|
نجيب محفوظ وغيبوبة الوطن
أبو الحسن سلام
الحوار المتمدن-العدد: 5332 - 2016 / 11 / 3 - 09:38
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
يقظة نجيب محفوظ و " غيبوبة الوطن " - تطبيق على عرض " غيبوبة " لوليد عوني " - أ.د/ أبو الحسن سلاّم لم تعد لغة الاتصال الكلامية وسيلة فاعله في عالمنا المعاصر ، تلك هي خلاصة ما انتهى إليه رواد الكتابة الأدبية والفنية وفق الدادية والسيريالية والعبثية والمستقبلية وكتاب التحطيمية منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية . ولئن كانت هذه الموجات من التعبيرات الأدبية والفنية قد انقشعت سحبها من سماوات التعبير الأدبي والفني الأوربي أو تشتت ؛ فإنها قد تجمعت في سماوات حياتنا الفنية في عشرين سنة الماضية ، لتمطر على مسارحنا ومنتدياتنا الأدبية والفكرية حروف لغة جديدة للتعبير الفني ولتصوغ فور سقوطها في فضائنا المسرحي ما يعرف بلغة الجسد أو لغة التصوير بحركة الجسد وتعبيراته ، تأكيداً لفكرة موت المؤلف التي نقلت دماؤها نقلاً اصطناعياً من شرايين الفكر النيتشوي . الأمر الذي شهد معه عصرنا ترجيح عروض المسرح في الربع الأخير من القرن العشرين وما تلى ذلك ؛ للبعد اللغوي المرئي على البعد اللغوي المسموع وهو أمر طغى على عروض شباب المسرحيين في مصر وفي حوض البحر المتوسط وهذا معناه : ارتكاز التعبير المسرحي على عناصر ثلاثة هي : - الصمت وهو الوجه الآخر للصوت . - السكون وهو الوجه الآخر للحركة . - التحريك وهو الوجه الثالث للحركة - فالحركة والتحريك والسكون هي ثلاثة أوجه للتعبير الحركي . وتشكل هذه الثلاثية منظومة لغة الجسد في الصورة المسرحية . لكن لماذا تحول مسرح حوض البحر المتوسط عن لغة الصوت إلى لغة الجسد ؟ وما المشكلة التي ترتبت على ذلك التحول بزاوية تسعين درجة نحو الصورة المرئية بعد أن كانت روحاً نورانية تحلق بجناحين : ( أحدهما من الصوت والآخر من الحركة ) ويشكل الفكر والفرجة معاً الفضاء الدرامي لتحليق الصورة المسرحية . وهل الأنسب للتعبير عن الفكر هي لغة الصوت أم هي لغة الحركة ؟! لقد استوقفتني عبارة لفرويد يفرق فيها بين السلوك الإنساني المدني والسلوك الإنساني البدائي فهو يرى .. أن الفكر أسبق من الفعل في تعبير الإنسان المتمدين والفعل أسبق من الفكر في تعبير الإنسان البدائي . وقد كان التعبير الراقص فنياً أساساً لفنون القدماء بعد أن كان وسيلة عبادة فتحول عند الفراعنة إلى مسرحية طقسية ثم عند اليونان في المسرح إلى التعبير المسموع الذي يغلب فيه فعل الفكر على الحركة . وتظهر المفارقة في تحول التعبير المسرحي لمجتمعات دول حوض البحر المتوسط وهي المجتمعات المدنية ليصبح فعل إنسانها أسبق من فكره ؟ فما هي مصداقية رأي فرويد هنا ؟! إذا ما رأينا فعل أوروبا في البوسنة وفعل أمريكا في جوانتانامو وفي العراق وفي فلسطين ولبنان ينفي فكرها ؟! ترى ما هي أسباب تبنينا للغة الجسد وسيطرته على ساحتنا الثقافية الفكرية في المسرح وعالمنا ما يزال عالم النص وعالم الخطاب اللغوي الكلامي الذي كان وما يزال فاعلاً فينا. وإذا كانت مجتمعات عالمنا ما تزال مجتمعات شبه قبلية تختلط فيها ملامح غرائزية بدائية مع ملامح مدنية تكون فيها أفعالنا أسبق من أفكارنا وكلامنا بديلاً عن أفعالنا ؛ فما مدى صدق تعبيرنا المسرحي عن مجتمعنا بتفاعلاته التي ينسحب فيها الفكر أمام الفعل أو يتقدم فيها فعلنا على فكرنا وكلامنا على فعلنا . وما مدى صدق حاجتنا إلى مجاراة مسرح حوض البحر المتوسط في إحلال لغة الجسد أداة للتعبير المسرحي عن تفاعلات إنساننا المصري والعربي الذي بات ينفي كلامه فعله وينفي فعله كلامه في آن واحد – ربما – قبل أن تجد تلك النزعة أرضاً خصبة في عروضنا المسرحية من خلال عروض مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي على مدى ثماني عشرة دورة وتوطدت أسسها خلال عروض فرقة الرقص المسرحي بدار الأوبرا المصرية في اهتمامها بالقراءة الإبداعية الاستعادية للدور الإبداعي الذي تفاعل مع ضمير الإنسان في مصر : (نجيب محفوظ) (تحية حليم) (محمود مختار) (البياتي) في العراق و (جبران) في لبنان وتواصل رابعة مع الله في تفاعلها الروحاني التصوفي. ولسوف يركز البحث على ترجمة هذه الفرقة لسيرة أديب مصر العالمي نجيب محفوظ الإبداعية بلغة الجسد من خلال عرض مسرحي بعنوان ( غيبوبة )
غيبوبة الوطن في يقظة الإبداع *
عبرت صياغة وليد عوني الإبداعية بصدق عن يقظة (نجيب محفوظ) وعن (غيبوبة) الوطن في عرض مسرحي راقص تعيد فيه فرقة الرقص المسرحي جوهر رؤى نجيب محفوظ للوطن والمواطنة تحت مظلة الهوية وخارج حظيرة الأشباح التراثية . يبدأ العرض بحالة مخاض إبداعي لأعمال نجيب محفوظ في بؤرة ضوء أمام الستارة الأولى تبدأ حالة الولادة الإبداعية لثماني شخصيات يعيش الجمهور مع استمرار رقصة معاناة التخليق أو ولادة الشخصية الروائية حتى بعد رفع الستار وظهور المنظر في الصورة المسرحية الأساسية للعرض حيث الخلفية ذات الخمسة عشر شراعاً بيضاً والجو الضبابي في الإضاءة الثلجية الزرقاء وفي فراغات ما بين تلك الأشرعة المرتكزة على خمس عشرة آنية بداخلها مياة ، يظهر حصان على ظهره ( نجيب محفوظ المبدع في شبابه بحلته وطربوشه ) وخلفه بجوار مقدمة الحصان المزين بشراشف ذات ألوان شعبية زاهية ، تقف الأم ( مصر ) والفلوت (أم الفنون والحضارة) في وضع عزف ، تتوقف الشخصيات الرئيسية في العرض عن رقصة المعاناة بعد أن تجسدت أمامنا نماذج لشخصيات رئيسية في رواياته وهي تتقدم ببطء في صف واحد بعرض مقدمة فضاء خشبة المسرح نحو الجمهور لتتوقف قليلاً كما لو كانت تؤكد لنا استواء خلقها خلقاً إبداعياً ثم تتراجع إلى الخلف ببطء وتتجمع في تكوين هرمي يشكل نجيب محفوظ على حصان إبداعه الشعبي . قمته .. في صورة دالة على أنه فارس الرواية العربية الذي أنجز خلق شخصياته الروائية المتباينة خلقاً إبداعياً روائياً متكاملاً تكاملاً درامياً وجمالياً وهاهي تتمحور حول حصان الإبداع الذي هو فارسه في تكوين جمالي شبه هرمي يضم شخصيات منها ( الإرهابي والعمدة والفتاة السيناوية والصوفي وأنوبيس وبنت ثورة 19 وضابط مصري في 1952 وفتاة