أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - وديع العبيدي - التنوير عربيا.. اشكالية المصطلح (2-3)















المزيد.....



التنوير عربيا.. اشكالية المصطلح (2-3)


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 5352 - 2016 / 11 / 25 - 17:57
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


وديع العبيدي
التنوير عربيا.. اشكالية المصطلح (2-3)
"ان من اهم وظائف العلم تنوير الانسان ومساعدته على ادراك طبيعة الاشياء والقوى المحيطة به واسبابها وآثارها ".- سليمان مظهر

لا تنوير بلا مدنية.. ولا مدنية بلا حضارة، ولا حضارة بلا ابداع، ولا ابداع بلا حرية!
هذه اجابة موجزة عن سبب عدم ظهور (تنوير) في تاريخ الشرق، ومنه تاريخ العرب، وفاقد الشيء.. لا يعطيه. والواقع، ان (التنوير) ليس الشيء الوحيد الغائب في حياتنا وتراثنا، وانما كل ثمار التنوير وأسبابه. ولأننا نفتقد الاسباب والتنائج، ونريد أن نوجد عبر الزمن، ولا نندثر، فلابد من الحصول على التنوير، بطريقة الاستيراد او القرصنة، أو معجزة من الغيب!.
وجود العرب على ضفاف المتوسط، جعلهم أقرب لاوربا وتفاعلاتها ومنتجاتها. فلم لم يستفد العرب/ عالم الشرق المتوسطي من هذا الامتياز، ويسخروه لمنفعتهم؟!. لكن في منظور الواقع الميداني، فأن العرب هم آخر المستفيدين من أوربا، وألدّ أعدائها أيضا. وهنا تكمن المفارقة الوجودية والحضارية!.
ودعنا نتصور- افتراضيا- للحظة أكادمية أو شعرية، لو كان الوفاق الجغرافي وفاقا انسانيا وحضاريا بين شمال المتوسط وشرقه وجنوبه!!.. إذن كيف كانت الصورة ستكون الآن، وكيف كانت صورة العالم والمجتمع البشري ستكون، بالنتيجة. لكي نفهم فقط، ان إشكالية مجتمع شرق المتوسط هي سبب الاضطراب وعدم الاستقرار العالمي، وأن العالم كله ينزف بسبب اشكالية الشرق وتخلفه.
من هنا نفهم، ان ما يرتع فيه الشرق الأوسط ومجتمعاته وحكوماته السخرة، ليس استيرادا من الخارج، وانما الحاجة الوحيدة مع التخلف التاريخي، (made-in). وليس التباكي والتظلم والتبرير غير امعان في التمادي في الحضيض.
فهم الصينيون أصول الحياة وقواعد الوجود والصراع والمواجهة التاريخية، ومثلهم الروس، ومثلهم الأفارقة والهنود وسكان أميركا الجنوبية. وامتاز العرب – مجتمعات شرق المتوسط- عن الجميع بالانغلاق والعجز عن فهم الاخر ومواجهته والتواصل معه، بغير لغة الخوف والكراهية.
حتى القرن السابع الميلادي لم يكن أهل شبه جزيرة العرب كيانا سياسيا أو ثقافيا، ذي مكانة وأهمية في شرق المتوسط. وعندما بدأ كيانعم السياسي الثقافي بالظهور، قام على أسس وقواعد مشوهة ومغلوطة، كالتالي:
1- العداء والبغضاء والعنف تجاه الشلرق والغرب [فارس وروما].
2- المبدأ العبراني البغيض: (كل من ليس معنا فهو ضدنا).
3- سيادة العالم والهيمنة والتسلط وازدراء الامم باعتبار (العرب) الامة الفضلى على الأرض، وعلى بقية الامم الانضمام اليها والخضوع وتقديم الخدمة أو الجزية.
هذا الخطاب السياسي القومي ليس غير نسخة مشوهة من التجربة العبرانية التي فشلت في تحقيق سيادتها العسكرية والتمدد خارج شريط غرب نهر الاردن الذي ارتسمه لهم القائد المدياني يوشع بن نون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وما زالوا للساعة محشورين فيه، وسط الحماية الدولية.
