|
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -3-
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5362 - 2016 / 12 / 5 - 15:39
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -3- وهكذا، فإن ادعاء امتلاك ترياق يشفي الأورام، أو سحر يداوي الأوام، هو سبب آخر يضيف إلينا ألما، ويبني فينا عدما، لأن القول بوجود أرض بلا نصب، وحدوث نشاط في الذات بلا لغب، هو محض المين، والزيف، ومعتقده فاسد العقد في ترتيب يقينياته بلا تآلف، ولا توليف. إذ ما نعانيه من قلْب الوحدة اختلافا في الموارد، ونكس المعنى في تزييف الأفعال بلا حصر للمقاصد، ما هو إلا المشيئة الأبدية في الابتلاء، والاختبار، والأمر الصادع فينا بالأكدار، والأوزار. فلذا تفرق الناس في ذلك طرائق قددا، وتوزعوا بين الديار بددا، وكأنهم أدركوا أنه الطريق الذي لا بد من العروج عليه، أو الجسر الذي لا بد في الوصول إلى الحق من تجاوزه، أو أن وجوده هو الخلاص لهم في جهدهم، والفداء اللازب في حربهم، لأن أكثر الناس اعتقادا بموضوعات عالم الآخرة، والموقن بأنه النهاية المحتمة، هو الأقوى حزما في محاربة هوامل الملمات، والأجدر حظا في كسب شوامل المهمات. إذ لا يقامر بلب حياته إلا لرغبة في موته، ولو استبعدها إلى حينٍ في خلده. ولذا يصير أشد الناس شراسة في التعامل مع الحياة التي يعارك صخبها لكسب هدوئه، ونيل سكونه، لكونها محل افتتانه بشهواته، واغتراره بنزواته. ومن هنا يكون أهل الديانات في الإحساس بها كغيرهم من أهل الثقافات، والحضارات. إذ لا يفرق بينهم شيء في حقيقة المدافعة، ولا في طبيعة المفاعلة، لأنهم توائم في الإرادة، والفعل، والاختيار، وسواسية في سؤال الوجود، والأنا، والأين، والمصير. ولا غرابة إذا اختلفت الأسئلة، وتنوعت الإجابة، وهي في تعددها دليل على وجود مأمن يلتجئ إليه الإنسان حين تستعر نيران الحقيقة في جوفه، ويختزن غيض ألم كبده في جونه. ولذا، فإن هذا الكن الذي صنعه الإنسان لطمأنينته، وانتخبه لهموده، هو الذي يكسبه الثقة في الصعود، والهبوط، وهو الذي يمتعه بشيء من المنى على بساط المنى، والاغتباط، لأنه بدون أن يشعر بموئل يأويه، أو معاد يؤوب إليه، لن يسير بمعراج الأمل إلى لحظة الوصال، ولن يغدو موقع قدمه في العاجل، والآجل. وإذ ذاك سينتحر وقته، وتنتهي قصة الحياة فيه، وحكاية الخلد معه. ومن هنا كان للصوفي نظره في تبين حاله من الحياة التي يغرم بها، ويغار عليها، لأنه في جوهره البشري، وطبعه الآدمي، لا يشاكل إلا ذاته، ولا يناظر إلا غيره، فهو كائن بكليته، وكامن في جزئياته. فإن رفض أثر بشريته عليه، وغالى في صوغ ملائكيته، وجحد ارتباطه بعالم الذنب، والخطية، وأنكر صلته بصوارف القدر، والعادة، فأنى له أن يدعي بلوغ هامة ماديته إلى مقام روحيته، ويشهِّر نظافة معينه بين آسن موارده.؟ بل أنى له أن يسعد لوحده بما أغلقت فيه الكلمات، وأعجمت فيه الآيات، ويترك غيره سائمين في صحراء الشهوات، وتائهين بين غمرات الغفلات.؟ إذ أكمل وجه في تقدير الذوات التي آمنت بتناقض الألحاظ عند مكامن الأسرار، هو اعترافها بما يتدفق فيها بلا نقاب يحجب الأكدار، لأن القناع لا يستر إلا طلاء الوجه القبيح، ولا يظهر في سمو طلبه إلا الصورة المعدلة للإنسان الصريح. فالصوفي إذا اعترف بأنه هو الحياة بكل تجلياتها، والأقدار بكل فيوضاتها، فلا محالة، سيكون سيره مقابلا لكبد ذاته، ومعانقا لأثر حياته، لأنه لا يُستثنى بشيء يحميه مما تزل فيه الأقدام، وتضل معه الأحلام. إذ مجرد وجوده بلا شيء محوز له في الطبيعة الموصدة، هو الذي يرغمه على الاختيار الأوعر لطريق مخصوص بين السبل الموصلة، لأنه لا يملك شيئا آخر في ذاته يفارق به جبلته، ويزايل به سجيته. وإلا، اغتررنا بسبك المعاني التي تلاك حين نشعر بلسعة الأحداث الغاضبة، وفجوة الديار الهائجة، فننزوي إلى ركن قصي، وعمق هني، عسانا أن نستلهم من المتخيل صورة متحركة بين أعيننا، ومتوردة في أفقنا، تحيي فينا رميم الشوق إلى شيء مستغرق في العماء، ولكنه يجمع كل رغباتنا في الخلاص، والفداء. ولهذا لا يعني التصوف أن تفقد المعنى المشترك بينك وبين من يعيشون حولك بأوضاع مختلفة، ولا أن تشهد فيك منتهى الكمال الذي يرتحل من أجله السراة بأنفاس متعددة، بل ما أنت إلا جزء من هذا المركب الذي يغني بحقٍ يود الوصولَ إليه آمنا، والمكث فيه ساكنا، لعله ينال منه سعادته التي فطرتها الأقدار في عمقه، ويحجز له محلا ساكنا يقيم عليه صلوات أمله بوضوء سرور هناءته. وإذا أدركنا هذه البشرية في ذات الصوفي، وعلمنا أنه لا يخلو من قدره الآدمي، أيقنا بثلب كثير من الحركات التي توجه الفعل الإلهي في ظاهر البشر، وتعده نهاية عهد الوصل في العاقبة، والأثر، لأننا لا نتزين في ظاهرنا إلا بما نسجناه، ولا نتعرى إلا مما لبسناه، وما خفي في بواطن سرنا من معان، هو الحد الذي يميزنا عن غيرنا في تدبير قصة الوجود بأمان. فلا غرابة إذا حيرت الصوفية مقامات التوبة، وولهتهم مراتب الاستقامة، لأنهم يتوبون حتى من الخواطر التي ترد عليهم في المقدمات القائمة، ويستعيدون من الإشراك في النتائج الحاصلة، لأن مغبة الشيء الذي نبحث عن مكامنه، ويغرينا عنفوان بريقه، هي التي تجعله روحا سارية، أو سحابة عابرة. وهكذا، فإن التصوف لا ماهية له حتى يعرَّف، ولا هيأة له حتى يكشف، ولا وضع له حتى يحصر، ولا عادة له حتى يقصر، بل مظهره هو هذا الإنسان الذي يبحث عما وراء بشريته، ويفتش عن جوهرته الضائعة في غموض ذاته، ولو اختلت الوجهة، واعتلت البغية، لأن الصوفي لا يشعر في مشاكسته للمعنى الروحي بالتفوق، ولا بالارتياش، بل غوره في مقابلة المعاني مترع بالذهول، والاندهاش، وطبعه في مشاغبة الأشياء مفعم بالانهزام، والانحياش. إذ التجبر بادعاء كمال الشرعة في المرام، هو الدليل على خبث الحلم، والبرهان على خزي الوهم. ولهذا، فالصوفي في جهده ما انحنى، وفي سعيه ما التوى، إلا لكونه أدرك أن باب الحقيقة لا يؤتى إلا بتفويض المراد إلى جوهره في الوجود السرمدي، وعودته إلى أصله في التكوين الأزلي. من ثم، كان ترنحه بين بحور التدله والحيرة وسيلة لنيل المنية، لا لإظهار النقمة. وهكذا، فإن الصوفي الحق، والعابد القائم بالفعل السابق، والمتبوع بأمر اللاحق، وهو الإنسان الفرد بكل أوضاعه المتآلفة، والحياةُ الفذة بكل تغيراتها المتنافرة، لا يخرج عن مقتضى ما تندفع إليه الآمال من عوالم تختفي فيها لواعج حرى، وخوالج شتى، لأنه محكوم بما وجد له خلقة، ومجرور لما وضع عليه جبلة، ومحدود