|
الجزء الأول من الرواية: هاء 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5329 - 2016 / 10 / 31 - 03:13
المحور:
الادب والفن
" سفيتا "، لم تكن عاهرة على قارعة الطريق. لقد ألتقيتها وهيَ تعمل في مخزنٍ تجاريّ، محاطة بأجانب من ذوي البشرة القاتمة، وكلهم كان يلهثُ مُتشمماً كالكلب كفلها الفاتن. على ذلك، ربما يبدو مفهوماً أن أعمد إلى حيلة مألوفة للتعرّف عليها: أبديتُ لها إعجابي بجسدها، من منظور فنان يرغبُ برسمها كموديل. هذه الحيلة، سبقَ لي تجربتها بنجاح مع أخريات؛ سواء كنّ زميلات دراسة أجنبيات، أو من الروسيات اللواتي كنتُ أقابلهن في أماكن مختلفة. وكما سلفَ القول، فإن عيني لم ترَ قط مثل جمال " سفيتا ". كانت حقاً إسماً على مسمّى ( سفيتا بالروسية يعني النور )، بحَسَب التعبير العربيّ. إلا أنّ حيلة الموديل، كانت عبثاً في واقع الحال. قالت لي ببساطة، لما قابلتها خارج المخزن التجاريّ المقفل للتوّ: " ستدفع عشرة آلاف روبل لشقيقتي، قبل أن نتحرك من هنا! ". ثم أضافت عن ثغر باسم، مرصّع بأسنان ناصعة كالفضة: " لِمَ تنظر إليّ باستغراب؟ هذا المبلغ، يُعادل راتبي الشهريّ ". وكنتُ أتأملها عندئذٍ، فيما فكرةٌ تخترق رأسي كرصاصة مسدس: بجملة وحيدة، لخّصت فتاة بائسة وضعَ روسيا أفضل مما فعلته عشرات المجلدات الماركسية، التي كنتُ قد قرأتها قبلاً. شقيقتها الصغيرة، وكانت تبدو على عتبة عُمر المراهقة، كان من المفترض أن تأخذ المبلغ في الشقة ثم تتركنا لوحدنا. إلا أنّ " سفيتا "، ولسببٍ ما، سألتني ثمة ما إذا كان من الممكن أن تمكث شقيقتها معها. سحنتي الكئيبة، المُضفى عليها لحية حزينة غير مشذّبة، ربما كان لها شأنٌ مع خشية الفتاة من البقاء لوحدها في الشقة. على أنّ الصغيرة شاركتنا العشاء، وكان عبارة عن فروج مشوي بالفرن مع سلَطَة ومخلل الثوم القفقاسيّ، ثمّ ما لبثتْ أن أنزوت في مجلسها أمام جهاز التلفاز لما بدأتُ بالشرب مع شقيقتها. وكنتُ قد أشتريتُ زجاجة ليكيور الكرز، بما أنّ الروسيات نادراً ما يتعاطينَ الفودكا. على الأثر، أرادت " سفيتا " أخذَ مغطسٍ في الحمّام. فلما أبديتُ رغبتي بمرافقتها، فإنها ردّت بكونها لا ترتاح إلا بالتحمم لوحدها. تساءلتُ إذاك بخفّة: " أنتِ تتصرفين وكما لو أنها المرة الأولى، التي تستعملين فيها حمّامَ رجلٍ غريب؟ " " بل هيَ المرة الألف..! "، أجابتني بجفاء فيما كانت تدير ظهرها لتتوجّه إلى تلك الناحية. لما بقيتُ مع الشقيقة الصغيرة، رغبتُ بالدردشة معها. عرفتُ أنّ اسمها " ناستيا "، وأنها تدرس نهاراً في الإعدادية ثمّ تذهب مباشرةً بعد إنتهاء الدوام إلى المخزن التجاريّ: " مع أنّ الصغير فيودور بحاجة إليّ، نظراً لمرض والدتنا.. " " فيودور، هوَ شقيقكِ الوحيد؟ " " ليسَ لديّ أشقاء سوى سفيتا، وفيودور هو أبنها "، قالتها متبسّمة كطفلٍ يُصحح معلومة بديهية لأحد الكبار. ثم أردفت بنفس التعبير الطفوليّ، قبل أن أفيق من دهشتي: " الولد أيضاً صحته عليلة، ولكنّ طليق أختي لا يعبأ بأمره أبداً ". على غرّة، ندهت عليها شقيقتها من الحمّام، طالبةً منها جلبَ فوطة نظيفة. ثمّ ظهرت بعدئذٍ " سفيتا " بشعرها الذهبيّ الرطب، مطوَّقة الجسد بالفوطة فيما كتفاها العاريان يلتمعان ببريق مثير. لا شكّ أنّ الحمّام أنعشها، فجعلَ عينيها المقدودتين من لازورد تنطقان بالطيبة والإلفة. قالت لي وهيَ تمتطي ركبتيّ وتغمرني بالقبلات: " هل أغضبتكَ، أيها العجوز، لأنني تحممتُ لوحدي؟ ". أنطلقت ضحكة الطفلة الكبيرة، وكنتُ في الأثناء أطوّق بيديّ مؤخرة رفيقتي، العارية. هنا، تناهضت " سفيتا " نحوَ الأخت وكأنما تذكّرت شيئاً ملحّاً. همست في أذنها بكلمتين، وما عتمت أن قادتني إلى حجرة النوم. بعدَ نحو ساعتين، خرجت " سفيتا " من الحجرة ملتفة بالفوطة من وسطها فيما الدموع ما تفتأ تملأ عينيها. حاولتُ مداراتها، ثمة في حجرة الصالون المُعتمة، إلا انها نحّت يدي مرددةً بصوتٍ منكسر: " لم يكن لك حق أن تفعل ذلك بي.. لم يكن لك حق أبداً ". ثمّ طلبت من شقيقتها النهوضَ، وكانت هذه متمددة على الأريكة الكبيرة مشمولة بغطاء صوفيّ خفيف. " ساعتي الذهبية..! لقد كانت موجودة هنا؟ "، صرختُ مروَّعاً فيما كنتُ أواصل النبشَ في الحقيبة الكبيرة. قبلَ وهلة، أردتُ مراضاة الفتاة المجروحة الكرامة بأن أهديها إحدى قطع الملابس النسائية الحريرية، التي جاء بها أحد معارف شريك حجرتي ممن يُعرفون في السوق الموسكوفية ب " تجّار الشنطة ". ساعة ذهبية، كانت " سوسن خانم " قد أهدتني إياها في مراكش، دأبِتْ على الركون في إحدى جيوب الحقيبة تلك. نظراتي المُتّهِمة، المُسدَدة نحوَ الفتاة الصغيرة، جعلتها تنفجر ببكاء شديد. " سفيتا "، كانت منتحية إلى جانب وقد كست سحنتها بتعبير غريب، غامض، أبعد من الحزن والغضب. أطرقتُ برأسي، متكوّماً على نفسي كمن يعاني من ألم في المعدة. ولكن حيرتي لم تدم أكثر من دقيقة واحدة: أُمِرَت الصغيرةُ من لَدُن شقيقتها بالتجرّد عاريةً تماماً، مثلما أنّ حقيبة يد الأولى تمّ نثر محتوياتها أرضاً. همست " سفيتا " على الأثر بصوتٍ مخنوق من الإنفعال: " كما ترى، فنحن فقراء ولكننا لسنا لصوصاً. فهل في وسعنا الذهاب، أم أنك تفكّر بإجراء آخر؟ " " أنا لم أتخذ أيَّ إجراء، مثلما أنني لم أنطق بكلمة إتهام لأحد "، قلتها مع ابتسامة مرتعشة لا بدّ أنها كانت جدّ بشعة. بيْدَ أنّ فكري كان مشغولاً بالفعل في معميات الحدث. كانت صورة شريكي في الشقة مرتسمة أمامي؛ هوَ مَن كان آنذاك غارقاً في الديون، ومَن كان أمله الوحيد معلقاً بصفقة أسمنت رافقَ شحنها مؤخراً إلى تركيا. رحتُ أرتشف الفودكا قدحاً وراء الآخر، في وقتٍ كانت فيه " سفيتا " تسفحُ دموعَ القهر والمهانة. عند باب الشقة، أمسكتُ بكتفها في حركة إعتذار، إلا أنها أبعدت يدي كما في المرة الأولى: لقد جرحتُ كرامة " سفيتا " مرتين خلال دقائق قليلة بسكين استهتاري وغبائي، جرحتها عميقاً بحيث أنّ أوراقي البيضاء هذه ما تفتأ مبللة بتلك الدموع المهراقة، المعتقة ـ كنبيذٍ أحمر، كدم ثأر. ولكن الحكاية لم تنته عند هذا الحدّ، بطبيعة الحال. فبمحض الصدفة، تلقيتُ إتصالاً على جهاز هاتف المنزل بعد أيام قليلة من تلك الواقعة. المتصل، كان قريباً لأحد رؤوس المافيا الجورجية، النشطة في موسكو. كان كردياً إيزيدياً، متخرجاً مع شريك شقتي من ذات المعهد. ولأنني تعرفتُ عليه حينَ كان بضيافة هذا الأخير، فلم يلبث أن بدأ يشكوه لي: " ديونه أضحت ثقيلة، حتى كاد يخسر أكثر أصدقائه. ولقد أنتهى به الأمر لرهن أشيائه الشخصية.. ". قطعتُ ثرثرة الرجل، لكي أسأله: " هل نمّ إليك بشكل ما، أنه رهن ساعة ذهبية عند أحدهم؟ ". فأجابني بنبرة متهكّمة: " ذهبية؟ إنها ساعة عادية، ولكنها ملبّسة بطبقة رقيقة من الذهب، وقد وضعها عندي كرهن لدينه البالغ ثلاثة آلاف دولار فيما هيَ لا تساوي عُشر هذا المبلغ! ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجزء الأول من الرواية: هاء 2
-
الجزء الأول من الرواية: هاء
-
الجزء الأول من الرواية: دال 3
-
الجزء الأول من الرواية: دال 2
-
الجزء الأول من الرواية: دال
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 3
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 2
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 1
-
الجزء الأول من الرواية: ب / 3
-
الجزء الأول من الرواية: ب / 2
-
الجزء الأول من الرواية: ب / 1
-
الجزء الأول من الرواية: أ / 3
-
الجزء الأول من الرواية: أ / 2
-
الجزء الأول من الرواية: أ / 1
-
الفردوسُ الخلفيّ: تقديم 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: تقديم 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: تقديم 1
-
غرناطة الثانية
-
الرواية: ملحق
-
خاتمة بقلم المحقق: 6
المزيد.....
-
“بداية الفتح” مسلسل صلاح الدين الأيوبي الحلقة 38 مترجمة بالع
...
-
“صدمة جديدة للمشاهدين” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 176 مترجمة
...
-
“كشف حقيقة ليلى وإصابة نور” مسلسل ليلى الحلقة 15 Leyla مترجم
...
-
-الذراري الحمر- يتوج بالتانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية
...
-
بليك ليفلي تتهم زميلها في فيلم -It Ends With Us- بالتحرش وال
...
-
“الأحداث تشتعل” مسلسل حب بلا حدود الحلقة 47 مترجمة بالعربية
...
-
في ذكرى رحيله الستين.. -إيسيسكو- تحتفي بالمفكر المصري عباس ا
...
-
فنان أمريكي يتهم الولايات المتحدة وإسرائيل بتنفيذ إبادة جماع
...
-
-الناقد الأكثر عدوانية للإسلام في التاريخ-.. من هو السعودي ا
...
-
الفنان جمال سليمان يوجه دعوة للسوريين ويعلق على أنباء نيته ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|