|
البرجوازية الأوربية في ألف ليلة وليلة من 1704 - 1885
رائد محمد نوري
الحوار المتمدن-العدد: 5378 - 2016 / 12 / 21 - 16:23
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
توطئة من الغريب والممتع حدّ الدّهشة أن يجد المرء عملاً يحضى بكلّ هذا الحبّ والعناية والاهتمام على الصّعيدين الشّعبيّ والرّسمي كالّتي يحضاها ألف ليلة وليلة؛ هذا العمل الفولوكلوريّ الشّرقيّ الذي ما فتئ يمارس سحره على متلقّيه، ويؤثّر فيهم!. إنّنا بإزاء عملٍ أسهمت في تأليفه شعوبٌ شرقيّةٌ متعدّدة على مرّ أزمنةٍ مختلفةٍ أتيحت له الفرصة للتّحوّل من عملٍ محلّيٍّ إلى عملٍ عالميٍّ. فمنذ عام 1704 -لحظة ترجمة الفرنسيّ انطوان جالان الكتاب إلى الفرنسيّة- واللّيالي تشقّ طريقها بثقةٍ إلى الانتشار؛ لتكون ما هي عليه اليوم.. مراهقون وبالغون، أناسٌ من أعراقٍ وطبقاتٍ ومذاهب مختلفة المشارب الفكريّة؛ كلّهم ألقت عليهم اللّيالي سحرها، إذ كانت وما تزال مصدر إلهامٍ وموضوع دراسةٍ وعنايةٍ واهتمامٍ. وربّما دفع الشّغف باللّيالي بعض الأوربيّين المتعصّبين ليعبّر عن نزعةٍ عرقيّة استعلائيّةٍ ممزوجةٍ بنشوةٍ إمبرياليّةٍ توسّعيّةٍ للقول:- "بأنّ ألف ليلة وليلة من الحيويّة والابتكار بحيث يستحيل أن يكون قد ابتدعها مجرّد شرقيٍّ هو، من حيث الإبداع، شيءٌ ميّتٌ وجافٌّ –مومياء عقليّةٌ-" 1 !. ما الّذي دفع الشّاعر والرّحالة البرطانيّ كينغليك لإنكار شرقيّة اللّيالي؟! هل هدهدت اللّيالي انتماءه الطّبقيّ وتماثلت معه أو عكسته، أم هل هي التّرجمة التي قدّمت اللّيالي بطريقةٍ تتلاءم مع ذوق ومزاج وأحلام الطّبقات الصّاعدة في أوربّا؟! ننطلق لمعالجة المشكلة من فرضيّة أنّ الطّبقة البرجوازيّة في أوربّا وجدت في ألف ليلة وليلة ما يتماثل أو يقترب من البنى الرّوحيّة المعبّرة عن بناها الاقتصاديّة الاجتماعيّة في تحوّلاتها خلال قرنين، ونبحث في أثر العلاقة الجدليّة بين المترجم وواقعه في النّصّ المترجم من خلال أشهر ثلاث ترجمات لكتاب ألف ليلة وليلة هي ترجمات:- انطوان جالان، وإدورد وليم لين، وبرتن، لعلّنا –من خلال ما نقدّم من رؤىً وأفكارٍ- نلقي بعض الضّوء على العلاقة بين الشّرق والغرب؛ راجين أن يكون التّوفيق حليفنا. التمهيد الفولوكلور والمقاربة المنهجيّة 1- الفلوكلور:- ميّز د. (عبد الحميد يونس) معنيين اثنين لمصطلح (الفولكلور). يشير أحدهما إلى أنّ الحكاية الشّعبيّة هي:- "جميع الأشكال القصصيّة التّقليديّة، وتضمّ الحكايات الخرافيّة المجسّمة لرغبات الشّعوب البدائيّة، إلى جانب الإبداع القصصيّ المعتمد على قدرٍ من التّقنيّة المحكمة..." 