعض الاختلافات – من المدارس والاتجاهات المختلفة.
(1) فإذا كان "سارتر" قد رأى أن الكلاسيكية نشأت فى مجتمع الاستقرار النسبى حيث الخلط بين التاريخ والتقاليد , وسيادة آداب اللياقة وتثبيت الفروق بين الطبقات فإن "بليخانوف" يرى نفس الرأى تقريباً "إذ تغدو آداب اللياقة الأرستقراطية هى المعيار الذى يحكم على الأعمال الفنية . وهذا بذاته سبب كاف لنزوع المأساة الكلاسيكية إلى الانحطاط"(144).
وقد اعتمد "سارتر" على تفسير الأدب بالجمهور إذ رأى أن جمهور الكلاسيكية يتطابق مع الكتاب , فلا يتجاوز الجمهور الإمكانى الجمهور الفعلى.
(2) وإذا كانت الاتجاهات الماركسية قد رأت أن الرومانتيكية فى البدء كانت حركة ثورية إذ مهدت الطريق لوصول البورجوازية إلى السلطة , وتخلصت من المثل الأعلى الكلاسيكى , ونزعت إلى البعد عن الغيبية , ثم كان انحدارها إلى مهاوى الرجعية فى بعض البلدان – ألمانيا على سبيل المثال – إذْ كانت البورجوازية قد تعلمت من الثورة الفرنسية وخافت أن تكون ثوريتها العنيفة سبباً فى ضياع السلطة منها , هذا أولا : , وثانياً : كان مبدأ (الفن للفن) فى البدء ثورة, لأنه كان يرفض الخضوع لشريعة السوق البورجوازى – رغم حدود هذه الثورية - ثم بعد أن جاءت الماركسية , أصبح رجعياً لأن النظرية الثورية التى كان يبحث عنها الكتاب والفنانون – فى رأى الماركسيين – قد وُجدتْ , فأصبح الفن للفن رجعياً.
أما بالنسبة لسارتر فإن الرومانتيكية أدب استهلاك , والكاتب الرومانتيكى يريد الالتحاق بالأرستقراطية , ووصول الاستهلاك إلى أعلى درجاته يأتى من التجديد والفن للفن, ولذا فالفن للفن يلقى هجوماً شديداً من "سارتر" لهذا السبب, فهو ليس إلا ذريعة تذرع بها نكرات القرن التاسع عشر للإفلات من الموقف الذى تفرضه عليهم مسئولياتهم.
وهنا تكمن نقطة الخلاف بين "سارتر" والماركسيين – بشكل عام – فى تحديد الفروق الجوهرية بين مرحلة وأخرى يمر بها الاتجاه أو المدرسة , أما ما عدا ذلك فإن موقفيهما يكادان يتطابقا.
(3) وإذا وصلنا إلى المدارس المعاصرة , فإنه يبدو لنا أن "سارتر" يتفق مع الماركسيين السوفييت , و"جورج لو كاتش" , فى نقد هذه المدارس , إذ يرونها دليل انحطاط وتدهور بالأدب , وقد نالت "السوريالية" من "سارتر" وهؤلاء الماركسيين أشد الانتقادات.
ولكن يجدر بنا أن نشير هنا إلى بعض النقاط التى اختلف فيها "سارتر" مع الماركسيين وهى نفسها التى اختلف فيها الماركسيون مع بعضهم البعض.
(أ) تبنى بعض الماركسيين السوريالية , ووجدوها التعبير عن الديالكتيك المادى فى الفن (بريتون , تروتكسى) وغيرهما . وقد انتقد هذا الاتجاه بعنف من الماركسيين (الرسميين) ومن "سارتر" أيضاً رغم وجود ظلال "سوريالية" فى كتاباته المبكرة.
