مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 5354 - 2016 / 11 / 27 - 16:31
المحور:
الادب والفن
التوليتارية و الأدب – جورج أورويل
قلت في بداية حديثي الأول أن هذا العصر ليس عصرا نقديا . إنه عصر التحزب لا الانشقاق , عصر من الصعب أن تجد فيه أية ميزة أدبية في كتاب لا تتفق مع استنتاجاته ( السياسية ) . السياسة – بتعريفها الأوسع – غزت الأدب , لدرجة غير مسبوقة من قبل , و دفع ذلك إلى سطح وعينا ذلك الصراع الموجود دائما بين الفرد و المجتمع ( الجماعة ) . عندما يتأمل المرء في صعوبة كتابة نقد صادق و غير متحيز في زمان كزماننا يبدأ المرء بفهم طبيعة الخطر الذي يحدق بالأدب ككل في الزمن التالي . إننا نعيش في عصر يختفي فيه الفرد المستقل من الوجود – أو قد يكون علينا أن نقول , عصر يتوقف فيه الفرد عن الإيمان بوهم استقلاله . في كل ما نقوله عن الأدب اليوم , و خاصة في كل ما نقوله في النقد , ما زلنا نتحدث و كأن الفرد المستقل ما زال موجودا . كل الأدب الأوروبي المعاصر – أتحدث هنا عن أدب الأربعة مائة سنة الأخيرة – بني حول فكرة مصداقية الفرد , أو إذا أحببت , على قول شكسبير المشهور "أن تكون حقيقيا أو صادقا" . أول ما نطالب به أي كاتب هو ألا يكذب , أن يقول ما يعتقد به حقا , ما يشعر به حقا . أسوأ الأشياء التي يمكن أن نقولها عن عمل فني هو أنه غير صادق . و هذا يصح أكثر على النقد منه على الأدب الإبداعي , الذي لا بد فيه من بعض الإدعاء و التكلف , أو حتى بعض الهراء , طالما كان الكاتب صادقا في الجوهر . الأدب المعاصر هو شيء ( حالة ) فردي بالضرورة . إما أنه تعبير صادق عما يفكر به المرء و يشعر أو أنه لا شيء . كما أقول , نفترض أن هذه الفكرة صحيحة , لكن ما أن نتحدث عنها حتى يدرك المرء مدى الخطر الذي يتهدد الأدب . لأن هذا هو عصر الدولة التوليتارية , التي لا تسمح و لا يمكنها أن تسمح للفرد بأية حرية مهما كانت . عندما تذكر التوليتارية أول ما يخطر على بالنا فورا هو ألمانيا , روسيا , إيطاليا , لكني أعتقد أنه على المرء أن يدرك خطورة أن تصبح هذه الظاهرة عالمية . من الواضح أن مرحلة الرأسمالية "الحرة" تقترب من نهايتها و أن الدول واحدة تلو الأخرى تتبنى اقتصادا مركزيا يمكن تسميته اشتراكيا أو رأسمالية دولة , كما تحب . و بذلك فإن الحرية الاقتصادية للفرد , و إلى حد كبير حريته في فعل ما يحلو له , أن يختار عمله , أن يتنقل بحرية على سطح الأرض , سينتهي . حتى وقت قريب لم يكن من الممكن توقع نتائج ذلك . لم ندرك أبدا أن غياب الحرية الاقتصادية سيكون له أي تأثير على الحرية السياسية . ( في السابق ) كان يتم التفكير في الاشتراكية على أنها شكل أخلاقي من الليبرالية . ستتولى الدولة أمورك الاقتصادية و تحررك بالتالي من الخوف من الفقر و البطالة و ما إلى ذلك , لكنها لن تتدخل في حياتك الفكرية الخاصة . سيزدهر الفن كما كان الحال في الزمن الرأسمالي الليبرالي , بل و أكثر قليلا , لأن الفنان لن يكون تحت رحمة أية إكراهات اقتصادية . الآن , و بناءا على الأدلة , يجب على المرء أن يعترف أن هذه الأفكار كانت خاطئة . لقد ألغت التوليتارية حرية التفكير بدرجة غير مسبوقة في أي عصر مضى . و من الضروري أن ندرك أن سيطرتها تلك على التفكير ( الفكر ) ليست فقط سلبية , بل إيجابية أيضا . إنها لا تمنعك فقط من التعبير عن أفكار معينة – و حتى التفكير فيها – لكنها تأمرك بماذا تفكر , إنها تخلق لك إيديولوجيا , و تريد أن تتحكم بحياتك العاطفية أيضا بإنشاء قواعد سلوك ( إلزامية ) . و تعزلك عن العالم الخارجي قدر ما تستطيع , و تسجنك في عالم مصطنع لا توجد فيه أية معايير لتتمكن من مقارنتها بأي شيء آخر . تسعى الدولة التوليتارية بكل قوتها إلى السيطرة على تفكير و مشاعر محكوميها بشكل كامل بنفس درجة سيطرتها على أفعالهم . السؤال الهام بالنسبة لنا : هل يمكن للأدب أن ينجو من مثل هذا الجو ( العام ) ؟ أعتقد أنه علينا أن نجيب باختصار أنه لن يمكنه ذلك . إذا أصبحت التوليتارية عالمية و دائمة , فإن ما نعرفه بالأدب سينتهي . و لا يكفي أن نقول – كما قد يبدو لأول وهلة – أن ما سينتهي هو فقط أدب أوروبا ما بعد النهضة . هناك فروق مهمة عدة بين التوليتارية و أي فكر أورثوذوكسي ( دوغمائي مغلق – المترجم ) ظهر في الماضي , سواء في أوروبا أو في الشرق . أهم هذه الاختلافات هو أن الأفكار الأورثوذوكسية في الماضي لم تكن تتغير أو على الأقل , لم تكن تتغير بسرعة . في أوروبا القروسطية كانت الكنيسة تفرض على الناس ماذا يؤمنون , لكنها على الأقل كانت تسمح لهم بأن يعتقدوا بنفس الشيء منذ الولادة حتى الموت . لم تكن تقول لك أن تؤمن بشيء ما يوم الاثنين ثم بشيء آخر يوم الثلاثاء . نفس الشيء يصح تقريبا على أي مسيحي متعصب أو هندوسي أو بوذي أو مسلم متعصب اليوم . بمعنى من المعاني , إن أفكاره محدودة أو مغلقة , لكن يمضي طوال حياته في نفس الإطار الفكري . إنها لا تعبث بمشاعره . أما مع التوليتارية اليوم العكس هو الصحيح . ما يميز الدولة التوليتارية هو أنه رغم سيطرتها على الفكر , لكنها لا تثبته . إنها تضع دوغما ( عقائد جامدة – المترجم ) غير قابلة للنقاش , لكنها تغيرها من يوم لآخر . إنها تحتاج الدوغما لأنها تحتاج إلى الخضوع المطلق من محكوميها , لكنها لا تستطيع إلا أن تغيرها , حسب حاجات سياساتها السلطوية . إنها تعلن أنها معصومة و في نفس الوقت تهاجم فكرة الحقيقة الموضوعية ذاتها . لنأخذ مثلا واضحا كي نفهم أكثر , كان يتعين على كل ألماني قبل سبتمبر أيلول 1939 أن ينظر إلى البلشفية الروسية برعب و كره , أما منذ سبتمبر أيلول 1939 أصبح عليه أن ينظر إليها بإعجاب و مودة . و إذا ذهبت روسيا و ألمانيا إلى الحرب , كما سيحدث في السنوات القليلة القادمة , فإن تغييرا عنيفا آخرا سيحدث . الحياة العاطفية للألماني , ما يحبه و ما يكرهه , يتوقع أن تتغير في غمضة عين , إذا دعت الضرورة . لا أحتاج إلى الحديث عن تأثير مثل ذلك الشيء على الأدب . لأن الكتابة هي فعل شعوري إلى حد كبير , لا يمكن دائما السيطرة عليه من الخارج . من السهل أن تمتدح الفكرة الارثوذوكسية السائدة اليوم , لكن الكتابة ممكنة فقط عندما يشعر المرء بحقيقة ما يقوله , من دون ذلك , سيغيب الحافز الإبداعي تماما . كل الأدلة التي أمامنا تقول أن هذه التغيرات الشعورية المفاجئة , التي تتطلبها التوليتارية من أتباعها , مستحيلة سيكولوجيا ( نفسيا ) . و هذا هو السبب الأساسي لقولي أنه إذا انتصرت التوليتارية في العالم فإن الأدب كما نعرفه سينتهي . و في الواقع يبدو أن التوليتارية تفعل ذلك بالفعل . في إيطاليا أصبح الأدب مشلولا , و في ألمانيا يبدو أنه قد اختفى غالبا . النشاط الأبرز للنازيين هو إحراق الكتب . و حتى في روسيا , لم نر تلك النهضة الأدبية التي كنا قد توقعناها ذات يوم , و نجد اليوم ميلا كبيرا بين أكثر الكتب الروس الواعدين إما للانتحار أو الاختفاء وراء القضبان . قلت سابقا أنه من الواضح أن الرأسمالية الليبرالية ستنتهي , و لذلك فإني أعتقد أن حرية التفكير محكوم عليها بالاختفاء أيضا . لكني لا أعتقد أن الأمور ستنتهي هكذا , و سأقول ببساطة في النهاية أن الأمل في بقاء الأدب يوجد في البلدان التي تمتلك فيها الليبرالية جذورا عميقة , في البلدان غير العسكرية , أوروبا الغربية و أمريكا , الهند و الصين . أعتقد – قد يكون ذلك فقط أملا ديني الطابع – أنه رغم أن زمن الاقتصاد المجمعن سيأتي , لكن تلك البلدان ستعرف كيف تطور نمطا غير توليتاري من الاشتراكية , يمكن فيه لحرية التفكير أن تبقى بعد اختفاء الفردية الاقتصادية . هذا هو الأمل الوحيد لكل من يهتم ( بمصير ) الأدب . كل من يشعر بقيمة الأدب , كل من يرى الدور المركزي الذي لعبه في تطور التاريخ البشري , عليه أيضا أن يرى ضرورة مقاومة التوليتارية كمسألة حياة أو موت , سواء فرضت علينا من الخارج أم من الداخل .
نقلا عن
http://orwell.ru/library/articles/totalitarianism/english/e_lat
ملاحظة المترجم : قد يفهم أن أورويل يربط بين الحرية السياسية أو الفردية و بين الملكية الخاصة أو اقتصاد السوق .. صحيح أن أورويل تحدث بلغة مختلفة في مقالات أخرى , منها نقده القاسي لبدايات الفكر النيولبيرالي مع كتاب فون هايك : الطريق إلى العبودية , و أن ملاحظاته هنا قد تكون بسبب التهديد الهائل الذي رآه في التوليتارية التي تزعم أنها تقوم على فكرة العدالة و إلغاء الرأسمالية الفردية , لكن بغض النظر عن هذا فإن تيارات تحررية فكرية و سياسية و تجارب قاعدية جماهيرية عديدة وسعت ذلك النقد ليشمل كلا من الملكية الخاصة و الدولة , ليس فقط كعوائق أمام تلك الحرية الفردية , بل كنفي و نقيض لها
عن نقد أورويل للنيولبيرالية راجع
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=510931
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