|
صفحات مظلمة في تطبيق الماركسية
نجيب اسطيفان
الحوار المتمدن-العدد: 5312 - 2016 / 10 / 12 - 10:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
شكر وثناء
لا تفي المفردات للتعبير عن الامتنان لموقف الصديق الصدوق المهندس عادل ياسر وطبعه الكتاب على القرص المدمج وتهيئته للنشر.
بصمات العزيز عادل على المرحلة الاخيرة لإنجاز الكتاب بينة وتجعلني مديناً له.
نجيب اسطيفان
تقديم
بكل تواضع اقدم هذا المسعى الى كل من يشعر بمعاناة ومظلومية الانسان ويرفض اسر فكره والغاء ذاتيته او اذلاله وتعريض حياته للعوز والضنك. اضع الكتاب امام كل مستنير ومنفتح التفكير بحيث يستطيع التمييز بين الاصلاح والارتقاء وبين ارباك وتشويش مسيرة الحياة الطبيعية الذي يخلق واقعاً مصطنعاً تحت ذريعة اداء الطبقة العاملة لدورها التاريخي وازالة الاستغلال واحلال واقع اقتصادي ومعيشي متجانس. اضع الكتاب بين ايدي من لا يراهن على النصوص الايديولوجية المجردة ويقامر بمصير المجتمع، بل يمتلك الحكمة والتحليل المنطقي والوعي الذي يعينه على التمييز بين جاذبية وبريق النظرية ومضامينها الانسانية وحسن نوايا مستنبطها من جهة وبين الحقائق المرة التي تتسبب من تحويلها الى واقع معاش واعتبارها مسلمات لنظام سياسي واقتصادي مثالي ومتكامل. اقدم الكتاب لكل من لا يرضى ان تلتف القيود حول معصميه وتوضع الكمامة على فمه والغشاوة على عينيه وجهاز عدِّ الانفاس على انفه. اطرح الكتاب امام الذين حقاً شعروا بالإحباط واليأس في حياتهم وتوقعوا ان يكون نظام الايديولوجية الماركسية رافعة تنتشلهم من المغمورية او الفقر او الظلم. قد تكون هذه المعلومة التاريخية رصيداً للذين تمتعوا بالتفكير النقدي والنظرة البعيدة ولم يلتحقوا بالقافلة المتوجهة نحو السراب. اتمنى ان يكون الكتاب سلاءاً للذين غادروا تلك القافلة مبكراً واستعادوا توازن واستقرار حياتهم. لا ابغي ان يسبب الكتاب جرحاً في نفسية الذي لا يزال يعتز بإيمانه الايديولوجي ويتمسك بقناعاته. وأنأى بنفسي عن الاساءة الى من يختزن فكره ارثاً من المفاهيم الانسانية المجردة ويتسلح بالنوايا الطيبة او يتخذ الايديولوجية وحزبها ايقونة للعبادة.
المقدمة
منذ ان انتظمت التجمعات البشرية بمستواها الأدنى وتعقد وتشعب نمط الحياة، اقام الانسان سلطة تحكمه بمحض اختياره وبإرادة جماعية او شبه جماعية بغية توفير الحماية والأمن ومستلزمات العيش وتنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم من جهة ومع الحاكم من جهة اخرى، بالإضافة الى ضبط او تحديد شكل العلاقة مع التجمعات الاخرى من البشر. تحت مفهوم تحقيق المنافع والاهداف العامة، شرعت القوانين وخولت الجهات المسؤولة حق انزال العقاب بحق كل من يخالف او يشذ عن القواعد العامة او يُخل بالنظام او يعصي اوامر الحاكم او يهدد سلطته.لكن، ومع مرور الوقت، التبست تلك المقاصد واسيء استخدام الصلاحيات الممنوحة للقائمين عليها، مما جعل السلطة سلاحاً ذي حدين: مهد الاول الطريق للتجبر والثراء والنعيم، وتحول الثاني الى مصدر للشقاء والاضطهاد والقمع او قتل المعترض والثائر والساخط.
لكي تكون السلطة مرهوبة ومطاعة، وضعت تحت تصرفها السجون وادوات التعذيب، وتفننت بأساليب ترويع واضطهاد المتمرد او المعارض واذلاله وتطويعه بأحسن الاحوال. على مر العصور، خُرقت القوانين او شوهت او شرعت بطريقة تصب بمصلحة المسؤولين، سواء استأثر بالسلطة ملك او امبراطور او قائد عسكري او عشيرة او مجموعة دينية او طائفية او عرقية او حزب يتسلح بايديولوجية طبقية.بالنتيجة، عاش الانسان ولا يزال معضلات اخلاقية وقيمية تخص الحقوق والحريات والعدالة والحياة الكريمة، بالإضافة الى الخلل وتشنج العلاقة بين المواطنين من جهة وبين اجهزة الدولة الامنية والبوليسية والبيروقراطية من جهة اخرى. تدلل الوقائع في الماضي والحاضر الى ان العلاقة بين السلطة وبين اوساط عريضة من المواطنين لم تكن في الغالب منصفة او متوازنة او انسانية، مما دفع الجموع الى التمرد والثورة، اما بعفوية او مستنيرين بايديولوجية او نظرية مصلح اجتماعي او مسحورين بقائد كاريزماتي او مستلهمين بتعاليم نبي او معقدين الامل على رسالة مخلص مسيحاني.
آلت الثورات الى نقلات نوعية واحدثت تغيرات ايجابية على الدساتير وطورت نظم ادارة الدولة، لكن اشكالية العلاقة بين السلطة وبين عموم المواطنين لم يطلها الحل المرضي. بالرغم من الآمال الي تعقد على مرحلة ما بعد الثورة، تستمر المظلومية في معظم الحالات بحق شرائح واسعة من المجتمع ويبقى الشرخ بين الحاكم والمحكوم قائماً والعداء مستمراً. غالباً ما ازاح الانسان قهر وجبروت المستبد، ثم وقع فريسة سهلة لجبار اشد ظلماً وامهر تفنناً بالتعسف والبطش، ولا سيما عندما كانت تتمهد الظروف ويقفز
الى عربة الثورة ويغتصب القيادة شخص ذي نزعة انتقامية او يعاني من جراحات الطفولة ومن الخواء الروحي، مما احال غرائزه العدوانية الكامنة
الى طاقة تدميرية. في حالات اخرى، غمر الذي قاد الثورة الحماس وغرق في الاوهام وتسلح بالرؤى الرومانسية والطموحات اللاواقعية، مما دفعه لتسطيح المشكلات واختزالها، وتبرير الاخفاقات والقاء اللوم على العدو الخارجي والداخلي. غالباً ما عبّدت الثورات درب الجلجلة لكي يسير عليه الآلاف، لا بل والملايين من البشر ويعمدوا ذلك الدرب ببحور من الدماء وبحيرات الدموع، ولا سيما عندما تتوجت التجربة بإنبثاق اوضاع تندحر في ظلمها الانسانية وتنتصر البربرية. في هذا السياق، شخّص ذلك المفكر المرهف الحس الحقيقة وعرف التاريخ بأنه علم تدوين مآسي الانسان.