كانت أمام العرب يومئذ ثلاث أمثلة أكثر نضجا وحنكة لاحتذائها في بنائها القومي السياسي:
1- المثال الفارسي، وهو الأكثر انسجاما مع واقع التعددية الاثنية للمنطقة، وذلك بتسلسل الزعامة العائلية/ القبلية/ القومية وبناء نظام ملكي يوحد البلاد والعباد تحت سلطته كما هو سائد لليوم في ايران وزعامة العرق الفارسي على مقدرات الحكم والسياسة والدين.
2- المثال البيزنطي – روماني/ (اغريقي مزدوج)، وهو الأكثر نضجا وتقدما وريادة في العالن يومئذ.
3- المثال الحبشي الدين/ سياسي والقائم على أساس دولة علمانية ذات هوية دينية مسيحية منفتحة متسامحة، والتي كان نفوذها يمتد حتى شرق البحر الأحمر، شمالس صنعاء.
ان عدم أخذ عرب الحجاز بأحد هاته الأمثلة يمنح القارئ فرصة المراجعة والتأويل والتقييم. وثمة، كيف يمكن ايجاد مخرج لاشكاليات الحاضر واختناقاته التدميرية، من دون تقديس الماضي، وقلب قواعد الفهم والرؤية والتحليل، كما يفعل الكتاب الاسلاميون، المحتقنون بعقد القراءة الاوربية المشوهة. وقد سبق الذكر، ان بوادر الافكار الاسلامية المتطرفة، كانت ردود أفعال سطحية لمراحل الهزيمة العسكرية والسياسية والثقافية أمام الآخر (أوربا)، وفي حالة خدر ديني تحشيشي، للذة الصعود العسكري السريع للعرب في القرن الأول، دون أخذ بالاعتبار، الطبيعة التكتيكية والاشكالية الداخلية لبيزنطة يومذاك. ولو كان الانتصار العربي/ المسلم عن جدارة لما سقطت الدولة الفتية في براثن الفتنة الداخلية، وتحت أقدام المغول شر سقطة.
فأين كانت القوة العسكرية والدفاعات الستراتيجية والبناء الاجتماعي والفكري لدولة قامت على العسف والاستبداد والمصادرة. وأبرز رموز تلك الدعوة بايجاز: [ابن التيمية [1263- 1328م] ابان احتلال المغول للشام، ابو الاعلى المودوي [1903- 1979م] ابان الاشكاليات السياسية للاحتلال الانجليزي لشبه جزيرة الهند وفرز دول خاصة بالمسلمين عن سواهم، سيد قطب [1906- 1966م] الذي تطرف دينيا عقب فشله الادبي خلال العصر الذهبي للثقافة المصرية، منتجا فكرة (الحاكمية الالهية) الطوباوية عبر دمج فكرة أوغسطين [354- 430م] في (مدينة الله) مع فكرة المودوي حول (الجامعة الاسلامية) والتي سبق لجمال الدين الافغاني [1838- 1897م] الدعوة لها والعمل لاجلها.]. فكل هاته التجارب، بنيت على أساس العداء والبغضاء للاخر المختلف. هذا المختلف مصدر غيض المسلم البدوي لتمكنه من الحضارة وقواعد التفوق في كل شيء حسب منظور ابن خلدون [1332- 1406م]، ممثلة في:
1- العقيدة المسيحية المتسمة بالقوة الذاتية الروحية وأخلاقية التسامح والتعاون، التي كانت وما زالت مصدر استفزاز المسلم وتذكيره بالهزيمة الروحية والعالمية..
2- أوليات الثقافة الارامية/ السريانية السابقة للعربية والاسلام في مجتمعات الشرق الأوسط...
3- الدولة الرومانية ونفوذها الامبراطوري العالمي وتمثيلها للعمران والحضارة وامتداداتها في البلدان الغربية اليوم.
ان قراءة العوامل والظروف المحلية الذاتية والموضوعية، في شبه جزيرة العرب وتفاعلاتها السياسية والاجتماعية والقبلية ومماحكاتها المحلية والاقليمية، ليست يسيرة ولا متيسرة اليوم. لكن مصطلح (الجاهلية) الاسلامي وحظر تداول أو اعتبار شيء ما من تاريخ ما قبل الهجرة، يترك أسئلة كبيرة فاغرة فاها في وجه المستقبل. وهو أمر يعني سكان الجزيرة وتاريخهم الاجتماعي والثقافي ونسبهم العائلي والقبلي المردوم والملغي تحت (حكم الجاهلية) – حاولت الوهابية استحياءه مجددا-، وقد أكدت دراسات الدكتور جواد علي [1907- 1987م] كونه أكثر رقيا وانفتاحا من البديل الاسلامي، وبدلالة نسخ العقيدة الاسلامية لكثير من مظاهرها وأصولها، وفي مقدمتها اركان الاسلام والتقويم العربي/القمري/ الهجري وكثير سواه.
