|
الجزء الأول من الرواية: دال
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5325 - 2016 / 10 / 26 - 14:10
المحور:
الادب والفن
لقاءاتي تواترت بالمرأة السورية الغنية، " سوسن خانم "، على أثر تعارفنا في رواق الفنون. جلّ تلك اللقاءات جرت في مقر إقامتها الباذخ، المحتل جناحاً كاملاً في إحدى الإقامات الفندقية، الحديثة. الإقامة، كانت في نفس الدرب المُرقَّط بالأشجار المثمرة والمتصل بين النزلين الكبيرين، العريقين؛ " المأمونية " و" السعدي ". في هذا الأخير، الأقرب إلى مقرها الجديد، كانت الخانم تقيم مذ بداية حلولها في مراكش. الهدوء يخيم على المكان، بالنظر لندرة حركة السيارات. إنه مكان جديرٌ بعُزلة ناسك، هاربٍ من صُحبة البشر اللجوجين والفضوليين. من موقعي على ترّاس المبنى، كان يُمكنني رؤية منارات مساجد المدينة القديمة، المتبدية على هيئة أبراج الكنائس بشكلها المربع. كنتُ في مأوايَ الأثير، في أتيليه خاص بي، مُشكَّل بدَوره على نمط الخيمة البربرية. هذه الخيمة، من ناحية أخرى، هيَ بدعة أنتشرت مؤخراً في النزل والرياضات مع أضطراد حركة السياحة في مراكش. شقيقتي " شيرين "، لن تلبث أيضاً أن تمتلك مرسماً بنفس الطراز التقليديّ، بعدما أشترى مخدومها الفرنسيّ رياضَ باب دُكالة من مواطنه " إريك ". وكانت شقيقتي، آن أنتقالي للعمل لدى " سوسن خانم "، قد أستفهمت مني مرةً عن سبب بقائي في ذلك المقر بعد انتهاء الدوام. كنتُ مجبراً على الإجابة، نظراً لدّالة هذه الشقيقة عليّ وعلى الرغم من أنها تصغرني بنحو العام، علاوة على تفهّمي لقلقها وهيَ وحيدة في شقّة غيليز، التي أنتقلنا إليها معاً بعيد إبعادنا من الفيللا. " أقوم بتنفيذ بورتريه للخانم، في خارج وقت دوامي الرسميّ، وهذا يجعلني أمكث هناك أطول من المعتاد "، قلتها متجاهلاً الإشارة إلى كوني أحياناً أسهر في مقرّ الخانم إلى ساعة متأخرة ليلاً. ما لم أذكره لشقيقتي أيضاً، أنني كنتُ آنذاك منهمكاً برسم " الشريفة "؛ المرافقة المغربية للخانم. وإنها " الشريفة "، من كانت قد أقترحت عليّ أن أرسمها مستغلةً غياب مخدومتها في سفرة دورية لمدينة أغادير، المستلقية على شاطئ المحيط الأطلنطي. الخانم، كانت تؤثر هذه المدينة كمكان للإستجمام، وربما لكونها شبيهة نوعاً بمدينتها الأولى؛ عروس البحر المتوسط. وإذاً، ما أن أنجزتُ رسماً تخطيطياً للمرافقة، فحازَ على رضاها، حتى طلبتُ منها الوقوف أمامي مجدداً ـ كموديل هذه المرة. " حسناً، أين تريدني أن أجلس وبأية وضعية؟ "، أجابتني ببساطة فيما كانت تمدّ يديها ببطء إلى أطراف قفطانها. وفبل أن يتسنى لي الكلام، كان جسدُها قد تجسّدَ بمقابلي مصقولَ العري كما حلية ذهبية مُجرّدة من حُقّها المُظهَّر بالقطيفة الحمراء؛ كما صاعقة متنزّلة من فردوسٍ سماويّ على شكل حوريّة. لبثتُ مذهولاً في حضرة هذا الحُسن المستحيل، أحاول إلتقاط أنفاسي كي يُطلق اللسانُ من الحلق الجاف. إلا أنّ " الشريفة " لم تنتظر جوابي، وهيَ ذي مستلقيةٌ على الأريكة ملتصقةَ البطن ببطانتها المخملية. على الأثر، أخبرتني بأنّ أحد مخدوميها السابقين، وكان فرنسياً في العقد السادس من عُمره، قد جعل منها نموذجاً لعددٍ من لوحاته الزيتية. فلما قالت ذلك، فإنني أستعدّتُ في ذهني لوحة شهيرة للرسام " غوغان "، أنجزها أثناء أستقراره في جزيرة تاهيتي. لقد سبقَ له أن هجرَ زوجته الدانمركية، تاركاً إياها في كوبنهاغن مع أولادهما، وذلك بغية التحرر من أية أعباء قبيل الشروع في آخر مغامرات عُمره. في تلك المستعمرة الفرنسية، الغالب على ساكنيها الجنس الملوّن، كان الفنان يُعاشر فتاة في سنّ المراهقة عملت خادمة في منزله. هذه الفتاة، البدائية والساذجة، لم يخطر ببالها قط أنها ستُخلّد أبداً بفضل وضعية الإستلقاء الفريدة، المؤطّرة ضمن طبيعة لا تقلّ غرابة. جسدها العاري، الأبنوسيّ البشرة، المنقّط ببقع ضوء برتقالية، كان متمدداً على سريرٍ مفروشٍ بإزار ناصع كالفضة. إيروتيكية الموضوع، تبدّت في وضعية الفتاة المُسجّاة على السرير على بطنها