2 . أمّا المعنى الثّاني، فهو المأثورات الشّعبيّة، "والترجمة الحرفية هي حكمة الشعب، والترجمة الاصطلاحيّة هي (المأثورات الشّعبيّة) وتشمل الإبداع الشّفاهي للشّعوب البدائيّة والمتحضّرة على السّواء، ويتحقّق بالكلمات المنظومة أو المنثورة، ويضمّ الخرافات والملاحم والسّير الشّعبيّة والظواهر التّمثيليّة المباشرة وغير المباشرة والرّقصات والأغاني والأمثال والألغاز والحكايات الشّعبيّة والظواهر التّمثيليّة. وتدخل فيها أيضاً العادات والمعتقدات والتّقاليد والمراسيم والممارسات الشّعبيّة" 3 . في علم الفولوكلور تعدّ العلاقة بين المعنيين علاقةً بين الخاصّ والعامّ. ف(الحكايات الشّعبيّة) تمثّل الجزء أو الخاصّ، في حين تمثّل (المأثورات الشّعبيّة) العامّ الذي يضمّ إليه الحكايات الشّعبيّة إلى جانب فنون وممارسات شعبيّة أخرى. غير أنّ الحدود بين أجناس وممارسات المنضوية تحت هذين المصطلحين قلقة، وغير ثابتةٍ، وقد تتداخل، أو تسافر عبر الجغرافيا السّكانيّة؛ لتتبادل التأثير مع مأثورات شعوب أخرى. من هنا، فإنّ من واجبات الباحث في مجال الفولوكلور –سواء كان مدخله أنثروبولوجياً، أم اجتماعياً، أم ثقافياً، أم أدبياً، أم مقارنياً- فكّ الاشتباك بين هذه المشكلات للوصول لفهم كيفيّة حركة الثّقافة الشّعبيّة وتطوّرها وتفاعلها بين الأمم والشّعوب المختلفة. دعونا في نهاية هذه الفقرة نسأل:- ما موقف الباحث في الفولوكلور من ألف ليلة وليلة؟! أين يضعها؟! وكيف يصنّفها؟! 1- ألف ليلة وليلة:- حسناً.. ليكن منطلقنا في هذه الفقرة من (الحكاية الشّعبيّة). إنّ أهمّ مقوّماتها هي:- "أنّها تقليديّة تغلب عليها صفة الانتقال المباشر من شخص إلى آخر عن طريق التّرديد أو الإنشاد أو الرّواية، وهي في معظمها مجهولة المؤلّف. والأصل فيها أنّها شفاهيّة وقد يوجد من يدوّنها في بيئة أو عصر" 4 .وألف ليلة وليلة –كما هو معروف- أثرٌ يضمّ حكاياتٍ وقصصاً تناسلت من حكايةٍ إطاريّةٍ أبطالها شهريار وشهرزاد ودنيا زاد والوزير. إذ أخذت شهرزاد على عاتقها مهمّة إنقاذ نفسها وبنات جنسها من خطر الموت، وذلك عن طريق قصّ القصص على الملك المريض (شهريار). كان لقصصها أثر علاجيّ، إذ انتهت الحكاية الإطاريّة بشفاء الملك من شكّه المرضيّ بجنس النّساء قاطبةً، وبنجاة شهرزاد من الموت. لسنا هنا معنيين بغير تبيان موقف علم الفولوكلور من هذا الأثر العظيم، وحكمه عليه. إذ يبدو لما بين أيدينا من معطياتٍ أنّنا بإزاء كتاب يضمّ حكاياتٍ مجهولة المؤلّف كانت تروى على جمهور السّامعين شفاهيّاً، وقد خضعت القصص فيه لعوامل الحذف والزّيادة والتّشذيب استجابةً لاختلاف أذواق السّامعين عبر عصور نمو الكتاب حتى قُيِّدَ، وانتهى إلى صورته الأخيرة بفضل التّدوين الذي حفظ لنا الكتاب من الضّياع. إذن، نحن بإزاء عملٍ فولوكلوريٍّ شرقيٍّ كان للغربيين –كما سيتضّح لاحقاً- أكبر الفضل في تسليط الضّوء عليه وذلك من خلال ترجمته ونشره ودراسته. 