فمنع الاطلاع على تاريخ الجزيرة السابق، الغاية منه التستر على اصول العقيدة، واقناع الناس بكونها ديانة جديدة نازلة من السماء توا!.
وليس هنا مجال دراسة هاته المفصلية الستراتيجية، بقدر ما هي دعوة للقارئ للخوض في الثقوب السوداء والزوايا الملغية في تاريخه وهويته. وفي الطريق لاعادة بناء الشخصية العربية/ شرق أوسطية، الممتلئة والواثقة من ذاتها، بغير مجاهيل وغيبيات وأسئلة محرمة أو استفزازية.
فكرة الدولة العربية/ الاسلامية، بدأت ونمت وتبلورت بالتدرج، ولم تكن قرارا سياسيا جاهزا بدأ تطبيقه في لحظة معينة. ان هاته الدولة بدأت فكرتها بعد الهجرة من مكة الى (يثرب)/ دولة المدينة، وتحولت الى واقعة تاريخية بعد موت محمد بن عبدالله ممثلا بصراع (السقيفة) ومفاوضات عمر بن الخطاب مع الانصار.
فمن الناحية العملية التاريخية، يعتبر عمر بن الخطاب مؤسس ومهندس الدولة العربية، ولولا حضوره لما أوتيت أكلها. والمعروف ان عمر هو من أنشأ بيت المال وأسس الدواوين وعين السفارات، وبنى مؤسسة خاصة لقضايا الامن الداخلي وأعمال الشرطة التي تجوب الاسواق واطراف المدينة ليل نهار.
وكان أول من وزع الجيوش وفصل بينها وبين قادتها، لكي لا يستقل القائد بجيشه، ويستخدمه لاغراض خاصة مستقلا عن سلطة الحكم، كما فعل عمرو ابن العاص إذ استقل بمصر إمارة خاصة به. فخشي ان يكرر خالد بن الوليد الأمر في العراق، فنقله ليلتحق بجيش الشام تحت إمرة قائد آخر.
لكن جوهر تلك التجربة السياسية، ورؤيتها المستقبلية للحكم والمجتمع بقيت غائبة. وما يهمني في هاته المطالعة، هو الموقف من الاخر/(العلاقات الخارجية، الاقليمية والدولية)، الموقف من الحضارة والعلوم. والمحصلة العامة سلبية، وغير مناسبة (بدوية منغلقة!).
فمع اهتمام عمر بالاداريات، لكن همه الرئيس كان احتلال العالم، وإخضاع البلدان لسيطرته، فأرسل الجيوش شرقا وغربا، معتمدا لغة الاحتلال والنهب والتدمير وربط الامصار الجديدة لولاة عرب من حاشيته، وبشكل يمتنع على البلاد المحتلة استعادة أمرها أو الانعتاق من الاحتلال الأجنبي.
ضمن هذا الاستقراء نجد ان عموم الشرق الذي امتد إليه نفوذ العرب المسلمين، ما يزال متخلفا، بدائيا، منقطعا عن الانتاج والحضارة والحريات الاساسية والعقل، عاجزا عن النهوض والقيام بأمره (دون معونة خارجية). وهذا هو حال الشرق حتى الهند وشمال افريقيا حتى الاطلسي. فما هي اغراءات الفردوس الاسلامي الذي دعى اليه ابن التيمية وعبد الوهاب [1703- 1791م] والمودوي وسيد قطب وصولا للخميني [1902/ 1979- 1989م] في (ولاية الفقيه).
الجواب متروك للقارئ والمواطن شرق أوسطي، لكونه المتضرر والمستفيد منها، وبحسب صناديق الاقتراع الأمريكية!.
