|
بغداد ترسم وحشة الطريق
ناصرقوطي
الحوار المتمدن-العدد: 5354 - 2016 / 11 / 27 - 00:58
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
بغداد ترسم وحشة الطريق ناصر قوطي همس الله في أذنه وقال: ـ لاتبك، كفكف دموعك وبح بما يعتلج في صدرك، صدر مدينتك.. مدينة الله التي كتب عنها جورج أوغسطين، وتجرع سقراط الحكيم لأجلها سم خلوده وهو يرتشف كأس ( الشوكران ) ولم يغادر أثيناه. في هذه السطور التي دونت بين رائحة كافور أكفان الموتى وآس الحدائق العامة التي يتضوع منها عبق أريج أيامها الخوالي.. ثمة خطى ثملة.. روائح خطى لموت جديد. إذ تسحل خطاك في شوارع قلبها وشرايين روحها.. تتحسس عمق جراحها الغائرة في وجوه الجدران والناس، وتكاد تجس بأناملك المرتجفة برودة المدى الصدئة وهي تنغرز في خاصرتها.. لا.. بل في سرتها المعقودة و.. هنا.. هناك.. دمعة لاتريم.. دمعة كرعاف برق بين غيمتين.. فارزة كفاصل كونكريتي في شوارعها الخالية. تلك الدمعة ستظل كما قطرة ندى على زجاج زنزانة الحنين للوطن.. تتأرجح، فلاهي تسقط إلى الطريق لتدوسها الأقدام، ولا تتبخر لتصعد نحو سماوات مفترضة ـ وهم سماوات ـ فهي هنا.. هناك.. ستظل حبيسة جدران قفص الروح.. محض قطرة ماء من ملح لا أكثر..تجيء مع المطر حين تبكي السماء، فتغسل أدران النفس والشوارع وترسم خارطة لحزن مدينة تآمر عليها حتى عتاليها وصباغي أحذيتها.. لن يعرج كاتب السطور على دموع التماسيح وهو يرنو إلى الساحل ـ الرصيف ـ الذي يحتضن أجنحة عشرات النوارس البريئة وهي تنفرش باتجاه السماء.. تحلم بالمراكب التي تجيء متأخرة. ولن يمس أو يمسح دموع بعض القادة العرب ولن ينعطف إلى بعض الكتبة ( الكسبة ) وخطاباتهم النارية السقيمة حول ما يسمى بالجهاد مابين ( النهدين ) فقد قيل الكثير بحقنا وحقهم، كما أنبأنا شاعرنا الكبير مظفر النواب، ومنذ أعوام خلت ونبه الجميع من خسة الدمى الوطنية، حتى أخرج بعضهم من أست الدواب، وهو المناضل والشاعر الذي لا يمتح من التجربة إلا رضابها.. شعرا مدافا بالصدق والإخلاص لمصائر ملايين الجماهير المسحوقة التي تنتظر من يفك أصفادها التي كبلتهم بها حكوماتهم العزيزة وينقل معاناتهم بصدق وجرأة. كاتب هذه السطور ليس سياسيا ولا يريد من كلماته أن يدين بعض الأحزاب والمنظمات الطارئة التي أحالت البلد إلى ساحة سيرك، ولم تستعر من الطاغية المقبور كاتم صوت الجماهير، إنما راحت تغتال أبناءها المخلصين في وضح النهار أسوة ببعض الأنظمة العروبية.. هذه الأنظمة التي تترفع وتعجز حتى قوانين الغاب عن المجيء بفرمان يوازي فرماناتها، والمنضمات الطارئة التي تمد خطومها ورقابها من فوق كراسيها العنكبوتية، وتفتي بالحلال والحرام على رجالات المعرفة والفكر فيما لم تغادر صئبان الجهل لحاهم وأطروحاتهم الأكثر سقما وتخلفا من الرئيس اليمني القصير الذي لم يحلق فروة