من حق الشعوب والاقوام ان تبتهج لإنتصار قضيتها، وتهلهل مستبشرة ببزوغ فجر يخلف الليل الطويل من الظلم والقهر والحرمان. لكنها وبعد فترة وجيزة، يصرعها الإحباط، ويخطف العهد الجديد البهجة من حياتها ويتغير رداء العبودية ويتخذ مسميات مغرية وخادعة. بالتالي، تنقلب اهازيج وزغاريد الفرح الى عويل ونواح وآهات، وتتحول ساحات الاحتفالات الجماهيرية الى مشاهد للمقصلات ومنصات الاعدام، وتُلغى السجون الاعتيادية لتحل محلها معتقلات رهيبة وأقبية سرية يصعب معرفة مداخلها ومخارجها. في اجواء نشوة النصر، يصحو الضمير وتسمو الاخلاق، لكن سرعان ما يفقد كلاهما توازنهما ويقعان ضحية للعواطف الملتهبة وتقاذف الامواج العاتية. بالنتيجة، تنهار القيم وتُركل الضوابط بالاقدام ويستسهل الانسان رؤية أكوام الجثث وتلال الجماجم التي تراكمت ليس بفعل مخالب وانياب اسود ونمور وضباع الغابة، بل بأيدي بني جنسه. امام هذا المشهد، لا بد ان يمزق صراخ الانسانية طبقات الفضاء ويلغي حواجز الأزمنة والجغرافيا والطوبوغرافيا والاثنولوجيا لكي يتعانق انين وآهات وعويل المعذَبين وضحايا البربرية على مدى آلاف السنين، سواء كان هؤلاء من قطعان العبيد او من اسرى وسبايا الحروب او من القابعين في معتقلات وزنازين الطغاة او من الهنود الحمر في القارة الامريكية او من قوافل التطهير العرقي والترحيل الجماعي او من المهتمين بالهرطقة امام محاكم التفتيش الكنسية او من اشباه الهياكل العظمية في المعازل التي اقامها النازيون، او كانوا من المنفيين الى سيبيريا وغيرها او من المحتجزين في مجمعات التأديب والتأهيل واداء العمل القسري التي أقامتها النظم في الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية وكمبوديا وكوريا الشمالية، او كان هؤلاء من الذين اختبروا الموت لعدة مرات في زنزانات تشيلي ونيكاراغوا والارجنتين وبيرو واندنوسيا والشرق الاوسط وفي كل بقعة تعرض فيها الانسان الى السياط والتعذيب الذي في حالات كثيرة انهى حياته او شوه جسده او بتر عضو او طرف من جسمه.
في فترة النهوض الروحي والمعنوي والاستعداد للتضحية، تقفز اعداد غفيرة الى عربة الثورة وهي تتطلع الى انبلاج فجر مشرق وتدشين عهد تسود فيه العدالة والحرية ويعم الرخاء ويختفي الظلم والاستبداد والقهر. عندما تأسر النشوة النفوس، يتشبث البعض بالرومانسية ويتركوا واقعهم ويتحلقوا في سماء زرقاء او مرصعة بالنجوم الساطعة وتراودهم الاحلام الجميلة. لكن بعد وقت غير طويل، يتفاجئون بالغيوم الداكنة وزمجرة الاعصار فيهبطوا الى الارض ثانية، ومنهم من يلفظ انفاسه الاخيرة على منصة الاعدام او يتلقى رصاصة الغدر من رفيق الامس او يقبع في المعتقل او يطأطىء رأسه ويسير في القيطع او يغرد داخل السرب. قد تنحدر الثورة الى منزلق خطير عندما يستنبط القائمون عليها قناعاتهم من النظريات الاكاديمية والفلسفات ويسخروها حسب استيعابهم او اهوائهم او اجتهاداتهم، ويغالون بصلاحها وبإمكانية تطبيقها على واقعهم. يتمادى بعض الثوريين في السير بهذا النهج ويحيلون الايديولوجيا السياسية الى عقيدة دينية ورسالة الخلاص للبشر على اختلاف ثقافاتهم وحضاراتهم وتجاربهم التاريخية ودرجة ومستوى تطورهم. على خلفية تنوع الاجتهادات والرؤى وتناقض المصالح الشخصية، تنتعش فترة شد الحبال وحبك المكائد وسخونة العداء، التي تتطلب ازاحة او ابادة طرف لآخر. في مثل تلك البيئة، يتآمر قطب من الثورة ضد القطب الآخر، مما يمهد الفرصة ويمتطي حصان الثورة الهائج مغامر ماكر او داهية ماهر بالتحكم باللجام وقيادة المسيرة. وهكذا، تخلو الاجواء للقائد الضرورة بعد ان يزيح او يبيد الخصوم ويصبح المنقذ الذي يسحر القلوب ويأسر النفوس والاجساد ويهب الخير، لكنه في الوقت نفسه يقنن الحريات العامة تحت ذريعة حماية ظهر الثورة. لا بد من الاعتراف بأن الثورة قد تتفجر على يد اشخاص متسلحين بالنوايا الحسنة والمقاصد الطيبة، لكن ارهاصاتها اللاحقة تؤول في حالات كثيرة الى فساد البذار او سرقة الغلة، مما يخل بحسابات الحقل والبيدر ويهدر الجزء الكبير من المحصول.
لا بد ان تستند الانعطافات التاريخية والنقلات النوعية والاحداث المزلزلة الى ارضية فكرية واجتماعية ويكون لها صانعوها او رموزها الذين يلهمون اوساطاً مجتمعية ويعبئوها لتحقيق رسالة او اهداف ما. لكن في بعض الحالات تكون التطلعات غير مشروعة وغير انسانية، مما يدفع رسلها الى اختلاق المبررات وعرض مشروعهم بطلاء يغري البعض، مثل احقية القوم الناهض في التمدد والانتفاخ بغية خلق أمة تلعب دورها في الريادة وصنع التاريخ. قد تكون الرسالة جذابة في شكلها وخطيرة في مضمونها عند الدعوة لإقامة مجتمع متجانس ولا طبقي بطريقة مصطنعة وقسرية وبإستئصال بعض مكوناته وكأنها مناديل ورقية تُرمى في القمامة وتغدو امس من دون غد. في هذا الخصوص انأى بنفسي عن الاساءة الى ذلك الانسان الذي آمن بقضية عادلة واخلص لها واستعد لنيل الشهادة من اجلها او عاش الحرمان وكافح لكسر قيود وأغلال العبودية، لأن من دون تلك التضحيات ورفض الظلم لاستمر عهد العبودية ولبقي العبد او القن يئن تحت سياط سيده الى يومنا هذا. ولا اقصد جرح مشاعر من احس بمعانات الآخرين ونهض لزرع الامل في القلوب المنكسرة ورسم البسمة على الوجوه الحزينة. لكن في الوقت نفسه، لا بد ان نقلق ونشفق على تلك البراعم الغضة التي اصطادتها الاحزاب قبل ان يقوى عودها وافسدت عليها براءة الطفولة واغرقتها بالهموم وملأت رؤوسها بالمفردات المجردة التي لا تستطيع ادراك مضامينها. لا يمكن التعويل على الهاب مشاعر الانسان واستغلاله عن طريق الشعارات البراقة وتخدير عقله بالمفاهيم الجذابة الشكل التي تصيغ الذهنية الجمعية وتخلق ثوريين محترفين مستعدين لممارسة العنف وسفك الدماء تحت ذريعة تمهيد التربة لإنبات شتلات صالحة بعد استئصال الادغال والاشواك.