*
كانت ايران أقدم جهة شرقية اصطدمت بالغرب – ممثلا بالاغريق- منذ القرن الرابع قبل الميلاد. ولكي لا يذهب القارئ بعيدا، كان الاغريق يجاورون حدود بلاد فارس/ ايران. والاغريق هم الذين أطلقوا كلمة [pars] على حكام ايران. والكلمة تعني (غازي- من الفعل يغزو). ذلك ان أسيا الصغرى/ شبه جزيرة الاناضول/ مقاطعة غلاطية/ تركيا الحالية كانت اغريقية الأصل والسكان والثقافة والعمران.
وكان معبد أفيجيان/ أفسس أكبر معبد لعبادة الالهة (أرتميس) الاغريقية، والتي ستتحول الى كنيسة (الحكمة المقدسة)/ سانت صوفيا، التي تحولت بلغة الترك الى (أيا صوفيا) وأحد أكبر جوامعها منذ عهد محمد الفاتح [1429- 1481م]. وكان اسلوب الغزو الايراني يومها – كما اليوم- يعتمد طريقة (الكر والفر) البدوية المتعارَفة في تراث عرب الجزيرة. ويعتبر الفرس في أصولهم – بدوا- يعتمدون الغزو والسلب نظاما للمعيشة والاستمرار في الوجود.
فلغة العداء والتوسع التي تسكن العقلية الفارسية قديمة، في أصولها ومعطيات واقعها الجيوبوليتيكي، تتعدي صراعها مع العثمانيين أو انعكاساته مع نظام صدام حسين، لتجد متنفسها عقب رحيله وتنصيب ثلة من عبيدها على مقدرات العراق، وعبره الامتداد نحو سوريا ولبنان، مستغلة طبيعة صراعات النفوذ الانكلو امريكية حول المنطقة.
فالاطماع الايرانية في أراضي جيرانها، هي الدافع الرئيس لظهور شخصية الاسكندر المقدوني في القرن الثالث قبل الميلاد، والذي سوف يتزوج ثلاثة من نساء ملك فارس، ويمتد نفوذه شرقا حتى حدود الصين خلال ثمانية سنوات. لكن موته المبكر، غير البعيد عن غدر المرأة الايرانية، سوف يسمح لبعض الجيوب الايرانية بالتنفس والتمدد مجددا شرق المتوسط – النفوذ الساساني-.
سمح موت الاسكندر ومشروعه الهللنستي العالمي، بتنامي قوة – روما- الامبراطورية، و قوة – القسطنطينية/ استانبول- البيزنطية الامبراطورية بالتعاقب. ويستمر الفرس الساسانيون في مناهضة الرومان والبيزنطيين، بين كر وفر، حتى استهلكت القوة العسكرية للطرفين. وفي هاته المفصلية التاريخية، كانت قوة ثالثة تراقب ساحة الصراع الامبراطوري، وخريطة شرق المتوسط السياسية.
وهكذا بدأ الهجوم العربي الجنوبي على الطرف الأضعف والمنهك – ايران- في معركة ذيقار (604م)، والتي سيشكل انتصار العرب فيها، مقدمة الصعود العربي(*) ومواجهة الفرس في معارك القادسية، والروم في معارك اليرموك (636م).
رغم التراكم والانتفاخ في أعداد الكتاب والأحزاب والجمعيات القوموية والنهضوية، وتعدد المحاولات والتجارب التنموية والنهضوية العربية، بغض النظر عن طابعها العسكري أو السياسي غير المتكامل، كان للمراهقة الفكرية والسياسية والدينية، وأثر المناكفات والحساسيات والأطماع الشخصية، دور في تدمير تلك التجارب والمحاولات وشخصيات القادة والمميزين تاريخيا.
ما أعنيه ان النهضة العربية – تجربة الدولة الوطنية- في القرن العشرين، كانت محصورة بين محذورين: خارجي، ممثلا بمراكز القوى الاقليمية والدولية، وداخلي، ممثلا بكل من مراكز النفوذ التقليدية [الاقطاع الديني والتجاري والقبلي/ملاكي الأرض] وممثلي الحداثة الغربية بضمنهم الشيوعيين والمثقفين اليمينيين على حد سواء. فكانت التجربة التنموية يتيمة وسط حقل من الاشواك والالغام. وعندما سقطت تلك التجربة، تبرأ الجميع من مسؤولياتهم، وتباروا في تجريم القادة والانظمة الفدائية.
