العولمة .. هذه الكلمة الأكثر شهرة في عالم اليوم.. مسبوقة أو مترافقة مع عبارات اكتسبت صفة الحسم من مثل (العالم أصبح قرية صغيرة) (الاتصالات وحدت العالم).
كما ترافقت مع كل أشكال الاحتجاج من مظاهرات واحتجاجات ومنتديات عالمية. وظهرت أشكال هذه الاحتجاجات في ساحتنا العربية وكان آخرها منتدى بيروت المناهض للعولمة، والذي حمل شعارات أكثر إنسانية، فكان بذلك مشاركة مهمة في الحركة الدولية الناشطة والمعارضة لسيطرة الشركات العملاقة على التجارة العالمية من خلال منظمة التجارة العالمية، وذلك بهدف تصويب آليات التجارة وإعطائها مضموناً تنموياً ، والمطالبة بآليات عادلة ومتكافئة تسمح بإعادة توزيع عادل للثروات وللحصص من التجارة العالمية.
وبعد.. من المفيد هنا أن نتساءل عن ماهية العولمة؟ وماذا تمثل؟.. ولمصلحة من؟.. وما تجلياتها وطرق مجابهتها؟.. وكيف تتمظهر في عالمنا العربي؟
بداية قد يكون من الصعب إيجاد تعريف شامل للعولمة بسبب جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والتكنولوجية المتعددة والمتشابكة والمترابطة وتأثيرات هذه الجوانب وتداخلها مع بعضها بعضاً، وقد يكون ابسط تعريف للعولمة كونها واقع فرضته جملة من العوامل والأسباب لمصلحة الأقوى والأغنى في العالم..
وقد يكون من المفيد هنا التمييز بين العالمية والعولمة، فالعالمية انتقال الظواهر من المستويات القومية والوطنية على المستويات العالمية، وهي حالة صحية تساهم في تقارب الأمم وتحقيق انسجام بين الأطراف المتشاركة في سكنها على هذا الكوكب الصغير المسمى الأرض، ولكنها في الوقت نفسه لا تلغي أحد الأطراف لمصلحة الأطراف الأخرى، بل هي تساهم في خلق مجتمع قائم على التعددية الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، دون أن تحمل أحكام قيمة على ثقافة شعب من الشعوب أو تحاول اختراقها.
أما العولمة هذه الظاهرة التي تبدو حديثة العهد نسبياً، بدأت في أواخر الثمانينيات وتجلت بأفظع صورها بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وظهور سياسة القطب الواحد المتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية بشكل أساسي، فيمكن أن يكون أكثر أشكالها هو الشكل الاقتصادي والشكل العسكري، الذي يتجلى بمركزة القرار بيد الأطراف الأقوى، والتي تحاول فرض شروطها على باقي الدول، بينما يبرز الشكل العسكري في قدرة الدول الأقوى على فرض سياستها وتوجيه الضربات العسكرية على الدول الأضعف، وبدون وجود أي قوة يمكن أن تقف في وجهها.
كما برز هذا في تهميش دور الدولة الوطنية لمصلحة التكتلات العالمية، فتبدى ذلك في الانتقال من الدولة إلى الشركات والتكتلات الاقتصادية، وازدياد حركة رأس المال وزيادة الاستثمارات في قطاع المعلومات والخدمات، هذا الوضع أدى إلى نشوء تكتلات عالمية، قسمت العالم إلى مناطق من أبرزها منطقة الدولار التي تشمل أمريكا، ومنطقة اليورو في أوروبا، ومنطقة الين في اليابان وشرق آسيا.
هذا الوضع قسم الناس بين مؤيد للعولمة ورافض لها، فمن جهة يرى المؤيدون أنها تحمل الرخاء الاقتصادي للعالم، عن طريق تحقيق وفورات اقتصادية كبيرة، والحصول على أقل الأسعار الممكنة..؟
كما أنها تقدم نمواً سريعاً للبلدان عن طريق اقتراضها من رأس المال الدولي، شرط أن تستخدم هذه القروض استخداماً أمثل في نشاطات إنتاجية مناسبة، بالإضافة إلى أن العولمة وعن طريق تخفيض الحواجز الجمركية والرسوم والمنافسة، تؤدي إلى الحصول على أفضل السلع بأقل الأسعار، هذا عدا عما قدمته العولمة من حرية انتقال التكنولوجيا والمعلومات بأسرع الطرق وأسهلها..
يقول أنصار العولمة أنها آتية لا مفر من ذلك، وأنها واقع حياتي فرضه العلم الجديد والتكنولوجيا المعاصرة، مما لا مفر منه أمام الدول جميعاً، حيث بلغ عدد الدول المشاركة في منظمة التجارة العالمية (138) دولة والباقي ينتظر.
من جهة أخرى يرى معارضو العولمة أن ازدياد حجم الإنتاج والتجارة الدولية لا يستفيد منه سوى قلة قليلة، فيزداد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً، لأن زيادة الإنتاج ليست هدفاً بحد ذاته وإنما وسيلة لزيادة مستوى معيشة الإنسان.
