|
د.صادق جلال العظم..وتقاليد العقل النقدي
أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)
الحوار المتمدن-العدد: 5376 - 2016 / 12 / 19 - 09:17
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يُعنى د.صادق جلال العظم(1934-2016)في مشروعه الفلسفي المادي النقدي ببحث مضمون الخصائص الإيديولوجية والاجتماعية التي تسم الطابع الديني،وتؤثر على حياة الإنسان ووعي الفرد والجماعة وصراع الأفكار في العالم الحديث؛ومن ثم تحديد العوامل الموضوعية التي تحكم جدل علاقات القوة بالحقيقة،وتُعد مسئولة-على نحو أو آخر-عن تبني المفاهيم التقليدية،وإعطاء معنى زائف لمشكلات عالمنا الفلسفية والأخلاقية والسياسية،وحرمان الإنسان من تطوير قدراته ومواهبه وإشباع ميوله.لهذا سعى إلى تأكيد حرية الوعي والفكر في تشكيل الفرد وتقدمه اعتمادًا على المناهج الإنسانية والعلمية،والتفكيك النقدي لمقولات العقل الأصولي الدوجمائي الضيِّق؛انتصارًا لحداثة مستنيرة تنهض على حرية الضمير والمعتقد.بعد أن لاحظ بجلاء إثر هزيمة الخامس من يونية عام 1967،أن عددًا من الكتَّاب التقدميين المشغولين بنقد بعض جوانب البنيان الفكري والاجتماعي التقليدي لحياة المجتمع العربي وإرثه"لم يقمْ بنقد الذهنية الدينية الغيبية التي يرفضها،على أساس من المراجعة العقلانية العلمية المباشرة لنماذج حيَّة وملموسة من إنتاجها ومزاعمها وتفسيراتها للأحداث"،كما وجد أن"الإيديولوجية الدينية على مستوييْها الواعي والعفوي هي السلاح"النظري"الأساسي والصريح بيد الرجعية العربية في حربها المفتوحة ومناوراتها الخفية على القوى الثورية والتقدمية في الوطن"،وأدرك بعمق أن بعضًا من الأنظمة التي نُعتت ب"التقدمية العربية"رأت"في الدين عكازًا تتكئ عليه في تهدئة الجماهير العربية،وفي تغطية العجز والفشل اللذيْن فضحتهما الهزيمة عن طريق مماشاة التفسيرات الدينية والروحانية للانتصار الإسرائيلي والخسارة العربية،وصمتها حول الميل إلى انتظار النصر الجديد من عنده تعالى"،وضرب لنا مثلًا بالرسالة اللاسلكية التي بعث بها الرئيس عبد الناصرإلى الملك حسين بتاريخ السادس من يونية عام 1967،وفيها يقول:"إننا نؤمن بالله ولا يُمكن أن يتخلى عنَّا،ولعل الأيام القادمة تأتينا بنصر من عنده".لذا عمد النظام الناصري إلى حرْفِ الأنظارعن هزيمته القاسية أبنية ومؤسسات وأفكارًا في عام 1967،ولامتصاص نقمة الجماهير وغضبهاعليه،من خلال استثمار ما سُميَ ب"معجزة ظهور العذراء في ضاحية الزيتون"،التي تبنَّى الترويج لها بالذات –كما رأى د.العظم بحق-صحيفتا"الأهرام"القاهرية المقرَّبة منه،و"الأنوار"اللبنانية وثيقة الصلة بالأجهزة الناصرية،والتي نشرت ما قالت عنه إنه"دراسة علمية جادة تثبت أن"ظهور العذراء حقيقة واقعة"للدكتور رءوف عبيد أستاذ القانون الجنائي في كلية الحقوق-جامعة عين شمس،ورئيس "جمعية الأهرام الروحية"،معتمدة-كما ذهبت في دعواها-على"تحضير الأرواح،والتقاط الصور الروحانية للأموات،وتجسيد الأرواح عن طريق الوسطاء..إلخ"،مشدِّدة على أن"تكرارَ ظهور السيدة العذراء يؤكد أن المعجزة ستستمر؛حتى تعودَ القدس عربية وتتحرَّر من الإرهاب الصهيوني"(الأنوار،12مايو1968،ص12).لهذا عندما سُئل د.العظم في أثناء استجوابه أمام محكمة المطبوعات اللبنانية عن قصده من مقالته حول معجزة ظهور العذراء،التي تضمنها كتابه"نقد الفكر الديني"،قال إنها"مقالة سياسية أكثر منها دينية؛باعتبار أنها تتطرق إلى الاستغلال السياسي لحدث جماهيري،قيل إن أساسه هو ظهور طيف العذراء"،وأضاف:"أمَّا بالنسبة إلى التهمة الموجَّهة لي حول نقد المستوى الفكري لرجال الكنيسة القبطية،فأنا لا أرى أي حرج في ذلك؛باعتبار أن رجال الدين ليسوا معصومين أصلًا،وتوجيه النقد إليهم لا يُشكِّل جريمة،كما أن فكرهم خاضع للمناقشة والنقد،مثله مثل أي نشاط فكري آخر".