لماذا لم يتعاون الجميع لانجاح تلك التجربة بدل المعارضة الرخيصة والنقد المجاني:[من لا يعمل لا يخطئ!]، [المعارضة طريقا للسلطة!]، [من ليس معنا فهو ضدنا!].
لقد ارتكب عبد الناصر خطأ تاريخيا بدعوة الأحزاب والحركات الوطنية لحل نفسها والانضمام للعمل الموحد في إطار تنظيم موحد. ولكن: بغير ذلك الاجراء، هل كان ثمة أمل لنجاح التنمية الوطنية، وبرامج الأحزاب وولاءاتها يناطح بعضها الأخر، ويسخر [حالة الوطن] لمشروع طوباوي أو يرهنه لجهة خارجية، سواء كانت موسكو أو واشنطن أو لندن أو طهران أو انقرة أو الرياض؟..
هل ثمة قاسم وطني ومجتمعي مشترك للحركات والتيارات السياسية والفكرية داخل المجتمع العربي؟..
هل الأحزاب والتيارات الموجودة في عراقستان الدمقراطي تجتمع على محور وطني مجتمعي ولو في الحد الأدنى. هل ثمة حزب وطني حقيقي واحد؟.. أم أن الدمقراطية الرأسمالية الشكلية أنتجت أحزابا تجارية ذات مشاريع تخريبية وأهداف نهب وسلب على حساب الدولة والمجتمع، وخلق مأفيات مسلحة وسياسية ورأسمالية تقسم المجتمع الى طبقتين، استغلالية متنفذة مدعومة، وأخرى طبقة فقيرة مستضعفة عديمة الحقوق والمكانة.
مع مبتدأ القرن العشرين، حاولت انجلتره انتاج طبقة برجوازية تتصدر المجتمع، وحين فشلت، استعانت بالطبقة الدينية، وصنعت طبقة عسكرتاريا مدعومة منها، سرعان ما تحولت لعدو لدود، حين رفضت ان تكون أداة لها تتسلط على شعبها. فكان مشروع الشرق الأوسط الجديد للبيت الأبيض، يقوم على تصفية الانظمة العسكرية في المنطقة العربية، وهو ما تم تحت لافتة الربيع العربي منذ أواخر 2010 ابتداء بتونس وليس انتهاء بسوريا، مرورا بكل من [العراق، مصر، ليبيا، اليمن]. وهذا سبب عدم شمول التغيير الانظمة الملكية، وهي الأكثر رجعية وقروسطية دينية، والأبعد في ممارساتها عن مواثيق حقوق الانسان، والأكثر قمعا للحركات والتيارات السياسية والفكرية المناهضة للغرب.
فكيف التقت المبادئ الغربية في المجتمع والدولة، مع أنظمة بدائية مخالفة لتوجهاتها الثقافية؟.. يقول الجواب، ان العصر الامريكي يقوم على المصالح التجارية وليس مبادئ الحضارة وحقوق الانسان!.
الغريب ان المثقف/ المتعلم العربي يدرك من دراسة تاريخ اوربا الوسيط والمعاصر، ان حكومات وحكام أوربا لم يكونوا ملائكة تماما، ورغم انه يدافع عنهم لدى القدح، يكون أول القادحين بأنظمة وحكام بلاده، وفق مسطرة قياسية مزدوجة، طالما تأثرت بحساسيات ومبررات طائفية اجتماعية.
والسؤال هو كيف يسمح العربي لنفسه أن يذبح بلده على سندان مزاجه الشخصي والقبلي أو التبعية الخارجية؟. وما زال البعض يعتبر الخلاف والاختلاف مع مواطنيه درجة عليهم، ونغرا في نفوسهم.
لا يخطر لأحد أن يأخذ بالاعتبار المخلفات الاجتماعية والنفسية المتوارثة والفاعلة عبر الزمن، في رسم خريطة العلاقات والمواقف الشخصية بين أبناء المجتمع والبلد الواحد. وقد حان الأوان لتقديم دراسات اكادمية اجتمانفسية شاملة وأثرها على التحزب والتطيف والموالات غير الوطنية.