1- المقاربة المنهجيّة:- ولمّا كان بحثنا في الاستشراق وكيفيّة تعاطيه مع ثقافاتنا الشّرقيّة، وذلك من خلال اهتمامه وعنايته ب(ألف ليلة وليلة) بوصفها منتجاً ثقافيّاً شرقيّاً، فقد ارتأينا أن نخضع المادّة المبحوثة لرؤى المنهج المادّيّ الجدليّ مستنيرين بأطروحات (لوسيان كولدمان) الذي فسّر العلاقة بين الوعي والواقع والعلاقة الجدليّة بينهما من خلال التّماثل لا الانعكاس المباشر. سعى (كولدمان) في كتابه (الإله الخفيّ) إلى تحقيق هدفين هما:- "استخلاص المنهج الوضعي في دراسة الأعمال الفلسفيّة والأدبيّة، والمساهمة في فهم مجموعة محدودة ومحدّدة من الكتابات التي تبدو ... وثيقة الصّلة، على الرّغم من الاختلافات الواضحة في ما بينها" 5 . الفكرة الأساسيّة التي يعالجها (كولدمان) هي "أنّ الأعمال الإنسانيّة تشكّل دائماً بنيات دلاليّة شاملة ذات طابعٍ عمليٍّ، ونظريٍّ انفعاليٍّ في آنٍ معاً، وأنّ هذه البنيات لا يمكن أن تدرس بطريقةٍ وضعيّةٍ، أي أن تشرح وتفهم، إلا من منظور عمليٍّ قائم على قبول مجموعةٍ معيّنةٍ من القيم" 6 . يتطلّب –طبقاً لهذا التّصوّر- الكشف عن الدّلالة من الباحث إدراكاً للعلاقة الجدليّة بين الوعي الفرديّ والوعي الجمعي، إذ يشكّل المسار (نصٌّ، مؤلّفٌ، فئةٌ أو طبقةٌ اجتماعيّةٌ) بنيةً دالّةً على رؤيّةٍ جمعيّةٍ. هذه البنية الدّالة الكامنة في النّصوص، والتي يسعى الباحث للكشف عنها سمّاها (كولدمان) (رؤية العالم) 7 . ألف ليلة وليلة.. نسخة جالان 1- الطّريق إلى الغرب:- عرف الأوربيّون ألف ليلة وليلة من طريقين اثنين؛ شعبيّة،ورسميّةٍ. أمّا الطّريق الشّعبيّة 8 ، فيشير المشتغلون بالدّراسات المقارنة إلى أثر الليالي 9 . والحكايات العربيّة في الآداب المعروفة بين الأوساط الشّعبيّة في القرنين الثاني عشر والثّالث عشر 10 . أمّا الطريق الرّسميّة، فدشّنتها ترجمة انطوان جالان 11 ؛ فاتحةً الباب واسعاً أمام المهتمين لتفاعلٍ ثرٍّ بين الشّرق والغرب. هل كان جالان يعلم –وهو يترجم اللّيالي- أهميّة وخطورة الخطوة التي يخطوها على مختلف صعد المعرفة الإنسانيّة؟! شرع جالان في عام (1704) بترجمة اللّيالي بعد عثوره على نسخةٍ تتألّف من أربعة مجلّداتٍ أرسلت له من حلب، وانتهى منها عام (1717). تقول سهير القلماوي عن هذه الترجمة:- "لم تكن هذه التّرجمة أمينةً للأصل حتى أنّ كثيرين من النّقاد الذيني اشتغلوا كثيراً بألف ليلة وليلة وما يتعلّق بها أمثال المستشرق ماك دونالد يرجعون جزءاً كبيراً من النّجاح العظيم الذي لاقته اللّيالي في الغرب إلى جالان نفسه. فقد كان قاصّاً بطبعه. ولم يقم جالان بترجمة كلّ اللّيالي فهذه المجلّدات الأربعة التي استعان بها لا تمثل في الواقع إلا نحو الرّبع من مجموع اللّيالي. وقد زاد بين المجلّد الثّاني والثالث قصص السّندباد التي عثر عليها وحدها أوّل الأمر. كذلك نجد في التّرجمة كثيراً من القصص التي لا توجد في هذه المجلّدات العربيّة" 12 . من المفيد والضّروريّ هنا أن نختم هذه السّطور بالإشارة إلى أنّ أوربا كلّها عرفت ألف ليلة وليلة، وتأثّرت بها، وترجمتها