هاله ابوليل
الحوار المتمدن-العدد: 5375 - 2016 / 12 / 18 - 23:15
المحور:
الادب والفن
" أنا لا شئ إذا لم أكن نقاده "
قالها الناقد الإنكليزي "هازلت" نازعا جلباب المحاباة والتودد والشللية التي يتميز بها النقاد منفردا عن الآخرين بما يسمى بالشجاعة الأدبية التي ستكون معيارا للمفاضلة بين النقاد .
فما هو هذا النقد الذي سيجلب المتاعب لصاحبه ,وقد قيل قديما عن نزوع الإنسان الأبدي للمحاباة والتودد "عين الرضا عن كل عيب كليلة وعين السخط تبدي لك المساؤى
وهذا هو ديدن البشر ولا عجب !!!
والنقد كما جاء في موسوعة "الوكيبيديا " معنى النقد " هو التعبير المكتوب أو المنطوق من متخصص يسمى ناقدا عن سلبيات و إيجابيات أفعال أو إبداعات أو قرارات يتخذها الإنسان أو مجموعة من البشر في مختلف المجالات من وجهة نظر الناقد , كما يذكر مكامن القوة ومكامن الضعف فيها , وقد يقترح أحيانا الحلول .
وقد يكون النقد في مجال الأدب والسياسة والمسرح و السينما وفي مختلف المجالات الأخرى .
وقد يكون النقد مكتوبا في وثائق داخلية أو منشورا في الصحف أو ضمن خطب سياسية أو لقاءات إذاعية وتلفازية.
أما النقد في الأدب الذي تم تقسيمه حسب ما أرتأه "انطونيوس بطرس" في كتابه "الأدب " إلى صنفان (1):إنشائي و وصفي .
فالأدب الإنشائي يندرج تحته الأدب الكلاسيكي و الرومانسي و الرمزي و السوريالي و ما بينهما من تقسيمات فرعية , في حين يتناول الأدب الوصفي ,كل تلك الآداب فيحللها ,و يصفها و يشرحها وينقدّها بشكل موضوعي ويتخذ من العلم نهجًا لذلك النقد , وقد أثر ذلك النهج الوصفي في توجيه الأدب الإنشائي حيث دل على مواطن القوة والجمال فيه , وهذا ما نسميه وندل عليه باسم " النقد" .
فما هو النقد ؟ وكيف يتسنى للناقد أن يكون موضوعيا؟
مادام مجال تطرقنا في هذا المبحث عن التكلم عن الأدب الإنشائي بما فيه من وصف ومشاعر ونزعات وميول إنسانية فإننا سنقتصر حديثنا بما يخص النقد بشكل خاص على الأدب الروائي والفني.
يقول تدروف(2) :" النص الأدبي هو الموضوع الجوهري للنقد "
فمن هو الناقد الجدير بنقد مسرحية أو رواية أو فيلم !
لنتفق أولا أن هناك أزمة نقد في عدد النقاد ,و في تناولهم للمواضيع التي تعتمد على ما يتيسر لهم من كتب في المكتبات أو كتب مهداة لغرض في نفس الكاتب أو بإيعاز من صديق أو أن يتوافق العمل مع إهتمامات و ميول الناقد ,فلا يوجد مدرسة نقدية متخصصة ,ليس بالمناهج فقط ,بل مدرسة نظامية تمر عليها إصدارات السنة فتتناولها بالبحث والتمحيص بل أن العمل النقدي بمجمله عبثي , ولا يوجد ما ينظمه و ما أعمال النقاد إلاّ بدعم شخصي منهم, فلا مؤسسة تقدم لهم الدعم المادي أو المعنوي ومعظم النقاد إما منتظمين في العمل الجامعي فلا يوجد تفرغ أو ربما تكون بعض المقالات المتناثرة هنا وهناك في بعض الصحف هي الوسيلة لمعرفة اسماء النقاد في الوطن العربي
فجريدة القدس العربي الصادرة في لندن هي من عرفتنا على اسماء نقاد من المغرب العربي على شاكلة سعيد يقطين و محمد برادة و زهور كروم ,
ورغم أن عدد النقاد لا يكفي ما يصدر من أعمال لمؤلفين يتكاثرون مثل الفطر ,إلاّ أن بعض المبادرات الفردية من النقاد لا يمكن تجاهلها فهناك الجيد والحسن من الأعمال الجيدة وهناك الردىء والعادي من الأعمال الفاشلة و التي لا يمكن تجاهلها وتقييم الفاسد و الردىء منها وفرزها قبل كل شيء من قبل نقاد ذو خبرة وعلم ولكن ما نلاحظه إنه لا يتم تناول أعمال إلآ إذا سبقت شهرة الكاتب كتابه أو تكون معظم القراءات كرشة عطر ومجاملة للعمل لتسويقه - ولم نقرأ نقدا موضوعيا لعمل ما يجعله يطيح بالأرض مثلا مثلما كان يفعل" هازلت "الناقد الإنجليزى(3) ، فقد كان "هازلت " عنيفا فى نقده لأكثر ما يكتب معاصروه وقد قال عن نفسه " أنا لا شئ إذا لم أكن نقاده " وكان يقول ما فى نفسه بصراحة تامة ، ولم يكن يستطيع الكتابة من غير صراحة ، وكان يصور معاصريه كما يراهم ، ويجعل من أخطائهم وهفواتهم جزءا مهما فى الصورة ، لا يحابى ولا يجامل ، ولا يتأول أو يقبل معذرة .