فرعونية وغازية وصحفية وفتاة من الخمسينيات وملاك وطالب ) يركز الضوء الساطع على الجانب الأيسر من التكوين ( قياساً على الصالة ) لتظهر بوضوح صورة ( نجيب ) على فرس الإبداع وصورة الصحفية أمامها ضابط 1952 الذي يضم ذراعيه أمام صدره في اتجاه يمين الفضاء المسرحي بينما تقف شخصية الفتاة السيناوية أمامه ويجلس أمامه الطالب بينما يظل بقية أعضاء التكوين في منطقة الإضاءة الزرقاء دون انفصال أحد من تلك الشخصيات عن التكوين الهرمي الرئيسي في الصورة لتتحول الموسيقى المصاحبة التي تصور طوال الوقت حالة أو فعل المتاهة الجماعية الأبدية التي توحي بأننا في مشفى أو في غرفة عمليات جراحية ، لينفرد صوت الفلوت بعزف الفنانة (إيناس عبد الله ) التي تشخص دور )مصر الأم) في زيها الأسود الفضفاض المصري الطابع والهوية والذي يتشابه مع زي بطلة فيلم ( المومياء ) لشادي عبد السلام . ومع العزف يرفع ممثل دور نجيب محفوظ يمناه لأعلى وبذلك يعطي الإذن لتلك الشخصيات لتتحرك أو لتتوزع كل منها في مكانه من الرواية التي تنتمي إليها ؛ فتتحرك الشخصيات في حركة راقصة ويبدو كل منها منفرداً مع أن الفضاء الروائي الذي يضمها واحد من حيث الأرض التي تقف عليها جميع الشخصيات ومن حيث المياة التي يمتلئ بها (ماعون) كل منها ومن حيث الهواء الذي تستنشقه وهي عناصر ثلاثة تشكلت منها تلك الشخصيات التي عجن طينتها نجيب محفوظ نفسه فصارت منتمية إلى تلك الأرض وإلى ماء النيل وإلى هواء مصر وترابها وأصبح كل منها مسلة أو شراعاً يشق عباب نهر الإبداع الروائي المصري العربي ، مما يزهي به الإبداع المصري والعربي ، ويفخر معبراً عن ذلك بتبختر حصان الإبداع الروائي تقوده بنت الخمسينيات - وهي مرحلة في إنتاجه - في دورانه المزهو بين تلك الأشرعة أو المسلات أو وسائل اتصال تلك الشخصيات أو الواقع الروائي الأرضي بسماوات الإبداع السامقة ، والفرحة تعم الفضاء ما بين موسيقى وحركة درامية راقصة يدور ما بين المقهى الشعبي والأحداث اليومية وأشكال التكافل الاجتماعي الذي يتضح من خلال تضافر جهود الطالب مع الأزهري في إنقاذ من يسقط في مظاهرات ثورة 1919 أو من خلال تشخيص حالة تبادل أدوار قيادة شعبية ووطنية أو التظاهرة الوطنية ما بين الثورة الشعبية المصرية في عام 1919 أو ما تلاها من انتفاضات شعبية ووطنية ترمز إليها بنت ثورة 1919 ثم بنت الخمسينات فكلتاها رمز لمصر في مرحلتين ثوريتين . ومن خلال التفاعل بين البعد التنويري في مصر الإسلامية مع البعد الحضاري لمصر الفرعونية ممثلاً في حمل ممثل دور العمدة لممثلة دور الفتاة الفرعونية خلال تعبير درامي راقص أو عن طريق تخطيهم جميعاً للحواجز التي جسدها الراقصون المسرحيون بالصعود كل على كرسي من الكراسي " البلدية " التي تستعمل في المقاهي الشعبية والنزول من عليها للصعود على الكراسي التالية لها في إطار دائري تتوسطه على أرضية خشبة المسرح شخصية الصحفي التي تتحاور حركياً مع الشخصيات في حركة تخطيها لتلك الحواجز وحصان الإبداع بارك على الأرض خارج الدائرة الراقصة على الكراسي وما بينها