ماذا يجني الانسان من الثورة التي بعد اندلاعها بفترة قصيرة تنطفىء ضياؤها وتخيم الظلمة وتتحول الجمهورية الفاضلة الموعودة الى جحيم ينشط فيه الشياطين ويسوده الرعب؟
يصبح سلوك القائد الثوري تدميرياً للمجتمع عندما يتوجه الى استئصال بعض مكوناته وتمزيق نسيجه وتشويه شكله تحت ذريعة تطبيق المبادىء، حتى وان تطلب الامر بتر اجزاء من القدم لكي يلائم حجم الحذاء بدلاً من تبديل الاخير ليناسب القدم. يقودنا هذا الى تشخيص الخطأ عند تأطير افكار البشر وتقرير اتجاهاتها بطريقة قسرية لكي تتطابق مع رؤى وايديولوجية المنظر من اية مدرسة كان. بالتالي، لا يكون البذار وفير الغلة مالم تُنثر بذوره في موسمها وفي تربتها الملائمة، ومالم تحمل تلك البذور عناصر الحياة ومقومات النماء الطبيعي. حينما نشير الى تعرج او انحراف مسيرة بعض الثورات او كبوتها والتهامها لابنائها، لا ينبغي ان نسيء الى ذلك الانسان الذي بغاية نبيلة ركب الموجة وأذاب كيانه في اللهب المستعرة. في هذا الصدد، اعتذر لتلك الشخصيات المتميزة التي استرخصت دماءها واعطت اكثر مما نالت واضافت الكثير دون ان تبغي شيئاً بالمقابل، مما حولها الى رموز ونماذج تستحق الاقتداء بها. بالرغم من الارتجاجات والمخاضات التي رافقت الثورات وتبعتها، والأثمان الباهظة التي قدمتها الجماهير، يبقى الحراك ومساعي التغيير قائمة ومشروعة، ولكن ربما بأساليب مختلفة.
شهدت العديد من حقب التاريخ اشخاصاً تحكموا بالسلطة او قفزوا الى قمة هرمها، واسسوا الممالك والامبراطوريات والدويلات والامارات على حساب قوت ودماء بني قومهم ودماء الغرباء عنهم. ومتى ما شعر هؤلاء بالجبروت وانتفاخ الذات وامتلكوا مقومات القوة، شنوا الحروب بقصد الهيمنة والاستعباد وخلّفوا وراءهم الفواجع والكوارث. لكن الى جانب تلك الصفحات القاتمة والمليئة بالاساءات الى البشرية، شعت منارات المفكرين والمصلحين والفلاسفة الذين امتلكوا الرؤى الخيرة والمشاريع الانسانية وملأهم الامل بإنتصار العدالة والحرية وقيام انظمة تصون حرية الانسان وكرامته وتؤمن عيشه من دون ان تخل بتوازن المجتمع او تستأصل اجزاءاً منه او تتجاوز على الاخلاقيات والضوابط الايجابية والضرورية. قبل الميلاد ببضعة قرون اوجد الفلاسفة الاغريق مفردة الديمقراطية التي تعني حرفياً سلطة او سيادة الشعب. آنذاك، اقتصر مفهوم الشعب على المواطنين الاحرار ومالكي الثروة والمحاربين، ولم يشمل العبيد والمعدمين. تدريجياً، تطورت الديمقراطية في مضامينها واتسعت قاعدتها الشعبية، وفي الوقت نفسه تنوعت مشاربها واتخذت اشكالاً مطاطة وفضفاضة، وغدت عنواناً يرفعه كل من يطمح للحكم. بعد ان تعمق الايمان بالديمقراطية ظهرت شعاراتها في الممالك المستبدة والدستورية وفي الجمهوريات اللبرالية والمحافظة، وتمسك بأذيالها الدكتاتوريون المدنيون والعسكريون. بالرغم من ترنح او تراجع التطبيق الديمقراطي امام النظم الشمولية على اختلاف مشاربها ومرجعياتها، يبقى جوهرها كيان حي متطور ومرن يستطيع استيعاب التيارات والشرائح المتنوعة، ويستمر في النماء من دون ان يبلغ الكمال، لأن تطلعات الانسان وطموحاته للارتقاء في المجالات المادية والروحية والفكرية لا تعرف حدوداً لتقف عندها.
لم تتوقف إبداعات الانسان في مجال الفكر وامتلاك الرؤى وتوظيف المهارات اليدوية التي آلت الى تطوير وسائل الانتاج. على مر الازمان اخترع واكتشف وابتكر وانتج ونقل ضياء انجازاته لتصل الى مجتمعات وجغرافيات بعيدة ومترامية. عند بعض الفترات المفصلية في مظلومية الانسان، نهض المتمّيزون روحياً وحولوا رؤآهم الى نقطة جذب استقطبت كتلاً كبيرة من البشر ونالت ثقتهم، مما حول تلك الرسالة الى عقيدة ايمانية شبه جمعية ارتقت الى مستوى العبادة والاستلهام والتضرع. انتقل الانسان البدائي من مرحلة الصيد وجني ما تنتجه الطبيعة، ثم عاش في ظل العبودية والقنانة والاقطاع، لكنه زرع وانتج الغذاء ودجن الحيوان وشق جداول الارواء وعبد الطرق واقام السدود ومدّ القناطر وشيد الاهرام والقلاع والاكواخ، وصنعت يداه الآلة الحجرية والخشبية. قبل آلاف السنين انطلق خياله ونسجت افكاره المجردة الاسطورة والملحمة والرواية والشعر. بعد ان اجتازت الثورة الصناعية بواكيرها، طوع الانسان المعادن ومصادر الطاقة، واخترع الآلة البخارية وصنع الباخرة والقاطرة والسيارة وجومة الحياكة التي ضاعفت انتاج قطع الملابس مئات المرات. خلال نظام الرأسمالية الوسيطة والمتطورة، اكتشف الانسان الطاقة الكهربائية وشطر الذرة والنواة وقهر العديد من الامراض الفتاكة وافنى جراثيمها بفضل الادوية والمضادات الحيوية واللقاحات. لا بد ان نشير الى اختراع وسائل الاتصال السلكية واللاسلكية وصناعة الطائرات السريعة وكافة الالكترونيات التي اختزلت العالم وجعلته قرية صغيرة تحوم فوقه الاقمار الصناعية التي تصور وتنقل على الفور كل ما يحصل حتى في ابعد بقعة من مجاهيل الارض.
