|
إبيكوروس الذي منه تعلَّمْت معنى -الحياة-!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 5373 - 2016 / 12 / 16 - 23:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
جواد البشيتي اثنان من العظماء عَلَّماني، وأحسنا تعليمي، معنى الحياة، وكيف ينبغي لـ "أَحْكَم الناس" أنْ يعيشها، وهما: الفيلسوف الإغريقي إبيكوروس، وشاعر "جدارا" القديم أرابيوس. أنتَ لستَ مَدْعوَّاً إلى أنْ تُؤْمِن بكل ما آمن به إبيكوروس من مبادئ؛ لكنَّك مَدْعُوٌّ إلى أنْ تعرفها، وتتمثَّل معانيها، وتحيا حياتكَ ولو بما تيسَّر لكَ منها. إبيكوروس عَرَف أنْ لا حياة للإنسان مِلؤها الحياة إذا لم يَفْهَم "الموت" في طريقة مختلفة؛ في طريقة جديدة، وجيِّدة. لقد فكَّر مَليَّاً في "الحالة" التي تسمَّى "الموت"، والذي هو العاقبة الحتمية للحياة نفسها؛ فأنتَ لا تستطيع العيش إلاَّ بشيءٍ من الموت، يُخالِط حياتكَ، وبما يُولِّد، ويُراكِم، فيكَ من أسباب الموت، أيْ تلك "اللحظة" التي تشبه لجهة أهميتها ووزنها "القطرة التي أفاضت كأس الماء". وتوصَّل إبيكوروس إلى أنَّ "حالة الموت" لا تختلف (نوعاً) عن الحالة التي كنتَ فيها في رَحْم أُمِّكَ، وقبل أنْ تُوْلَد بثوانٍ؛ فهل لكَ أنْ تُخْبِرنا ولو بنزرٍ من تفاصيلها؟! إنَّها "الحالة" التي يكفي أنْ تتأمَّلها حتى تعرف جيِّداً معنى عبارة "نَسْيَاً مًنْسيَّاً"؛ فهي "النِّسيان" الذي لا يَعْدِله نِسْيان؛ وهي "الفراغ" الذي على اتِّساعه لا يتَّسِع إلاَّ لمعنى "العدم"! ولو كان لي سُلْطَة "إعادة التسمية" لسمَّيْتُ "القَبْر" باسم "الرَّحْم الثاني (والأخير)"؛ فما الحياة إلاَّ رحلةٍ (قصيرةٍ) تَنْتَقِل فيها من "رَحْم أُمِّكَ" إلى "رَحْم أُمِّنا جميعاً"، وهي "الأرض"، أو "ترابها". لا تتعجَّل في الاعتراض قائلاً إنَّكَ في رَحْم أُمِّكَ كنتَ كائناً حيَّاً ينمو، وإنَّكَ في القبر فَقَدَت جثَّتكَ كلَّ حياةٍ؛ ذلكَ لأنَّ شيئاً من معاني وملامح وأوجه وأبعاد الحياة تستمر في جُثَّتِكَ إلى أنْ تتحلَّل، وتعود مادتها إلى ما كانت عليه من هيئةٍ حتى قبل نشوء الحياة؛ ولقد كنتَ في أصلكَ الأقدم والأبعد على هذه الهيئة؛ فأين المفارَقَة؟! ومُذْ وُلِدتَّ شرع "كأس الحياة" يمتلئ بـ "قطرات الموت"، قطرةً قطرةً، حتى جاءت "القطرة الأخيرة"، وهي كناية عن "لحظة الموت"؛ فالموت (وهذا ما ينبغي لنا فهمه) يُخالِط الحياة (أيْ الكائن الحي نفسه) دائماً، وينمو فيها، في استمرار، إلى أنْ تَرْجَح كفَّته (بـ "القطرة الأخيرة") على كفَّة الحياة. إبيكوروس قال لأصدقائه، ناصِحاً: لا تجهدوا عقولكم في شيء (أيْ الموت) هو "النسيان والعدم (والنوم بلا أحلام)"؛ إنْ تألَّمتُم في حياتكم (ولا حياة بلا أَلَم) فحاولوا أنْ تنسوا الألم؛ فهو لن يستمر طويلاً؛ أمَّا إذا طال واشتد حتى الموت، فهو، عندئذٍ، ينتهي حتماً بالموت؛ فالألم جزء لا يتجزأ من الحياة؛ والموتى لا يتألَّمون. وبعد هذه النصيحة، نصحهم ألاَّ يُضيِّعوا، أو يستنفدوا، وقتهم وجهدهم لاكتساب المال، أو الشهرة، أو