لقد وشى أحد الاعراب بالنعمان بن المنذر[582- 609م] لدى ملك الفرس، نتيجة مقتل والده على يد النعمان. فكانت تلك الوشاية، نهاية للحكم العربي لمملكة المناذرة التاريخية. والسؤال هو هل كان قتل والده – المقدس- بغير سبب واجب؟. وهل كان يجرؤ على النطق أو الشكوى لو كان قاتل والده ملكا مهوبا، كالحجاج مثلا، أو كان احد شيوخ الدين أو كسرى نفسه. بدوي آخر قام باغتيال الشاعر الفيلسوف ابا الطيب المتنبي [915- 965م] بحجة هجائه لأمه. حب الثأر والانتقام وتنفيس عقد النقص الشخصية، تقابل عدم الوعي بالانتماء والتنصل من المسؤولية، وتملق الاجانب لكسب الاعطيات.
هاته النزعات الرخيصة والمريضة، تتحكم في حركة التاريخ السياسي والاجتماعي العربي. وبنفس السياق، لم يصدق البعض، ان تفتح العواصم الغربية بابا لتوزيع المكافآت، لكل من يسعى اليها بشكوى ضد صدام حسين، حتى ضاقت بهم اروقة العواصم الغربية، وانتشرت دكاكين المعارضة العراقية، وتنافست البلدان الاقليمية والعربية لاجتذاب الجواسيس من كل فريق وملة، حتى أثرى الجميع، وافتقر الوطن. فماذا قدمت دكاكين المعارضة للعراق غير الخراب والخيانة. راجعوا اعلام المعارضة ونشرياتهم خلال تسعينيات القرن الماضي، تجدوا أصول الفكر السياسي العربي!.
والسؤال الجوهري هو: كيف تشكو ابن بلدك وأخاك لعدوك وللغريب؟..
أيخشى ابن آدم أهله؟..
ويطلب منخى لدى الغرباء! - (العراق ثلاثا)من ديوان (اغنية الغبار) لوديع العبيدي-
هل يشكو الانجليزي أو الالماني أو الروسي أو الامريكي بلده وحكومته لدولة عدوة، تريد الحاق الدمار بلده،؟..
هكذا ذبحت الوطنية العراقية، ونفق الانتماء العراقي، وصار ساسة العراق يفتخرون بالدور الايراني والامريكي والانجليزي أكثر من انتمائهم للعراق، والشعور بالمسؤولية أزاء خمسة ملايين أرملة وضعفهن من اليتامى، ومعدلات قياسية في أعداد البغايا والمفسدين والعهر السياسي.
لقد توفرت التسعينيات وما بعدها على قوافل من المعارضة المرتزقة ضد بلدها. فأين هي المعارضة الوطنية اليوم، وقد ذبح العراق وأهله، وسيما سكان المحافظات الستة، من الوريد للوريد، مهانين مذلين مهجرين، متهمين وموزعين على الخيام والشوارع والسجون والبلدان، بينما يتبارى الساسة والبرلمانيون والوزراء ومن لف لفهم بالمناصب والمحاصصات وتزوير الصفقات والجاهات المبتذلة.
ان مصر هي أقل بلد في عدد اللاجئين منها في الخارج، رغم أنها الأولى في نسبة المهاجرين والعاملين خارج بلدهم. بينما العراق هو البلد العربي الأول في نسبة اللاجئين، لسبب ولغيره.
والطريف ان اللجوء للخارج لم ينقطع بعد رحيل صدام، بل زاد وتضاعف. سواء من الجنوب (!!)، أو الكرد ولهم دولتهم شبه المستقلة منذ 1991م. وفي لندن وانجلتره تحديدا، يتصدر الشيعة والكرد قطاع الأعمال الحرة وملكية العقارات والتجارة والشركات الاهلية. وغير قليل منهم من تجار الحرب ومرتزقة المليشيات. وما تزال انجلتره ولبنان والامارات هي المستودعات الأمينة لسرقات لصوص العهد الجديد.
(الدكتور ابراهيم) عنوان رواية عراقية للكاتب الراحل ذوالنون أيوب [1908- 1988م]، صدرت في ثلاثينيات القرن العشرين، أي من أوائل الروايات العراقية، تشخص مرضا اجتماعيا مقدسا في المجتمع العراقي، اسمه [قانون الشعليّه]، وبموجب هذا القانون لا يمكن وضع حجر على حجر في العراق.
وماذا بعد؟.. هل تغير الوضع؟.. نعم.. زاد سوءا وتخلفا!.
*
هل يمكن الحديث عن تنوير عربي، مصري، عراقي، شامي، سعودي؟..