إلى لغات شعوبها في القرن الثّامن عشر كلّه عن نسخة جالان المفرسنة المعدّة لتلائم الذّائقة الأوربيّة!. 1- الطريق إلى الشّرق:- قدّم جالان ألف ليلة وليلة إلى أوربّا الفتيّة المتطلّعة لمستقبلٍ زاهرٍ سياسياً واقتصاديّاً وثقافيّاً. رحّبت أوربّا، وتهيأت لحركةٍ معاكسةٍ باتّجاه الشّرق 13 . تجّارٌ ورحّالةٌ ومغامرون، شعراء وكتّابٌ وعلماء، رجال سياسةٍ ورجال دينٍ، وضبّاطٌ وجنودٌ كلّهم كانوا يبحثون في الشّرق عن اللّذّة والمجد والثّروة 14 . بلورت هذه الحركة المعاكسة أفكاراً ورؤىً،وأنتجت ممارساتٍ حقّقت منجزاتٍ خطيرةً على الصّعيدين الحسّيّ والمعرفي. تعدّ الكولنياليّة أو الاستعمار، والاستشراق الكلمتين المعبّرتين بدقّةٍ عن عظم أثر هذه الحركة المعاكسة في الشّرق 15 . 1- ألف ليلة وليلة والرّومانتيكيّون:- أخذ الأوربيّون ابتداءً من عصر النّهضة يندفعون إلى خارج القارّة في حركة استكشافٍ جغرافيٍّ، وتوسّعٍ عسكريٍّ. كان هذا الاندفاع عاملاً حاسماً في ظهور البرجوازيّة، هذه الطّبقة الاجتماعيّة التي امتلكت الثّروة، وأخذ نفوذها يتعاظم في الحياةالاقتصاديّة الاجتماعيّة، فعبّرت عن امتعاضها لخضوعها للإقطاع، ورغبةٍ في امتلاك زمام المبادرة؛ وقيادة المجتمع بدلاً منه. فكريّاً تعدّ النّزعة الفرديّة الدّافع الموجّه هذه الطّبقة نحو انتصاراتها الحسّيّة، وهزائمها الرّوحيّة. تمثّل الرّومانتيكيّة –بوصفها مذهباً في الفنّ- صوت الطّبقة البرجوازيّة المناهض للنّظام الإقطاعيّ والمذهب الكلاسيكيّ في الفنّ. أكّدت الرّومانتيكيّة النّزعة الفرديّة، وانتصرت للعاطفة على العقل، وعبّرت عن خيبة أملٍ في المدنيّة وقسوتها روحيّاً، لهذا توجّهت إلى الطّبيعة؛ والأحلام؛ والخيال الجامح العابر حدود الواقع لعلّها بها تعوّض انهزاماتها الرّوحيّة. بهذا الصدد يقول د. جميل نصيف:- "الرّومانتيكيّون لم يكتشفوا ولم يعرفوا القوانين الموضوعيّة التي تتحكّم بتطوّر المجتمع الإنسانيّ ولم يفهموا الأسباب الحقيقيّة للوضع القائم الذي يقرّر وجود الأشياء، ولهذا السّبب فقد كانوا مثاليين في وجهات نظرهم الفلسفيّة" 16 . من هنا، يمكن تفسير شغف الرومانتيكيّين بألف ليلة وليلة. تقدّم حكايات ألف ليلة وليلة صوراً مشرقةً مفعمةً بالخيال عن مجتمعٍ شرقيٍّ مدنيٍّ تحكم أفراده النّزعة الفرديّة، وتضبط صراعات أبطاله ضدّ الشّرّ المحبّة والنّزوع إلى تجسيد فكرة المثل الأعلى عبر الانتصار للعواطف؛ والاستعانة بالقوى الخارقة للطّبيعة لتغليب النّهايات السّعيدة أو ما نسمّيه (الفرج بعد الشّدّة). فهل تقترب حكايات ألف ليلة وليلة في هذا كلّه من البرجوازيّة في مرحلتها الرومانتيكيّة، وبحثها عن الانسجام بين الفرد وواقعه الموضوعيّ؟! هدهدت ألف ليلة وليلة مشاعر الرّومانتيكيين؛ لأنّهم رأوا فيها تعويضاً عن تعاستهم، ومصدراً من المصادر البانية أحلامهم التّوّاقة إلى الوصول إلى