عند التطرق الى التطورات السلبية المصاحبة واللاحقة للثورة والى الطغيان الذي قد ينجم عنها، لا اقصد الاساءة الى من آمن بالاصلاح ودعمه في هذا الخصوص، لا بد ان نقف اجلالاً واكراماً للذين وهبوا حياتهم من اجل قضيتهم او صمدوا راسخين على خشبة منصة الاعدام. يعتصر القلب الرقيق الالم حينما يتذكر اولئك اللذين اختطفوا تحت جنح الظلام وفي رابعة النهار بسبب نضالهم وغيبوا في السجون ولم يتم العثور على اثر لاجسادهم. لا بد ان ننظر بإكبار الى تلك الهامات التي طرزت حياتها بالبطولة والايثار وعاشت من اجل الآخرين، وارتقت ارواحها الى الاعالي بسبب رصاصة اطلقها رضيق الامس. ينبغي ان نثمن دور ذلك الثائر الذي تسلق الجبل لاهثاً وحاملاً سلاحه الخفيف وزاده المتواضع واصابته رصاصة العدو قبل ان يبلغ القمة. حينما نسلط الضوء على السلوكيات المنحرفة لمن يوظف الثورة لاهوائه ومصالحه، نستميح العذر ممن مزقت بشرته اشواك واحراش الغابة وهو يهاجم رجال الطاغية او يهرب منهم. ونعتذر كذلك ممن سلك السهل مبشراً متنكراً، واكتشف امره والتف حبل المشنقة حول عنقه. يغرق الانسان في عالم الحزن وهو ينظر الى اخيه في الانسانية وقد هشمت اصابعه او قلعت اظافره او احرقت راحة يديه اثناء التعذيب. ليس من الانصاف ان نسيئ لمشاعر من امضى زهرة شبابه واطفأ العديد من شمعات ذكرى ميلاده واستنفذ طاقة جسده وهو يقبع في زنزانة انفرادية او في معتقل او قبو مجهول. لا يكون الامر مستهجنا في حينه عندما انتظر احدهم لساعات في الطابور الطويل ونسي العطش والجوع والتعب ووقف مسحوراً ومتلهفاً لالقاء نظره على الجسد المحنّط للرفيق المؤسس لدولة العمال ومترجم ايديولوجيا الخلاص. لا بد ان نتفهم موقف اللذين انخرطوا في خلايا الحزب وارتقوا في لجانه وحفظوا الوصايا وتحمسوا لحضور المهرجانات الخطابية والندوات الثقافية واحتفالات عيد ميلاد رمز الثورة ورحيله، او باركوا وايدوا اعدام اللذين اقترفوا الهرطقة الايديولوجية او اعتبروا خونة. لا ينبغي ان نلوم من وقع اسير الاوهام ولم يبال بالقيود التي على معصميه لانه حلم بإمتداد الجنينة الخضراء امام عينيه.
تكون طروحات المنظرين والفلاسفة ضرورية للقائمين على الثورات، لأنها تفتح الآفاق للاصلاح المتوازن والممكن، وتوفر البلاطات لارساء اسس المستقبل الافضل في النواحي المادية والروحية للانسان. لكن ظروف اليأس والاخفاقات والقهر قد تضفي الى استحواذ ايديولوجية ثورية راديكالية تستطيع ان تجرف بسيلها العاطفي وزخمها الجماهيري الهائج بقية المدارس الفكرية والتيارات السياسية وتطرح نفسها كمشروع اجتماعي واقتصادي متكامل وفريد. يتحول ذلك المنهج العنفي الى عقيدة مذهبية توعد المواطن بجبل من الحلوى والمن وبجداول من العسل والحليب، وتوهم البشر بتدشين عصر يستطيع فيه العصفور الركون الى مخلب القطة، والدجاجة الوقوف بأمان على ظهر الثعلب والشاة مجاورة الذئب. لا يمكن اعتبار فترة الشعور بالنشوة وغمرة فرح الجماهير وسخونة عواطفها رصيداً رصيناً لنجاح الثورة. ان حث الهائجين للسير الى الامام والنداءات لحرق المراحل واطلاق شعار " يا عمال العالم اتحدوا " لا تمنح الحرية للمكبوت ولا الغذاء للجائع. لا يثمر التعويل على ترديد الاناشيد الحماسية وتعميم ثقافة القطيع وكسب خواطر المتحمسين عن طريق منح النياشين والانواط التي تتحول الى سلاسل واغلال لحماليها. قد ينجح نظام الايديولوجيا الجاهزة في ترويض المجتمع لفترة ما، وفي تزويق المشهد من خلال الدعاية المؤثرة وعن طريق تطوير الصناعة العسكرية وتحسين الجوانب الخدمية وتوفير السكن الجماعي واشاعة التعليم للجميع. لكن هذه الانجازات تبقى باهتة امام تشويه آدمية الانسان والغاء حرية الاختيار عنده وتأميم ذاكرته وتحديد مسارات تطلعاته واختزال آفاقه. حقاً، ان تحقيق نظام العدالة المثالية الذي يملأ الجميع بالرضا والقناعة والسرور لا يزال املاً وحلماً، ان لم يكن وهماً، مما يدفع المعنيين الى مراجعة صفحات الماضي البعيد والقريب وتسليط الضوء على الحقائق، حتى وان كانت لاذعة في مذاقها وقاتمة في مظهرها او فاشلة في تطبيقاتها. خلال هذه الممارسة، لا بد من تصويب الاخطاء وغربلة الوقائع من اجل التقييم واتباع ما هو افضل للارتقاء.
اظهرت الاخفاقات التي جابهت محاولات ترجمة التطلعات الماركسية الى الواقع الفعلي عمق المثالية التي اغرقت الحالمون في بسط العدالة الاجتماعية والغاء التفاوتات الطبقية بطريقة قسرية ومصطنعة. في الوقت ذاته لا يستطيع المرء غض النظر عن مضامينها الانسانية ولمساتها الساحرية التي أغوت كتلاً بشرية كبيرة على مستوى القارات والحضارات والاعراق. آمن بها رسلها وطلائعها الثورية واقنعوا البسطاء والمغمورين بإمكانية جعل النظرية نظام سياسي واجتماعي ينقذ الانسان من بلائه ومعاناته وصراعاته ويأخذ به الى الفردوس الارضي. مع ذلك، ليس من الانصاف انكار جهود ماركس تجاه العمال والمستغلين وتحسسه لأوضاعهم وتبنيه لقضيتهم ورفع درجة وعيهم واقناعهم لولوج عتبة التاريخ ولعب دورهم في ريادة البشرية مستقبلاً.
في ضوء تنوع السجالات الفكرية والطروحات الاصلاحية ومشاريع الثورة الرامية للتغيير، تبقى تطلعات الانسان في توسع وارتقاء وتشعب مستمر بحيث لا تستطيع اية ايديولوجية او فلسفة من اشباعها او ايصالها الى الكمال. لقد انهارت نظم الايديولوجية المذهبية بالرغم من شعاراتها المغرية وصرامة احزابها وانضباطيتها الفولاذية، وخاصة عندما تناقضت ممارساتها مع صيانة كرامة الانسان ومع ضمان حرية اختياراته وشوهت مسيرة حياته الطبيعية. قد لا يسر العديد من رسل وتلاميذ ومبشري ايديولوجيا الخلاص مجابهة الحقائق، وقد يصعب عليهم الاعتراف بلا واقعية مشروعهم السياسي ويرفضوا الهبوط من على ظهور افراسهم والانسحاب من حلبة المنازلة حتى وان تطلب الامر مواصلة القتال بسيوف من خشب.