رأسه إلا بإشارة من الطاغية المقبور.. هذا ( القصير النظر) الذي لايتخذ العبرة من التاريخ القريب وماآل إليه أشباهه يستقبل وبالأحضان بعض المرتزقة العرب الفارين من العراق ـ بعد ان لطخوا أرصفة شوارعه بدماء الأبرياء الطاهرة ـ نراه يدعوهم بالمجاهدين. فأية مقاييس يزنون بها المرحلة، وأي فسطاس ذاك الذي يزن بذورالبطيخ مع هامات الرجال هو وشبيهه الأكثر اختلالا ورعونة وهو يقيم تمثالا لقرينه الأشعث قرب تمثال المناضل عمر المختار. لن يعرج كاتب هذه السطور على شيء يقوده إلى حتفه، إنما دولاب دموع آلاف العراقيين حث خطى هذه السطور وهول المفارقة الصارخة حين يواسيك الغرب بين صمت أخوتك العرب حين تحدث المأساة. يقول الكاتب : حين عدت ودونت هذه السطور، كنت أبغي كتابتها قبل عام حين عدت لبغداد بعد غيبة طويلة وقفت في ساحة الأندلس ودون أن أشعر انهالت دموعي وكان الشارع ثملا.. حتى ان الله سيغفر لي دموعي وبعض ذنوبي الصغيرة التي بكيت من أجلها طويلا ومازلت أبكي عسى أن أكفر هفوة ارتكبتها في لحظة ما مع بعض الأصدقاء والمحبين. قال الكاتب : لم ولن أتخيل غول الوحشة الناشب أظفاره في جسد المدينة وكيف يضرب الجبناء جثة ما وهم يفتتون الحجارة عن بيوتاتها حتى يصلوا لمعادلة توازن الكراسي وأسرة النوم التي يعتلون ناصيتها. ـ أكل هذا الهجران..! وبخ نفسه، وهو الذي لم يكن يتخيل أن تؤول مدينة ما الى كل هذه الوحشة.. الشوارع خالية إلا من بعض سيارات الشرطة والإسعاف التي تمرق سريعا، بعض العمال يؤوبون إلى بيوتهم وعلى وجوههم ترتسم كل تعابير الهلع. يعتقد الكاتب ان جاستون باشلار في جماليات مكانه وحتى كاليفينيو في مدنه اللامرئية قد فشلا فشلاً ذريعا في تصورهما للمكان، لأن كلاهما لم ولن يصفا صور الوحشة والهجران بين الكائن ومكانه.. تلك الصورة الغامضة التي رسمتها بغداد بأعمدة أنوارها، وكيف كان الهواء يفح خلالها.. الهواء المحمل بالجريمة والموت المجاني المتربص في كل شارع وعطفة زقاق، وكيف يخاف الناس من رؤية بعضهم وهم يحدقون بوجوه بعضهم البعض. أي لغة لن تسعف كاتبنا حتى يعبر عما شعر به.. لم تستحضره ساعتها، بعد أن جفت دموعه، إلا وحشة المكان.. وحشة( كومالا ).. تلك القرية المكسيكية التي ضربت بجذورها ودموعها في روح الكاتب خوان رولفو.. وهو الذي فقد كل أفراد عائلته في الحرب الأهلية ( الكريستيروس ) وعاد إليها بعد مرور 30 عاما وقد تحولت إلى مقبرة فامتزجت في روحه مشاعر الحنين والوحشة.. وحشة المكان والزمان وذكريات الطفولة والناس.. حتى امتزج الأحياء بالأموات وعبروا كل حدود الرعب الذي ممكن تخيله.. تفاقمت وحشة كاتب السطور حين سأله كاتب يعمل في حقل الأدب إذ قال له : ـ ماسبب مجيئك إلى بغداد فيما البصرة أكثر أمنا..؟ وقد تذكر الكاتب قبل عام حين استوقفه شرطي في شارع من بغداد خال من سقسقة عصفور.. سأله ذات السؤال حين تفحص هويته بعد أن تشممه من أخمص قدميه حتى مفرقه ـ بعد حوار طويل ـ أكتشف الكاتب ان الشرطي ينحدر من البصرة فما كان من الكاتب إلا أن يقلب ظهر المجن ويستجوب الشرطي.. وفي لحظة تحول الجلاد إلى ضحية بمجرد التلاعب بألفاظ الكلمات، بالرغم من دموع الكاتب التي كانت تسبقه في حواره مع الشرطي وهو يهمهم ويهمس. ـ عراقي أنا، من برج الدلو.. دلو الأب الذي سكبني مع مياهه في حوض يقال له حمام العليل من مدينة نينوى عام 1959، عشت 30 عاما في بغداد، حاصرني شظف العيش وحيف النظام لألتجئ إلى الجنوب، لأن فيها نخلات تظلل بفيئها كل عابري السبيل، وهي تعادل ظلال وفيء جبال كردستان الشامخة. وفي النهاية ترك كاتبنا ذاك الشرطي وحيدا وراح يغذ السير فيما الشارع يترنح تحت قدميه وكان المساء يلملم وحشة المدينة التي لم ولن يجرؤ أحد ما على وصف وحشتها إلا شرطي صغير من أقصى الجنوب يقف وحيدا، حائرا قرب جثث زملائه المثقوبة بالرصاص وهو يأمل بالرجوع لبيته قبل أن يخضع للاستجواب، كما الكاتب في حيرته وهو يسطر هذه الكلمات وينتظر نهاية مسوخ الحكومات وشبه الحكومات، التي بنت دويلا ت صغيرة وتجمعات من الميليشيا داخل البلد وراحت تنتشر كالسرطانات و تدعي النضال دون أن تشعر بحيف على مايحدث للبلد فأي وحشة تلك وأنت لاتملك إلا قلمك ازاء الرصاص الذي يمسخ أجمل ما في الوجود، فماعليك إلا أن تصمت.. فالصمت خير متاع.
#ناصرقوطي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكتابة للطفل
-
ليتني كنت بوبولينا
-
الكنز
-
غيلان الدمشقي
-
قصتان قصيرتان
-
الفيل الذي أحالوه صفرا
-
رقص جنائزي
-
انقليس
-
ثلاث قصص
-
أربع قصص قصيرة جدا
-
قصص قصيرة جدا
-
تهافت التهافت
-
وطن بين الأرانب والسلاحف
-
نص
-
تصريح أخير لااعتزال الكتابة
-
أيتها الشعوب العربية
-
الكفاح دوّار والطغاة في دوار
-
قصة شيطان وملائكة
-
ماحدث قصة
-
قصة الزورق
المزيد.....
-
حلقت بشكل غريب وهوت من السماء.. فيديو يظهر آخر لحظات الطائرة
...
-
من ماسة ضخمة إلى أعمال فنية.. إليك 6 اكتشافات رائعة في عام 2
...
-
بيان ختامي لوزراء خارجية دول الخليج يشيد بقرارات الحكومة الس
...
-
لافروف: أحمد الشرع وصف العلاقة بين موسكو ودمشق بالقديمة والا
...
-
20 عامًا على تسونامي المحيط الهندي.. إندونيسيا تُحيي ذكرى كا
...
-
من أصل إسباني أم إفريقي أم شرق أوسطي؟ كيف يعرف المقيمون الأم
...
-
مستشار خامنئي: مسؤولون أتراك حذروا إيران من إثارة غضب إسرائي
...
-
الحكومة المصرية تفرض قيودا على استيراد السيارات الشخصية
-
-الإمبراطور الأبيض-.. الصين تكشف عن أول طلعة جوية لطائرة من
...
-
الجيش الإسرائيلي: القضاء على قياديين 2 في -حماس-
المزيد.....
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
-
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|