في إطار تشكيلها الدائري تتأمل تلك التفاعلات الراقصة بلغة الصراع . متناغمة مع الموسيقى ذات الإيقاعات الراقصة التي تتناغم معها إيقاعات تصفيق نغمي بالأيدي فتضفي عليها طابعاً شعبياً لتتوقف الشخصيات في الإطار الدائري خارج دائرة الكراسي رافعة ذراعيها إلى أعلى دلالة تهليل وابتهاج في حين يمسك الصحفي في وسط دائرة الكراسي " المقهوية " بكتاب يقرأ منه مع ارتفاع حاد لصوت الفلوت يرفع على إثره كل واحد من الشخصيات كرسياً يتجه به خارجاً من أحد جوانب المنظر ولا يتبقى في المنظر سوى الصحفي يقرأ من كتاب في وضعه السابق وحصان الإبداع باركاً في مكانه السابق أيضاً . وفي الخلفية من وراء الأشرعة وأمام البانوراما التي أصبحت إضاءتها أشبه بمغيب الشمس تتسلل شخصية " يد " الإرهابي على رأسه قصعة يتصاعد منا بخور ويداه ذات الأظافر الشيطانية الطويلة تحيط بها مشرعة لأعلى بينما تلاحقه الأم في حذر بعزفها على الفلوت من شمال أسفل المنظر ، كما لو كانت محاصرة حركة الإرهاب وانحسارها منوطة بالفن. تدور شخصية يد الإرهابي بالبخور بين الأشرعة بينما يتحرك الصوفي في حركة دائرية متتابعة في رقصة (مولاوية) ليصبح خلف الصحفي وتحيط يداه بكتفيه فينتشي حصان الإبداع متراقصاً على عزف (الفلوت) الذي ينفرد بفضاء الزمن في لوحة الوطن أو مشهديته. في حين تشرع الصحفية قلمها لتشيد بفن نجيب فينهض حصان إبداعه من جديد متبختراً خلف نجيب الذي يبسط أوراقه بين يديه إلى الأمام ليقرأ وبذلك يواصل حصان الإبداع التراثي مسيرته إلى جواره . تدور الصحفية حول نفسها فرحة بظفرها بلقاء صحفي مع " نجيب" يدور الصوفي حول يد الإرهابي الذي ما يزال يلف ويدور بين الأشرعة ببخوره في زيه الأسود حتى يتمكن من خفض (يد الإرهابي) نحو أسفل واضعاً (قصعة البخور) على الأرض فمتجهاً نحو نجيب مطمئناً إلى طقس البخور وفعله المخدر أو المغيب الموهم بحالة طقس الرقوة التراثي ، غير أن حصان الإبداع ينفر من خزعبلات الأثر الطقسي للبخور ويتراجع إلى الخلف فور اقترابه من يد الإرهابي الذي جلس إلى جوار البخور . يسرع نجيب خلف الحصان المتراجع المذعور ويمسك به مهدئاً من روعه الذي يشبه روع دابة استشعرت وجود روح شريرة أو رأت بحاستها السادسة شبح ملك الموت كذلك تستشعر الأم / الأمة : (مصر) الخطر فتتجه نحو يد الإرهابي وبجوارها الصوفي الذي يثنيها عن الوصول إلى يد الإرهابي ربما حرصاً عليها وكذلك يسرع نجيب الذي أفاق من ذهوله ليحول بينها وبين الاقتراب من يد الإرهابي لتتراجع إلى الخلف بعيداً عنه ففي التصوف والأدب حماية للأمة من شر الإرهاب غير أن يده تطال المبدع نجيب . وفي تكوين يجمع بين الحصان والأم ونجيب يبرك الحصان في الخلفية وتتجه شخصية يد الإرهابي وقد التقطت الكتاب الذي سقط من يد نجيب عندما فزع الحصان لرؤيته (يد الإرهابي) تتجه نحوه في الوقت الذي تتجه فيه الصحفية إلى إناء البخور كما لو كان الإعلام بات يدعو للمبدع بالنجاة وتجلس قريبة منه . وهنا يظهر الملاك الحارس لنجيب ليقف خلفه حماية له ، وتنهض الأم / الأمة ممسكة بيد