وعلى هذا النحو، عالجَ"مأساة إبليس"مقارنًا إياها بقصة إبراهيم،ومسرحية أنتيجونا التي وجد أنها"تعلوها"قصة إبراهيم"في الأهمية من حيث إنها تُمثّل مأساة حقيقية،أما محنة إبليس"فهي"مأساة المآسي"،وأن"قصة إبليس"أسطورة بالمعنى العلمي الذي يعني"مجموع النتاج الخيالي الذي تتركه لنا ثقافة من الثقافات؛وعلى هذا الأساس تكون"الإلياذة"و"الأوديسة"وملحمة"جلجامش"من الأساطير"،وتابع بقوله:"بهذا المعنى نستدل من دراسة أساطير الشعوب حقائق عن حياتها وواقعها"،مؤكدًا أن أهميتها تكمن في"معناها الرمزي ومغزاها الأخلاقي،وليس في انطباقها انطباقًا حرفيًّا على الواقع"،وأن ما صرفَ ذهنه إلى دراستها هو"إثبات وجود عنصر المأساة في التراث الإسلامي-العربي؛لأنه مُتهمٌ بافتقاره إلى العنصر المأساوي الذي نجده في التراث الأسطوري اليوناني مثلاً،وفي التراث المسيحي والثقافة الأوربية،وقد حاولتُ أن أبيِّن أن قصة إبليس كما جاءت في القرآن تحتوي على العناصر الدرامية الكافية لتشكيل مأساة حقيقية مثلها مثل أي مأساة كلاسيكية".لذا قادته دراسته عن"مأساة إبليس"بوصفها جزءًا من"تراث ميثولوجي-ديني عريق في قدمه وتاريخه"،إلى وضع كتابه"في الحب والحب العذري"؛حيث اتجه إلى تمحيص الأساطير المحايثة للحب العذري،وإعادة النظر فيها،كما ترد في الوقائع والأشعار والروايات والقصص المتواترة على مرِّ العصور،والنفاذ إلى كنهها في ضوء ما خلصَ إليه من دراسة طبيعة الحب والعشق،مركِّزًا على قصة"جميل وبثينة"بحسبانها"حكاية نموذجية بالنسبة إلى قضية الحب العذري"،متتبعًا الظاهرة"التي تنتج عندما ينحدر الحب العذري في المجتمع،وخصوصًا في مجتمع الكبت العاطفي والغرامي،ليقع في أيدي أشباه العشاق أو العشاق الدونكيشوتيين"كما دعاهم،عاقدًا المقارنات بين وصف كلٍّ من الجاحظ وابن حزم وموليير لطبيعة الشخصية الدونجوانية،وشرعتها في العشق والحب،واجدًا اتفاقهم شبه التام فيما ذهبوا إليه؛لينتهي إلى أن"قصة الحب العذري ليست إلا بديلًا خياليًّا لما تتوق إليه النفس من حرارة وحدة وانفعال في وجه تقاليد القمع العاطفي السائدة في المجتمع".وبذلك اهتمَّ د.العظم بنقد الحياة العقلية العربية وما رانَ عليها من أسطرة وأدلجة،كما عمد إلى تجاوز العقل السكولاستيكي بجموده ونأيه عن ساحة النقد التاريخي؛ليتمسك بعقلانية عصر التنوير ومبادئه،مُفكِّكًا الخطاب القديم من داخله،كاشفًا عن ملابساته،ومواقفه المسبقة والضمنية.لهذا لم يتوانَ عن فضح "ذهنية التحريم:سلمان رشدي وحقيقة الأدب"و"قراءة الآيات الشيطانية"الذي حوَّله الناشر إلى"مابعد ذهنية التحريم:قراءة الآيات الشيطانية"؛ليُزيح النقاب عن خِفة نفرٍ من نقاد الأدب العربي الذين كتبوا عن رواية سلمان رشدي من دون أن يقرءوها،معتمدين في ذلك على التلخيصات السريعة التي قدَّمتها الصحف العالمية في ملاحقها الثقافية عن رواية الكاتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي"الآيات الشيطانية"،كاشفًا عن صلات القربى التي جمعت بين أسلوبي سلمان رشدي والكاتب الفرنسي فرانسوا رابليه(1494-1553)الذي لقَّبه بيلينسكي ب"فولتير القرن السادس عشر"في عمله الروائي هذا،بالإضافة إلى عمليات القمع الفكري والتدجين العقلي والاستعباد الروحي التي مارسها"الخميني"بحق"سلمان رشدي"حين أهدر دمه،وصادرَ روايته،وحرَّض العالم الإسلامي ضده؛حين رصد جائزة مالية كبرى لمن ينال"شرف"قتله!ثمَّ كتب د.