|
استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية: الشاعر عواد ناصر: أنا مغترب، ومنفي، ومقتلع، ومهجَّر لكني ابن العالم 11-15
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1416 - 2005 / 12 / 31 - 10:26
المحور:
مقابلات و حوارات
لم يشهد الوسط الثقافي العراقي على مر السنين هجرات جماعية، ونفياً قسرياً للأدباء والفنانين والمفكرين، كما حدث للمثقفين العراقيين خلال حقبة الحكم الدكتاتوري البائد الذي جثم على صدور العراقيين طوال خمس وثلاثين عاماً، مسَّ فيها الضر كل العراقيين الذين لم ينسجموا مع سلطة البعث القمعية، ولم يتماهوا مع نظامها الفاشستي، والذي حاول بالترغيب والترهيب أن يروّض الذاكرة الجمعية للناس ويدمجها في مشروعه القمعي القائم على مُصادرة " المُعارِض "، وتهميش " المُختلِف " وإقصاء " الكائن غير المُدَجّن " والعصي على الذوبان والانصهار في الفكر الاستعلائي " الشوفيني " الذي كان يراهن على خلخلة الثوابت الأخلاقية، والإجهاز عليها، ومحوها من الوجود، ليؤسس لتقاليد " قومية " عدوانية، متعصبة، ضيقة الأفق، لا تقبل بالتنوع، ولا تستسيغ الاختلاف، الأمر الذي أفضى إلى شيوع ظواهر قمعية متعددة في آنٍ معاً، منها النفي، والاقتلاع القسري، والتهجير العرقي وما إلى ذلك. ولم تقتصر الهجرة أو اللجوء على المثقفين العراقيين حسب، وإنما امتدت لتشمل قرابة أربعة ملايين مواطن عراقي لم يستطيعوا " التكيّف " مع أطروحات النظام الشمولي الذي سرق الوطن في رابعة النهار، وزجّ العراق في سلسلة من الحروب العبثية، وأثث الفواصل الزمنية بين حرب وأخرى، بالمقابر الجماعية، والاغتيالات، والتصفيات الجسدية، فلم يكن أمام المثقفين العراقيين سوى الهجرة واللجوء إلى المنافي الأوروبية والأمريكية والكندية والأسترالية. إن نظرة عجلى إلى ضحايا الأنظمة النازية والفاشية والشمولية تكشف لنا عدداً قليلاً من الكتاب والأدباء المنفيين الذين اضطروا لمغادرة أوطانهم أمثال برتولد بريشت، وتوماس مان، وهاينرش مان، وأينشتاين، وأنا سيغرز الذين فروا من نازية هتلر، ورافائييل ألبرتي، وبابلو بيكاسو، وفرناندو أربال الذين هربوا من فاشية فرانكو، وسولجنستين، ونابكوف الذين تملصوا من النظام الشيوعي الشمولي، وهناك أسماء أُخر لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة غادروا أوطانهم بسبب القمع والمصادرة الفكرية أمثال الصيني غاو سينغ جيان، والتشيكي ميلان كونديرا وسواهما. أما المثقفون العراقيون من قصاصين وروائيين وشعراء وفنانين ومفكرين وإعلاميين فقد بلغ عددهم بضعة آلاف غادروا العراق مضطرين إلى المنافي البعيدة تحت مسميات عديدة من بينها، لاجئٌ، و مُهاجِرٌ، ومهجَّرٌ،، ومُغتربٌ، ومنفيٌّ، وهاربٌ. وللوقوف عند هذه الظاهرة ارتأت " الصباح الجديد " أن تقوم باستفتاء عدد من الكتاب والأدباء العراقيين الذين يعيشون في مختلف المنافي العالمية لاستجلاء أبعاد تجاربهم الأدبية، وما تمخض عن التلاقح بين الثقافة العراقية والثقافات الأخر الآوية للمثقفين العراقيين. *أتصنِّف نفسك أديباً مُهاجِراً، أم مُهجَّراً، أم مُغترباً، أم منفيّاً، أم لاجئاً، وهل أن ما تُنجزهُ من نصوص إبداعية، مُستوحىً من الوطن أو" عش الطفولة، ومستودع الذكريات " بحسب غاستون باشلار، أم ناتج عن المخيّال الإبداعي للمكان الجديد بوصفة مَهجراً، أو مُغترَباً، أو منفىً لا يعتمد على صياغة المفهوم القائل " هذه بضاعتكم رُدّت إليكم "؟ وكيف تتعاطى مع مخزون ذاكرتك الفردية الماضوية " القبْلية " المُهددة بالتلاشي والانطمار نتيجة لتراكم الذاكرة البعْدية التي تتأسس في المنافي أو المُغترّبات الجديدة؟ - بدءاً أشكرك على هذه اللفتة الوفية والذكية وأنت تبحث معنا معنى تلك الثنائية الأبدية: الوطن والمنفى وما يترتب عليها من معوقات أو منطلقات ذهنية تعبيرية قدر ما يخص الأمر روح الشاعر/ الكاتب/ الفنان. لكم يرن في ذاكرتي وصف الكاتب البريطاني جون بيرجر بأن القرن العشرين هو قرن المنفى بامتياز. إنه قرن التحولات الكبرى في العالم حيث شهد أعنف حروبه العالمية والمحلية وأجمل حركاته الفكرية والفنية والفلسفية، وتجليات الروح البشرية وهي تبحث بدأب وذكاء ومرارة عن مأوى يليق بها حتى لو كان غرفة سيئة الإضاءة. لا أعني بالمأوى المكان المؤطر بأربعة جدران، بل أعني تلك المساحة المفتوحة داخل العقل البشري وخارجه، القادرة على استيعاب تجليات الفكرة الإنسانية وأحلام البشر الصغيرة في تحقيق ذواتهم تعبيرياً وجمالياً، وهذا ما أعتقده أحد أهم مقاصد الفن. عندما بحث باشلار ظاهراتياً في اصل المكان وتنوعاته كان مشوبا بحنين لا يوصف إلى المكان الأول وأولاه مزيداً من الفحص وتوقف عند مغزاه فلسفياً، ولكني لا أرى في المكان الأول غير مرجع عاطفي أستعيده لموازنة لحظة في غاية الخصوصية لا تعني سواي. تتشكل ذاكرتي من مجموعة أمكنة وأزمنة متفاعلة ومركبة وليس من العدل أن نقصر حناننا على مكاننا الأول حسب، إن هي تداخلات منها ما هو معطى سلفا ومنها ما هو مأخوذ قصدا... وإذ تتنوع أسباب ودوافع الهجرة والنفي من شخص" مجموعة أشخاص" إلى آخر" آخرين " لكن ما يكتسب شكله ومحتواه، كظاهرة، هو المنفى السياسي. إن حشدا من المثقفين العراقيين الذين ضاق بهم وطنهم وضاقوا به اختاروا(!)نهاية السبعينات المنفى طلباً للنجاة بأرواحهم من ممرات النار التي وضعهم فيها النظام السياسي القائم آنذاك. تحديدا نظام صدام حسين، وقد دشن هؤلاء أول هجرة جماعية في تاريخ العراق الحديث الذي لم يشهد هجرات مماثلة، ونعرف أن التقاليد الشعبية العراقية تستغرب وجه الوافد الجديد حتى للمحلة المجاورة! إن منفى كهذا، تكون السياسة لحمته وسداه لهو منفى نوعي يفترض بأن منفييه أصحاب قضية نبيلة تترفع عن متطلبات الحياة اليومية الصغيرة، ومن ناحيتي حاولت في منفاي أن أبرر هذا المنفى بجهد شخصي هو ما أحاوله بالكتابة، حتى أن المقالة السياسية أخذت الكثير من وقتي وأعصابي وسحبت من قصيدتي الكثير من توترها الضروري وجعلتني أقل أبناء جيلي نشراً ورواجاً شعريين. *كونك لاجئاً أو منفياً أو مُقتلعاً من الجذور، كيف تقيّم علاقتك بالوطن أو المعادل الموضوعي للمكان القديم، هل هي " علاقة ثأرية قائمة على التشفّي، وتصفية الحسابات " كما يذهب الدكتور سليمان الأزرعي، أم هي علاقة تفاعلية قادرة على تحويل التجارب السابقة واللاحقة إلى وعي حاد يتخلل تضاعيف النص الإبداعي المكتوب في الأمكنة الجديدة؟ -تغيرت علاقتي بالوطن، كمفهوم، حسب تطور أو تغير وعي الذاتي بالوطن. الوطن مفهوم ملتبس، عندي، جراء ما شهدته في الدول المختلفة التي أقمت فيها أو عرفتها، ذلك إن العراق هو أقسى بلد تجاه أبنائه فلم يرثوا منه غير ما يحط من قيمة الإنسان ويصغره ويحوله إلى كائن مذعن وسلبي يفتقر للمبادرة ويعاني من الاخصاء الذي يصعب علاجه. حتى الموالون للنظام السياسي القائم آنذاك لم يسلموا من قسوة هذا البلد، وأعني بالبلد منظومة الحياة السياسية والاجتماعية بشروطها العنيفة التي تجعلني أقول: أنا لا أحب وطني، فكيف الأمر بما نسميهم المعارضين لذلك النظام؟ الوطن بالنسبة لي وجود غائب والشاعر دائما حليف الغائب. ثمة حلم أزلي يرافق الإنسان يتلخص بوطن مختلف نصبو إليه كالأطفال الفقراء عندما يخيب ظنهم بالعيد السعيد. إنه حلم أزلي كالكابوس الأزلي الذي رافق المنفيين العراقيين أكثر من ثلاثة عقود والمتمثل بأن يجد المنفي نفسه قد عاد إلى وطنه ولكنه يقع في قبضة رجال الأمن والمخابرات. لكن لا علاقة ثأرية وبلا أي شكل من التشفي تسم علاقتي بوطني. إنني كرهته لفرط محبتي. *هل تعتقد أن بامكان اللاجئين والمهجرين والمغتربين في أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا قادرون على التماهي في المجتمعات الجديدة الآوية لهم، أو التكامل معهم من دون أن يتعرضوا إلى مسخ مدروس أو تشويه متعمد أو تذويب قسري أو أن المرء ينقلب إلى غيره، أو " يزدوج ويفقد وحدته النفسية" كما يعتقد المفكر عبد الله العروي؟ - تجربتي الخاصة، حيث أقيم حالياً في بريطانيا، علمتني معنى أن يتحول الإنسان وحقوقه من مفاهيم وشعارات إلى تحقق كبير. العلاقة ببلد الإقامة لا يتحدد انطلاقا من الكتل أو الجموع أو القطعان، فلكل منفي تطلعاته وأطماعه وأحلامه المشروعة وغير المشروعة. ثمة منفيون لا يستحقون المنفى. وآخرون جديرون بمنفاهم باعتباره خياراً اضطرارياً قرين أهدافهم النبيلة. المنفى يشبه الوطن الذي يستوعب الجميع: الجلادون والضحايا. ومن دون الدخول بالتفاصيل، ثمة شعب عراقي كامل قد يقارب تعداده نفوس شعب مثل لبنان، وفي هذا الشعب ما فيه من متناقضات النفس البشرية التي قال عنها فيودور دستويفسكي" لو ظهرت أعماق النفوس على حقيقتها لغمرت النتانات الأرض". *على مدى خمس وثلاثين سنة شهد العراق في حقبة الحكم الدكتاتوري البائد ثلاث هجرات ثقافية كبيرة، هل تعتقد أن المشهد الثقافي العراقي قد أثرى من خلال هذه الهجرات، وأفاد منها، أم أنه فقد بعض خصائصه، وسماته، ونكهته المحلية، وما الذي أضافه المبدع العراقي المنفي إلى المشهد الثقافي العراقي؟ -مرة أخرى لا يجوز أخذنا ككتل متشابهة كبلاطات الأرض. فمنا من أغنى واستغنى وهناك من يحاول إتمام دورته الأرضية إبداعاً وبحثاً وتساؤلاً. وثمة من يغير جلده ليوهمنا بتبدله النوعي بينما تنطوي نفسه على أشد الأكاذيب رخصاً " سكرتير صدام أو حلاقه أو نائب عدي أو صديق قصي مازالوا نجوماً في المنفى كما كانوا في الوطن." النص العراقي الإبداعي، وقدر ما يتعلق الأمر بالشعر، يتنوع بتنوع مبدعيه، لكن المؤكد أن الشاعر الأصيل ازداد أصالة، والمزيف ازداد زيفاً. ظهرت أعمال أدبية وفنية وشعرية