الإرهابي اليسرى لتحول بينه وبين الاقتراب من نجيب الذي رفع يديه إلى أعلى مبتعداً عن يد الإرهابي غير أن يد الإرهابي تتجه نحو الصحيفة - رمز الإعلام - التي تحول بينها وبين المبدع نجيب لتقذف بها بعيداً عن طريقها إلى حصان الإبداع الذي تعافى وبدأ في التحرك من جديد . غير أن التفاف الجميع حول الحصان مع وجود الملاك الحارس يحول بين يد الإرهابي والحصان الذي تتسلم الأمة ( مصر ) قياده وتسير به بعيداً ومن ثم تعاود تسليم قياده لنجيب من جديد وهنا يبدأ التقافز رقصاً مع إيقاعات شعبية فرحة تصاحب أغنية يستعرض على إيقاعاتها كل من نجيب وحصان إبداعاته تفاعلاً إبداعياً جمالياً لا توقفه سوى زوبعة فجائية تتغير على إثرها إضاءة المنظر لتتحول إلى الزرقة ، ومعها تظهر الأم من جديد لتدثر بثوبها الأسود الفضفاض نجيب الذي ينكمش أمامها داخل ثوبها وهي تعزف على الفلوت نغماً يعيد إليه شحنة إبداعه وثقته بنفسه وتظل تقوي من عزمه لينهض للإبداع من جديد بعد أن هرب منه حصان إبداعه واختفى تماماً . ومع عودة التصفيق الإيقاعي والأغنية الشعبية الجماعية رمزاً للحفاوة الشعبية التي يستقبل به قراؤه إبداعه في كل أرجاء الوطن مما يحثه على خلق شخصيات رواياته المتعددة الذين يحيطون به ويرفعونه من على الأرض مع تغير الإضاءة ليمتزج اللون الأصفر بالأزرق بالأبيض إبداعاً متعدد الألوان مع عودة نجيب من جديد إلى قيادة الحركة الموقعة والجمالية لشخصياته الروائية ، التي تتوحد حركتها مع حركته في الفضاء المسرحي أمام خلفية الأشرعة الهوائية البيضاء التي تنعكس عليها إضاءة متدرجة من أسفل إلى أعلى من البياض إلى الزرقة التي تصبح ضبابية في النهايات العليا للأشرعة أو الأعمدة الهوائية ومع حالة التوهج الإبداعي تلك وبشكل مفاجئ تظهر شخصية (يد الإرهابي) مندفعة من أعلى وسط فضاء المنظر مخترقة الأشرعة النورانية لتصبح خلف نجيب الذي اتخذ في حركته الراقصة المتفاعلة مع شخصياته الروائية وضع الجلوس في منتصف مقدمة المنظر ودون أن يراه نجيب يستدير بحدة إلى الداخل معطياً ظهره لنجيب الذي لم يشعر بوجوده الفجائي يشير الإرهابي بيديه إلى الشخصيات الروائية لترحل فتتبخر الشخصيات ويصبح هو ونجيب منفردين وهنا فحسب يشعر به نجيب وينهض ليواجه كل منهما الآخر : المبدع يواجه الإرهابي ، فالإرهاب يواجه بالإبداع نجيب في زيه البسيط الأبيض – رمز النقاء - ، ويد الإرهابي في زيه الأسود الضيق – رمز الشر - تستبق أظافر يديه الشيطانية حركاته مشهراً إياها في اتجاه نجيب – رمز المبدعين - ، وهكذا يدور الصراع بلغة الجسد بينهما ولكل منهما لغته الحركية الخاصة والمتباينة بينما يرتفع صوت غناء شعبي أقرب إلى العديد وهو صوت أجش تتردد خلفه أصوات طفولية يخترقها صوت مزمار يخلق نغمة نشاز للغناء الفردي وترديده ويتداخل معه صوت مكبر صوت يذيع نداءً متلاحقاً لبائع في حي شعبي . وبهذا التآزر الشعبي ينتصر الإبداع . وهنا يظهر حصان الإبداع من خلف الأشرعة رمز الهواء دليل الحياة ليدخل نجيب متدثراً بجزء من طرف الغطاء الشعبي للحصان في مسيرتهما