فهل يوجد بين نقادنا من يشبهه
, وهذا يحيلنا إلى سؤال ملّح
هل هناك مدرسة لتعليم النقد !
و هل النقد كله تقريظ للعمل ومديح أم تتبع سَوْآته و كشف عوراته أم إنه يظهر الأثنين !
رغم ندرة كل ذلك.
في مقال نشر عام1948 في مجلة كاظمة (4) يحدد فيها الكاتب الكويتي "عبد الرزاق البصير ",وظيفة للنقد الأدبي (5)
" يعتقد كثير من الناس أن النقد مقصور على الذم أو إظهار العيوب والأخطاء ,ومن الواضح أن المعتقدين بهذا الإعتقاد مخطئون كل الخطأ,
فإن النقد في اللغة ,إذا كان في الدراهم فهو معرفة جيدها من رديئها ,أما إذا كان في الكلام فهو إظهار ما فيه من عيوب ومحاسن , ومن هذا يتبين لنا خطأ ذلك الإعتقاد. ولا يستطيع الكاتب أن يكون ناقدا بالمعنى الصحيح إلا بعد أن تتوافر فيه شروط معيّنة, فالناقد يحتاج إلى إطلاع واسع وذوق سليم وإحساس مرهف وذهن متوقد وشجاعة أدبية .."
وأعتقد أن تلك المواصفات لابد منها ,ولكن تفوقها أهمية ذلك الجانب المتعلق بالشجاعة الأدبية !!
كم من ناقد يمتلك تلك الشجاعة, وهل هناك سقف لتلك الشجاعة في تناول نصوص لمشاهير في الأدب
ربما في تجربة , ميخائيل نعيمة , صديق جبران خليل جبران - الذي صادقه لمدة 15 عاما , عندما نقد صاحبه الذي كان في طريقه لتآليهه , أنزله من سحب المثالية إلى أرض الواقع ,فجاء الصديق ليظهر لهم أن جبران خليل جبران هو إنسان له محاسنه وله أخطاءه , فلاقى ذلك تجريحا عظيما و هجوما عنيفا على ميخائيل . وقيل يومذاك "إن ميخائيل يريد أن يصعد على أكتاف صديقه !
فهل فعل ميخائيل بجبران خيرا أم شرا عندما أعاده من السماء العليّا وقيّمها المثالية إلى الأرض- الطين –العكر . التي خرجنا منها !
فكيف لا نستطيع أن نحترم ناقدا جريئا لا يخاف لومة لائم ويقول كلمته ويمضي , وخاصة في مجتمع يقتات على المجاملات وموائد السلطان .
بقراءة تفصيلية حسب تصنيفات النقاد نستطيع أن نعرف إتجاهات كل ناقد .
فحسب تصنيفهم .هناك الناقد الذي يبحث عن الأخلاق في الرواية ليشيد بها ويزكّيها ,وهذا الصنف بالذات لا يمكن أن تكون هناك " رواية جيدة" بمنظوره بدون أن تحمل قيما أخلاقية كما يتصوّر رغم المحاولات الجادة في فصل ذلك عما ما يسمى بفن الرواية التي تروى الحياة كما هي ..
( لقد جردت كل من رواية " رحلة الحاج " و "حياة المستر بادمان وموته"من تصنيفهم كروايات في العصر الماضي , لأنه تم إعتبارهم عبارة عن موعضتين تمثيليتين )
في حين صنفت رواية دون كيخوته(6) هي بمثابة الرواية حقا, ليس كون تلك الروايتين السابقتين ,لا تتخذان من شخصياتهم الروائية من المجتمع الواقعي كما فعلت شخصيات دون كيخوته وسانكو بانزا- رغم العالم الخيالي الذي يتشكل في رأسيهما. بل من أجل ذلك حقا .