نجيب اسطيفان
الفصل الأول
حرب على القصور والقلاع وسلام مع الاكواخ
الاوضاع الجيوسياسية
في اوروبا القرن التاسع عشر
بعد ان وضعت حروب نابليون بونابرت اوزارها سنة 1815 باندحاره وانتصار امبراطورية النمسا والمجر وروسيا القيصرية وبريطانيا وبروسيا الالمانية، قررت حكومات تلك الدول احلال الهدوء واقرار السلم واعادة اعمار ما دمرته الحرب ورسم الخارطة الجيوسياسية لأوروبا. الى جانب هذا صممت الدول المنتصرة، وكهدف رئيسي لاستراتيجيتها الجديدة، لجم الحركات الراديكالية بمختلف اشكالها وتوجهاتها وتدشين مرحلة للمشهد السياسي والاجتماعي لمجمل قارة اوروبا يكون تحت السيطرة. من اجل ترجمة تلك الاهداف الى الواقع الفعلي وجني ثمار الانتصار، اصدرت الدول العظمى آنذاك والتي انضوت تحت ما يسمى بالحلف المقدس معاهدة فينا سنة 1815 وتعهدت بعدم تكرار تجربة الثورة الفرنسية وحقبة نابليون.
اظهرت بنود المعاهدة تحكم النظم الاستبدادية الاوليغاركية ( الاقلية العائلية ) بمصير العالم، الى جانب اضفاء الشرعية للنظم التي ارتأتها اطراف الحلف المقدس. في تلك الفترة لعب الامير مترنيخ، مستشار النمسا وعراب النظام المحافظ دوراً مركزياً في صياغة بنود معاهدة فينا، مما جعله صانع السياسة الاوروبية خلال النصف الاول من القرن التاسع عشر. ولكي تسير الامور لصالح الانظمة التقليدية ابقت تلك المعاهدة بعض دول اوروبا ممالك ودويلات ودوقيات تحت حماية او انتداب النمسا بحيث تستطيع التدخل بشؤونها الداخلية وتقرر سياساتها وتشيع فيها الفرقة والتناحر بقصد اجهاض تطلعاتها في الوحدة القومية واقامة دولة مركزية قوية على كامل ارضها. لم تتحمل النمسا نزعة التحرر والاستقلال في اوروبا، لأن ديمومة امبراطوريتها يتوقف على احتلال واستعباد دول شرق اوروبا، مثل التشيك وبولندا وسلوفينيا وبعض دول البلقان، وان تحررها يؤدي الى انحلال الامبراطورية النمساوية. اتسمت تلك الحقبة من تاريخ اوروبا بتحكم سلالات او عائلات رئيسية مثل سلالة البوربون في فرنسا والتي اقصتها ثورة 1789، وسلالة هابزبورغ النمساوية والتي دامت الى انتهاء الحرب العالمية الاولى، وسلالة رومانوف في روسيا والي انتهى دوها بإنتصار الثورة البولشفية الاشتراكية 1917.
بالرغم من إجراء بعض الاصلاحات الدستورية وتمتع الصحافة بفسحة مقننة من الحرية، بقيت تلك الحريات رهينة للضغوط ومهددة بالمصادرة، واستمرت الاحوال في معظم دول اروربا على ما هي تقريباً من دون ان تشهد تحولات عميقة او جوهرية. سعت امبراطورية النمسا الى جعل معظم دول شرق اوروبا تحت هيمنتها وابقاء المانيا منقسمة الى دويلات تسير في فلك الامبراطورية. لم يكن حال ايطاليا الممزقة الى ممالك ودوقيات افضل اذ اعتبرها مستشار النمسا، مترنيخ، مجرد واقع جغرافي لا بد من ابقائه تحت الهيمنة المباشرة وغير المباشرة لامبراطوريته. احالت معاهدة فينا بولندا الى كيان هش تتحكم فيه ثلاث قوى كبرى هي روسيا القيصرية والنمسا وبروسيا مع تمتعها بإستقلالية محدودة في مجال التعليم والادارة المحلية. في الاسكندنافيا اقتطع جزء من ارض الدنمارك والحق ببروسيا الالمانية، وفصلت فنلندا عن السويد بعد ان استمرت جزءاً منها لمدة 550 سنة والحقت بروسيا القيصرية، وتم تعويض السويد بالحاق النرويج بها. على العموم بقيت كيانات شرق اوروبا تسير اما في ملك امبراطورية النمسا او روسيا القيصرية، وبقيت غالبية الاقوام السلافية وجنوب شرق اوروبا ترزح تحت النير العثماني، بإستثناء اليونان التي تحررت من الهيمنة التركية بعد انتصار حربها المريرة بين سنوات ( 1823 – 1920 ) بدعم من دول غرب اوروبا، ومع ذلك بقي الكيان القومي اليوناني مهزوزاً ومهدداً.
الزمت بنود معاهدة فينا الاطراف الموقعة عليها بممارسة كافة اشكال القمع والعنف من اجل سحق الثورات والانتفاضات واخماد لهبها قبل ان تستعر وتنتشر بين الشعوب، مما دفع الى استمرار حملات التنكيل بحق قادة التيارات اللبرالية والحركات الثورية وتشديد الرقابة على الصحف وحظر التجمعات والمظاهرات. كرائد للنظام المستبد والمحافظ تعهد مترنيخ ببناء سد يوقف زحف الثورات ويقي النظم ويحفظ للحكام ادارتهم للاوطان والامبراطوريات. بالنتيجة، تضامنت دول الحلف المقدس في مساعيها لاحتواء التطلعات القومية التحررية للشعوب المقهورة، وانهائها سياسياً في 1830، لكن العنف واسلوب المفاوضات احياناً لم تجد لأن الخصوصية الثقافية وشعور الانتماء القومي او الديني او المذهبي لعب دوراً مؤثراً وفاعلاً في شحن الحماس وايقاظ النزوع الى التحرر من هيمنة القوى العظمى.
بالرغم من استناد الحلف المقدس على اعمدته الرئيسية الثلاثة المتمثلة بالنمسا وروسيا وبروسيا، فلقد اصابه النخور وهزته تناقض المصالح ودب الخلاف بين مترنيخ وقيصر روسيا حول استقلال اليونان من الدولة العثمانية. ومع ذلك تفاهمت الدول الكبرى بشأن اخماد ثورات الشعوب والامم، لا سيما عندما استشعرت الخطر الذي يهدد مصيرها ومستقبلها، مما دفع جيوش روسيا سنة 1849 الى سحق ثورات شعب بولندا وهنغاريا واخماد روح المقاومة عندها عن طريق اعدام قادتها.