معاً إلى الداخل ، لتظل " يد الإرهابي " وحيداً في الفضاء المسرحي منتظراً عاقداً كفيه خلف ظهره الذي أعطاه للجمهور لتظهر أظافره الشيطانية الطويلة بوضوح عندها ترتفع الإضاءة الضبابية في الخلفية إلى أعلى لتظهر بديلاً عنها إضاءة سفلية خلفية باهرة مع اختفاء الحصان ويتراجع نجيب بين الأشرعة متأملاً المشهد الخلفي الباهر للضوء الذي انبعثت معه نغمات موسيقى شعبية مرحة تنطلق مع أصواتها دراجات مغطاة بغطاء نصف دائري كما لو كانت (كرافانات) أو هوادج محمولة على دراجات بديلاً عن الجمال في ماضينا العربي وقصص تراثنا الأدبي الشعبي مزخرفة برسومات نباتية وبداخل كل هودج دراجة فتاة جميلة تنزلق بالعجلة الهودج وهي بداخلها بين الأشرعة مع تراجع نجيب المهرول بعيداً عن طرق انزلاقها السريع في وضع المراقب المندهش الحائر بينها ، لتحيط به أخيراً بشكل فجائي كما لو كانت تحاصره ثم تدور دراجات الهوادج دورات متعرجة بين الأشرعة لتتوقف في شكل قوس باطنه في اتجاه الجمهور لتخرج من خلف غلالات ستائرها المخملية الوردية والبنفسجية واللازوردية والكهرمانية غيد حسان بعد أن تخرج كل منهن ذراعها البض يتراقص من بين فرجة الستارة قبل سفور صاحبتها المتبرج ونجيب يلامس بيده يد هذي ويد تلك ملامسة الترحيب الرقيق أو يطبع قبلة خاطفة من خلف الستارة على شفتي إحداهن ، إلى أن تخرج أولى الغيد الحسان المتبرجات بزيها المملوكي لتملأ الفضاء حركة راقصة لتتبعها راقصات أخريات الواحدة تلو الأخرى.
جماليات المنظر : في وقوف الدراجات الهوادج كل هودج أمام شراع من الأشرعة الهوائية المدلى كل منها على ماعون مائي تتحول الصورة إلى ما يشبه القباب التي ترتفع فوقها مسلات أو سنان رماح مشرعة إلى السماء أو هي مسلات منتصبة خلف قباب وبذلك تعطينا دلالة تزاوج الطرز الإسلامية التي ترمز إليها القباب بالطرز الفرعونية التي ترمز إليها المسلات وبذلك نخلص إلى المعنى التام لهذه الصورة التشكيلية الدرامية التي تفسر فن نجيب محفوظ وإبداعه الذي امتزجت فيه الروح الفرعونية بالروح الإسلامية فجذور شخصياته تمتد في أرض الثقافة الفرعونية بحضاراتها العريقة وجذوعها تتجسد على سطح الواقع الحضاري الإسلامي والعربي . وبذلك تجسد الصورة بمكوناتها ما سبق أن أعلنه محفوظ نفسه في حديث إعلامي معه ذات مرة من أنه سليل حضارتين الفرعونية والإسلامية . وبذلك يمكننا القول إن وليد عوني حقق بهذه الصورة المابعد الحداثية حالة التواصل في إبداع نجيب محفوظ ما بين إشراقات ثقافته التراثية الفرعونية والإسلامية فكان إبداعه إبداعاً حداثياً متوالد الصور ، نابذاً للمصكوكات الفكرية دون أن ينفي تأثيرات الماضي بكل تداخلاتها ، وتعارضاتها ، بل يستلهم منها ما استطاع استلهامه من التماعات يمكن أن تسهم في إضاءة حاضر أمته في غيبوبتها التي أدت إلى غيبوبة نجيب بعد أن نالته يد الإرهابي . ولئن اكتفى وليد عوني بذلك فهذا دور رئيسي لا يقدر عليه غير مبدع تسلح بفكر تنويري وليتنا ظفرنا بعشرة مبدعين تنويريين في عصرنا وطليعة جمهور مسرحي يعيش هم حاضر الأمة .