العظم مقالة أخرى بعنوان"ثقافة وعولمة"مع تطوُّرِ السجال حول رواية رشدي وقضيته،أماط فيها اللثام عن أن"العالمية والكلية والشمولية التي اتصفت بها مناقشات كتاب إدوارد سعيد(الاستشراق)لم تكن لحظة استثنائية غربية،كما ظننتُ من قبل،بل بداية لميل تاريخي عام وجد تعبيره الأكثر إحاطة وقوة وكونية في حادثة"الآيات الشيطانية"التي ورَّطت،وللمرة الأولى في التاريخ الحديث،الغرب العَلماني والشرق الإسلامي في فضيحة أدبية-فكرية-سياسية واحدة،وفي اللحظة ذاتها،وعلى أعلى المستويات القيادية والسياسية والفكرية والإيديولوجية والسجالية والجدالية لدى الطرفيْن"،أي من"حدث إسلامي داخلي مزعج إلى انفجار عالمي طاغٍ،ولتحوُّل مشكلة إيرانية-إنجليزية متوقعة إلى قضية عالمية شاملة،ولتحوُّل فتوى إيرانية إلى أزمة دولية عارمة"،وربط ذلك كله بظاهرة العولمة،وبفهمها لحركة نموها واتساعها وميولها وتناقضاتها وتوتراتها وتأثيراتها.وظلَّ د.العظم طوال حياته مُطاردًا من جميع المؤسسات الرسمية أكاديمية كانت أو دينية أو سياسية،وعاش حياته متنقلًا بين بيروت وعمَّان ودمشق وعواصم العالم المختلفة،وفقدَ عمله أكثر من مرَّة؛سواء في الجامعة الأمريكية في بيروت حين ردَّ على المؤتمر الذي نظّمه د.شارل مالك عام 1967 بعنوان"الله والإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر"،بمقال نشره في ملحق جريدة"النهار"باسم"الله والإنسان في الجامعة الأمريكية"،ثم مع صدور كتابه"النقد الذاتي بعد الهزيمة"،أو من الجامعة اللبنانية حين نشر كتابه"نقد الفكر الديني"حيث أوقف غيابيًّا عام 1969ودخل السجن،أو من "مركز الأبحاث التابع ل"م.ت.ف"لما تضمنه كتاباه"الصهيونية والصراع الطبقي"و"نقد الفكر المقاوِم"من انتقاد للقيادات السياسية المهادنة والمستسلمة،ولم يتردد بعدهما في نشر مقال له بالإنجليزية لكشف ما أسماه"صعود تيار الصهيونية الفلسطينية"وانفراده بالقرار لتهيئة المسرح لجريمة تصفية القضية الفلسطينية،لكنه لم يفقد إيمانه يومًا بعدالة القضية الفلسطينية،ولم يدخر وسعًا لخدمتها وإعلاء صوتها؛ألم يعمل(مع هاني الحوراني ومنى السعودي على تنظيم أول معرض لرسوم الأطفال النازحين في مخيم البقعة تحديدًا وليس في العاصمة حيث تُجرى المعارض عادة،وكتب البروشور"النشرة"المرافق للمعرض بنفسه وبتوقيعه،وحضر اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني الذي انعقد في أواخر أغسطس عام 1970،إلى أن طلب منه المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية السفر فورًا إلى الولايات المتحدة الأميركية وكندا في جولة إعلامية ومالية"جمع تبرعات من الجاليات هناك"،لكنه عاد بعد أقل من شهريْن،بعد أحداث أيلول الأسود ونزوح المقاومة نفسها؟)على نحو ما ورد في حواره مع صقر أبو فخرعام 1997. وظلَّ د.العظم حتى النَّفَس الأخير جذريًّا في نقده لمجتمعه ولتراثه ولنظام آل الأسد الذي خُدعَ فيه،غير أنه سرعان ما صوَّب موقفه منه؛منتصرًا للثورة السورية الباسلة،ناعيًا على مثقف في حجم أدونيس عدم التحاقه بركبها حرصًا على علاقته التاريخية بالنظام السوري.قال"ماركس"يومًا:لقد استُخدم العقل دائمًا،لكنه لم يُستخدم دائمًا بشكل عقلاني،بَيْدَ أن د.صادق جلال العظم ظلَّ من هؤلاء القليلين الحريصين دومًا على ألَّا ينحرفوا بالعقل النقدي عن مساره الصحيح.
#أسامة_عرابي (هاشتاغ)
Osama_Shehata_Orabi_Mahmoud#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نبيل شعث بين السياسة والإدارة والفن
-
تأملات في الثقافة الشعبية
-
جدلية الخفاء والتجلي في-مكتوب على الجبين-
-
الفن التشكيلي المصري وجماليات اللوحة
-
د.مصطفى سويف..تاريخ من العلم والوطنية
-
ذكريات المستقبل وتفكيك شبكات الوجود
-
ثلاثية جلبيري..سؤال التاريخ والذات الكاتبة
-
البطالة وسياسات الصندوق والبنك الدوليين
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|