(II) اتخذ الماركسيون مواقف متناقضة من عدد من الأدباء والاتجاهات الحديثة , مثل (فرانز كافكا) , (ألبير كامو) , والاتجاهات الحديثة بشكل عام , فنجد البعض (فيشر , جارودى) يقفون مع "كافكا" , ويوسعون مجال الواقعية لتستوعب الاتجاهات الحديثة (ويطرح "فيشر" على الأخص مفهوم فن اشتراكى ليكون أوسع نطاقا من الواقعية الاشتراكية) . وكذلك بعض النقاد الجدد – فى الاتحاد السوفيتى والذين تسمع أصواتهم بخفوت (ف . لاشكين) أو فى هولندا (هنريتا رولاند –هولست) فى نفس الوقت الذى يصب فيه الكتاب (الرسميون) جام غضبهم على هؤلاء الأدباء وهذه الاتجاهات , ويهاجمون بعنف الاتجاهات الوجودية فى خلط خاطئ بين جميع كتابها , وقد وقع فى هذا الخطأ "لوكاتش" والسوفييت الحاليون.
أما بالنسبة لـ"سارتر" فقد وقف فى الاتحاد السوفيتى مدافعاً عن "كافكا" الذى أحرقت كتبه النازية , وأشاد فى دراسة له بـ"ألبير كامو" عن رواية الغريب , وإن كان موقفه من الاتجاهات الحديثة كان متشدّدًا.
وهكذا فإن "سارتر" هنا يتذبذب بين الاتجاه الماركسى الدوجماطيقى أو الرسمى، وبين أكثر الاتجاهات راديكالية.
لقد استوعب "سارتر" إذن آراء ومواقف ماركسية , ولفظ أخرى ,أو بالأحرى فإننا نجد أن "سارتر" قد فهم – إن صح قوله بأنه ماركسى خارج الحزب الشيوعى , على حد ما كتب عند وفاة "ميرلوبونتى" – الماركسية , وبالتحديد الالتزام فى تداخل مع الوجودية , فجاءت أفكاره على النحو الذى ذكرنا.
وهكذا , فإذا كان "سارتر" قد رأى فى المتخيل أن الفن "يرى كنتاج خالص للخيال الهارب فى السلوك الذى يبدو باسطاً التأسيس النظرى للرؤيا التى تخدم الاعتقاد" فى الفن للفن , هذه الرؤيا غير الملتزمة فى الفن , على الأقل فى معيار الشعور السياسى(145) , فإنه فى (ما الأدب ؟) قد بسط رؤيا ملتزمة , وإن كانت نقطة الضعف فيها تكمن فى أنه وضع (تصوراً سارترياً) نهائياً , تبدو فيه الماهية Essence سابقة على الوجود Existence بالرغم من بدء "سارتر" فى وصف دور اجتماعى للأدب . فقد كان يميل إلى استنتاج المشروع الأدبى لا من موقف الأديب الاجتماعى المحدد , بل من الماهية المثالية Ideal Essence للأدب(146).
ولذا كان موقف "سارتر" المعقد تجاه من ينادون بالالتزام , ومن يهربون من هذا المفهوم , وأخيراً فإننا نود أن نسجل هنا أن تطوراً فى موقف "سارتر" قد حدث فقد قوض آراءه التى كان قد صاغها فى كتاباته المبكرة , عن لا واقعية الفن (فى المتخيل) وعن الخلاص بالفن كما يستشف من (الغثيان) , وذلك بدعوته للأدب الملتزم , واندراج الأديب فى العصر وتغييره للواقع , ولكنه فى نفس الوقت أبقى على هذه النظريات عندما أغلق مفهوم الالتزام على الأديب , دون سواه فكانت نظريات (الفن اللا واقعى) , وتعارض الموضوع الأخلاقى مع الموضوع الجمالى مازالت قائمة فى مجالات الشعر والفنون الأخرى.