بما فطر عليه من استعدادات تقتضي الجمع بين النقيضين في شكل صوره، وتستلزم وجود تمام الفعل في أثره، وغياب كماله في تحريف معناه، وتقديس مبناه. ولذا، فإن الصوفي إذا غالى في تقدير ذاته، وجعلها ملاكا يمشي بهوْن بين ما يرضخ له طبعه، فإنه قد نقش على لوح بشريته معنى الحقيقة المطلقة، ونحت في روحيته متاهة لشوقه إلى ألطاف المعاني المجردة. إذ لو تاه به الخيال في تنميق قوله، وتزويق فعله، وتزيين كسبه، وذاب بين المعاني الغامضة، والأسرار الغائرة، وأدرك فيها شيئا من السمو، وحقق بها بعضا من العلو، فإنه وإن لم يهتد إلى ما يرجعه إلى جوهر حقيقته، ولم يتبين بمرامي أنظاره ذلك الممثول المصور في عمقه، قد أدرك باليقين وجود مثال آخر للمعاني، ومحضن آخر للبيان عن المرامي. ولو تباطأ سيره بين معالم طريقه، ومعابد سبيله، أو فتر في بعض مراحل صعوده، أو ضاع في بعض مناحي هبوطه. فهل يمكن وجود ذلك المعنى المراد حقيقة، يكون التأليف به فاعلا في الحجة.؟ أو لا يمكن وجوده إلا في عالم الانطباعات الساهمة في التحديق، والوالهة بالتوفيق، والراضية بالتلفيق.؟ ربما لم نعثر بين مزامير الحقائق عن زمن كان التصوف فيه نظاما شاملا للكون، ولا ناموسا يدبر أمر الحياة بميزان، لأنه تجربة الإنسان الفذ، والفرد، وخبرته في نشر الطرق وطيها بلا كمد، والمعنى الذاتي الذي يقدس فيه الحقيقة، ويجلها، وينزه فيه معاني العبدية، ويتوطنها، ويجعل المعرفة الممزوجة بالأمل والألم كمالا في الاعتقاد بنهاية الكينونة، ووزال الصيرورة. ومن هنا، فإن الصوفي الإنسان، والناسك المغرم بنول الخلاص، والأمان، ما هو إلا قائم بما أقامه في مقام زمنه، وما هو إلا واقع بما أوقعه فيه حال واقعه. ولا معدى عنهما في سبره للمُتعَيَّن المحدود في حرده، ولا مفر منهما في بناء متصوره الذي يحمي علائقه الممتدة بين ظاهره، وباطنه. ولو انطوى فيه كل سر غريب، والتوى على كل شأن عجيب، لأن بداية حظ السعادة التي هي حاجة الذات في الطبيعة الفوارة بالمعاني، لا تنتهي إلا حيث تكون محروسة بخوف جيوشها المستوفزة بين المجاني، بل لا تبتدئ النهاية إلا حيث تقع قدمك على عتبة غيرك، وتلمس أعناق المصالح أخواتها في الحصول عليها منك. إذ القول بالغير، والسوى، والتعريض بالألم والدوى، ما هو إلا إيقان بالعوارض التي تستر الذات في كسوة الآخر الذي هو نظيرك في كل منفعة، وهو المعارض لك في كل مصلحة، وتحمي وجوب الائتلاف في صون هوية الجماعة المشتَرِكة الحقيقة، والمتفاعلة النتيجة، لأن اعترافنا بوجود شيء خارجي عنا، يمكن له أن يؤثر على صفاء اللحظة الآسرة لأشواقنا، هو عين ما نسميه عارضا يطرأ على رغبة الذات في السكينة، فيكدرها بالفجيعة، ويربكها بالوقيعة، ثم يفتنها بشيء يصرف النظر عما يتموج من معان في الأعماق، وما يترنح من رؤى بين الأشداق. ولذا، لا يستفخم هذا المعنى في ذات الصوفي، ولا يستعجم في عبث الغبي، إلا حين نجعل التصوف نسقا موحدا في البدايات، ومآلا نعنو إليه في النهايات، لا نمطا يحكي عن زفرات العشاق في استشراف معاني السماء بفناء الذات في مقام التألم، والتعفف، والتوله، ولا بساطا تروى عليه الحكاية بلا نفاق، ولا تضليل، ولا تمويه. ومن هنا، فإن التصوف لم يكن انعزالا عما يموج