الضّفاف السّحريّة العجيبة التي ينسجم فيها الإنسان مع واقعه الموضوعي؛ لذلك شغفوا بها ووظّفوا الكثير من عناصرها في فنّهم 17 . ألف ليلة وليلة.. نسختا لين وبرتن 1- نسخة لين وبدايات التّحوّل إلى الواقعيّة:- على صخرة اللّقاء الحسّيّ بالشّرق تحطّمت أحلام الأوربيين الرّومانتيكيين الباحثين عن واقعٍ ينسجم مع نزعاتهم الفرديّة الهاربة من المادّيّة الآليّة، فخفّت حماستهم للشّرق الواقعيّ، غير أنّ الشّرق المتخيّل واصل حضوره في نتاجاتهم الإبداعيّة 18 . مع مطلع القرن التّاسع عشر أخذت رياح التّغيير تهبّ على أوربا، إذ تراجعت الرّوح الرّومانتيكيّة فاسحةً المجال للواقعيّة لتقدّم تصوّراتها عن علاقة الإنسان بواقعه الموضوعيّ. ألقى هذا التّحوّل بظلاله على ألف ليلة وليلة، إذ لم تعد نسخة جالان تمتلك السّحر نفسه الذي كانت تمتلكه طوال القرن الثّامن عشر. في هذه الأثناء ظهرت ترجماتٌ لألف ليلة وليلة منسجمةٌ مع هذا التّحوّل، ومعبّرةٌ عنه. تعدّ ترجمة إدورد وليم لين من أهمّ وأبرز هذه التّرجمات. لم تكن نسخة لين المترجمة إلى الإنكليزيّة ما بين عامي 1839-1841 هي الأولى عن الأصل العربي، إلا أنّها حسب تعبير سهير القلماوي:- "ولكنّ لين اعتمد في ترجمته الثانية على نسخة بولاق المعروفة واعتمد كثيراً على تجاربه في الشرق.... وترجمته تلك أمينة للأصل قدر المستطاع، وكان أهم ما شغله أن يعلّق على كلّ اسم مجهول لدى الأوربيين تعليقات جمعها في ما بعد فإذا هي كتاب كبير إصدره باسم (المجتمع العربي في القرون الوسطى). وقدّم لهذه الترجمة بمقدّمة طويلة مستفيضة عن أصلل اللّيالي ومؤلّفها 19 . انسجمت نسخة لين مع الحشمة الفكتوريّة ورغبة الطّبقة الوسطى الحفاظ على الجوّ الأسري المتماسك، وعبّرت –من خلال الشرح والتوثيق للتّرجمة تقديماً وتعليقاً- عن النّزعة العلميّة التي شرعت تسود في مجتمعات القرن التاسع عشر 20 ، لذلك كلّه خضعت للتشذيب بحيث حذف منها العاطفي والجنسي والبذيئ. 1- نسخة برتن:- أوربّا منتصف القرن التّاسع عشر فصاعداً، النّاس يعلمنون كلّ شيء،لم تعد نزعة العلمنة مقتصرةً على ما هو حسّيٌّ ملموس، حتّى الأمور غير الحسّيّة أخضعت للعلمنة بغيةالتحليل والتفسير، صارت هذه القارّة الفتيّة كمن امتلك العصا السّحريّة التي تؤثّر في العالم كلّه!. اتّحدت النّزعة الفرديّة المعلمنة الظّواهر والعمليّات والأشياء بواقعها الموضوعي مشكّلةً البنية الاجتماعيّة الاقتصاديّة الرّأسماليّة السّائرة نحو الإمبرياليّة. آن الآن لأوربّا أن تؤكّد مركزيّتها، معلنةً تفوّقها العرقيّ!. على صعيد العلوم الإنسانيّة وجد الأوربّيون من أبناء الطّبقت المنتصرة ضالتهم في نظرية تين التي أخضعت الإبداع لمثلث البيئة والزّمن والعرق. صار بإمكان فيلولوجيٍ من أمثال رينان أن يستخدم معطيات فقه اللّغة ليعبّر عن تفوّقه العرقيّ الهندو أوربّيّ، ووضاعة العرق السّاميّ وتخلّفه وبدائيته 21 . ألقت هذه الرّوح الجديدة بظلالها على ألف ليلة وليلة، ففي عام 1885 نشر برتن ترجمةً ضخمةً للّيالي تتألّف من عشرة أجزاء ألحقها بملحق من سبعة أجزاء، وقد حافظ في أجزائه العشرة على تقسيم اللّيالي الذي أهمله المترجمّون قبله "وقد اهتمّ أيضاً كما اهتمّ لين بالتعليقات الطويلة زاعماً أنّ الإنكليز في أمسّ الحاجة معرفة الشّرق في حياته الاجتماعيّة لتسهل مهمّتهم فيه. وهو ينظر إلى ذلك نظرةً لا تخلو من اتّجاه استعماري قويّ" 22 . تختلف نسخة برتن عن نسخة لين بكونها لم تتعرّض للتّشذيب، فلم يحذف منها المشاهد الجنسيّة كما فعل لين، وربّما قام في بعض الصّفحات بإضافاتٍ من عنده. لم يكترث برتن بالاعتراضات التي أثيرت حول نسخته التي لا تماشي مزاج المحافظين، وأعرب عن ثقته بأنّ نسخته تلقى الرّواج 23 . أهمّيّة برتن تتأتى من كونه فرديّاً إلى حدّ التّمرّد على السّلطة، وإمبرياليّاً يؤدي في الشّرق خدمةً للإمبراطوريّة البريطانيّة. لقد جمع النّقيضين حين تنكّر بشخصيّة طبيب هندي مسلم واندمج في الشرق وذهب إلى مكّة، ويبدو أنّ مغامرته هذه أتاحت له أن يعرف عن الشّرق ما لم يعرفه غيره من المستشرقين، فهو لم يكتف بالمراقبة، بل اندمج في حياة الشّرقيين 24 . ومن الطّبيعيّ أن تؤثّر رحلته هذه في وضع لمساته على نسخته من ألف ليلة وليلة التي عبّرت عن نزعةٍ إمبرياليّةٍ لم تعد تخشى الشّرق، وكيف تخشاه وقدصار بإمكانها امتلاكه؟! نسخة برتن في النّهاية تقدّم لأوربّا الإمبرياليّة صورةً عن المجتمع الذي يراد التّعاطي معه من منطلق استعماري بحت!. ولكن يبقى السؤال حيّاً وحاضراً بإلحاح:- إذا كانت ألف ليلة وليلة تمتلك كلّ هذه الحيويّة والسّحر بحيث تؤثّر في كلّ من يقرأها، فهل بالإمكان إعادة النّظر فيها بحثاً عن جسور تلاقٍ بين الشّرق والغرب؟! الخاتمة البحث عن الإنسانيّ والجميل من الواضح لنا الآن أنّ ترجمات جالان ولين وبرتن تماثلت مع الطّبقة البرجوازيّة في تحوّلاتها البنائيّة، وصراعاتها لتحقيق الانسجام مع واقعها الموضوعي، وذلك حين شكّلت استجاباتٍ تتوافق تماماً مع متطلّبات التّلقّي البرجوازيّ. نستطيع القول إنّ جالان كان رومانسيّاً، ولين كان فكتوريّاً محافظاً، وبرتن كان إمبرياليّاً. وهؤلاء الثّلاثة كلّهم كانوا برجوازيين امتلكوا الوعي الممكن الذي انطلق من الوعيّ القائم لتحقيق التماثل مع رؤية الطّبقة البرجوازيّة. ولكن، ثمّة أمران خطيران أوّلهما:- هو أنّ الثّلاثة قدّموا لطبقتهم ما تريد أن تراه من اللّيالي. وثانيهما:- هو غنى اللّيالي وقدرتها على أن تطاوع المترجمين إلى حدّ الاستجابة الخلّاقةلما يريدونه منها. تعلّقاً بالأمر الأوّل نقول:- لم تسع التّرجمات الثّلاث إلى مدّ جسور تواصلٍ مع الشّرق، لكنها وغيرها من التّرجمات وما كتب حول اللّيالي من أبحاثٍ وما أثير من جدل قدّم خدمةً للشّرق بأن حفظ له جزء مهم من