هوامش
(1) كلمة التزام قد تكون ترجمة عربية غير وافية لكلمة Engagément وهى فى قصورها شبيهة بالترجمة الإنجليزية Commitment وذلك لأن "جان بول سارتر" لا يستخدمها بالمعنى الفلسفى المتعارف عليه , بل يستخدم أيضاً معانيها الأخرى فى اللغة العادية , والكلمة تفهم فى الفلسفة على ثلاث معان :
(I) الالتزام بمعنى الإخلاص أو الولاء لهدف أو مشروع , بعكس الانعزال المجرد فى برج عاجى , وهذا المعنى يقرب مما يقصده "سارتر" فى بعض الحالات.
(II) الالتزام بمعنى الارتباط بشكل محدد من أشكال السلوك , الملتزم هنا هو عكس "المنفلت" أو اللامنتمى الذى يسميه "جيد" dis ponible unattachac أى بالمعنى الأصلى للكلمة , المسرّح من الجندية , وهذا اللامنتمى , كما يقول "أندريه جيد" شخص تشتعل حرارته لأى شىء ولكل شىء , ويرفض , ولا يرتبط بشىء ولا بشخص ولا حتى بنفسه , ويخلص لأى شىء , بل يجرى دائماً وراء الهوى , ويأتى الفعل جزافيا مجانباً , لا يتسم إلا بأن يكون هواه عارماً مفرطاً لا ينحصر فى شىء واحد , وقد ناقش "سارتر" فكرة "أندريه جيد" أكثر من مرة وأعلن أنه رفضها ويتميز عنها , ومع ذلك فالجانب السالب عند "سارتر" يقترب من فكرة الانفلاب أو عدم الالتزام عند "جيد".
(جـ) الالتزام بمعنى الانطلاق الفلسفى أو المذهبى على أساس مبادئ أولية محددة وهذا معنى يرفضه "سارتر" تماما وفضلا عن ذلك فالكلمة فى اللغة الفرنسية العادية تفيد أيضاً معنى "التورط" أو "الانغماس" مما يدفع الدكتور عبد الرحمن بدوى مثلا إلى استخدام كلمة "الانخراط" بدلا من الالتزام فى أحيان كثيرة (إسماعيل المهدوى : فلسفة الالتزام عند سارتر , مجلة الفكر المعاصر , العدد 25 , مارس 1967 , دار الكاتب العربى للطباعة والنشر , القاهرة 1967 , ص 96).
وقد رأى ماكس أدرث Max Adreth أن مفهوم الالتزام بالرغم من أنه ليس مفهوماً أدبياً خالصاً بل إنه مفهوم فلسفى , فقد شرح بدقة بالغة فى حقل الأدب.
انظر :
-Adreth, M . : What is "Literature ةngagè" ? in Graig D. : Marzxists on literature An Anthology , Pinguin books, London 1977, P. 479.
(2) راجع , زكريا , فؤاد : دراسة جمهورية أفلاطون – وزارة الثقافة – دار الكتاب العربى –القاهرة – 1967 , ص ص 7, 8.
(3) بدوى , عبد الرحمن : الإنسانية والوجودية فى الفكر العربى , مكتبة النهضة المصرية القاهرة , ط 1 , 1947 , ص ص 111, 113.
(4) بيرس , سان جون : رسالة الشاعر , مجلة الآداب , العدد (2) , 1960 , دار الآداب , بيروت , 1960, ص 14.
(5) مكليش , أرشبيالد : الشعر والتجربة , ترجمة سلمى الخضراء الجيوسى , مراجعة توفيق صايغ , منشورات دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر (بيروت) بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر (نيويورك) , 1963 , ص 17.
(6) Mayo, Bernard : Poetry, Language and communication, philosophy, Vol, XVIX No . 109, April 1961, Macmillan, London, 1961, P. 138.
(7) Ibid. P. 138.
(8) Carve, Meyrich, N. : Poets and their Phliosophies, Philosophy Vol. XXVI No. 67, April, 1951, op,. Cit., P. 115.
(9) Valery, P. : Poé si, Conferencia, 1928, PP. 470-472.
عن هلال , محمد غنيمى : المدخل إلى النقد الأدبى الحديث , مطبعة الرسالة , القاهرة 1958 , ص ص 348, 349.