وربما في عالمنا العربي كان ما فعله المصري" رفاعة الطهطاوي" في رحلته الباريسية وعودته الى دياره حاملا روايات تعليمية من أجل هذا الجانب التعليمي الأخلاقي بالمقام الأول .
وعلى نقيضه يكون الناقد الذي يبحث عن الجمال في مكنونات العمل بغض النظر عن تقيّدها بالأخلاق أو التقاليد ففي مقدمة "أوسكار وايلد " صاحب نظرية "الفن للفن"(7) تمثل رأي "الحركة الجمالية" التي كانت سائدة حينذاك, وكان أوسكار وايلد من أهم روادها, وخلاصتها أن الفنان ليس سوى صانع أشياء جميلة, وأنه لا يوجد كتب أخلاقية وغير أخلاقية ,إنما يوجد كتب مكتوبة بشكل جيد وكتب مكتوبة بشكل رديء.
هناك الناقد الذي جلّ هَمّه أن يرصد شخصية الروائي أو الشاعر ولا يهمه النّص النثري المكتوب لا من قريب ولا من بعيد , ومن هنا تكثر تسميات الأدباء وتصنيفاتهم بأن هذا الكاتب ملحد أو ليبرالي أو يميني متطرف أو يساري متحرر وغيرها من مسميات يلحقها الناقد بصاحب النص لا النص نفسه . وتكاد النساء الكاتبات يعانين من هذا الناقد - الذي ينزع لتلبيس ما يقرأ من شخصيات متحررة في النص الى شخصية الكاتبة بإعتبارها هي صاحبة التجربة المشابهة
وربما يصبح لدى هذا النوع من االنقاد هوس التخييل بإعتبار أن كل ما تكتبه الكاتبة إنما هو سيرة ذاتية شخصية لها.
أما الناقد الإنطباعي , فهو النقد الموجه لما يتركه العمل من تأثير و إنطباع بعد قراءة العمل . ونجده متداولا في الصالونات الأدبية أو في صفحات تتخصص بعالم الرواية والأدب وفي ندوات معارض الكتب بشكل قراءات أدبية وبتلخيصات سريعة على وسائل الإتصال المرئي وغير المرئي ومواقع الإتصال الإجتماعي المتنوعة ,ويغلب عليها قراءات سريعة للأدب بالقبول أو الرفض أو الإستحسان من قبل القراء المثقفين حتى لو لم يكونوا أساتذة أدب ونقد .
أما الناقد الذي يبحث عن الأساس الفكري الذي يصدر عنه الشاعر أو المؤلف بما يمكن تسميته الناقد الإيديولوجي(8) .وهذا أسؤأ أنواع النقاد حيث يمثل سلطة الدولة وينصب بما يمللك من سلطة ما يسمى بمقصلات الرأي ومحاكم التفتيش
و قمع الحرية ,فماذا نعني بمحاكم التفتيش !
عندما يسن الناقد الإيديولوجي قلمه ليحاكم الكاتب على أفكاره ,عندها سنكون قد عدنا لزمن محاكم التفتيش (9), ولذا كان ضروريا أن يرتبط الأدب بالحرية , والنقد بالحرية , فلن يكون هناك إبداع في كلا الجانبين بدون هواء الحرية .
أما لماذا يرتبط النقد بفعل الحرية, فلهذا أسبابه
إن النقد مشروع شخصي, يعتمد على حرية الناقد في إختيار هذا الأدب , فلن تجد شخصا أو جامعة تستطيع أخراج أو خلق ناقد قادر على التحليل و المحاكاة والتي هي أدوات الناقد ,كما قال ت . س. إيلوت بدون أن يكون ذلك قرار شخصيا منه فالجامعات قد تفرخ لنا المئات ممن يحملون شهادات عليا في الأدب والنقد ,,, ولكننا لا نرى ولا نسمع بهم ,كونهم إنخرطوا في حياة تشبههم و تركوا النقد للنقاد و خاصة أن الرئة التي يتنفس بها النقد هي الحرية وليس كل شخص يملك حرية نفسه وشجاعة أن يكون ناقدا .
فالنقد يتغذى من الحرية, فلا إجبار ولا فرض و لا إملاءات خارجية تفرض عليه من الآخرين ليقول الناقد كلمته , بدون معيقات تعترضه أو خوف يسكنه , فلا نقد بدون شجاعة داخلية . وتنمو هذه الشجاعة في بيئات خاصة تتغذى على الحرية وقلما تتواجد بداخل من تسكنه المخاوف من فقدان مركز أو منصب وهي بمثابة شعور داخلي قوي يتملك الناقد بان لا احد يخيفه ويرهبه مما يسمى بالقوة الخارجية وهي كمؤشرات - كما يبدو للبعض - من قوة جسمانية وثقل اجتماعي يستند على مرتكزات لمنصب أو موقع رفيع أو وجاهة إجتماعية مترهلة .
