محمد البوزيدي
الحوار المتمدن-العدد: 1423 - 2006 / 1 / 7 - 09:48
المحور:
الادب والفن
لم تكن الضجة الأخيرة التي أثيرت قبل سنوات حول أغنية الفنان مارسيل خليفة "يوسف" التي غناها في إبداع أعاد النقاش لمدى إمكانية تلحين القرآن الكريم سوى حلقة من حلقات مسلسل يهدف لمتابعة و تضييق الخناق على هذا المبدع الكبير رائد الموسيقى الملتزمة في الوطن العربي . فعلى سبيل المثال كان قد منع أكثر من مرة من إحياء سهرات ببلدان عربية بل و أعيد ضمن نفس الطائرة التي أقلته إلى تونس في أواسط الثمانينات. كما كان مهددا بالقتل المادي و المعنوي من أطراف متعددة الألوان السياسية و الإيديولوجية. كما سبق و أن اعتقل أحد عناقيد فرقته الموسيقية الأستاذ بسام الضو عازف الأكورديون من طرف الإسرائيليين و أودع معسكر الأنصار الشهير لأنه "مخرب" و "مسبب للإزعاج "... و هي التهم التي وجهت كذلك لقائد فرقة الميادين. كما استشهد عازف القانون في نفس الفرقة أحمد منيمنة بفعل قصف إسرائيل لسوق الخضرجية في بيروت .
لكن كل هذه العوائق ليست بجديدة على مارسيل خليفة الذي صرح في أواخر الثمانينيات لمجلة كل العرب قائلا : " أنا مهدد بالقتل و ساعة الرحيل في هذه الدنيا قد تدق في أي لحظة و إنني لمستمر في سلوك هذا النهج الذي اخترته رغم كل المخاطر التي تحذق بي و المضايقات التي أتعرض لها " . لذا لم يخب حدسه , فهاهي المضايقات التي تنبأ بها قبل عشر سنوات تحققت و يا للحسرة في وطنه الذي غنى له و أعطاه كل ما يملك , و من سخريات القدر أنه كرم و احتفي به في أكثر من بلد عربي و غربي في وقت لم تلتفت له بعض الجهات في لبنان إلا لتستدعيه للتحقيق و المحاكمة في أواسط التسعينات.
لكنا نعتقد مسبقا أن هذه الحجرة عثرة لن ولم توقف المشروع الفني الهائل لمارسيل خليفة الذي بدأ قبل ربع قرن و بالضبط مع اندلاع الحرب اللبنانية , فقبلها كان قد تخرج من المعهد الموسيقي الوطني اللبناني حيث كان من أوائل الذين حازوا فيه على شهادة الدراسات العليا في الموسيقى الشرقية . مما أهله أن يكون أستاذا بنفس المعهد لمادة العود.
كانت أول أعماله أغاني منفردة صدرت كشريط أول بعنوان " أمي" و هو تلحين لأشعار محمود درويش الذي كانت قصائده آنذاك تختصر جانبا أساسيا من معاناة الإنسان العربي عامة والفلسطيني خاصة. و لقد أثبت مارسيل خليفة بعمله الأول هذا خطأ الاقتناع السائد آنذاك بأن القصيدة الحديثة غير ممكنة التلحين . و بعد احتداد الأزمة اللبنانية و اشتداد الخلافات بين الإخوة العداء آثر الفنان الكبير أن يترك المعهد الموسيقي فشكل فرقة هاوية من 5 عازفين و انطلق في الأداء حيث شارك في حفلات بفرنسا , و في فبراير 1977 اشترك في مهرجان الأغنية الإنسانية ببرلين في ألمانيا الشرقية حيث برزت عنده خاصية التجديد في اللغة الموسيقية و أشكالها و في النظرة إلى الثرات الموسيقي الشرقي و إمكانيات نبشه و تطويره و أيضا التجديد في التعاطي مع الجمهور , و بالتالي اللحن و القصيدة و الأغنية .
بعد رجوعه إلى بيروت أسس فرقة الميادين التي كان أعضاؤها في البداية من الهواة ففجرت إبداعات رائعة اتسعت بسرعة من لبنان إلى ساحة الوطن العربي لتصل للعواصم و المدن الغربية رغم مقاطعة وسائل الإعلام الرسمية لها آنذاك.
في سنة 1982 اجتاح الكيان الصهيوني لبنان بزعامة الإرهابي الكبير ارييل شارون حتى وصل بيروت فاحتار مارسيل خليفة أن يكون صوتها يوم كانت تنام و تستيقظ على صوت البارود و النار فغنى لها "شوارع بيروت" و "بيروت تفاحة" و "دخلت في بيروت" أغاني أوصلت للعالم أجمع جزء من نزيف بيروت التي كانت تحترق و لا من منقذ أو مدافع عنها سوى سواعدها و حناجرها و ساكنتها الشعبية الكادحة حيث غنى آلامهم و آمالهم سواء منهم البحارة " يا بحر بي هيا هيا " أو للشوفيري أو للأطفال. أغاني عميقة في اللحن و الأداء. كما غنى للجنوب خاصة و للوطن عامة. و قد ساهمت سهراته في مختلف البلدان العربية و الغربية في التعريف بقضية لبنان والقضية الفلسطينية.
