مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 5328 - 2016 / 10 / 30 - 13:06
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
مع تعرفي على أوساط الناشطين بعد اندلاع الربيع العربي كان ما أثار استغرابي هو درجة اندماجهم الكبيرة نسبيا في المؤسسات الثقافية و الأدبية و الفنية السلطوية , التي يعارضونها و التي أصبحوا جزءا مهما من الثورة عليها فيما بعد .. لدرجة أني كنت أحس أحيانا أني أمام "كاتيغوري" ( نمط ) جديد من الأخصائيين المحترفين , العاملين في سوق جديدة , حيث كلمات و شعارات حقوق الإنسان هي السلعة التي يتم ترويجها , كجزء جديد أو مكون جديد أو عرض جديد من المشهد , كما تحدث عنه غي ديبورد , ذا صفات و وظيفة مشهدية بامتياز لا تتجاوز عملية خلق صورة جديدة تختزل الواقع و تشوهه لتعزله مرة أخرى عن الناس و تبقيهم في حالة خضوع سلبي .. بالتأكيد كان طبيعيا أن تحاول تلك المؤسسات السلطوية أن "تستقطب" ( تستدرج ) أولئك الناشطين كجزء من سياسة استقطاب النخب التي اتبعتها الأنظمة العربية عموما .. حتى "الغاضبين" وجدوا مكانا لهم داخل البيروقراطية الهائلة , الصحافية و الأدبية و الفنية , الخ , أو على هامشها .. حتى "الناشطين الحقوقيين" كانوا عادة يملكون حصانة أكبر بكثير من الناس العاديين الذين "يدافعون" عنهم و عن حقوقهم .. و يصح ذلك نسبيا أيضا على "المعارضين" .. إذا استثنينا أيمن نور مثلا في مصر , الذي عوقب بشدة لأنه تجاوز أحد أهم الخطوط الحمر في الحياة السياسية : منافسة الفرعون نفسه , كان تحمل وجود المعارضين قد بلغ مستويات أكبر من أي وقت سابق , كجزء من محاولات تدجين النخبة و المجتمع .. في سوريا كان السلفيون الجهاديون , كالعادة , يحظون بالمعاملة الأسوأ , بينما عومل "ناشطو" إعلان دمشق و إعلان دمشق بيروت بليونة غير مسبوقة من النظام الأمني السوري الذي اختار هذه المرة ساحات المحاكم الرسمية "لمعاقبة" خصومه بدلا من الاعتقالات التعسفية طويلة الأمد التي كانت القاعدة في حكم الأسد الأب .. كانت محاولات تجميل الأنظمة ضرورية , لأن قبحها قد بلغ مستويات غير مسبوقة .. كان ذلك القبح يتبدى في مكان آخر تماما : شهد وضع الناس العاديين بالمقابل تدهورا كبيرا , لدرجة أصبح معها العنف اليومي في الشارع وسيلة بقاء للكثيرين , سواء بين الفقراء أنفسهم أو ضد الشرطة الخ , و جرى عمليا تعهيد أو توكيل , أو خصخصة , قسم من مهمة ضبط هؤلاء للشبيحة أو البلطجية , الأعداء المفترضين لأجهزة الأمن النظامية .. من المثير للدهشة , أكثر من الفخر أو اي شعور آخر , أن نجد بين الفنانين و الأدباء و الصحفيين و غيرهم من مثقفي المؤسسات الرسمية من وقف إلى جانب الثورات الشعبية .. يفترض أن مصالح هؤلاء مرتبطة بقوة بمصالح النخب الحاكمة .. لكن المعارضة لم تعد تعني اليوم بالضرورة التعرض للقمع أو حتى حياة مادية سيئة الخ .. صحيح أن هذا يفترض أن يكون تطورا أو وضعا طبيعيا , أن يكون بإمكان أي إنسان أن ينتقد أو يعارض دون أن يتعرض للقمع و الملاحقة , أن هذا جزءا ليس من ممارسة الحرية نفسها بل أحد مقدماتها الضرورية جدا , لكن هذا لم يسر أبدا على الناس العاديين , الذين خضعوا عادة لقمع أشد و أكثر استهتارا و دموية .. في سوريا كان النظام يلجأ لأساليب شديدة القسوة و الهمجية ضد العشوائيات و الأرياف بينما استخدم أساليب قمع أقل همجية في المدن الكبرى , خاصة دمشق و حلب , و حتى في حماة .. أما ظاهرة انشقاق موظفي المؤسسات الدولتية و "انضمامهم" إلى الثورة , و حتى أصدقاء أو أزلام النظام السابقين , فقد بلغت في سوريا مستويات كوميدية جدا بعد الثورة , كانت ظاهرة الانشقاق عن النظام و حتى عن أجهزته الأمنية كبيرة لدرجة أن من يتحدث اليوم باسم السوريين المطالبين بالحرية هم في أغلبهم موظفون سابقون , رفيعو المستوى غالبا , في بيروقراطية النظام .. من الممكن اليوم أن تصرخ و تزعق على الفضائيات باسم السوريين الذين يموتون دون أي معنى اليوم بينما كنت تخدم النظام لعقود و تحيا على الفتات الذي يبقى من نهبه للسوريين , أو حتى أن تكون جزءا من القمع و التغول الأمني الذي لم تعرف سوريا غيره على مدى عقود .. يجب أن نعترف أن العالم قد تغير , أصبح الناشطون يتمتعون