|
الجزء الثاني من الرواية: العين 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5366 - 2016 / 12 / 9 - 17:38
المحور:
الادب والفن
في ساعات الفراغ الطويلة، الناجمة عن عطالتي العريقة، كنتُ نهباً لمشاعر متناقضة تُحيل إلى الحاضر والماضي معاً. أما المستقبل، فإنه كان مرتبطاً بما سيتيسّر لي من مال كي أنفح به المهرّب، المتعهّد أمر إيصالي للسويد بباسبورت مزيف أو أيّ وسيلة أخرى غير شرعية. في هذا المقام، عليّ ذكر إستعادتي للساعة الذهبية من ذلك الرجل الإيزيديّ الكرديّ، الشهم، القادم من تبليسي القوقازية. كانت هذه الساعة بمثابة الزهرة، المفترض أن تجذب برونقها المُبهر إحدى نحلات الربيع الروسيّ المبكر: " أولغا "؛ والتي لم تكن صعبة المنال، إلا أنني أردت جذبها بغية الحصول منها على معلومات تخصّ صديقتها. ما كان بحاجة لفراسة وحَدَس، ما لحظته من أمور غريبة في محيط " سفيتا "، العائليّ. إهتمامي بتبرير موقفي المخزي، المتواشج مع حكاية الساعة الذهبية، إنقلبَ إتفاقاً إلى محاولة تبديد ما في شخصية الفتاة من ضباب الإبهام. أردتُ أن أغشى هذا الضباب وصولاً إلى قلب فتاتي، الفاتنة والمثقفة في آن واحد، والمبخوسة الفأل أيضاً. لقد هيمنت صورتها على فكري، لدرجة همدت فيها همّتي على التواصل مع المعنيين بشأن التهريب. وكنتُ دَهِشاً في قرارة نفسي، لما في الموضوع من مفارقة: أن أهتدي إلى حبيبة، ثمة في موسكو؛ في مكانٍ لم يخطر ببالي قط الإستقرار فيه ـ كمن إجتاز الصحراء في قافة تجارية، فعثر بمحض المصادفة على كنز راقدٍ تحت نخلةٍ مائلة على نبعٍ غائض المياه. أيامٌ أربعة، سبقت موعد لقائي المتفق مع " سفيتا "، قضيتها في تقليبٍ للفكر، معذّب ومرهِقٍ. شرارة تلك النيران، لا بدّ أنها اندلعت في رأسي عندما كنتُ أستعيدُ ما بدا من إرتياع على قسمات " سفيتا " لما قلتُ لها عَرَضَاً أنني وددت لو كنتُ مَن كتبَ رواية دستويفسكي؛ " الجريمة والعقاب ". إذ أنها رددت كالمأخوذة الكلمةَ الأولى من عنوان الرواية، مستفسرةً عن مغزاها. ثم أستمر نقاشنا لحين حضور أخيها غير الشقيق، على غرّة. هذا الحضور، لم يلبث بدَوره أن أرخى ظلالاً أخرى على شخصية الفتاة. وكنتُ في مهبّ الريَب والظنون، عندما قررتُ أنّ من الضروري بمكان لقاء " أولغا " لمحاولة إستنفاض ما في خبيئتها من معلومات عن صديقتها. في طريقي مساءً إلى المكان المقصود، كنتُ قد دبّرتُ في ذهني أمرَ لقاء " أولغا " وكأنه على سبيل الصدفة. لم أكن أودّ خسارة تقدير " سفيتا " مجدداً، وفي التالي، أستبعدتُ أيّ تصرّفٍ يمكن ان يقودني إلى فراش جارتها اللعوب. وإذاً، رأيتني قدّام باب شقة " سفيتا " وفي يدي هدية لإبنها. فلم يفاجئني ظهور " ناستيا "، لتخبرني أنّ شقيقتها لم تعُد بعد من العمل. نطقت المفردة الأخيرة بإقتضاب، كما لو أنها تودّ القول: " الشيطان وحده يعلم أيّ عملٍ هذا! ". ناولتها اللعبة، معتذراً عن الدخول: " هذه لفيودور. سأنتظرُ قليلاً عند أولغا، لأنني وعدتُ بإنجاز بورتريه لها.. ". ولم يكن ثمة وعدٌ، إلا أنّ ذلك خرجَ من فمي تلقائياً كونه من ضمن خطتي المرسومة. إذ كنتُ أدرك سلفاً، بأنّ فكرة كهذه لا بدّ أن توافق هوى الجارة الجميلة. " فأنتَ رسامٌ، إذاً؟ "، هذه هيَ " أولغا " تخاطبني عن قرب. وما لبثت أن أقتعدت بجانبي على الصوفا نفسها، الخَلِقة، التي سبقَ وعافتها نفسي خلال زيارتي الأولى. كانت الفتاة فوّاحةً بعبق الحمّام، المنتهية منه تواً بعلامة الفوطة المطوّقة بدنها. وقد أنسدل شعرها الطويل، الفاتح اللون، إلى منحدرات كتفيها العاريين. بدأت دفاعاتي بالإنهيار متراساً وراء المتراس، لحين أن تثنت " أولغا " نحوي لتقول عن ثغرٍ مُغر: " فلو أردتَ، فبإمكاني الوقوف أمامك كموديل.. ". وقبل أن يتسنى لي إلتقاط أنفاسي، استطردت هيَ بالقول: " ولكنني لا أستطيع التعري هنا، لأنّ صديقتي لا تعمل الليلة وممكن حضورها بين لحظة وأخرى. إنها شيشانية، ولديها أقارب في المافيا من الممكن أن يتسلطوا عليّ ما لو أعلمَتْهُم بأنني أمارس الدعارة خفيةً..! " " سيكون من حقك الأجرُ، ما لو استعملتك كنموذج لإحدى لوحاتي "، علّقت على إقتراحها وقد بدا أنّ عليّ أن أسلو أمرَ خطتي المعلومة. فإن الفتاة لم تنتبه حتى للساعة الذهبية، المزينة معصم يدي اليسرى، طالما كان همّها بيع جسدها الرخص لأول