من أتعاب بين الذوات الأخرى، أو اعتزالا تتحقق به الأنانية المستعليةُ بالمعرفة المصدِّقة لكمال مفاهيمها المثلى، بل كان مشاكسة للوقائع، ومعاركة للطوالع، لأن التصوف في بدايته، لم ينطلق من نقطة الهدوء التي انطلق فيها الفكر الواثق من ذاته، وإنما انبثق عن الصخب الذي تزفر بين الديار المجللة بالوجع، والمكللة بالورع. ولذا، لم يكن التصوف هروبا مجردا كما توهم من رأى الانزياح نحو الذات انهزاما في المعركة، بل كان رغبة في إصلاح الخارج من داخل الملحمة، لأن الصوفي حين انزوى إلى غور ذاته، وانساب بين مكتوم روحه، وهو النسمة الإلهية المخزونة فيه، والنقطة البشرية التي تصرفه عن غيره، لم يرد إلا أن يخرج منها ذاتا مؤثرة في كونه، ويبدع من فضائها أرقى رسوم العناية، وأجمل حدود الرعاية. إذ الصوفي لا يقف عند الحدود الظاهرية للأشياء، ولا يرتبك بما جعله أدعياء الكمال حاجزا عن النظر الحاد إلى معاني الأمداء، وإنما يرتمي في غدران أحضانها، ويغوص في بحر أعماقها، لكي يكتشف منها ما يفيد في توثيق رابطته مع ذاته، أو ما يقوي آصرة التآزر مع غيره. ولذا استشكل الناس ذلك لجهل للموارد المشتركة، فظنوا العزلة هروبا يتوقى به الصوفي عجزه عن سبك المعاني المعبدة. لكن هل يصح ذلك.؟ إن العودة إلى الذات التي هي عنوان نبع الوجود، لا تعني قطع حبالها مع خارجها البارز منها بالتمام، بل تعني الرجوع إلى الأصل الذي ابتدأ منه الإنسان سيره بين المرام. وذلك لا يفيد بدركنا إياه مقتضى الهروب الذي يرسمه بعض بسطور باهتة، وظنون فاسدة، لأن سير الصوفي المستغرق في تقديس ما يجوس حوله من قباب مباحثه، لا ينطلق من مركز ذاته إلا إلى نقطة فيضه بين عوالم مداركه، لكونه أيقن بأنها محل الروابط والعلاقات التي تربط بين جونه، وبرانه. ومن هنا، فإن العودة إلى إصرار الذات، والأوبة إلى رشد الإشارات، لا تعني سبيلا واحدا يجوز لنا أن نعتبره هو الأجلى فيها، بل العودة كما تكون من الخارج إلى الداخل لمجاراتها في مطالبها، فإنها تكون من الداخل إلى الخارج لتجاوز تناقضها مع مواقعها، وكلاهما واردان في التجربة الصوفية التي تعرف الدائرة بأسمى ما فيها من معان متنورة، وعليهما المعتمد في وجود إحساس مشترك يتجه نحو تخليق القيم المتبادلة بين الطوائف المختلفة. إذ هي إما البداءة من التوبة إلى الفناء، أو البداءة من المرادية إلى المريدية المنتهية بالصفاء، إلا أن الأولى تنتج ذاتا شخصية، والثانية تفرز لنا ما نسميه بالذات الجماعية، لأنها هي التي تتبارى عليها الأقوال، والأفعال، وهي التي تحكم علينا بالخير، أو الشر في الخلال، والخصال. ولا غرابة إذا كان الصوفي أنموذجا للحب، والعطاء، وأيقونة للأمل، والرجاء، لأنه نتيجة حتمية لامتزاج حقيقتي الظاهر، والباطن, وخلاصة تجربة الفعل والترك التكليفيين في مسرب الإنسان. ومن هنا، فإن اكتساب مفهوم الشخصية التي يتحدد بها التمايز عند التقابل، لا يأتي من مدار واحد في صياغة قوة التعادل، بل يقوم على إدراك كل العوالم التي تلامس حقيقة الذات في مجالها الفردي، ومحيطها الجماعي. وإذا قلنا بذلك، وأقررنا بأن التصوف يعني المثابرة الممزوجة بالأحلام، والآمال، والمشاكسة المعلولة بالتروك، والأعمال، فما الذي يميز الصوفي عن غيره، ويرفعه في اعتبار سيره، وكلاهما قد ظهرت له الأنوار مظلمة، والآفاق معتمة، وبدت له الحقائق عارية، والمعاني كاشحة.؟ إن القول بالتميز التي يفضي إلى التفريد الشخصي، هو سبب كثير من الانتحارات التي يُغتال فيها الصفاء البشري، لأنه إن لم يدل بأقل دلالاته على الأنانية، والجبروت، فإنه يدل باٌقوى حججه وبراهينه على الوثوق من تفوق معنى على ما سواه من المعاني المبسوطة في الملكوت. وسواء كان محيط المعنى روحيا، أو كان مداره ماديا، لأن ادعاء الكمال في سبيل محصور بحدود الذات المنغلقة على معانيها، هو في أقل درجاته سلب للزوجية التي يتقوم بها وجود الأشياء القابلة لضديها. لكن هذا المنحى الضيق في الاستدلال، وهذا البعد المتشنج في التفصيل، والتأثيل، لا يمكن له أن يرد على مورد التصوف، ولا أن يغدو صورة متعبة في التأليف، إلا إذا حصل الغلو في اعتبار التعدد ضررا على الوحدة، وأفرط النظر في اقتضاب المعنى بعنوة، وادعى كل واحد تمام حقيقته في ذاته، واستجاب كل فريق لقوته التي تكسبه في سعيه سبب بقاءه، لأن مجرد التفوق في العالم الطبعي، لا يستلزم حكما له ميزة في محل التكليف البشري، بل العمل في الرسم الأول الذي تميز به الإنسان عن سائر الكائنات المنتشرة بين الأكوان الطبعية، يقتضي أن تكون الغاية منه الانضباط للالتزامات الذاتية، والمسؤوليات الجماعية. ولهذا يكون الصوفي كغيره من الآدميين، لا ينفصل عنهم إلا في طريقة التعامل مع المعاني التي تؤهل حياته لبناء هويته الشخصية بين الآخرين. ومن هنا يمكن لنا أن نتساءل: هل التصوف هو التمادي في المجرد، والتماهي في المطلق.؟ أم هو المساكنة للذات، والمعايشة للواقع.؟ إذا كان المعنى الأول مستلهما للحقيقة في حدود الإدراكات الاستثنائية، ومتعرفا على المعاني الغامضة بسبل مستغرقة في العشق للمطلقات الخفية، والمكتومة، فإن مقتضى التصوف في الرأي الثاني، يستوجب ألا يسير الصوفي إلا على بطن الأرض التي هي محل الجرم الجسدي، ومنها يرسل عينيه إلى السماء في الكبد الأبدي، لئلا يفقد سر تعلقه بها، ووظيفته فيها، وإلا، صار التصوف في الكلية ظاهرة وجدانية، تدرس في باب الإحساسات الباطنية. وعلى هذا تكون كالشعر، والموسيقى، والحكايات، والأمثال، بل تشمل بطبيعة لا نهائيتها كل الفنون التي تعتمد على الصورة المثالية في الخيال. ولذا يلزمنا الفصل بين الحقيقتين، ووضع الفواصل بينهما في التحديدين، لأن ما تدل عليه الصورة الأولى، ولو كانت مطلقة في استجلاء المعاني المثلى، لا تعني أنها متعذرة في تصويرها، ومستحيلة في تحصيلها، أو أنها لا يمكن لها أن تجمع مع غيرها، ولا أن تبنى فيما عداها، بل هي وثبة نحو سؤال آخر، وهو قولنا: هل يمكن للصوفي أن يتجاوز بشريته لملائكته.؟ أو كيف يمكن له أن يعود بعد السكر صاحيا.؟ أو هل يمكن أن يصل الصوفي إلى مرحلة لا اضمحلال فيها، ولا زوال معها.؟ إن الإجابة عن هذا السؤال، قد تضمنتها تنقلات الإعراب عن مدار الألفاظ في هذا المقال، ولا أراني مجبرا عن الإجابة عنها باللفظ الأكمل، لأن غاية التحرير في المراد الأمثل، هو إثارة قلق السؤال، لا وضع تصور لنهايته، ولا بداية لغاياته. ولهذا أرى الصورة الأولى تبحث في المعاني الإلهية، بينما الثانية تسلك دروب العروج بالوسائل الذاتية، لكي تضيء قنديل المعرفة بالمعاني البشرية الدالة على عالم الربوبية، والمتعلقة بلطف الألوهية. وبناء على هذا، فإن التصوف معطى ذاتي، ونسق شخصي، وإذا انتظم به أمر الجماعة، صار معنى غير قابل للتفرد في التجربة العينية، بل يستوحي خبرته من مجموع أفرادها، وطرق بناء معارفها، لكي يقع الاختيار على مظهر يصاغ به الكمال في الدائرة الأخلاقية، والمدارات السلوكية. ومن ثم، يغيب الحس الفردي في بؤرة الجماعي، لكي يكون سياقا متبعا في الالتزام بالفعل الظاهري، ونمطا يجسد فيه الصوفي أنه ابن ربعه، ويمثل فيه دور السياق في حقيقته. قد يستشكل هذا المعنى كثير من أصدقائي الذين ظنوا الانتظام في جماع النسق هو تمام التصوف الأسنى، وكمال الالتزام به في الدور الأعلى، فخالوا التمييز حاصلا بقيود الجماعة التي تتشكل بها الحقيقة في أبعادها البشرية، وتتجسد بكل ما تركب فيها من قيم ومثل علوية، وظنوا التوقف عند هذا الحد مجز في طي الطريق نحو الكمال، ورفع لواء الانتصار في سابغ الخلال. قد يكون هذا غاية عند كثير ضجروا من ويلات المجتمع، وانحازوا إلى المجموعات الصغيرة التي تآلفت بالاجتماع، لكي يعيشوا بين ظلال الكون بأحلام بسيطة، وأمان معدودة، لكن لو جعلنا هذا الانتظام شرطا في تحقق معنى التصوف، وهويته، ودرك كنهه، وماهيته، والجماعة سبيل لوجوده، ومعبر لحدوثه، فإنه بذلك يجعل الالتفاف حول مائدته فرضا دينيا، وواجبا أخلاقيا، تؤدى به لازميات الاقتداء بلا توان، وتبنى به صيغ الخلاص بإذعان. لكن لو قلنا بتوقف التصوف عند حد يجعله سياقا في السباق نحو معاني الائتلاف على مشتركات إصطلاحية، فإنه لن يكون إلا مذهبا من المذاهب المتسمة بالروحية، والمتصفة بالمعنوية، أو طريقا من الطرق التي تكسب بها المعرفة المقدسة للبشر من الأشياء القابلة للأحكام المختلفة، والأعراض المتباينة. وإذ ذاك، سيتضمن في عمقه نمطا من التشريعات التي تعاد غايتها إلى تحقيق واجب العبودية في دائرة متزنة بأخلاقها الدينية، وآدابها السلوكية. وعلى هذا سنكون أمام تصوف يحد الحقيقة بحد معين في النهاية المطلوبة، وهو وجود طرفين في عملية الصراع القائم بين الذات، والموضوعات الخارجية، أو بين الذات، والعرض المصاحب لها في وضعها الظاهري، وكلاهما يترجى أن يصل إلى حقيقة محددة في التقدير الذاتي، وهي الأمل الذي يصير به الإنسان كاملا في رسوم الطبيعة، ويغدو بها قويا في المكاسب العرفانية. وما دام هذا الحد موجودا في بداية الطلب للأشياء المبحوثة بشرة، وعنفوان، ومحدودا في النهاية التي تتحقق بها غاية التطهير لموارد الأبدان، ومعاهد الأكنان، وهو الحد المجرد في الذهن قبل العثور عليه بين المعاني المتكاثرة مع تنوع التجارب البشرية، فالإكثار من الجلب لإظهاره على الحقيقة المصوغة له في التفكير المندفع إلى استكشاف المعاني المتباينة، هو إضاعة للوقت المتوافر لغايات أخرى يحددها وضع الحقيقة المتعالية، وإسفاف بحق الباطن في اختبار النفَس المستفتح لأبواب السماوات العلية، وإحجام لرغبة الظاهر في معايشة المتناقضات التي تنسج خيوط روابطها بين برزخ المعاني الجلية. ولذا، فإن التجربة اقتضت أن تتعدد حياضها، وتتولد عنها الكثرة في وحدة تتمدد عليها فرشها، لكي