(10) سارتر , جان بول : تقديم الأزمنة الحديثة , ضمن الأدب الملتزم , ترجمة جورج طرابيشى , دار الآداب , بيروت , 1965, ص 7.
(11) Caws, Peter, Sartre, op. Cit., P. 25.
(12) سارتر . جان بول : ما الأدب , مصدر سابق , ص ص 11, 12.
(13) المصدر السابق , ص ص 12, 13, والشعر لـ"رامبو" وهذا نصه (كما جاء فى هامش الصفحات المشار إليها).
O Saisons !o Chat eaux!
Quelle Qme est sans défauts?
(14) سارتر , ج . ب : مسئولية الكاتب , ضمن كتاب : بلوك , هاسكل , سالنجر , هيرمان : الرؤيا الإبداعية , ترجمة أسعد حليم , مراجعة محمد مندور , مكتبة نهضة مصر , القاهرة 1966, ص 227.
(15) سارتر , ج . ب : ما الأدب , مصدر سابق , ص 9.
(16) المصدر السابق , ص 9.
(17) مكليش , أرشيبالد : الشعر والتجربة , مصدر سابق , ص 21 , وأيضاً : راجع مكاوى , عبد الغفار : الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر – جـ 1 , الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة , ص ص 69-73.
(18) تاجلياو , جويدو موربوجو : سارتر والأدب والشعر , ضمن "سارتر عاصفة على العصر", ترجمة وتلخيص مجاهد عبد المنعم مجاهد , دار الآداب , بيروت , الطبعة الأولى , 1965, ص ص 156, 157, وأيضا : اسكندر , أمير : النقد ونظرية الأدب السارترية , ضمن كتاب : سارتر مفكراً وإنساناً , دار الكتاب العربى للطباعة والنشر , القاهرة 1967 , ص ص 229, 230.
(19) سارتر , ج . ب : ما الأدب , مصدر سابق , ص 14.
(20) سارتر , ج . ب : مسئولية الكاتب , مصدر سابق , ص 227.
(21) الحفنى , عبد المنعم : جان بول سارتر , الحياة والفلسفة والأدب , دار الفكر , القاهرة الطبعة الأولى : 1963 , ص 214.
(22) ساتر , ج . ب : ما الأدب , مصدر سابق , ص 1.
(23) المصدر السابق , ص 4.
(24) نفس المصدر , ص 6.
(25) مكليش , أرشيبالد : الشعر والتجربة , مصدر سابق , ص 14.
(26) راجع الفصل الخامس من هذا الكتاب للوقوف على مدى اتّساق أفكار "سارتر" مع إبداعه.
(27) سارتر , ج ب : مسئولية الكاتب , مصدر سابق , ص 229 , وأيضاً : ما الأدب , ص 15.
(28) سارتر , ج ب : ما الأدب , الطبعة الفرنسية , ص 83 , عن : البيريس , ر . م : سارتر والوجودية , مصدر سابق , ص 153.
(29) سارتر . ج . ب : دفاع عن المثقفين , مصدر سابق , ص 90, 91.
(30) Thody, Philip, : Jean Paul Sartre, A liierary and Politioal study, op. Ci., PP. 163, 146.
(31) سارتر , ج . ب : دفاع عن المثقفين , مصدر سابق , ص 92.
(32) سارتر , ج . ب : ما الأدب , مصدر سابق , ص 94.
(33) المصدر السابق , ص 36.
(34) Sartre, J. P. : The Responsibility of he Writer, tr. by :Betty Askwith- In Block, Haskell M. & Salinger N. eds. of Creative vision, Grove Press, New York, 1960, p. 170, See : Caws, p. : Sartre, op. Cit., p. 27.
(35) لقد اختار (جينيه) تحقيق الحرية عن طريق الشر المطلق , ووقف فى وجه الأخلاقيات لسائدة اختار ما هو أحطّ منها , فكان لصاً , وشاذاً , ورغم ذلك فإن "سارتر" قد أشاد باختياره , راجع موقف "سارتر" من جينيه , الفصل الخامس , من هذا الكتاب.