لم تستطع النظم السياسية القائمة في اوروبا من استيعاب التحولات التي حصلت بعد الثورة الفرنسية الكبرى، مما دفع الشعوب في عموم القارة للحراك الثوري والغليان العام الذي أضفى عليها نوعاً من الطابع الاممي. بالرغم من التقدم في مجال الطب والوقاية من المرض وتحسن الحالة الغذائية وهبوط معدل الوفيات وانتشار التعليم، بقي الريف والاماكن النائية فريسة للتخلف والقهر ومناطق مغمورة يتحكم بها الاقطاعيون والنبلاء. اخفى المشهد السياسي تحت غشائه البراق مشكلات اجتماعية عويصة، الى جانب حملات الاعتقالات والترحيل الجماعي والقتل بالجملة. حينها عجت سيبيريا بعشرات الآلاف من المنفيين وتحولت ايطاليا الى معتقل عام وانتشرت السجون في عموم قارة اوروبا، مما سهل الامر لانطلاق الافكار الاصلاحية والراديكالية والمتناقضة احياناً، واطلالة الفوضى والارتباك وتحويل القارة الى مرجل يغلي، في تلك البيئة انتفض البائسون والمحبطون وحطموا الجدران وقلعوا حجارة الطرقات واقاموا المتاريس. اندلعت الثورات والانتفاضات في باريس وبودابست وبراغ وكراكاو وبرلين ولندن وفيينا وليون ومارسيليا، مما زرع الرعب في قلوب الحكام وهدد اركان دولهم وامبراطورياتهم بالانهيار. وهكذا تهيأت الظروف لصهر اطار السياسة في أتون الثورات ووضعه بين المطرقة والسندان من اجل سبك واقع جديد. من جانبها اتهمت الانظمة المحافظة كلا الليبراليين والراديكاليين بالارهاب والعمل على تدمير البلدان وافساد العائلة والتجاوز على الملكية الفردية وهدم البنيان الاجتماعي المتفق عليه. في حينه نشرت جريدة ناشونال تربيون البريطانية مقالاً جاء فيه ما يلي : ( ان اقتصاد ومال البلد في خطر وان القانون والنظام غائبان وان الحمًى الهستيرية تسيطر على كل فرد. الطبقة الوسطى في جنون والشعب في هوس وغليان، مما يبرر الخشية من انفلات الامور وانهيار السلم الاجتماعي والاندفاع نحو المجهول وحصول الاسوء ).
انطلاقة ثورات ربيع اوروبا
عند انتهاء الحروب النابوليونية استقرت الاوضاع ظاهرياً في اوروبا لصالح الامبراطوريات والنظم المحافظة، لكن تطلعات الشعوب الى تأكيد ذاتها وابعاد نير العبودية عنها وتحسين ظروف حياتها بقيت منتفضة لا تستكين. اصطدمت مطالب الجماهير بعناد عتاة الطغيان، مما شكل رافداً يمد الشعور الوطني عند الشعوب الرازحة تحت الهيمنة بالزخم والمطاولة. لم تنصف معاهدة فيينا 1815 شرائح واسعة في اوروبا، ولم تتفهم همومها ومعاناتها، بل كرست مواقع الحكام في ممالكهم، مما اشعر الغالبية بالاحباط والظلم ودفعها لتدشين ربيع ثوراتها واسماع صوتها في ايطاليا والمانيا وفرنسا والمجر والبلقان وبولندا والتشيك وحتى في النمسا واسبانيا وبريطانيا الى حد ما. اطلق على تلك الحقبة من تاريخ القارة ( فترة اوروبا الفتاة ) التي تحولت الى حلم لشباب ثوري تنقصه الخبرة والحنكة والفطنة في ادارة فنون السياسة. بالنتيجة استيقظت امم مغمورة وصممت على ابراز وجودها ورسم هويتها على خارطة العالم، لا سيما وهي مقتنعة بإمتلاكها الحق بمعانقة الحرية في كيانها القومي.
في فترة الهيجان والثورة تتشنج العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتختل القيم وتهتز الاركان القائمة وتتغير المعايير وتفقد التقاليد الموروثة هيبتها، ولا سيما عندما تستيقظ نزعات الثأر والانتقام. من اجل ان تكتسب ثورات ربيع اوروبا الثقل والاهمية ساد الرأي بأنها الابن الشرعي لعصر النهضة الذي ساد القارة اذبان القرن الثامن عشر، لأن هناك علاقة جدلية بين ذلك الانعطاف وبين تلك الثورات. لم تكن ثورات ربيع اوروبا جزراً منفصلة، بل انها ارتبطت بمشاعر الاخوة والتضامن، مما جعل صدى اول رصاصة اطلقت في بولندا تصل الى المانيا وسويسرا والتشيك وهنغاريا وايطاليا. لم يقتصر الرد على رصاصة العدو من بنادق شعب وامة واحدة، بل من بنادق كل ضحايا الطغيان والاستبداد والهيمنة. في تلك الاجواء الحماسية تعهدت الملائين من شباب اوروبا بأن تنذر ارواحها ليس فقط من اجل انعتاق الشعوب من الهيمنة الاجنبية وتوحيد الامم الممزقة، بل ومن اجل اشاعة مبادىء الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وهكذا فصلت تلك الثورات ماضي قارة اوروبا عن حاضرها ودللت على حقبتين تاريخيتين مختلفتين.
عندما خرج الثائر الايطالي مازيني ( Mazzini ) من السجن سنة 1830 تحول الى بطل ورمز يكافح لتحرير بلاده من الاحتلال النمساوي وتوحيد اجزائها الممزقة بكيان قومي واحد. لم يسعى مازيني لتحرير بلاده فحسب، بل تعاطف مع المسألة البولندية وتحسس ما حصل لها او للبلدان الاخرى على يد الامبراطوريات. لقد تمتع مازيني بشعور قومي وأممي في آن واحد، ونادى بضرورة تحرير كافة الشعوب الرازحة تحت الاحتلال وتحت نير العبودية وحكم النبلاء، ودعا الى اقامة دول قومية تدشن عصر اوروبا الفتاة، مما جعله الاب الروحي لتلك الرسالة. استجابت لرسالة مازيني اوساط واسعة من المثقفين لأنهم اعتبروها خطوة متقدمة واساسية على طريق قيام نظم عصرية، بالاضافة الى تمهيدها الظروف لتوحيد الكيانات القومية الممزقة في ايطاليا والمانيا وغيرها وجعلها تحت ادارة دولة مركزية واحدة. في تلك المرحلة من الانتفاضات تبنت مشروع تحقيق التطلعات القومية وتأكيد الذات الوطنية النخبة المثقفة واللبرالية من ابناء الطبقة الوسطى وبعض الشرائح الارستقراطية، ولم يكن للطبقة السفلى دوراً مؤثراً لأن الوعي القومي او الطبقي لم يكن آنذاك ناضجاً بين تلك الاوساط.