وقد كان يخصص ريع هذه السهرات لدعم المقاومة اللبنانية و قد صنفته صحيفة "لابريس" الكندية في جولته بكندا في النصف الأخير من ديسمبر1986 أنه "من أكبر الفنانين العرب الذي يكرس كل مداخيل رحلاته لقضايا وطنية و إنسانية عامة و هو يمتنع عن النوم في الفنادق لتكريس الربح الأقصى لقضيته" كما أنجز ملاحم شعرية موسيقية ضخمة كمعسكر أنصار, و أحمد العربي و هما قصيدتين لمحمود درويش. و يعتبر العمل العملاق "غنائية أحمد العربي" التي أصدرها مارسيل خليفة في 1988 قمة عطائه الفني من حيث أنها كانت تدخل ضمن خط ملحمي أكبر و كانت انطلاقة جديدة من ناحية القصيدة و الموسيقى و الأداء حيث يشارك في العمل 100 شخص في العزف و الغناء ضمن عمل متكامل مدته ساعة و 10 دقائق .و قد كان مارسيل خليفة يهدف من خلال إنجاز الملاحم الشعرية الموسيقية إلى تأسيس شكل جديد الأغنية المعاصرة ضد السائد, ضد الأغنية التقليدية , أغنية تحترم التراث الموسيقي و تنطلق إلى الجديد لتؤسس نبرة مستقبلية جديدة , أغنية تتعامل مع جميع النصوص بما فيها "العامية" التي تعكس الوجدان الشعبي مستلهما في ذلك الإرث الذي تركه الموسيقار المصري سيد درويش أحد كبار المجددين في الأغنية العربية و همومها الواقعية مطلع القرن العشرين.
و قد لحن و غنى مارسيل خليفة لأبرز الشعراء فإضافة إلى العملاق درويش غنى كذلك للسياب و أدونيس ,خليل حاوي ,سعيد عقل, سعدي يوسف, نيقولا زيادة, عبيدو باشا, موسى شعيب,...
و لم يقتصر الفنان الكبير على الغناء فقط, بل سخر قلمه كذلك للدفاع عن الأغنية الملتزمة ,حيث كان يكتب في بعض الجرائد و المجلات خاصة في المجال الموسيقي. و قد شارك بمجموعة من الآراء و المواقف التي كانت تثير نقاشات خصبة خاصة حول دور الأغنية الجديدة راهنا حيث أثار مقاله الذي نشره في مجلة المقاصد اللبنانية في ماي 1985 ردود فعل مختلفة خاصة في الأوساط الموسيقية التقليدية إذ اعتبر أن الأغنية الجديدة /الملتزمة "رحلة انتقال بالأغنية العربية من عادة وصف الانفعال إلى وعي الفعل, الانتقال من حدود الفرد الواحد إلى آفاق المجموعة الرحب هذا الانتقال لا يعطي فقط مجرد الاحتفال بالقضية بل بدور الأغنية كذلك".
كما ألف مجموعة من الكتب في المجال الموسيقي أشهرها كتاب "السماع" و هو فريد من نوعه حيث أنه موجه إلى العازف الذي قطع شوطا في مجال العزف, و يعنى الكتاب بالبحث عن إمكانيات آلية و تعابير نغمية جديدة فضلا عن تعامل جديد مع القوالب التراثية الموسيقية لم تعتده الأذن الموسيقية بعد. كما ألف كتاب "موسيقى عربية" بتكليف من مركز البحث و الإنماء اللبناني و هو موجه إلى طلاب المعهد الموسيقي الذين انهوا سنتهم الدراسية السادسة.
يعتبر مارسيل خليفة رائد الأغنية الملتزمة في الوطن العربي. لكنه يرفض هذا بقوله"هذه الأغنية لسنا نحن مسؤولين عن إطلاقها,و لا نعتبر أننا وحدنا الذين أمسكوا بالمحراث و شقوا الأثلام في تربة هذا النوع من الغناء. فإذا عدنا إلى تاريخ الغناء العربي و راجعنا ما قدمه هذا الغناء فإننا نجد إزاء هذا الكم السلبي كما و نوعا من التعاطي مع الناس من زاوية همومهم الحقيقية و دخل إلى وجدانهم و ذواتهم و انتزع منها اعترافا بحقه في الوجود.لأنه أكثر التصاقا بها . ألم يغن سيد درويش هموم الإنسان المصري ضد الاستعمار؟ ألم يغن عمر الزعني في لبنان هموم الإنسان الجوعان؟.
و تتجاوز ألحانه أكثر من 300 لحن و ما زال في طور العطاء, و لقد أصدر ما يزيد عن 20 شريط من أهمها:أمي/أعراس/فرح/ على الأرض يا حكم/ تصبحون على وطن/ الجسر.... الكمنجات... و شريط عالحدود و هو خاص بالأطفال.
كما أصدر أشرطة رائعة في الموسيقى الصامتة أهمها :جدل و سمفونية الجسد, غنى للحرية لكل المدن المناضلة خاصة بيروت و مدن الجنوب ,لكل الكادحين,لكل الطبقات المقهورة ,لكفاحات الشعوب المناضلة و على رأسها الشعبين اللبناني و الفلسطيني.
لقد كان صوته دما و ألحانه نفحة أمل في ظل اليأس العربي. و بعد هذا الرصيد المشرف للمناضل و الفنان اللبناني مارسيل خليفة,
أ لت تستحي و تخجل بعض الجهات حين استدعته ليقف في قفص الاتهام ذات يوم وسط عقد التسعينات؟.
محمد البوزيدي
المراجع:
ـــ مجلة التضامن 2/6/84 العدد 60
ـــ مجلة اليوم السابع 21/1/86
ـــ مجلة المقاصد ماي 1985
#محمد_البوزيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