و كلما كانت القراءة النقدية ذات إستشراف مستقبلي كلما جاورت العمل وتقدمت عليه أو صارت كجزء أصيل منه وأثبتت ترسخها في مد جذورها في تربة العمل الأدبي , وكلما تعرض النص الأدبي بالمقابل للنقد ,كلما أطال ذلك في عمره ,
ولذا سنجد أن هناك الكثير من التودد والمحاباة للنقاد من أجل قراءات لأعمالهم لأن في ذلك تجدد لدماء النص وإحياءه.
فالنقد مثل نبته تعتني بها ونقلم أشواكها لتجني في النهاية الزهور اليانعة و الاستدامة الثابتة .
ما نقصده أن تأسيس العمل النقدي ,سيظل مرادفا للحركة الأدبية و رافدا قويًا لإستدامتها .
. وعلى الناقد والأديب أن يدافعا عن حرية الإبداع بنفس القوة ,لأن كليهما لكي يُبدعا – كل في مجاله – أن يتنفسا الحرية نفسها.
فالكاتب له حرية التجريب في الشكل و الموضوع
والناقد له حرية تفكيك النص لإخراج ما فيه من جماليات أو عيوب. لذا كان موضوع الحرية رديفا للأدب. وما من عصر تم فيه إصدار قوانبن قمع للّحرية إلإّ وتمرد الأدب عليها بالرمز و التلميح
فمن منا لا يعرف أن الخنزير العجوز "ميجر" في رواية "مزرعة الحيوان" (10) هو "كارل ماركس" , والخنزير "نابولين هو "ستالين" , والخنزير "سنوبول هو "تروتسكي" , والخنزير "سكويلر" يمثل قطاع الإعلام وعلى الأخص صحيفة "برافدا" الروسية إبان فترة "ستالين" التي استخدمها لتضليل الجماهير مثلما كان "سكويلر" يبرر سياسة نابولين ويزيف الحقائق , وحتى مالك مزرعة الحيوان يشبه القيصر الروسي "نيكولاس الثاني" .
فما هي مواصفات الناقد إن لم تكن الموضوعية والأمانة والتجرد من التعصب والطائفية
وضد التحيز لديانة أو لمذهب أو إعلاء لعرق أو طبقة بل هي أيضا ضد التحيز ضد الإنسانية جمعاء .
عندما أعرف أن خورخي بورخيس" يهودي "وهم الطائفة التي سرقت أرض أجدادي وجعلتني لاجئة في كل دول العالم . "
هل يمنعني ذلك من تذوق شعره أو التجول في الممرات المتشعبة التي أرغمنا على دخولها,
من يمنعني من رؤية إنعكاس مراياه والتجول في ممرات مكتبة بابل !
الناقد لا يفعل ذلك حتما فهو إنسانيّ النزعة ,مفطور على حب الكمال , ولا يوجد ما يجعله يخالف ذلك إلآ كونه لا يمت للأدب بشيء .
ولكن على الناقد وعلى الأديب كلاهما مسؤولية الطرق على خزانات التجديد ,والخوض في غمار دروب جديدة ,
فالأدب يختنق إذا قيدناه بقيود و سطّرناه بمسطرة واحدة , فالأدب يقتات من أصنافه وأنواعه العديدة الإنشائية والوصفية ليتغذى بفعل الحرية منتجا أدبا مبتكرا وعظيما ,
فلا إبداع بدون ناقد ولا إبداع بلا حرية و لا حرية بلا أديب حرّ ,منطلق , يترك جسده على الوسادة ليركض وراء سهول الكلمات في البراري المتشعبة في روحه , ليخط ابداعا تغار منه انثى الكلمات المعتادة والمكررة والعادية.
ولا ناقد حكيم بدون تفهّم للحالة الخاصة لكل ظروف الكتابة ومواقيتها , ومواءمة متلازمة ومتجذرة للمرحلة التاريخية الذي سطّر بها النص مع الوعي المرادف بالمكان وبالزمان المتغيّر . فلكل زمان نقاده وكتابه, كما لكل زمان - كما نعرف نقده وعملته المتداولة .ويبقى جوهر النقد كما قال هازلت : " أنا لا شئ إذا لم أكن نقاده " .
#هاله_ابوليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