بعد ان عمّت الثورات في غرب وشرق اوروبا وامتدت موجتها الاولى الى سنة 1830 ثم اشتدت في 1848 وتتوجت بالأحداث العنفية لكومونة باريس العمالية 1871، بدأ الوعي الطبقي يترعرع عند الشرائح العمالية والمهمشة مستلهمة بالمنظرين وبالمدارس الفكرية التي تبنت قضيتها. نهضت الاوساط العمالية في بعض دول غرب اوروبا وهي تطالب بتحسين ظروف العمل ورفع اجوره وتقليل ساعاته، خاصة للنساء والاطفال، بالإضافة الى المطالب السياسية مثل حق التصويت في الانتخابات. خرج المنبوذون والمقهورون من اكواخهم مرتدين قبعاتهم وقمصانهم الرثة وواضعين ثقتهم بطلائع الطبقة الوسطى والمثقفين اللبراليين والراديكاليين ويملأهم الامل بالتخلص من اوضاعهم البائسة. كان الشعار البارز والمركزي لتلك الانتفاضات ( حرب على القصور والقلاع وسلام مع الاكواخ ) لم يكن الحس الطبقي الملهم الوحيد لكل الثورات. في بولندا انتفضت جماهيرها سنة 1830 ضد الاضلاع الثلاثة للحلف المقدس من اجل ازاحة هيمنتها؛ وفي بودابست هاجت الجماهير بالرغم من اعتبار المجر الجناح الشرقي لامبراطورية النمسا لأن المجريين شعروا بذوبان وضياع هويتهم القومية في اجواء عدم تكافىء العلاقات بين الطرفين. في شرق اوروبا انتفضت الشعوب السلافية لتأكيد اصولها القومية والوطنية وابعاد مخاطر المساس بخصوصيتها الاثنية من خلال صهرها بالعرق الجيرماني. استعانت تلك الكيانات الوطنية بمرجعيتها الارثوذكسية واعتبرت كنيستها حضناً يحمي ثقافتها وكيانها القومي.
في الوقت الذي التقت مصالح حكومات دول الحلف المقدس واتفقت على اخماد وسحق ثورات الشعوب، تفاهم اللبراليون والنخب المثقفة من الطبقة الوسطى مع الديمقراطيين الراديكاليين لتكوين جبهة تحبط مساعي حلف الامبراطوريات. استلهم قادة المنتفضين افكارهم من نظرية جان جاك روسو وغيره في الاصلاح الاجتماعي، بالإضافة الى مبادىء الثورة الفرنسية الكبرى وطروحات المنظرين الاصلاحيين والثوريين التي تلتقي مع مصالح الشرائح الدنيا في المجتمع. ضم الحراك اللبرالي والثوري الى صفوفه مجاميع كبيرة من الطلبة والفنانين والكتاب واصحاب الحرف اليدوية وتطلع الى ايجاد اوروبا دستورية ومتطورة في كافة الجوانب وتنصف العمال والفقراء. رفعت الانتفاضات شعار حل النزاعات الدولية بالطرق السلمية والتفاوض والتوقف عن اشعال الحروب المدمرة. بالامكان ابراز مطالب ثورات ربيع اوروبا كما يلي: 1- اجراء اصلاحات دستورية والاقرار بحق التصويت في الانتخابات لكل المواطنين المؤهلين. 2- اشاعة حرية الصحافة والرأي وتحقيق الرقابة عليها. 3- تحسين ظروف العمال المعاشية ورفع الاجور وتقليل ساعات العمل للنساء والاطفال. 4- تحقيق العدالة الاجتماعية وايلاء الاهتمام بالفقراء. 5- تأمين حرية التجمع والتظاهر. بالرغم من قيادة الطبقة الوسطى للثورات ووضعها تحت السيطرة، انتاب حكام دول اوروبا القلق لأن القارة تترنح امام طوفان الاحداث ويعمها العنف والهيجان الذي يؤثر على الاقتصاد وعلى كمية انتاج الآلة الصناعية في ظروف غياب الاستقرار. بالنتيجة تباينت مواقف قيادات الحراك الجماهيري، وخاصة بين اللبراليين المعتدلين وبين الراديكاليين عندما خشي المعتدلون من وصول لهب النيران الى عتبة الانظمة القائمة وتلتهم ضوابط تأمين استقرار المجتمعات والبلدان.
مع الاعتراف بالدور المركزي للطبقة الوسطى في قيادة ثورات ربيع اوروبا، لا يمكن تجاهل تأثير الراديكاليين ولا بصمات الرعيل الاول من المفكرين الاشتراكيين الاصلاحيين والثوريين اللذين كسبوا ثقة الشرائح العمالية وجذبوا الى صفوفهم العديد من المثقفين اللبراليين. اشعرت تلك التطورات المحافظين من الطبقة الوسطى بالقلق وتنبهوا الى خطورة سقوط خميرة الهيجان في العجينة، مما قد يؤدي الى الانفجارات الجماهيرية المنفلتة والى انهيار البنيان الاجماعي ومصادرة الملكية الخاصة تحت ذريعة تحقيق العدالة الاجتماعية. لكن اللبراليين المعتدلين اعتقدوا بإمكانية احتواء التمرد والهيجان ووضعه تحت السيطرة عن طريق الاصلاحات الاقتصادية والسياسية والاستجابة للمطالب المشروعة للشرائح العمالية والفقيرة وتخفيف ثقل نير الاقطاع على الفلاحين وتقليص امتيازات طبقة النبلاء، وخاصة في الريف.
الى منتصف القرن التاسع عشر، لم تكن الاحزاب بالمفهوم الحديث قائمة حتى في بريطانيا ذات العراقة التقليدية في الحياة السياسية. في حينه تمثلت الاحزاب بشريحة النبلاء والارستقراطيين اللذين جمعتهم العلاقات الشخصية وتقارب المواقف والمصالح وغابت الايديولوجيا والبرامج السياسية. لكن احداث وتجارب ثورات ربيع الشعوب اثرت الحركات السياسية وانضجتها لولادة الاحزاب التي تمتلك الاستراتيجية وآفاق التغيير وتستوعب شرائح متنوعة من الطيف الاجتماعي. تلقت تلك الاحزاب اللمسات اللبرالية التي اهتدت بها الطبقة الوسطى اثناء قيادتها الاحداث السياسية المتحركة. انطلقت الموجة الاولى للتيار اللبرالي بين سنوات ( 1815 – 1820 ) واعقبتها نهوضه واكتسابه الزخم بين سنوات ( 1820 – 1848 ) عندما انتفضت الامم اما لازاحة الهيمنة الاجنبية او لتحقيق تطلعاتها في توحيد كياناتها الممزقة. في ضوء تلك التطورات اعتبر الديمقراطيين انفسهم قريبين من طروحات التيار اللبرالي، واتفق كلاهما على حق جميع المواطنين التصويت في الانتخابات ورفض معيار ملكية او ثروة الفرد كشرط لامتلاك ذلك الحق. دعا التياران الى ضرورة تقليص الهوة بين طبقات المجتمع وتحسين ظروف عمل العمال وتوفير الفرص المتكافئة للجميع في العيش والتعليم والمواطنة. لم يكن هدف كلا اللبراليين والديمقراطيين الراديكاليين اشعال فتيل ثورة تخرج عن السيطرة، بل الاقتصار على انقاذ العمال وابناء الطبقة السفلى من محنتهم وبؤسهم مع الابقاء على الانظمة الملكية وجعلها اكثر دستورية. بالرغم من نقاط الالتقاء، لم تستمر جبهة اللبراليين والراديكاليين متماسكة، بل طويت صفحة شهر العسل واطلت الخلافات برأسها وبرزت التناقضات، لا سيما بعد اندلاع ثورات 1848 واعتماد كل طرف على فئات وشرائح اجتماعية متباينة. بالنتيجة، ظهرت اصطفافات جديدة وتبنى الديمقراطيون موقف الثوريين الذين تمتعوا بعلاقات دافئة مع الشرائح العمالية وابناء الطبقة السفلى ودعوا الى تثوير الجماهير وتأسيس تنظيم سياسي مستقل يمثل تطلعاتهم.