تراثه الشّعبيّ من الضّياع. أمّا غنى اللّيالي وحيويّتها، فمن الممكن استثمارهما لإنتاج رسائل ثقافيّةٍ تنوّرنا إذ تلقي الضّوء على المقموع والمسكوت عنه في ثقافتنا بسبب الظّلم والجهل، وتصل المنقطع، وتكسر العزلة التي تفرضها علينا عنجهية ووحشّية القطب الواحد الذي تمثّله الإدارة الأمريكيّة والمراكز التّابعة لها، وذلك بتكريس صورةٍ واحدةٍ عنّا هي صورة التّطرّف الدّيني الحاقد. ما يزال الأمل قائماً في أن تمارس الفنون والثّقافات والدّراسات الثّقافيّة المقارنة دوراً فعّالاً في تقريب البعيد وإنتاج عالمٍ أقلّ قبحاً، وأكثر جمالاً، عالمٍ حرٍّ؛ عادلٍ؛ مسالمٍ؛ يتّسع للجميع. الهوامش :- 1 الاستشراق / المعرفة. السلطة. الإنشاء، إدورد سعيد، نقله إلى العربية كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، الطبعة العربية الثامنة 2010 م، ص 205 2 معجم مصطلحات الأدب، إنكليزي فرنسي عربي، تأليف مجدي وهبة، مكتبة لبنان، 1974 م، ص 174 3 المصدر السابق، ص 175 4 المصدر السابق ص 174 5 الإله الخفي، تأليف لوسيان كولدمان، ترجمة د. زبيدة القاضي، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2010 م، ص 17 6 نفسه 7 تقوم استراتيجية (كولدمان على الانتقال من الفهم إلى التفسير، وتنبني على التمييز بين الوعي القائم والوعي الممكن، إذ يعني الأول منهما:- وعي الفئة أو الطبقة الاجتماعية، ويعني الثاني:- وعي المؤلف. تشكل العلاقة الجدلية بينهما رؤية العالم التي يسعى الباحث للكشف عن بنيتها الدلالية. لإلقاء مزيد من الضوء على أطروحات كولدمان ينظر:- الوعي القائم والوعي الممكن، لوسيان كولدمان، ترجمة محمد برادة، من ص 33-40 وينظر:- رؤية العالم، جان دوفينيو، ترجمة حسن المنيعي، من ص 93-100 البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، ط 2 1986 م وينظر أيضاً الإله الخفي من ص 27-46 8 ينظر الأدب المقارن د. جميل نصيف، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 2005 م، ص 277 9 الليالي هي التسمية المشهورة لكتاب ألف ليلة وليلة في أوربا. 10 في هذا الصدد ينظر –على سبيل المثال- إلى أثر ألف ليلة وليلة في حكايات الديكاميرون، وحكايات كانتربري المصدر السابق من ص 281-285 11 "وهو أستاذ فرنسي كان قد تخصص في العلوم الشرقية في فرنسا وله ترجمة للقرآن الكريم محفوظة في المكتبة الأهلية في باريس. ولقد تقلب في عدة مناصب للدولة كلها تتعلق بالشرق، وأهمها المنصب الذي شغله في سفارة فرنسا في اسطنبول. واشتغل بجمع تحف تاريخية ومخطوطات شرقية نادرة للغواة وأهمهم كلوبير الوزير الفرنسي المشهور. ودرس في الكولج دوفرانس". ألف ليلة وليلة، سهير القلماوي، دار المعارف بمصر، الطبعة الرابعة 1976 م،ص 17 12 المصدر السابق من ص 17-18 13 لم تكن الحركة المعاكسة مقترنةً -دائماً بالضرورة- بالسفر إلى الشرق، والإقامة فيه. فالكثير