وكأنها غلامٌ على أهبة الرضوخ لمضاجعة مثلية. إلا أنني أستعدّتُ المشهدَ على شكل رؤيا أو نبوءة: فعلى الطرف الآخر من ذاك السرير، كان ثمة حيزبون مُتّشحة بملاءة سوداء شبيهة بلون بشرتها، فيما ألتمعَ بياضُ عينيها وأسنانها ـ كضبعٍ يهمّ بالإنقضاض على فريسة. أجل، كانت خادمة الخانم مستلقية قدّام ناظري، مُتخذةً وضعية الموديل نفسها وبعفوية تُذكّر ببدائية وسذاجة قرينتها تلك؛ التاهيتية. أما الحيزبون، فقد بقيت في خلفية المشهد تنتظرُ فرصة سقوطنا لكي تتجسّد بكلّ مكرها وشراستها. لعلني رأيتُ نفسي أيضاً في مصير الفنان، المقدّر له الهروبَ إلى جنوب العالم مؤملاً بالتطهّر من رجس عصر الآلة الملتصق بروحه الرهيفة. ولم يُقدم على هكذا مغامرة، قبل خوض تجربة مريرة مع فنان آخر على الأرض الأوروبية الملعونة برجس المادة. إنه " فان غوغ " مَن كان يلحّ على صديقه، في رسالة وراء الأخرى، أن يدعَ باريس لينضمّ إليه وهوَ تحت شمس الجنوب الفرنسيّ ذات السهام الملوّنة بالحرارة والحياة. لبّى " غوغان " إذاً دعوة صديقه، وما عتمَ أن شاركه في مسكنه الرث المزيّن الجدران بلوحاتٍ ستجعل صاحبها مليارديراً لو أنه عاش مائة سنة أخرى. على أنّ صاحب اللوحات، كان إذاك ينحدرُ إلى هاوية اليأس بفعل إحباطات حياته البائسة. وكما لاحظ " أنطونان آرتو "، في السيرة الفريدة التي سجّلها عن الفنان، فإنّ من يرى صوره يعتقدُ أنه ولدَ عجوزاً؛ وبخاصّة بورتريه شخصي يُظهره وهوَ مضمّد الأذن اليمنى. بيْدَ أن ذلك الأديب، كاتب السيرة، بقيَ كغيره عاجزاً عن فهم رمزية الحادث المودي بأذن " فان غوغ ". كون هذا الفنان أحد إيقونات صلاتي اليومية في معبد عزلتي، مذ قراءتي لرسائله المُفعمة بحسّ أدبيّ راقٍ، فإنني ولا غرو فكّرتُ كثيراً في مغزى الحادث ودلالاته. ولأنّ المثل الأوروبيّ القديم الشائع، يقول: " لا يعرف اليهوديّ إلا يهوديّ مثله! "، فإنّ من الممكن لي الإدلاء بدلوي فيما يخصّ الموضوع. " فان غوغ "، كان يمتّ لبيئة ريفية ووالده كان قساً بروتستانتياً، متزمّتاً. حينَ تخاصمَ الفنان لاحقاً مع زميله " غوغان " ووصل الأمرُ حدّ العراك، فإنه الأخير حزم حقائبه وغادرَ المكان نهائياً. هنا، وأمام مرآة إنعكست فيها صوَر حياته، أمسك الفنان بأذنه اليمنى مُستعيداً ذكرياتٍ جلّها أليمٌ وجارحٌ للكرامة: لم ترفض عرضَ الزواج ابنةُ طبيبه التي أحبها، حَسْب، بل والمومس أيضاً المُعتقد أنها كانت حبلى منه. لوحاته، وكان يبلغ عددها حوالي ست آلاف، لم يُبع منها سوى واحدة فقط وبجهد من أخيه الحبيب؛ " ليو ". وإنها رسائله إلى أخيه، من أفسحت له مكاناً في تاريخ الأدب. زوجة الأخ، في المقابل، كانت قد جعلت الفنان يوقف المراسلة لما كتبت إليه بدَورها متهمة إياه بكونه سبباً للشقاق بينها وبين رجلها. قبل أن يجزّ " فان غوغ " جزءاً من أذنه بسكين مطبخ، كان قد أشهره قبل ساعاتٍ على صديقه " غوغان "، فإنه أستعاد أيضاً في تلك المرآة وجهَ والده بوصفه " راعٍ " للكنيسة. والرعاة، على المنقلب الآخر للصّفة، من المعروف أنهم يعمدون إلى قصّ جزء من أذن الشاة وفق عادة قديمة شبيهة بالتطهّر على طريقة الختان.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 3
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 2
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 1
-
الجزء الأول من الرواية: ب / 3
-
الجزء الأول من الرواية: ب / 2
-
الجزء الأول من الرواية: ب / 1
-
الجزء الأول من الرواية: أ / 3
-
الجزء الأول من الرواية: أ / 2
-
الجزء الأول من الرواية: أ / 1
-
الفردوسُ الخلفيّ: تقديم 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: تقديم 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: تقديم 1
-
غرناطة الثانية
-
الرواية: ملحق
-
خاتمة بقلم المحقق: 6
-
خاتمة بقلم المحقق: 5
-
خاتمة بقلم المحقق: 4
-
خاتمة بقلم المحقق: 3
-
خاتمة بقلم المحقق: 2
-
خاتمة بقلم المحقق: 1
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|