|
كازينو شارع الهرم
عبدالله محمد حسن
الحوار المتمدن-العدد: 5340 - 2016 / 11 / 11 - 21:56
المحور:
الادب والفن
أري أن التفكير في هذا الأمر يبتلع الحياة كما يبتلع الفراغ والوقت والأولى أن تغادره.. أن تحزم نفسك حقائبها وترحل إلي شاطئ آخر.. فما زالت بحار الحياة تضج بموجها الصاخب ومازالت المادة ترسل أشعتها القاتلة نحو دنيانا البريئة. قد يبدو الأمر خدعة ومن الخدع ما يجري مجري الحقائق زمنا حتى إذا ما أضلّنا أوان الكشف خرجت لنا صورته السيئة تطالبنا بحقها في الوجود ومن ثم تتصارع الأقدار من أجل التوافق مع القادم الجديد. ما أكثر المخدوعين الذين يسيرون معصوبي الإرادة نحو مصائر لا تعرف بحارها الرحمة تتهجى جنون الليل وقسوة الأقدار... عندما نحب لا نعمل أدني حساب لما تأتي به العواطف من مستجدات. نعطي كل ما نملك مقابل ابتسامات يتبيّن لنا فيما بعد أنها زائفة لا تعرف بحارها الصحو أبدا. الحب الذي يقوم علي تقديس المادة ضعيف ما يلبث أن تنهار كل قيمه وتتحلل كل معانيه دونما أي رفق أو تذكر. تملقتني بكثير من الوعود في الوقت الذي كنت أسعي فيه لإيجاد حياة سعيدة تجمعنا. أنَّى للفتاة اللعوب أن تعرف معني الأسرة وأن تغلق ملف الماضي ماضي السهرات والشراب وأحضان الرجال. رأيتها أول ما رأيتها في احدي كازينوهات شارع الهرم حيث تختلط الموسيقى الصاخبة بضحكات السكارى الباحثة عن عالم آخر. عالم يحسن الاعتراف بها بعد أن أخرجها عالمها الأصلي من الحسبان. كنت أري ذلك جيدا في الوجوه الخالية من الطمأنينة والعيون الباحثة عن جسد تسكنه كما تسكن الجنيات حواديت الأطفال. كانت النظرات لا تفارق خطواتها المتبرجة. كلماتها نابضة بالإغراء تتخللها ضحكاتها الساحرة. ربما حسدتها فينوس ذاتها خوفا على عرش الجمال أن يضيع من بين يديها ليؤول إلي فاتنة قلوب الرجال. كانت أول مرة أدخل فيها إلي ملهي ليلي بحثا عن نسيان عزيز الحضور. نسيان لتلك الاليه البغيضة.. كانت الأيام قد ألقت بي في طريقها فكنت ضحية من ضحاياها. إن الزواج الروتيني يقتل العواطف ويؤلم النفس. تظل الروح فيه فيه خابية الطموح محطمة الشراع فلا جديد تحت شمس اللا حب.. فكرت طويلا ثم قررت الهروب كنت في أشد الاحتياج إلي شعلة نور تعيد لي بقايا نفسي المتناثرة: إلي إحساس جديد. فجأة وجدتها أمامي. وجدتها بجمالها الأخاذ.. شعرت وقتها أني أولد من جديد وأن أرض إنسانيتي لم تعد منتهكه لم تعد آله يحركها محرك المادة فالشمس ما زالت مشرقه وما زالت الطيور ترسل النغمة تلو الأخرى لتشجي بها آذان الحياة. أحببت أن أكون شمسا تتألق في أحضان الربيع لا مجرد ورقة ممزقة ملقاة في عرض الحياة. كانت ابتسامتها تسبق قدومها نحوي وعندما اقتربت أحسست وكأن يدا تمتد من قلبي لتصافح الحياة من جديد. قالت في دلال أنثوي: -هل تسمح لى بالجلوس؟ -ط... طبعا. بعدما جلست قالت: - ألا تطلب لي كأسا؟ لم أكن قد شربت الخمر من قبل. كان الجرسون يتقدم نحونا وكان لابد أن أحسم أمري. قلت لها وأنا أنظر إلى شفتيها الرقيقتين والسيجارة بينهما: -اطلبي ما تشائين -وأنت؟ -مثلك. لست أدري كيف استسلمت لغوايتها ولا كيف ملت إليها بتلك السرعة. علي الرغم من امتلاء الملهى بنساء أخريات إلا إنني لم أجد راحة لنفسي إلا بصحبتها قالت: -أول مرة؟ قلت وقد تملكني شعور فضولي عجيب: -وهل يضر جميلتي أن يكون كذلك؟ ابتسمت فأسفرت شمس الصباح عن صفين من لؤلؤ براق ثم قالت: -يا لك من شاعر. فجأة وجدتني اسألها. -هل تؤمنين بالحب من أول نظره؟ ابتسمت ثم قالت: -مازلنا لا يعرف أحدنا الآخر. إن التعارف يأتى بعد... صبت كاسين من الكونياك ثم قالت وهي تقدم لي أحدهما ضاحكة: -في صحتك. أنه أول كأس أشربه في حياتي. -أول كأس؟.. - ما أكتر الكؤوس التي قدمتها. بعضهم كان لا يقنع بمجرد الكأس بل كان يريد أشياء أخري... قالت ذلك ثم غمزت بإحدى عيناها فقلت: -أشياء أخري... أراك تجدين متعة في هذا التنازل المشروط! قالت وهى تنظر إلىّ عبر دخان سيجارتها: -إن هذه الحياة تدفعنا أحيانا دفعا للتنازل ما دمنا لا نجد لأحلامنا طريقا تسير عليه - وأين إصرار البحث عن طريق مغاير؟ ضحكت ضحكة عالية ثم قالت: - مقاومة؟ لست أول من غربت شمسها فما أكثر الشموس الغاربة في بلادنا. إنك تتحدث كما لو كنت تحيى في مجتمع آخر. مجتمع يحترم الاختلاف وتجد (لا) مكانها فيه بين ركام العادات والتقاليد التي لا تمت بصلة إلى المنطق في أغلب الأحيان بشيء. قلت نافيا: -لا .. لا أدرك ذلك جيدا بل لعل سبب حضوري إلي هنا كان غروب شمس أحلامي دون تحقيق ما أصبو إليه من آمال. قالت وهي تنظر إلي بعينين مسبلتين واضعة احدي يديها أسفل ذقنها وهى تميل ناحيتي: -آه ما أجمل الحب ولياليه... إنه ليكاد ينسيك جرم الآخرين وثقل ما علي كتفيك من أحمال السنين. لولاه ما كنت أستطيع الحياة... قلت لها سائلا : -هل كان دافعك إلي ما أنت عليه الآن مادي أم معنوي؟ ضحكت بعينين دامعتين ثم قالت: -يا له من سؤال كنت أنتظره منذ ست سنوات هي مدة عملي هنا! ثم استدركت قائلة : -ولكن قل لى. هل أنت محلل نفسي قد تضيف لك إجابتي شيئا عن طبائع البشر؟ قلت معتذرا: -لا وإنما أردت أنيسا يهون علي وحدة الطريق ومرارة الأيام. -أنت تحتاج إلي قلب لم يلوث بغزوات البشر. قلب لم يُهدم صرحه ليقام بدلا منه صرح مشروخ قائم علي المنافع وحب الذات وهذا شيء لن تجده لديّ للآسف. -أتظنين ذلك؟ -بل أعتقد. -لماذا؟ -خبرت الحياة وعندي ما يكفيني من خبرات للحكم عليها. -وماذا عن زيادة الخبرات؟ فتحت كيفها وهزت رأسها في شرود وقالت وهي تنظر في اللاشيء : -منذ أتيت إلي هنا وأنا أجدد العهد بيني وبين نفسي كل يوم علي دفن الماضي. -مادمت تجددين العهد فأنتي إذا مازلت تذكرين. أليس كذلك؟ لاحظت فراغ كأسي فقالت جاذبة أطراف الحديث نحو شاطئ آخر : -أتريد كأسا آخر؟ -لا بل أريدك أنتي بماضيك وحاضرك ومستقبلك. برقت عيناها في ذهول ثم قالت: -يا لك من طماع - قلت لكي أني أحتاج مؤنسا يخفف عن كاهلي وطأة الأيام -وأنا؟ -وأنتي ماذا؟ -من يخفف عني وطأة الماضي؟ بعد برهة قلت: -أراكي لازلت صامتة. والصمت ليل طويل نهايته الكلام. -حسنا... من أنا؟ سؤال لم يخطر ببالي إلا ساعة رؤية جثمان أمي محمولا على أكتاف الرجال إلي مثواه الأخير. كنتُ المدللة لأب رحيم لا أذكره قسي مرة علينا أنا وإخوتي ولأم رءوم كانت النهر الذي تصب فيه تجاربي العاطفية. كثيرا ما كانت تسألني عن آخر أخباري... كنت أقص عليها ما جري لي من أحداث ذلك اليوم فإذا بي أجدها معينا لا ينضب أبدا من الخبرات والتجارب الحياتية. كنت أري في حكمة التجارب لديها بشاشة الفجر واخضرار الزرع وصحو صباح ريفنا المشرق الجميل. كان الأمل يدب فيّ دائما. لم أعرف أبدا يائسا يزور ولا حزنا يقيم ولا دمعا يرافق وسادتي. كانت أسرتي تتكون من أمي وثلاث إخوة وأب ينهض مبكرا ليستقل حافلة العمل وكان يكفيه من الدنيا أن يري الابتسامة تعلو شفانا وكان كثير الحمد لله علي منحه هذه الأسرة الصغيرة الرافلة بالبشاشة والحب. واليوم أري أمي مودعة آخذة معها أحلي الذكريات تاركة لنا مر البقاء بعدها. كان رجال القرية ونسائها فلاحين وعمالا وربات بيوت يسيرون وراء نعشها في مشهد مهيب. عاشت فاضلة لا تؤذي أحدا .