السلطة؛ لأنَّ "الاستمتاع" بما اكتسبوه من هذه الأشياء لا يساوي ما بذلوه من وقت وجهد؛ إنَّ هذا السعي مُكْلِفٌ جدَّاً، ولا يتناسب، من ثمَّ، مع "النتيجة المنشودة"، ألا وهي "لحظة الاستمتاع" بما أُنْجِز (أيْ بما اكتسبوه من مال، أو شهرة، أو سلطة). الحياة، ولجهة أزمنتها الثلاثة: الماضي والحاضِر والمستقبل، هي كنَهْرٍ جارٍ، تَقِفُ في وسطه، وتلعب بمياهه؛ فهل تلعب بمياهه التي جَرَت، فأصبَحَت وراءكَ، وبعيدةً عنكَ، أم تلعب بمياهه التي تجري في اتِّجهاكَ؛ لكنَّها لم تصلكَ بَعْد؟ كلاَّ؛ إنَّكَ لا تلعب، لا بهذه، ولا بتلك، من مياهه. إنَّكَ تلعب، وتستطيع أنْ تلعب، بمياهه التي حَوْلكَ فحسب؛ فَعِشْ "الحاضر"؛ لأنَّكَ لا تملك من الزمن غيره؛ فالماضي لا يعود، والمستقبل لم يأتِ بَعْد. وإنِّي لأعْجَبُ من إنسانٍ يقضي ويستنفد حاضره (والذي هو الحياة بواقعها) نادِماً آسِفاً على ما مضى، قَلِقاً خائِفاً مِمَّا سيأتي؛ فمتى يحيا ويعيش؟! وأَعْجَبُ أكثر من إنسان بَلَغ من العُمْر عتيَّاً وما زال اكتناز الذهب والفضة يستعبده؛ يُقتِّر على نفسه، وهو الذي لديه من المال ما لا تأكله النَّار؛ فإذا سأَلْتَهُ عن السبب أجابكَ قائلاً: أُخبِّئ قرشي الأبيض ليومي الأسود! لقد اعتدتَّ في حياتكَ عادات كثيرة، إلاَّ عادة واحدة هي التسامي عَمَّا يملأ حياتكَ اليومية من أمور وأشياء واهتمامات وهموم صغيرة تافهة؛ فأنتَ كمثل من ألصق وجهه بشجرة صغيرة هي جزء من غابة؛ فكيف له أنْ يرى الغابة؟! وليس من شيء (على ما أعتقد) يستطيع انتشالك من توافه حياتكَ اليومية (والتي باستبدادها بكَ ترى الحبَّة بحجم قُبَّة) إلاَّ "الكوزمولوجيا"؛ ففكِّر في الكون، وأنتَ حُرُّ الذِّهن من قيود "الأجوبة" التي رضعناها مع أثداء أُمهاتنا، حتى تُدْرِك، عندئذٍ، كم أنتَ صغيرٌ بهمومكَ واهتماماتك، بما تحب، وبما تكره، بما يُفْرِحكَ، وبما يُحْزِنكَ. إنَّكَ مَدْعوٌّ إلى اكتساب وعيٍ، لو وَضَعْتَ بميزانه كل ما تستعظمه من أمور في حياتكَ اليومية لَمَا وَزَنَت شيئاً؛ وإنَّ لهذا الوعي (الذي نفتقده) عيوناً تريكَ الأشياء في حجومها الحقيقية الواقعية، فالحبَّة لا تُريكَ إيَّاها قُبَّة، والقُبَّة لا تُريكَ إيَّاها حبَّة. وهذا الوعي يُمكِّنكَ من السيطرة على مشاعر الحزن والأسى، والتحكُّم فيها؛ فلو حَدَثَ ما يمكن أنْ يُطْلِق ويثير هذه المشاعر في نفسك، فاسْأَلْ نفسكَ هذا السؤال: هل لهذه المشاعر أنْ تظلَّ على ما هي عليه الآن من شدَّة وقوَّة بعد سنة أو سنتين..؟ أَجِبْ؛ ثمَّ أَجِبْ عن السؤال الذي يَلِده الجواب؛ وهذا السؤال هو : لِمَ لا تَجْعَل هذه المشاعر الآن بالحجم الذي ستكون عليه بعد سنة أو سنتين..؟ إيليا أبو ماضي قال: أَحْكَمُ الناس في الحياة أُناسٌ علَّلوها فأحسنوا التعليل؛ وإنِّ لأنصح بالاستعانة بالفيلسوف الإغريقي إبيكوروس في تعليل، وحُسْن تعليل، الحياة، وبزيارة "حجر الشاهد" لقبر أرابيوس (في جدارا) الذي نُقِشَت فيه عبارته العظيمة "أيُّها المارُّ مِنْ هنا، كما أنتَ الآن كنتُ أنا؛ وكما أنا الآن ستكون أنتَ؛ فتمتَّع بالحياة؛ لأنَّكَ فانٍ!". مارتن لوثر كينغ قال في الموت: "مَنْ ينسى أنَّ الموت هو نهايته الحتمية، لا يَصْلُح أبداً للحياة"؛ وآرثر شوبنهاور قال: "بعد موتكَ لن تكون إلاَّ ما كنتَ عليه قبل ولادتك"؛ وصموئيل جونسون قال: "ليس من الأهمية بمكان كيف نموت، وإنَّما كيف نعيش؛ فِعْل الموت ليس بذي أهمية؛ فهو إنَّما يستغرق زمناً وجيزاً"؛ وليوناردو دا فينشي قال: "مَنْ يتعلَّم كيف يعيش، يتعلَّم كيف يموت"؛ وجوزيف أديسون قال: "خوف المرء من الموت يَحْمِلَه على السعي إلى ما يقيه من الموت، فتكون العاقبة أنْ يدمِّر نفسه بنفسه"؛ وجون روسكين قال: "مَنْ لا يَعْرِف متى يموت، لا يَعْرِف كيف يعيش"؛ وفريدريك نيتشه قال: "إذا لم تستطع العيش بفخر فعليك أنْ تموت بفخر"؛ والمتنبي قال: "إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم، فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم"؛ ويوهان فولفغانغ فون غوته قال: "حياة عديمة الفائدة إنَّما هي موت مبكر"؛ وبنيامين فرانكلين قال: "كثيرٌ من الناس يموتون في الخامسة والعشرين؛ لكنهم يُدْفَنون في الخامسة والسبعين"؛ ولوسيوس سينيكا قال: "ما لحظة الموت إلاَّ اكتمال عملية بدأت مع ولادتك".
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السفر الكوني على متن -النسبية العامة- هو الأسرع!
-
نظرية داروين من وجهة نظر فلسفية!
-
هل من وجود ل -الحركة الطبيعية- في الكون؟
-
ضِدَّ -التأويل العلمي-.. هذا هو -التفسير الحقيقي- لآيات قرآن
...
-
الكون عديم الداخل.. عديم الخارج!
-
بُعْد المكان الرابع Hyperspace
-
هذا -اللغز- في قلب مجرَّتنا!
-
هل -الوعي- هو الذي اخترع -اللغة-؟
-
-العمال-.. فكراً وطبقةً في -عيد العمال-
-
-الزمن-.. وكيف يعمل
-
أين تكمن أهمية العثور على -موجات الجاذبية-؟
-
الصلة الجدلية بين -المادة- و-الفضاء- في -الثقب الأسود-
-
المادة إذا انهارت على نفسها..
-
روسيا تبدأ الضرب في سورية
-
قوَّة وحيوية الفكر الاقتصادي لماركس!
-
نسبية الحقيقة لا تتعارَض مع موضوعيتها!
-
السَّفَر بين الأكوان
-
أنا لستُ موجوداً لأنَّني اُفَكِّر!
-
-الانتحال-.. كيف يمارسه ويبرِّره -عبد الله الراوي-!
-
التاريخ لا يعيد نفسه!
المزيد.....
-
جدّة إيطالية تكشف سرّ تحضير أفضل -باستا بوتانيسكا-
-
أحلام تبارك لقطر باليوم الوطني وتهنئ أولادها بهذه المناسبة
-
الكرملين يعلق على اغتيال الجنرال كيريلوف رئيس الحماية البيول
...
-
مصر.. تسجيلات صوتية تكشف جريمة مروعة
-
علييف يضع شرطين لأرمينيا لتوقيع اتفاقية السلام بين البلدين
-
حالات مرضية غامضة أثناء عرض في دار أوبرا بألمانيا
-
خاص RT: اجتماع بين ضباط الأمن العام اللبناني المسؤولين عن ال
...
-
منظمات بيئية تدق ناقوس الخطر وتحذر من مخاطر الفيضانات في بري
...
-
اكتشاف نجم -مصاب بالفواق- قد يساعد في فك رموز تطور الكون
-
3 فناجين من القهوة قد تحمي من داء السكري والجلطة الدماغية
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|