(36) اسكندر , أمير : النقد ونظرية الأدب السارترية , مصدر سابق , ص ص 235, 236.
(37) فى قصة "سارتر" "طفولة زعيم" اختار "ليوسين" الفاشية , راجع القصة المذكورة , وأيضاً الفصل الخامس من هذا البحث.
(38) Sartre, J. P. : The Responsibility of the writer, op. 185 & See : Caws, P. Sartre, op. Cit., p. 28.
(39) سارتر , ج . ب : تأميم الأدب , ضمن الأدب الملتزم , مصدر سابق , ص 45.
(40) مجاهد , مجاهد عبد المنعم : علم الجمال فى الفلسفة المعاصرة , مصدر سابق , ص25.
(41) سارتر , جان بول : وما الأدب , مصدر سابق , ص ص 110, 111.
(42) المصدر السابق , ص ص 111, 114.
(43) المصدر السابق , ص 140.
(44) نفس المصدر , ص ص 144, 148.
(45) نفس المصدر : ص 150.
(46) نفس المصدر : ص ص 71, 22, ويبدو أن موقف "سارتر" من الواقعية يحوطه بعض التشويش , إذ أنه كان يخلط بينها وبين الطبيعية أحياناً فيعارضها بشدة , وأحياناً يقف موقفاً لا مبالياً كان يقول : "ولا يهمنى كثيراً إذا كان العمل الفنى نتيجة لفن واقعى (أو يدعى أنه كذلك أو نتيجة لفن تصويرى , فمهما يكن من شىء فإن العلاقات الطبيعية معكوسة فى العمل الفنى) – نفس المصدر , ص 66 , وهذا يشير أيضاً إلى أنه متأثر بنظرية الانعكاس اللينينية , رغم رفضه لها (فى المادية والثورة) من خلال نظرية المعرفة , راجع الفصل الأول القسم الثالث.
(47) المصدر السابق , ص ص 153, 154 , قارن نقد سارتر هذا برأيه فى المتخيل – راجع الفصل الثانى.
(48) سارتر , ج . ب : تقديم الأزمنة الحديثة , ضمن (الأدب الملتزم) مصدر سابق , ص 5.
(49) سارتر , ج . ب : ما الأدب , مصدر سابق , ص 23 , يقصد القرن 19.
(50) المصدر السابق , ص 24.
(51) نفس المصدر , ص 81.
(52) سارتر , ج . ب : الوجود والعدم , مصدر سابق , ص 873.
(53) المصدر السابق , ص 876.
(54) جرييه , الآن روب : نحو رواية جديدة , ترجمة مصطفى إبراهيم مصطفى , تقديم لويس عوض , دار المعارف بمصر , القاهرة , بدون تاريخ ص 47.
(55) المصدر السابق , ص ص 44, 45.
(56) راجع مناقشتنا فى نهاية هذا الفصل.
(57)راجع الفصل الخامس من هذا الكتاب.
(58) سارتر , ج . ب : ما الأدب , مصدر سابق , ص 157.
(59) سارتر , ج . ب : ما الأدب , ص ص 159, 160.
(60) المصدر السابق , ص ص 212 , 213.
(61) فلانجان , جورج , حول الفن الحديث , ترجمة كمال الملاح , مراجعة صلاح طاهر , دار المعارف بمصر بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر , (القاهرة نيويورك) 1962, ص 335.
(62) سارتر , ج . ب : ما الأدب , مصدر سابق , ص ص 213, 214.
(63) المصدر السابق , ص 214.
(64) ريد , هربرت , الفن والمجتمع , مصدر سابق , ص 171.