تمد يدها بالحب والسلام لكل جيرانها. تحلم علي الخاطئة وتنصف المظلومة. اليوم جاء وقت الوداع... لعل أكثر الأوقات ألما هو وقت فراق من نحب. عندها نري الواقع بغير العينين اللتين كنا نراه بها من قبل... ليل طويل عقيم يغزوه الضباب تصطدم من جراء السير فيه الأقدام بصخور صلبة حادة فتنزل الدموع مدرارا وتنزف القلوب. آن الأوان لكي آخذ ناحية من البيت الذي شهد أجمل ذكرياتي معها لأنتحب دما وأتلمس بقلب كسير أماكن الذكرى من حولي... العمر الثاني الذي يأتينا كسلوي ما بعد الفراق كلما أحوجتنا الحاجة إلي من نحب. إلى من رحل عنا وتركنا ننتظر وننظر من خلف ستائر الذكري. ثم أكملت قائلا : -هيا... فلنغادر هذا الجو المعبأ برائحة الذكريات. -هيا مازال القمر آمرا في سماءه ومازالت النجوم مطيعة لأمر سيدها القمر حين غادرنا الملهى. لاعبت أجسادنا نسائم الليل المرحة في شيء من العبث الجميل وحب الحياة. قالت لي -إلي أين نمضي؟ -لست أدري ولكن من الممكن أن نفكر سويا في الطريق فما أكثر الطرق الباحثة عن سائرين مثلنا. طرق لا تحتاج لبحث طويل لأن لها نداءا محسوسا يحسه كل واحد منا. -إذا تأتي معى. شقتى التي أسكن فيها مع ذكرياتي وأشجاني وحيدة مثلي في المقطم هل توافق؟ -ولم لا.. هيا. -هزت كتفيها ثم قالت: -كان مجرد سؤال لا غير. -هيا بنا. أوقفنا احدي سيارات الأجرة. لم يمضي من الوقت الكثير أو هكذا كان إحساسنا حتي وجدنا أنفسنا أمام تلك العمارة. كان السكون هو الشاهد الوحيد علينا ونحن نصعد سويا درج السلم إلي الطابق الثالث. وقفنا أمام شقتها إلى أن أخرجت مفتاحها. كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل بقليل وكانت الشقة غارقة في الظلام وكأنها تمد لنا يدا بصداقة أبدية. أحسست وأنا أتجاوز الباب وكأني أدخل إلى قلبها لأزيل عنه بقايا الوحدة والألم. عندما ضغطت علي أحد الأزرار شعرت أن قلبها المشحون بالوحدة والألم يمتلئ بأضواء الأنس والانبساط. أحسست بابتسامة تنقلها لي أرجاء الشقة وكان هناك ثمة إحساس متبادل بين إحساسي النابض وإحساسها الصامت الباكي. قالت لي صديقتي: -لحظة... سأعود. وقبل أن تغيب لبعض شؤونها أدارت التلفاز وأعطتني ريموته لينقل إلي تلك الأحداث المتضاربة لذلك العالم الصغير الذي وُجدنا لنعيش فيه كما يعيش فينا.. عالم الوطن الثورة. الموت. الشجب والإدانة. التربص الأفعواني للانقضاض عليه حال انشغاله بقضاياه الداخلية. مازالت تلك العبارات الرافضة لواقعها، مثلي، تصك سمعي. -يسقط يسقط حكم العسكر السلطة أطفال الشوارع دعارة الفكر الأحادي عيش... حرية... عدالة اجتماعيه إخوان سلفيه إيران أخري مخطط الإبادة السوري سقوط القذافي البحث عن الحرية قبل الهوية مذبحة بور سعيد... من المسؤول؟ عصيان مدني. تمويل أجنبي.... الإفراج عن المتهميين ؟ الاستيطان ... القدس.. وثيقة برئت؟ فتن طائفية. تقسيم... جاءت صديقتي لتأخذني من هذا العالم/الوطن حتي أنني كثيرا ما سألت نفسي.. - لماذا لا يأتي الوطن ليقاسمنا الوحدة والضياع؟ أليس وحيدا هو أيضا بعدما أطلت المصالح الفئوية برأسها البغيض؟ وأصبحت التورتة مهيأة كل التهيئة للاقتسام. الربيع/الخريف العربي. تمنيات من قلوب حاقدة بدوام التمزق والانهيار اقتسامها.. -قالت: -أراك متوحدا. قلت: - لست متوحدا وإنما وحيد رغم كثرة الوجوه التي أعرفها. - ألا يكفيك وجودي؟ قلت: -يكفينى. وأغلقت التلفاز
#عبدالله_محمد_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجدار الصعب
-
فضفضة
-
الورقة البيضاء
-
عندما تغيب شمس العقل
المزيد.....
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|