وما هي رسالة هذا التنوير العربي إذا كان ثمة له وجود؟..
كيف تتبنى مشروعا تنويريا رساليا، ولم تنجح في بناء مجتمع مدينة صغيرة، ولا انتاج أبسط مستلزمات حضارة، وما زالت البداوة والصراعات والحساسيات البلدانية والقبلية والطائفية، والجدل لأجل الجدل تبلط حياتنا ووجودنا اليومي!.
ابرز موجات التنويريين خلال القرن الماضي بايجاز..
- الانتلجنسيا العثمانية، وهي الموجة التي استفادت من اصلاحات السلطان احمد الثالث [1673/ 1703- 1730م].
- النهضويون العرب ورواد التنوير- بين اواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهي حقبة ظهور الافكار التقدمية والتأسيسية.
- القومويون العرب، بدء بالمتأثرين بحركة الاتحاد والترقي حتى أتباع الثقافة البريطانية والجامعة الاميركية.
- جيل الريادة الاكادمية والادبية عقب الحرب العالمية الثانية، مع عودة الدفعات الاولى للخريجين وطلبة البصات لخدمة بلدانهم.
وفي كل هاته الحالات، يعترف الشرق المسلم/ العربي بفقره وجوعه الحضاري والثقافي، ويعتمد طريقة الاستيراد/ الاستعارة/ التقليد لاستيفاء حاجته للحد الادنى من مضاهاة العالم المتقدم/ (الغرب).
كيف كانت الحال، قبل ألف عام، أي في صدر الدولة العباسية؟..
مع ظهور دولة بني العباس في بغداد، خمد أوار الصراع العسكري والعرقي المحتدم بين الفرس وبيزنطه، وابتدأت مرحلة مميزة من علاقات دبلوماسية وثقافية متبادلة بين أباطرة بيزنطة وملوك وولاة العرب، ليس في الاقاليم الحدودية المتحاذية، فحسب، وانما مع حكام بغداد أنفسهم، وانعقدت صلات (شخصية) بين هارون الرشيد وولده مع اباطرة القسطنطينية، - أعتقد ان هذا الفصل اختزله المؤرخون العرب المعاصرون رغم وضوحه وأهميته في المدونات الغربية: البيزنطية والرومانية تحديدا!-.
لقد استقدم اباطرة بيزنطة معلمين وعلماء عربا لتعليم اللغة العربية وثقافتها في جامعات بيزنطة، وبالمقابل، اوفد معلمون وعلماء بيزنطيين الى بغداد، للتبادل الثقافي والتلاقح الحضاري بين العاصمتين.
فبغداد الحضارة العباسية لم تبزغ من – فراغ- وانما من جهود التعاون والتبادل المبكرة بين الشرق والغرب. وتحدث المدونات الغربية، ان امبراطور بيزنطة زار بغداد ودامت زيارته ستة أشهر، اطلع فيها على مختلف مضامير الحياة والحكم ومجالات العلوم والفنون والمظاهر الاجتماعية؛ وبديهي، اصطحب الامبراطور فريقا من الساسة والعلماء والفلاسفة يرافقونه ويسجلون ويدرسون الحضارة البغدادية.
وبالمقابل، توجهت الدعوة لخليفة بغداد لرد الزيارة ولمدة نصف العام، رفقة ساسته وعلمائه وأدبائه. وكان الملك الضيف ينزل في احد قصور الحكم مع حاشيته، متبعا برنامجا دقيقا للاطلاع على حضارة الاخر وعمرانه المدني والاجتماعي.
وفي إزاء مظاهر العمران والفخامة والاكسسوارات الذهبية التي تزين قصور بيزنطة وكنائسها العظيمة، اعجب بعض اباطرتهم بالبساطة في العمران وطراز الحياة للرشيد وعلاقته برعيته، كما يرد في المدونات.
ان هاته الفقرة مهمة لفهم كيفية وصول كتب الاغارقة لايدي العرب، ليس عن طريق الغزو، ولا القرصنة، وانما الهدايا المتبادلة بين الطرفين، والعلماء والطلبة الموفدين من كل طرف للاخر.