(65) سارتر , ج . ب : ما الأدب , مصدر سابق , ص ص 217, 218, و"أميل كومب" (1835 – 1921) , رأس الوزارة الفرنسية , من 1902 إلى 1905 , وكان بطل الدفاع عن السلطة الزمنية ضد سلطة الكنيسة راجع سارتر , ج . ب : ما الأدب , مصدر سابق , ص 218 , هامش 1. و"أوبيك" Aupick هو زوج أم "بودلير" بعد موت أبيه وكانت لديه منه عقدة أثرت فى أدبه وشرحها "سارتر" فى كتابه بعنوان : "بودلير" – راجع هامش 2 ص 217 من المصدر السابق .
(66) محفوظ عصام : آراغوان , المؤسسة العربية للدراسات والنشر , بيروت , الطبعة الأولى , 1974, ص 42.
(67) سارتر , ج . ب : الفنان ووعية , مصدر سابق , ص 96.
(68) لوفافر , هنرى : فى علم الجمال , مصدر سابق , ص 104.
(69) المصدر السابق , ص 46.
(70) Lukacs, G : Essays on Thomas Mann –Merlin : In Press London, 1964, P. 52.
عن مجاهد , مجاهد عبد المنعم : علم الجمال فى الفلسفة المعاصرة , مصدر سابق , ص 129.
(71) Ibi : P. 34.
عن مجاهد . عبد المنعم : مصدر سابق , ص 129.
(72) فيشر , إرنست : ضرورة الفن , مصدر سابق , ص 276.
(73) Mayakovsky, V : Collected works, Russ. ed Vol. 12, P. 150. See : Metchenko, A. : The Basic Principles of Soveit Literature, op. Cit., P. 29.
(74) Berson, Fredreick, R : Writeres In Arms- The Literary Impact of Spanish Civil War- forword by : Salvader de Medriage, New York, Universiy Press, New York, 1967, P. 52
(75) Methchenko, A : op. Cit., P. 8.
(76) Ibid : P. 12.
(77) Ibid : P.32.
(78) كتب "لينين" : "ولقد عبر تولستوى فى أعماله عن قوة وضعف حركة الفلاحين , وكان احتجاجه الحار المتحمس , والحاد فى مواجهة الدولة والكنيسة الرسمية البوليسية يعبر عن مزاج ديمقراطية الفلاحين البدائية التى كدست فيها قرون من القنانة Serfdom ومن تعسف الموظفين ونهبهم ومن اليسوعية الإكليريكية , ومن الأكاذيب والمخاتلات جبالا من الحقد العارم والغضب "أنظر :
-Lenin, V. I. : Articles on Tolstoy, in Craig, David, Ed. Of Marxists on literature, an anthology , Pinguin Books, London, 1977, P. 352.
(79) Metchencko, A. : op. Cit., P. 9.
(80) فيريفيل , ج : الفن فى ضوء الواقعية , مصدر سابق , ص 146.
(81) Berson, F. R. : Writers in Arms, op. Cit., pp. 51, 52.
(82) Metchencko, A. : op. Cit., P. 9.
(83) فضل , صلاح : منهج الواقعية فى الإبداع الأدب , مصدر سابق , ص 83.
(84) المصدر السابق , ص 85.
(85) Metchenko, A., op. Cit., P. 32.
(86) بوجدانوف : الاسم المستعار لـ(الكسندر وفتش , مالينوفسكى) , فيلسوف واقصادى روسى واشتراكى ديمقراطى , اتصل بالبلاشفة عام 1903 وعمل فى جرائدهم (فيبرود Verpryod والبروليتارى Proletary) وأصبح واحداً من مديرى جرائدهم (نوفيا زيزن Novaya Zhian) , ترك البلاشفة فى الفترة (1907-1910) وقاد مجموعة من (الفيوروليين) ضد خط الحزب , وحاول أن يضع فلسفة خاصة وقد طرد من الحزب عام 1909 , وبعد الثورة أصبح واحداً من منظمى البروليتارى (فى منظمة الثقافة العمالية Proletuct عام 1926 , وعمل مديراً لمعهد نقل الدم , ومات متأثراً بتنفيذه تجربة على نفسه , وله عدد من المؤلفات الاقتصادية والفلسفية وفى الثقافة راجع :
· Rosenthal, M. & Yudin, P. "Ed . of A Dictionary of Philosophy, op. Cit p. 55 & Also, Lenin, V. l : Materialism and Emprio-Criticism, op. Cit., (Man Index P. 375).