رجل قرعَ بابها. على ذلك، بادرتُ إلى إنهاضها ومن ثم تعريتها من فوطة الحمّام. ثم رحتُ أملّس بيدي على بشرتها الناعمة الصقيلة، إنتهاء بمكامن اللذة. وكانت مستسلمة كلعبة كبيرة صمّاء، حتى إذا أردتُ تقبيلها في فمها فإنها منعتني من ذلك: " لن تكون ثمة قبلات بيننا، كما أنّ عليكَ وضع الواقي الذكري قبل كل شيء.. ". واستدركت في الحال: " سأرافقك إلى شقتك، للسبب الذي ذكرته لك بشأن شريكة شقتي... ". بيْدَ أنّ حركتي التالية، شاءت أن تقطع كلامها. بعد فراغي من مضاجعتها على الصوفا، فاجأتها بالطلب إليها أن ترافقني إلى مسكني. أنهيتُ إرتداء ملابسي، وأنهمكتُ بتثبيت الساعة في معصمي، فإذا بها تتابعني بنظرة منتبهة: " أهذه ساعة من الذهب الخالص؟ "، تساءلت عندئذٍ وقد أتسعت حدقتا عينيها اللتان بلون الرماد المشتعل. ثمة في صالة شقتي، تمكنتُ بمعونة الشراب من إطلاق لسان " أولغا ". لم تكن هيَ كصديقتها عميقة الفكر، بعيدة الغور. ولكنها في المقابل ليست غبية، وإن كان فيها شيءٌ من السذاجة حال كثير من أندادها المنتميات للضواحي. من ناحية أخرى، داخلني بعضُ الإطمئنان كونها لا تلتقي مع " سفيتا " إلا لماماً: " لا أدري أين تخدم الآن، بعد تركها العمل في المخزن. ليكن الرب بعونها! " " لقد تأثرتُ كثيراً آنَ زيارتي لمسكنها.. فالأم والطفل مريضان، علاوة على وجود أخٍ متبطّل وشبه أبله.. " " بل قل أنه أشبه بالشيطان! " " لماذا لا يطردونه من منزلهم، خصوصاً وأنه بدد ثمن شقة عمتهم؟ "، دخلتُ في سؤالي خِلَل أنفاق الألغاز. ترددت هيَ في الإجابة، وكنتُ في الأثناء أملأ قدحها بالمزيد من ليكيور الكرز. بعدما أرتشفت من الشراب قليلاً، أجابتني بلهجة من يصطنع الحذر: " لا يمكنهم طرد هذا الأمّعة، لأنهم سبقَ وتقاسموا معه ثمن شقة العمة الراحلة. سفيتا، ربما لا علاقة لها بالأمر.. بل إنني أجزم بذلك، وبصرف النظر عن كونها كتومة كالقبر! " " أيّ أمر، وأيّ قبر؟ " " أمر العمّة، التي رميت في القبر قتيلةً.. "، ردّت عليّ بلهجة جازمة. ثم ما عتمت أن أطلقت تنهدة ندم: " ولكن، يا لي من حمقاء إذ أثرثر فيما لا يعنيني! ". قلت لها متكلفاً دَور اللا مبالاة: " إنّ ميتيا بنفسه، أعترف لي أنه خنقَ عمته ثم تدبّرَ أمر إخفاء الجريمة بورقة من الطبيب الشرعيّ..! " " أوه، إذا كان قد أعترف بذلك لشخص غريب، فإنه قد جنّ مثلما كانت تتوقع سفيتا. أما ورقة الطبيب، فإن من تدبرها هوَ صديقٌ قديم لأبيهم الراحل.. إنه ضابط متقاعد، يقيم في نفس المبنى. وكان قد عرض الزواج على سفيتا، ثم طويَ الموضوع على أثر وفاة والدها. حتى وفاة الأب، فإنها مكتنفة بالأقاويل..! إذ أصيبَ فجأة بالشلل، ولم يكن يشكو من أيّ مرض. وقد قيل في ذلك، أن الرجل أنهار على أثر اكتشافه لعلاقة محرّمة تربط امرأته بميتيا... ". لم يعُد في وسعي التركيز على حديث " أولغا "، المتدفق بفضل وقود الشراب الناريّ. عليّ كان أن أرتدّ بذاكرتي بعيداً، حتى المدينة الحمراء. ثمة أين حُبكت حكاية مماثلة، إنما بتفاصيل مختلفة؛ حكاية، كانت إذاك ما تفتأ مدفونة في أعماق جبّ الجريمة.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجزء الثاني من الرواية: العين 2
-
الجزء الثاني من الرواية: العين
-
الجزء الثاني من الرواية: السين 3
-
الجزء الثاني من الرواية: السين 2
-
الجزء الثاني من الرواية: السين
-
الفردوسُ الخلفيّ: النون 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: النون 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: النون
-
الفردوسُ الخلفيّ: الميم 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الميم 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الميم
-
الفردوسُ الخلفيّ: اللام 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: اللام 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: اللام
-
الفردوسُ الخلفيّ: الكاف 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الكاف 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الكاف
-
الفردوسُ الخلفيّ: الياء 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الياء 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الياء
المزيد.....
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|