لغة الصورة المسرحية بين الوحدة والتنويع : من المدهش حقاً أن تتنوع لغة الجسد وتتشكل ما بين الجمل الحركية للرقص التعبيري والجمل الحركية للرقص الكلاسيكي والجمل الحركية الرقص الشعبي وللرقص الطقسي والجمل الحركية للرقص الدرامي دون أن يشعر المتفرج بانفصال بين لوحة درامية راقصة وأخرى فرقصة الحصان تتداخل في اللوحة مع الرقصة التعبيرية ورقصة البخور الطقسية مع رقصة الصوفي لا تشذ عن عناصر الصورة التي تجسدها حركة رقصة ذات خط كلاسيكي ، كما أن الحركات الموسيقية ومقاطع الغناء الشعبي مع نداءات الباعة خلال مكبرات الصوت تنساب في فضاءات الزمن المسرحي متوحدة مع الحركة على تنوعها ويلتحق صوت بوق القطار ( الديزل) الآتي من الفضاء البعيد متتابعاً في تقطع يتصاعد بما يدل على اقتراب القطار بصوت هدير آلاته وعجلاته ، متداخلاً مع الموسيقى المرحة الشعبية الراقصة في توحد مع رقصات الغيد المملوكيات الحسان اللواتي ينتهين من رقصتهن الشعبية حيث وقف نجيب في خلفية الصورة يرقبهن مستمتعاً وهن ينسحبن كانسحاب نسائم خريفية في رحاب غابة متمايلة الأشجار . حتى تدخل كل منهن هودجها المحمول على دراجة وينصرفن وكل منهن تعمل قدميها في تسيير هودجها الدراجة ، ينبطح نجيب أرضاً على أثر هدير صوت بوق القطار القادم من بعيد، وهو ما يشخص فعل ضوضاء المدنية ، ومدى تأثيرها على الإبداع وعملية الخلق الفني بما يؤكد عملية الإزاحة والإحلال فالدراجة الهودج أزاحت الصورة التراثية للجمل الهودج والقطار أزاح الدراجة دلالة على أن التحديث يعمل على إزاحة الأدوات والوسائل وإحلال بديل عنها أكثر عصرية وأكثر راحة وأسرع في قضاء المصالح ومع تغير الوسائل من القديم والتراثي إلى الجديد العصري تتغير ثقافتنا وأذواقنا وأحاسيسنا أو حساسيتنا نحو الحياة المشتركة كما تتغير اللغة على نحو ما رأينا من الكلام إلى الصور ويتغير التلقي من الاستماع إلى الرؤية ومن التلقين إلى التفاعل الحواري وثقافة قبول الآخر. وقبل انتهاء العرض بتمكن الملاك الحارس من يد الإرهابي وخلع أظافره ظفراً وراء الآخر يعطينا عرض مسرحية ( غيبوبة ) في لغتها الراقصة بديلاً عن لغة الحوار بالكلمات يعطينا دلالة إصلاحية ، إذ أن الخلل الاجتماعي ومظاهر تطرفه الإرهابي يشذب - ليس إلاّ - وهذا أسلوب ترقيع سياسي - وليت المجتمع المدني المادي نفسه هو الذي قلم أظافر الإرهاب ولكن الذي يفعل ذلك نيابة عن المجتمع هو الغيب ( الملاك الحارس) فالحل فردي من ناحية وتلفيقي من ناحية ثانية وغيبي من ناحية ثالثة . أليست تلك غيبوبة يعيشها مجتمعنا المصري ففي عصر انحسار خطاب الصوت وتسلل خطاب الصورة مازلنا ننتظر المخلص الملائكي (الغيبي) ليخلصنا من النموذج الإرهابي الذي صنعناه في عيبوبتنا القومية ونظرية الخلاص على يد المستبد العادل أو المستبد الملاك الهابط علينا من سماوات التراث الديني .
#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسئلة مسرحية تبحث عن أجوبة
-
المسرح وقضايا المجتمع
-
سينوغرافيا في عروض المسرح المصري - مناقشة رسالة علمية -
-
جماليات الساكن والمتحرك في معرض منحوتات درامية
-
مشروع إخراج نص مسرحي - مس جوليا-
-
في منهجية مناقشة الرسائل العلمية في البحوث السينمائية
-
معمار الدور المسرحي
-
خطاب التسلط بين السياسة والمسرح
-
دعونا نحتسب !!
-
حيرة الممثل وتعدد مناهج أداء المونودراما التعاقبية
-
على هامش الإبداع
-
مقاربات في نقد عرض مسرحي
-
مباهج الحكي التراثي ودراما اللاشكل - مسرح عز الدين المدني -
-
الفاعل الفلسفي في الدراسات المسرحية
-
سارتر وقضية الالتزام
-
الإيقاع وروح الشعر
-
الديالوج في دراما الصورة الغنائية بين الغناء والقوالة – عبد
...
-
الخطايا السبع للبرجوازي الصغير
-
- تجديد ذكرى علم من أعلام العلم والأدب
-
توفيق الحكيم وبهرام بيضاني في محكمة العدل
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
-
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|