ففي ظل العولمة أصبح الـ /20%/ الأكثر غنى في العالم أكثر ثراءً بـ (74) مرة من الـ (20%) الأكثر فقراً في العالم.
وإذا كانت العولمة مرتبطة بحرية التجارة فإن هذه الحرية هي في مصلحة الأقوى، لأن الأقوى هم من يمتلكون الأحدث دائماً ـ علماًوتكنولوجياـ، وبالتالي فلن تسنح الفرصة للأقل غنى للدخول في هذه المنافسة الخاسرة.
ويمكن رؤية مساوئ العولمة في عدة تجليات لها، ومنها:
- حرية انتقال السلع والخدمات عبر الدول: الذي يتم عن طريق فتح الأسواق والمنافسة الحرة، وذلك من خلال تخفيض الرسوم الجمركية أو إلغائها، وهذا بطبيعة الحال سيؤدي إلى انسياب السلع والخدمات من الدول المتقدمة صناعياً إلى الدول النامية، مما سيجعل الدول النامية تكتفي بدور المستهلك دون أن تكون قادرة على خلق التنافس، وبالتالي ستبقى بعيدة عن الأسواق العالمية، وستكتفي بلعب الدور الذي رسم لها من قبل الدول المتقدمة صناعياً، تلك الدول التي ستقوم بدعم بقاء الدول النامية في خانة التخلف، أو المصدّر للمواد الأولية فحسب، وبذلك لن نستغرب قيام الدول الغربية بتقديم المساعدات الكبيرة للقطاع الزراعي في الدول النامية، منعاً لها من الانتقال إلى الصناعة التي يمكن أن تجعلها منافسة عالمياً.
- حرية انتقال الرساميل العالمية: مما أدى إلى خلق المضاربة بالعملات المحلية عن طريق الاستثمارات القصيرة الأجل، وهذا يؤثر في الدول النامية بالتحول من الاستثمارات الطويلة الأجل التي يمكن أن تستخدم في التطوير والتنمية، إلى الاستثمارات القصيرة الأجل والمضاربة بالأموال، مما سيؤدي إلى ترحيل أموالها من بلدانها لتجوب العالم وراء مضاربات وأرباح قد تودي بها.. وبذلك تفقد استقلاليتها الاقتصادية، وبالتالي السياسية، وستكون مضطرة لتطبيق وصفات صندوق النقد الدولي الجاهزة لتسهيل انهيار هذه البلدان وتدعيم تبعيتها للأقوى، وهناك أمثلة كثيرة على هذا الوضع بدءاً من الأزمنة المالية التي عانت منها دول شرق آسيا وتجلت بشكلها الأشد في اندونيسيا، وانتهاء بدول أمريكا اللاتينية التي أصبحت عاجزة عن تحقيق تنميتها أو التخلص من أزمتها الاقتصادية المستمرة.
- تطبيق مبادئ الليبرالية الجديدة: التي روج لها فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ، إذ قال: «الآن انتصرنا – الليبرالية هي آخر أشكال المذاهب الاقتصادية». والليبرالية تعني تراجع دور الدولة لمصلحة القطاع الخاص، مع ما يعنيه هذا من تدهور للأوضاع المعيشية لفئات الشعب وازدياد الفقر واشتداده في هذه البلدان.
وأخيراً:
على الرغم من إيجابيات العولمة فمآسيها تفقأ العين لمن يريد أن يرى، وليس أدل على ذلك من ازدياد نسبة البطالة في جميع دول العالم بما فيها الدول الأغنى، وكذلك في ازدياد الفقر، وزيادة مديونية الدول الفقيرة للدول الأغنى وللبنك الدولي، هذه المديونية التي تبدو وكأنها لن تنتهي مع الفوائد الضخمة التي تزداد سنة بعد سنة لتغرق البلد في دوامة دفع القروض وفوائد القروض التي قد تبلغ في بعض الأحيان أكثر من 20 ضعف القرض الأساسي.
غير أن مناهضة العولمة لا تحقق نجاحها إلا من خلال طرح البدائل . بدائل تعمل على أنسنة الواقع الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والحفاظ على كرامة الإنسان وتمايزه، وصون حقوقه. وهذا ما تحاول الحركات المناهضة للعولمة العمل عليه من خلال حركات الاحتجاج والمؤتمرات التي تعقدها تحت شعارات من مثل: لا للحرب، لا للفقر، لا للبطالة، نعم للعدل الإنساني ولإنسانية الإنسان في كل مكان. فعالم آخر غير عالم رأس المال ممكن للإنسانية، ويجب العمل على بنائه.
وفي عالمنا العربي، ومع فرض العولمة لشروطها وواقعها قد يكون أفضل ما نقوم به، هو اللجوء إلى سياسة التكتلات، مثلنا مثل التكتلات العالمية الأخرى، من خلال خلق تكامل اقتصادي، وزيادة التعامل التجاري والثقافي والإعلامي والتكنولوجي فيما بيننا.
فلا مجال لمواجهة التكتلات العالمية إلا بخلق تكتلات موازية قادرة على المنافسة، وبذلك فقط نسد الطريق على من يود استغلالنا وتهميشنا وإفقارنا.
البديل