(87) Metchencko, A. : op. Ci, pp. 25, 26.
(88) المقصود مجلة نوفى مير Novy Mir السوفيتية.
(89) Metchenko, A., op. Cit., p. 37.
(90) Aragon, L. & Breton, A. : Surrealisme Frente a realisme socialista trad. Barcelona, 1967, p. 26.
عن : فضل صلاح : منهج الواقعية فى الإبداع الأدبى , مصدر سابق , ص 94.
(91) Mechenko, A. : The Basic Principles of Soveit Lierature op, cit., p. 25.
(92) Mozhnyagun, Sergei : Unadorned Modernism Tr. By Don Donemanis, In Problems of Modern Aesthetics, Progress Publishers, Moscow , l st Printing, 1969,p. 236.
(93) Lukaces, G. : Writer and Ciritc and other Essays, op. Cit., p. 60.
عن : مجاهد , مجاهد عبد المنعم : علم الجمال فى الفلسفة المعاصرة , مصدر سابق , ص 112.
(94) Lukaces, G. Op. Cit., p. 40.
عن : مجاهد , مجاهد عبد المنعم : المصدر السابق , ص 112.
(95) راجع الفصل السابق.
(96) راجع : فضل , صلاح : منهج الواقعية فى الإبداع الأدبى , مصدر سابق , ص 96.
(97) Thomson, George, Marxism, and Poetry, Luwrence & Wishtt L T D, London, 1945,pp. 22, 23.
(98) فيشر , إرنست : ضرورة الفن , مصدر سابق , ص 220.
(99) Thomson, G, : The Art of Poetry , in Craig D. : Ed of Marxists on Literature an Anthology , Penguin Books London, 1977, pp. 49-52.
(100) Thomson, G. : Marxism and Poetry, op. Cit., p. 60.
(101) Caudwell, Chistopher : English Poets, (1) The Period of primitve accumulation in (Graig, D.) Marxists on Literaure, A Anthology – Pinguin Book, London, 1977, p. 107.
(102) محفوظ , عصام : آراغون , مصدر سابق , ص 41.
(103) Spender, S. : The Making of Poem, PP. 16-40 & Plekhanov, G. : L Art et Lau Viie Sociale – Paris, 1946, pp49-53.
عن : هلال , محمد غنيمى : المدخل إلى النقد الأدبى الحديث , مصدر سابق , ص ص 223, 224.
(104) Trotsky, Leon : the Formalist school of Poetry and Marxism, in Graig, D. : Marxists on Literature, An Anthology , Penguin Books, London, 1977, PP. 363,379.
(105) Garaudy, R. : D un Realism sansrivages, Paris, 1963, p. 244- See : Dymshits, Alexander : Realism and Modernism, translated by : Kate Cook in , Mozhnyagun, S. : (ed) of : problems of Modern Aesthetics, Collection Articles, progress publishers, Moscow, lst, pr., 1969, P. 280.
(106) Fisher, E. : Zeitgeist und literature, S. 73- See Mezhnyagun S., Undorned Modernism, Tr . by Don Donmanis, in, Ibid., P. 252.
(107) فضل , صلاح : منهج الواقعية فى الإبداع الأدبى , مصدر سابق , ص 196.
(108) Plekhanov, G. : Art and social Life, op. Cit., PP. 34,35.
(109) Ibid, P. 34.
(110) Ibid, P.74.
(111) Ibid, P.61.
(112) لوكاش , جورج : معنى الواقعية المعاصرة , مصدر سابق , ص 67.
(113) Suchkov, Boris : Realism and its Historical Development, translated by : Kate Cook, in Mozhntagun, S. editor of , problems of Modern Aesthetics, Collecion of articles, Progress published , l st printing, Moscow, 1969, P. 325.