تثير الإعجاب، رغم قسوة المنفى وشروط تحقق النص وانتشاره وأحقيته بالرواج. وما زال البعض يبحث عن الناشر الشاعر لا الناشر التاجر. وما يزال الشاعر التاجر يطبع ولا يبدع، وما زال الشاعر الصامت يبدع ولا يطبع. الأعمال التي تتطلب عملاً جماعياً كالموسيقى والمسرح والسينما هي اقل الأعمال تحققاً في المنفى. ثمة أعمال إبداعية أضافت للمشهد الثقافي العراقي وأغنته، لكن هذا المشهد، وبسبب اندفاعاته الراهنة نحو المجهول، والمبتلى بالاضطراب نتيجة الحروب والمنافي فقد الكثير من قدرات أهله التأملية والرصد الواعي للجديد والمختلف وجهود النقد المحدودة في القراءة والتتبع. باختصار لم يزل مشهدنا بحاجة إلى سوية ثقافية تتيح لنا أن نرى لأنفسنا بهدوء.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أطفال الحصار - للمخرج عامر علوان: ضحايا اليورانيوم المنضّب و
...
-
الخادمتان- باللغة الهولندية ... العراقي رسول الصغير يخون جان
...
-
خادمات - رسول الصغير: البنية الهذيانية والإيغال في التغريب-
-
استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية/ الروائي جاسم
...
-
في ضيافة الوحش - لطارق صالح الربيعي: سيرة ذاتية بإمتيار يتطا
...
-
الفيلم التسجيلي - مندائيو العراق- لعامر علوان: فلسفة الحياة
...
-
استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي/ الشاعر وديع العبيدي: -
...
-
-استفتاء الأدباء العراقيين من المنافي العالمية /مهدي علي الر
...
-
(استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية / الشاعر كريم
...
-
رسام الكاريكاتير الجنوب أفريقي زابيرو جونثان شابيرو ينال الج
...
-
استفتاء الأدباء العراقيين: زهير كاظم عبّود: إن العراق حاضر ف
...
-
الإرهاب الأسود يغيّب المخرج العالمي مصطفى العقاد الذي روّج أ
...
-
تقنية - الوسائط المتعددة - في مسرحية ( أين ال - هناك -؟ ) تم
...
-
فلاديمير بوتين أول رئيس روسي يزور هولندا بعد ثلاثة قرون: هول
...
-
عزلة البلَّور
-
د. نصر حامد أبو زيد يفوز بجائزة - ابن رشد للفكر الحر - لسنة
...
-
استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية / الشاعر باسم
...
-
استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية: د. حسين الأنص
...
-
الناقد عدنان حسين أحمد ل - الحوار المتمدن -: أنا أول من يخوّ
...
-
المخرج المسرحي المغربي الزيتوني بو سرحان ل - الحوار المتمدن-
...
المزيد.....
-
أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل
...
-
في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري
...
-
ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
-
كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو
...
-
هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
-
خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته
...
-
عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي
...
-
الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
-
حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن
...
-
أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|