من الغربيين ممن عنوا بالشرق لم يقيموا فيه ولم يزوروه حتى!. 14 للتدليل على هذا التوجه العارم نثبت ما ذكره إدورد سعيد نقلاً عن فكتور هيكو:- "في عهد لويس الرابع عشر كان المرء هيلينيّ التعرّف، أمّا الآن فإنّ المرء استشراقيّه". الاستشراق: ص 81 15 نتحدث عن تحول الاستشراق إلى ظاهرة لا بداية. بهذا الصدد –أي البداية الرسمية للاستشراق- يقول إدورد سعيد:- "وفي الغرب المسيحي يؤرخ لبدء وجود الاستشراق الرسمي بصدور قرار مجمع فينا الكنسي عام 1312 بتأسيس عدد من كراسي الأستاذية في (العربية، واليونانية، والعبرية، والسريانية في جامعات باريس، وأكسفورد، وبولونيا، وأفينيون، وسلمانكا)". المصدر السابق ص 80 16 المذاهب الأدبية، د. جميل نصيف التكريتي، دار الشؤون الثقافية العامة، الطبعة الأولى 1990، بغداد، ص 186 17 من الجديربالذكر أننا هنا ما نزال نتحدث عن أثر الليالي في نسختها التي قدمها جالان لأوربا 18 ينظر الاستشراق ص 167 19 ألف ليلة وليلة ص 22 20 ينظر الوقوع في دائرة السحر- ألف ليلة وليلة في النقد الأدبي الإنكليزي 1704-1910 م، د. محسن جاسم الموسوي، دار الرشيد للنشر، جمهورية العراق، 1982 من ص 228-230 21 ينظر الاستشراق من ص 161-166 22 ألف ليلة وليلة ص 23 23 الوقوع في دائرة السحر – ألف ليلة وليلة في الأدب الإنكليزي 1704-1910 من ص 291-294 24 ينظر الاستشراق من ص206-209
#رائد_محمد_نوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
.......هذا المَساءَ
-
سدُّ الموْصلِ والطّوفانُ المُتَرَقَّبُ!
-
يا سُلافُ
-
خرافةُ الفِرْقَةِ النّاجية
-
الخُرافَةُ الحِسّيّة
-
صِفَةُ الفَتاةِ
-
دعوةٌ للعدوانِ والقتلِ على الهويَّةِ
-
إِلى اللَّطّامَة
-
هكَذا تَنْتَهي، هكَذا أَبْدَأُ..
-
بَعيداً عَنْ دارَةِ جُلْجُلِ
-
الحديقَةُ قُبالَةَ دارتي 1
-
بَيانٌ مُقْتَضبٌ
-
بَنَفْسَجتانِ
-
(العباديُّ) ليسَ حرّاً
-
عن حديثة والبغدادي وصباح الكرحوت
-
إصرار
-
في سَماواتِ انْتِظاري
-
على أبوابِ اسْمِها
-
كَالغُيومِ البِيضِ
-
كَالْغُيومِ البِيض
المزيد.....
-
تحليل: رسالة وراء استخدام روسيا المحتمل لصاروخ باليستي عابر
...
-
قرية في إيطاليا تعرض منازل بدولار واحد للأمريكيين الغاضبين م
...
-
ضوء أخضر أمريكي لإسرائيل لمواصلة المجازر في غزة؟
-
صحيفة الوطن : فرنسا تخسر سوق الجزائر لصادراتها من القمح اللي
...
-
غارات إسرائيلية دامية تسفر عن عشرات القتلى في قطاع غزة
-
فيديو يظهر اللحظات الأولى بعد قصف إسرائيلي على مدينة تدمر ال
...
-
-ذا ناشيونال إنترست-: مناورة -أتاكمس- لبايدن يمكن أن تنفجر ف
...
-
الكرملين: بوتين بحث هاتفيا مع رئيس الوزراء العراقي التوتر في
...
-
صور جديدة للشمس بدقة عالية
-
موسكو: قاعدة الدفاع الصاروخي الأمريكية في بولندا أصبحت على ق
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|