|
تأثير المشكل الفتاغوري على الافلاطونية
حسين الزاوي
الحوار المتمدن-العدد: 5343 - 2016 / 11 / 14 - 05:36
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لقد كان موضوع الرياضيات في الفكر الرياضي الكلاسيكي، هو المقدار القابل للقياس، أي المقادير الكمية التي تصنف إلى صنفين : كم منفصل (الحساب) وكم متصل (هندسة). وكلاهما في التصور الفلسفي الكلاسيكي يرجع إلى معطيات أولية، أي إلى أفكار فطرية تشكل المحتوى الخاص بالعقل، و المنهاج الرياضي في الفكر الرياضي الكلاسيكي دوما كان يقوم نظرا لطبيعة الموضوع على الحدس و الاستنتاج ، حدس الحقائق البديهية و الأفكار الفطرية ، واستنتاج حقائق جديدة من تلك، فالحدس يمد الرياضيات بعنصر الخصوبة، و الاستنتاج يمنحها التماسك المنطقي. لقد نقل اليونان الممارسة الرياضية من عالم الحس إلى عالم العقل، فجعلوها تتناول ما هو ثابت و أبدي لا ما هو متغير و مؤقت. كما كانت مهمة الرياضيات عندهم جذب النفس نحو الحقيقة الخالدة، يقول أفلاطون في جمهوريته : "" ليست مهمة العلم الرياضي خدمة التجار كما يعتقد الجهال، بل تيسير طريق النفس في انتقالها من دائرة الأشياء الفانية إلى تأمل الحقيقة الثابتة "" إذن كيف يمكن فهم المقاربة الأفلاطونية لتصور العدد؟ وما مدى سيطرة الأفلاطونية على التفكير الرياضي ؟ ولماذا يظل أفلاطون حاضرا بقوة ؟ وما العلاقة بين المشكل الفتاغوري و الأفلاطونية ؟ إن موضوع الرياضيات عند اليونان هو الماهيات الذهنية التي تتمتع بوجود مستقل وكامل ( أفلاطون)، فكما أن العدد الصحيح تصور ذهني خالص من الصعب ربطه بالمحسوس، فكذلك الأشكال الهندسية يجب أن تكون هي الأخرى تصورات ذهنية خالصة ، أي ماهيات عقلية. أما الأشكال الحسية فليست سوى رسوم تقريبية تحاول أن تحاكي تلك الكائنات الهندسية العقلية التي لا تحتاج في وجودها إلى أن تتصور كأشكال حسية. إن المثلث و الدائرة و المربع ... كائنات كاملة في ذاتها أما صورها الحسية فيعتريها النقص دوما . فالعلاقة بين الشكل كما هو في الذهن و بين الشكل كما يرسم كالعلاقة بين الفكرة و الكلمة حيت هذه الأخيرة لا تعبر عن الفكرة تعبيرا تاما . وهكذا فالشكل الهندسي لا يعبر عن الكائن الهندسي . في مجال الأعداد فقد صرف اليونان النظر والاهتمام بكيفية خاصة إلى البحث عن خواص بعض الأعداد، كالأعداد المتحابة و الأعداد الكاملة ، فالعدد الكامل هو الذي يساوي مجموع قواسمه (مثلا العدد 28 يساوي مجموع قواسمه : 1+2+4+7+14=28 ). أما الأعداد المتحابة فهي التي يساوي كل منها مجموع قواسم الأخرى كالعددين 220 و 284 فهما متحابان ، لان مجموع قواسم الأول 220 يساوي الثاني 284 ( مثلا : 1+2+4+71+142=220 ، كل هذه الأعداد هي قواسم للعدد 284 ) كما أن هذا العدد الأخير يساوي مجموع قواسم العدد 220 و التي هي : 1+2+4+5+10+11+20+22+44+55+110+=284 ) . قد شكلت هذه الاكتشافات اهتمام الرياضيين وخصوصا الفتاغوريين فأضفوا على الأعداد طابعا سحريا ، لكن انزعاجهم كان شديدا عندما اكتشفوا أعدادا غير قابلة للقياس. هذه الاعداد هي التي عرفت منذ ذلك الحين بالأعداد اللاعقلية ، وقصه هذه الأعداد هي أن فيتاغورس يقول في نظريته (مبرهنته) : " أن مربع الوتر في المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين ." لكنه اكتشف أن وثر المثلث القائم الزاوية يكون في بعض الحالات غير قابل للقياس بوحدات صحيحة .فإذا كان لدينا مثلث قائم الزاوية في A وضلعاه المتجاوران يساويان على التوالي 3 و 4 فان مربع وتر هذا المثلث يساوي : 5 . وهو عدد صحيح معقول قابل للقياس . أما إن كان الضلعان يساويان على التوالي 5 و 7 فان مربع الوتر يساوي 74 وإذا أردنا استخراج وثر هذا المثلث فإننا لن نحصل على عدد صحيح معقول . وبالتالي فان وتر هذا المثلث لا يقبل القياس بوحدات صحيحة لأنه يساوي 8 مع كسور لا نهاية لعدد أرقامها بعد الفاصلة . كما يمكن أن نعطي مثالا آخر يوضح هذه المشكلة : لدينا مثلث ضلعيه المتجاورين يساويان : AB=1 وac = 1فان مربع وتره يساوي والجذر التربيعي للعدد 2 لا يمكن التعبير عنه بوحدات صحيحة . هكذا عندما أراد فيثاغورس التعبير عن الأطوال الهندسية بأعداد حسابية اصطدم بالأعداد اللامعقولة التي لا تقبل القياس المضبوط حيث المشكل هنا متعلق بالمتصل . الشيء الذي جعل فتاغورس يخفي فضيحته و أوصى تلامذته بكتمان السر . للوصول إلى تصور رياضي للعدد اللامعقول يجب الانتقال من المشكل الفيتاغوري الى تصور القطيعة ، فالعدد هو مثال لمفهوم القطيعة ويشكل عدد حقيقي يوجد بين قيمتين تقريبيتين الأولى اكبر منه بقليل و الثانية اصغر منه بقليل ، لكن لن نصل إليه من الناحيتين . وتعبير آخر : انه ثغرة لا يمكن أن ينتمي إلى مجموعة الأعداد الحقيقية . ولفهم هذا التصور يجب العودة إلى السيطرة الأفلاطونية على التفكير الرياضي حيث الكائن الرياضي معطى مفارق حسب أفلاطون بل ينتمي إلى عالم المثل . لكن كيف نستطيع تصور العدد كوجود مثالي ؟؟؟ يجيب أفلاطون أن الرياضيات لا أساس لها إذ لم تتعامل مع الكائن المفارق . ان هذا التأسيس المثالي للرياضيات مع أفلاطون ظل حاضرا بقوة ، حيث تم اكتشاف مهم في القرن التاسع عشر هو تحديد تصور العدد اللامتاهي بالفعل باعتباره سيرورة متناهية تتحقق. ان بناء الخط كمجموعة نقاط يبرر القول بوجود اللامتناهي بالفعل فكيف يمكن تبرير الانتقال من الامتداد (اقليدس الخط امتداد ) الى المجموعة ؟؟؟ إن الرياضيات في أواخر القرن التاسع عشر انبنت على ترك المحسوس و الاتجاه نحو المعقول الشيء الذي يؤكد حضور الافلاطونية وترك الأرسطية حيث ان التصور الرياضي لا يمكن أن يعبر عن تجربة ، ومنه فهناك ما يكفي من المبررات لاعتبار بناء نظرية المجموعة الذي يمكن من وضع تصور قريب من المقاربة الافلاطونية او على الاقل ما سمي الكائن الرياضي . هكذا ورغم انتقال التفكير من مقاربة حدسية للمعطى الهندسي (اقليدس) الى مقاربة عددية (الخط مجموعة من النقط اللامتناهية ) فان المقاربة الحدسية ظلت حاضرة. ويمكن استحضار ايمانويل كانط الذي اعتبر الحساب حدس للزمان ( اي التتابع) والهندسة حدس للمكان . ومعروف ان كانط يعتبر الزمان و المكان صورتين قبليتين للحساسية . فهذا الحدس الذي يتم به ادراك المنفصل ( الاعداد) متصلا اساسي في الرياضيات ، فبواسطته ننشئ ليس فقط العددين 1 و 2 بل جميع الاعداد الترتيبية النهائية ، ومنه فالعدد الموجود في المشكل الفيتاغوري رغم لا معقوليته الا انه يعبر عن مثلث قائم الزاوية . واذا اردنا ان نتحدث بلغة هنري بوانكاريه فلا يهم ان نبحث في العدد هل هو معقول ام غير معقول بل هل هو ملائم ام لا . فما دام يعبر عن مثلث قائم الزاوية فهو ملائم . عموما يمكن القول بان المشكل الفيثاغوري شكل احرجا ابستمولوجيا في تاريخ الرياضيات وربما كان حاسما بدرجة كبيرة في بناء الانساق الفلسفية و العلمية ومنها الافلاطونية اساسا ، فرغم ان هذا المشكل يطرح العديد من المفارقات التي تجعل التفكير في هذا المشكل قائما ، ومن هذه المفارقات نجد : ان التصور الفتاغوري يتضمن مفارقة على صعيدين : الاول ان وتر المثلث القائم الزاوية قابل للقياس اي للبناء ( الرسم ) مثل ضلعيه . وعلى المستوى الجبري العدد الغير المعقول غير قابل للقياس فهو يتححد بكيفية تقريبية كما اشرنا سابقا . اما على الصعيد الثاني : وهو الصعيد الابستمولوجي : يتضمن مفارقة من نوع اخر اذ رفض وجود العدد اللامعقول يعني ضرورة التخلي عن مبرهنة فتاغورس بل افقار النظام الهندسي ككل وعدم اضفاء الطابع الهندسي ( المتري ) عليه كامكانية. كما يمكن القول ان القبول بوجود العدد اللامعقول يعني انه ينبغي التفكير في ضرورة الفصل بين الجبري و الهندسي ، الذي يقابله على الصعيد الفلسفي التفكير في ضرورة الفصل بين تصور العدد المعقول و العالم،ورغم أن الرياضيات تسم بالصرامة و التجريد في معالجة قضاياها المركبة ، الا انها ذات فائدة على الحياة الانسانية العملية .....
#حسين_الزاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صور بعض قتلى فاجعة اصطدام طائرة الركاب بمروحية عسكرية في واش
...
-
شاهد كيف ردّ ترامب على سؤال صحفي بشأن رفض مصر والأردن اسقبال
...
-
سموتريتش: إذا تضمنت المرحلة الثانية من الصفقة إنهاء الحرب دو
...
-
من هو محمد الضيف الذي أعلنت حركة حماس مقتله؟
-
تحليل: عندما توجه الجزائر بوصلتها نحو أمريكا كيف يستجيب ترام
...
-
الكشف عن 3 حوادث تقارب جوي سبقت كارثة اصطدام الطائرتين في وا
...
-
إنقاذ 60 شخصا في حريق شمال غربي موسكو (فيديو)
-
للمرة الخامسة على التوالي.. موسكو تسجل رقما قياسيا لدرجة الح
...
-
رئيس الأركان الروسي يتفقد قوات -الشرق- في دونباس (فيديو)
-
مصر.. حريق ضخم يلتهم السفن في السويس
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|