تتشكل كل أنواع السير الذي ينطق بألم الإنسان في الوصول إلى اللحظة المقدسة، وتشتمل على كل ما بسطه القدر بين أمدائها من العلامات المطهمة، وتكتمل بها دورة الحياة في نقطة الوصال المعتقة. وهنا نكون أمام خيارين في الاعتبار، ونغدو بين تيارين يفجران الصراع حول المعنى المراد في الاختيار، لأن الأول يريد أن تكون الجماعية دليلا تاما على مجرد الحقيقة، وبابا نافذا إلى ما وراء المعنى من أسرار الطبيعة. وحينئذ يكون التصوف وسيلة في سياق بناء كيان مشترك الهوية، وغاية للشعور بالفكاك من آثام الأخلاق الرديئة. والثاني يرى الفردانية الدالة عنده على مطلق الفرد أوضح الطرق في المعرفة الأزلية، وأيسرها في بلوغ مهيع الأنوار القدسية. ولذا أكثر النكير هنا من لم يفرق بين الأذواق، ولم يميز بين الحقائق، فحسب الفردانية قتلا للجماعية، أو نفيا لها في القضية، وزعم أن وجود أحدهما مستلزم لعدم الآخر بالضدية، لأن الطريق عنده لا يقبل الثانئية، ولا تحبذ السير براحلة الأنفاس المنتشية فوق مرمر تختلف حوله الواردات النازلة بفيضها على طاقة الذوات المتباينة. وهذا مبني على نظر معتبر في دائرة معينة، لها شروطها في بناء الحقيقة الدينية، لكن هل يمنع وجود الضد من الوصول إلى المأمول من الكمالات البشرية.؟ أو لنقل: ألا يجوز للطرق أن تتعدد، وسواء فيمن قام به الحظ على اعتبار النهاية هي ما ناله من رضوان، أو فيمن رأى القرب أسمى المراتب في البيان.؟ إذا قلنا بالأول، فما حجدنا أن الهدف هو الشيء الذي نكون به وجودا في الحظوة، وذلك لا تنبني عليه ضرورة التسليك بمنهج معين في القدوة، لأن الأصل فيه، هو النتيجة معه، لا القول بفرضه على السالك إلى مقامات الإيمان، ومرامات اليقين. وإذا قلنا بالثاني، فما ألزمنا أحدا بوجوب الوصول إلى نقطة محددة في المعرفة، لأنها تتعدد في طرق التحصيل عليها بين معاني الكثرة، لأنها عبارة عن جهدك في إيجاد تلك الصورة المعبرة عن كبدك الباطني، ودلالة على ما يعتمل في الباطن من معان تحرك الذات نحو العشق السرمدي. ومن هنا، فإن المعنى الثاني، ولو افترض الذاتية في الحقيقة، لم يخرج عن الكليات التي تجمع جزئياتها في الطبيعة، وإلا، انتفى التصوف في الوصل، والإيصال، وحكمنا عليه بالزيغ، والضلال. يتبع
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -2-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -1-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -5- الأخير
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -4-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -3-
-
تنبيهات وتعليقات -2-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -2-
-
تنبيهات وتعليقات -1-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -1-
-
مبهمات الذاكرة
-
العلم حين يصير صناعة (الأخير)
-
العلم حين يصير صناعة -الأخير-
-
العلم حين يصير صناعة -5- الأخير
-
العلم حين يصير صناعة -4-
-
العلم حين يصير صناعة -3-
-
العلم حين يصير صناعة -2-
-
العلم حين يصير صناعة -1-
-
الشخصية برأي آخر -4-
-
الشخصية برأي آخر -3-
-
الشخصية برأي آخر -2-
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|