(114) ) فضل , صلاح : منهج الواقعية فى الإبداع الأدبى , مصدر سابق , ص 195.
(115) Myasnikov, A. : Tradition and Innovation, tr. By : Keta Cook in . op. Cit., p. 194.
(116) Ibid, P.194.
(117) Dymshits, A. : Realism and Modernism, op. Cit., PP. 261,262.
(118) Ibid, P.285.
(119) Trotsky, L. : The Formalist School of Poetry and Marxism, op. Cit., p. 363.
(120) Dymshits, A. : Realism and Modernism, op, cit., PP. 287,288.
(121) انظر تحليل ودراسة "سارتر" للرواية , وعرضنا وتعليقنا عليها فى الفصل الخامس من هذا الكتاب.
(122) Leizerov, Nikolai : the Scope and Limits of realims Tr. By. Kate Cook In, Mozhnyagun, S. : editor of , Preoblmes of Modern Aesthetics, collection of articles, progress publishers, l st, pr. Moscow, 1969. P. 303.
(123) Rosenthal, M & Yudin, p. : Ed. Of A Dicionary of philosophy op. Cit., p. 153.
(124) Mozhnyagun, S. : Unadorned Modernism, op,cit., p. 242.
(125) Metchenko, A.: The basic principles of Soviet Literature, op. Cit., PP. 10, 11.
(126) Holst, H. R. : Studies on Socialist Aesthetics, Russ, ed. 1907, p. 31, See, Ibid, p. 11.
(127) Mozhnyagun, S. : Unadorned Modernism, op. Cit., p. 245.
(128) Engles, F. : Letter to Margert Harkness (April 1888) , in : Craig, D : ed. Of Marxists on Literature an Antholgy , Penguin Books, Lonon, 1977, p. 270.
(129) لو كاتش , ج : معنى الواقعية المعاصرة , مصدر سابق , ص ص 43 , 100, 101.
(130) جارودى , روجيه : واقعية بلا ضفاف , مصدر سابق , ص ص 141 , 224.
(131) راجع : الفقرة (ج) من (2) من القسم الأول من هذا الفصل.
(132) Mozhnyagun, S. : Unadorned Modernism, op. Cit., p. 244.
(133) Rosenthal, M.& Yudin , p. : A dictionary of philosophy, op. Cit., p. 244.
(134) جارودى , روجيه , واقعية بلا ضفاف , مصدر سابق , ص 17.
(135) المصدر السابق , ص 17.
(136) Adreth, Max : What is The "Littérature Engagéé" ? op. Cit., p. 482.
(137) Ibid, PP. 482-484.
(138) البريس , ر . م : سارتر والوجودية , مصدر سابق , ص 153.
(139) لو كاتش , ج : معنى الواقعية المعاصرة , مصدر سابق , ص 19.
(140) موردخ , إيريس : سارتر المفكر العقلى الرومانسى , مصدر سابق , ص ص 43, 44.
(141) Adreth, M. : What is the "Littérature Engagéé"? op. Cit., PP. 479.
(142) راجع الفصل الثانى من هذا الكتاب.
(143) فهو (أى سارتر) أحيانا يشير إلى ما يمكن أن نجده تأثراً بنظرية الانعكاس (إذ يرى أن العلاقات الطبيعية معكوسة فى العمل الفنى) هذا رغم أنه لا يوافق على النظرية فى (نظرية المعرفة) , راجع نقده لـ (لينين)فى الفصل الأول من هذا البحث , ويبدو أن ذلك من تناقضات "سارتر" نفسه , راجع (ما الأدب) , ص 66.
(144) بليخانوف , ج : الفن والتصور المادى التاريخ , مصدر سابق , ص 90.
(145) Lacapra, D. : Apreface to sartre, op. Cit., p. 66.
(146) Adreth, M. : What is the "Littérature Engagéé"? op. Cit., p.474.
#رمضان_الصباغ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