بحقوق و هامش حركة لم يكن متاحا في السابق , و أصبح التضامن معهم مسموعا حتى على التلفزيونات الرسمية و الصحف الصفراء أحيانا , و الأهم من ذلك أنه كان دائما بإمكانهم تدبر أمورهم و العيش أفضل , بكثير في بعض الأحيان , من مستوى حياة الناس العاديين .. هذا تماما على عكس حالة الناس العاديين , الذين تراجع مستوى ما هو ممكن و متاح أمامهم , مع تدهور مستوى معيشتهم .. لا تتوقف الأمور هنا , إن الفارق بين حياة الناس العاديين و الناشطين كبير جدا في أمور أخرى أيضا .. مثلا يسود جو عام من التحرر الأخلاقي و حتى الجنسي في أوساط الناشطين , على عكس التزمت المتزايد في الشارع .. إن مستوى الكبت الجنسي بين الناس العاديين قد ازداد عمليا في العشوائيات و الأرياف مع تقدم المد السلفي و مع تراجع مستوى معيشة الناس العاديين و قدرتهم على الزواج أو المصادقة أو شراء الجنس كسلعة .. كان من الواضح أن الثورات الشعبية مثلت انفجارا هائلا على مستوى الشارع أولا , الناس العاديون هم من جعل هذه الثورات ممكنة , قد يكون صحيحا أن الناشطين لعبوا دور الحفاز , لكن الحراك الفعلي الذي أسقط أو هدد الأنظمة جاء من الشارع .. و ربما من الصحيح أيضا أن أهداف الناشطين من هذا الحراك كانت تتعلق أولا بتحقيق انفتاح سياسي يسمح لهم بلعب دور أكبر في الحياة السياسية و الفكرية للبلاد , لكن الشارع فهم تلك الأهداف و البروباغندا "الديمقراطية" التي رافقتها على طريقته : فهمها على أنها تمثل حرية حقيقية له هو , و في الحالات التي تمكن فيها من تجاوز تأثير إعلام الأنظمة الأصفر , رأى هؤلاء الناشطين على أنهم طليعة حقيقية لتحقيق تلك الحرية , التي افترض أيضا أنها ستعني أيضا القضاء على الفساد و المحسوبية و تغول بيروقراطية الدولة و الشرطة الخ و بالتالي ستفتح أمامه مجالات حقيقية لحياة كريمة .. لم يفهم أن الناشطين كانوا يعنون أساسا حرية أكبر لهم في الصعود السياسي و عدالة أكبر داخل البيروقراطية الدولتية .. لهذا يتساهل الكثيرون , من الناشطين أنفسهم , في أمور الفساد التي تخصهم , في فساد الإن جي أووز , و المؤسسات المعارضة المختلفة , و يحصرون انتقاداتهم ضد قمع الناس و ازدرائهم و تهميشهم فقط إذا جاء من خصومهم .. في مواجهة مشاريع إصلاح الأنظمة أو إعادة تأهيلها أو بناء أنظمة بديلة و نخب حاكمة جديدة الخ كان الرهان الوحيد الممكن هو على أن تتمكن الجماهير من أن تفكر و تتصرف بشكل مستقل .. أن تكون الثورات مدرسة كبيرة و حقيقية لهذه الجماهير لتبدأ بالتنظم الذاتي و الوعي بذاتها أكثر .. لم يتفق لا اليمين و لا اليسار , لا العلمانيون و لا الإسلاميون , على شيء مثلما اتفقوا على نفي أية إمكانية للتنظيم الذاتي للجماهير , على نفي هذا الشرط الوحيد لحرية حقيقية للناس العاديين , أي : على نفي إمكانية أن تعيش الجماهير بحرية حقيقية , أن تكون سيدة نفسها .. أخيرا إن إحجام الناس المؤقت عن النزول إلى الميادين يعود جزئيا بلا شك إلى انتصار أفكار الثورة المضادة في الشارع و إغراق الشارع في دوامة مشاكله الخاصة أو في صراعات الكبار على إخضاعه الخ , لكن أيضا إلى تشوش فكرة الثورة نفسها عند الناس العاديين .. الصراع الحقيقي اليوم هو على هذه الفكرة , خاصة على إمكانية و حق الجماهير في إدارة شؤونها بنفسها , القضية التي يتحول الكثيرون أو معظم الناس , حتى من الناشطين , أمامها إلى أشخاص أسوأ من بيسمارك و ستالين .. و ربما يكون هناك جزء متمم لهذا الصراع , هو محاولة خلق مؤسسات بديلة بالفعل , خارج لعبة المشهد , تعاونيات مستقلة مسيرة ذاتيا و ديمقراطيا للإبداع و الخلق , كومونات صغير للإبداع , تحول محاولات الخلق الإبداعية من مادة "لعلوم" المبيعات و التسويق النيوليبرالية إلى اختراق حقيقي لكل التابوهات و المحرمات و حدود المتاح و المقبول أمنيا و دينيا و أخلاقيا الخ الخ , أي إلى نقد حقيقي للمشهد السائد و لكل ما ينتج و يعيد إنتاج الخضوع و السمع و الطاعة و السلبية عند البشر , خاصة عند الناس العاديين , و تحرر المبدعين و الفنانين و الأدباء من هيمنة رأس المال المتمثل في الإعلام الغربي و البترو خليجي و دور النشر التي يحفزها الربح الخ الخ
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