فكما ترجم العرب علوم الغرب وفلسفته، ترجم الاغارقة البيزنطيون، ما توفر من تراث العرب والهند ومكتبات الشرق للغة الاغريقية. والواضح المهم من ذلك، مقدار ثقة كل طرف بنفسه وبالاخر، بعيدا عن مشاعر الخوف والبغضاء والتشكيك بنوايا الاخر واحتقاره أو- تكفيره-. ان نصف عام في بلد مختلف، ليس امرا سهل التصور، ولذلك أوتيت بغداد العباسيين في الصدر الاول ثمارها النافعة والمبهرة.
وبغياب تلك المعلومة المختزلة من كتب التاريخ، اساء النظام والمجتمع العربي والمسلم، فهم الطرف الاخر من الحضارة والمدنية والعمران العصري، وعلى حساب خسارتنا الذاتية حتى اليوم.
من هذا المنظور، وبالعلاقة!، فشل مشروع الهجرة العربي والثقافي في الاستفادة من حضارة الاخر، ونقل تجربته الثقافية والعمرانية لبلداننا. ويأتي المد الاسلامي السياسي المتأخر، واصطناع (الدين) ومظاهره البدوية المتخلفة، هوية ثقافية اجتماعية للتمايز على حساب الاخر، امعانا في تدمير تجربة التبادل والتلاقح والتحضر المدني.
ان الغرب، الغني صاحب الوفرة والتراكم العقلي، ليس بحاجة لنا، وانما الشرق المتخلف والجائع والمجدب حضاريا، بحاجة للتعلم والاغتناء والتحرر من عقده البدوية الجامدة.
وكما كانت السلفية البدوية وراء انكسار الزمالة المدنية الحضارية بين بغداد والقسطنطينية، كانت الانكشارية الاسلامية وراء احباط التجربة الحضارية الانفتاحية للسلطان احمد الثالث، وهاته للمرة الثالثة، كانت وراء تدمير التنمية الوطنية والحضارة العمرانية للدولة العربية في القرن العشرين، في صورة ما يعرف اليوم بالاسلام السياسي، بشقيه البدوي العربي من الجنوب، والبويهي الصفوي من الشرق. ولا غرابة ان يتأرجح الشرق الأوسط، ومجتمع المهجر، بين هاتين الفرقتين.
ما أود التنويه اليه، هو طريقة فهم القول. فالخلاف بين الحضارة والبداوة، والعناصر القومية والعنصرية الدينية، من محركات التاريخ البشري. لكن المعيارية خلال ذلك، ونقطة الفيصل هي بيد الفرد/ المجتمع. والمسؤولية، كل المسؤولية، ليس في الفكرة أو التيار الديني، وانما في الغوغاء والقطيع المستلَب والعبيد، من متعصبين وموالين لهذا الطرف أو ذاك، على حساب المصلحة العامة والوطنية والحضارة.
ومن أجل هؤلاء الغوغاء العجزة/– فاقدي الرأي والارادة- جاءت الدمقراطية الغربية التجارية، لحفر قبور العرب بأيديهم!.
فالانحطاط الراهن في الشرق الأوسط هو مسؤولية المواطنين العرب أولا، ومسؤولية الطابور الخامس الديني اللاهث وراء الوهابية والشيعة الصفوية وبغطاء أنكلواميركي.



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التنوير عربيا.. اشكالية المصطلح (1- 3)
- أصداء نظرية الفراغ في رواية منى دايخ (غزل العلوج)
- المنظور الاجتماعي في رواية ليلى جراغي: (الصدأ)..
- الياس فركوح: الصعود الى حلب!.. الهوية والانتماء في رواية -قا ...
- (موسيقى في الظلام)
- (البستاني ذهب مع الريح)
- لوسيف..
- أوليات أولية..
- المنظور الاجتماعي والنفسي في مجموعة (ترانيم ابن ادم) لباسم ا ...
- (الخروج من عدن)..
- أرملة البستاني..
- البستاني الأخير..
- محمود الريماوي: عن الفرد والمكان الوجودي
- بستاني.. لا اكثر
- (أرض يهوه!)
- البستاني في حجرته..
- عولمة عنف.. دمقراطية انحطاط (1)
- المدارس الدينية وما وراءها..
- أزمة الوطنية.. لدى النخب الشيعية (2)
- أزمة الوطنية.. لدى النخب الشيعية.


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - وديع العبيدي - التنوير عربيا.. اشكالية المصطلح (2-3)