بعد ان افترق اللبرالييون والراديكاليون، لم يقتنع الأخيرون بعد بالاصلاحات الدستورية المحددة، بل دعوا لقيام نظم جمهورية تشيع الحريات وتقلص الهوة او تردمها بين طبقات المجتمع وتزيل كافة الامتيازات التي تمتعت بها الطبقة الارستقراطية والثرية. في ظل تلك التطورات فقد اللبرالييون القدرة على قيادة جماهير الطبقة السفلى وبرز دور الثوريين اللذين بادروا الى توعية وتهيئة العمال والشرائح المهمشة والفقيرة. بالتالي نجحت المبادرة لتأسيس تنظيم سياسي ثوري في المانيا والذي اطلق انتفاضة جماهيرية في مدينة بادن، لكنها تلقت ضربة قاسية من السلطات، وتوقف نشاط تلك المنظمة التي حفزت لتأسيس شبيهات لها في عدد من المدن الالمانية. انضجت تلك التجربة الظروف لتأسيس حزب يعبّئ الجماهير ويحتضن النخب الفكرية الثورية من الطبقة الوسطى والسفلى والتحرك وعدم ترك اليدين ساكنة في الحضن، مما دلل على انطلاق الكفاح الثوري، ولا سيما في المانيا. في تلك البيئة السياسية ارتفع سقف المطالب لتشمل ليس فقط الاصلاحات الدستورية، بل تقويض اركان النظم القائمة عن طريق تسليح الشعب بدل الجيش الرسمي وانهاء كافة امتيازات النبلاء وابناء الارستقراطية والاعتراف بحقوق متساوية للجميع ودون التمييز على اساس طبقي. لكن دعوات ومساعي الرعيل الأول من القادة الثوريين بقيت صرخات احتجاج ونداءات ولم ترقى الى مستوى تعبئة الجماهير وتحريكها للثورة.
تدريجياً استطاع الراديكاليون في المانيا من ترسيخ موطىء قدمهم بالرغم من القاء اللبراليين الشكوك حول برامجهم واثارة المخاوف بخصوص تطلعاتهم السياسية التي تأخذ بالبلدان الى الفوضى، ولا سيما عندما يخرج الرعاع والمنبوذون عن السيطرة ويزلزلون الارض ويحرقون الاخضر واليابس. منتصف شهر حزيران ( يونيو ) 1848 عقد الراديكاليون مؤتمرهم في مدينة فرانكفورت بحضور 234 مندوباً يمثلون اكثر من 60 مدينة المانية. من بين الشخصيات المؤثرة الي اكسبت المؤتمر وزناً كان كارل شابير واندرياس غوتشالك وموسيس هيس وكارل ماركس وفردريك انجلز. لم يخرج المؤتمر بصيغة متفق عليها، ولم يتوصل الى قرارات يقبلها الجميع، وسادت الخلافات وتناقضت المواقف من النظام القائم في المانيا آنذاك. اصر بعض الحاضرين على المطالبة بإصلاحات دستورية وضمان حق التصويت لجميع المواطنين في الانتخابات واشاعة حرية الرأي والصحافة، في الوقت الذي اتخذ آخرون منحناً آخر ودعوا الى تقويض الملكية واقامة نظام جمهوري برلماني في البلاد.
المانيا حاضنة الثورة
بقيت المانيا الى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر مقسمة الى 38 ولاية او دويلة من دون حدود جغرافية ثابتة وتحكمها القوانين الاقطاعية وترزح تحت تركة ثقيلة من المشكلات الاقتصادية والسياسية ويعمها التخلف بالمقارنة مع بريطانيا وفرنسا بسبب تلكؤ قطاع الصناعة والزراعة وفساد اجهزة الدولة. بالرغم من تلك المعوقات لم يكن المجتمع الالماني راكداً، بل متحركاً ووثاباً وحيوياً، خاصة بعد ان الهمت مبادىء الثورة الفرنسية الكبرى 1798 نخبه المثقفة وطلائعه الفكرية. في هذا الخصوص لا بد من الاشارة الى نتائج الصراع العنيف الذي اندلع في الاتحاد السويسري اذبان العقد الرابع من القرن المذكور آنقاً بين سكنة الريف والمزارعين المحافظين من جهة وبين اهل المدن اللبراليين في الجهة المقابلة. حينها اتخذ الحضريون موقفاً معادياً للكنيسة الكاثوليكية وتطور الصراع الى الحرب الاهلية التي انتهت سنة 1847 بإنتصار اللبراليين، مما اثر على المشهد في المانيا وانضج فكرة اقامة الفدرالية التي تتعايش تحت ظلها عدة دويلات ضمن بلد واحد يتمتع بحدود واحدة وتحكمه دولة مركزية.
من اجل التعرف على تاريخ المانيا السياسي الوسيط، لا بد من الاشارة الى انطلاق اولى ثوراتها التحررية سنة 1813 بقيادة دولة بروسيا ضد الاحتلال النابوليوني والتي نالت تأييد وتعاطف كل ابناء العرق الجيرماني، ودفعت الى تشكيل نواة الشعور القومي بين المثقفين وطلبة الجامعات الذين اسسوا الحركة الوطنية الديمقراطية سنة 1817. في عام 1830 اندلعت الثورة في برلين تطالب بالاصلاحات السياسية والاجتماعية، مما أقلق دول الحلف المقدس ودفعها ليس فقط لإخماد الانتفاضة، بل وزرع اليأس في قلوب اللبراليين واحباط مشاريعهم والحفاظ على النظم الملكية الدستورية والابتعاد عن التطلع الى تأسيس أنظمة راديكالية لأنها مخيفة ومتناقضة مع سنن الطبيعة ( حسب رأيهم ). في تلك الاجواء اعاد اللبرالييون الى ذاكرتهم كابوس حقبة روبسبير دانتون الدموية ( 1791 – 1794 ) وحروف نابليون الاستحواذية التي افرزت الرعب بدل الحرية والامان وانجبت الفوضى بدل تطبيق الدستور وتسببت بالدماء بدل الخير والرفاهية وبالدكتاتورية بدل الديمقراطية. بالرغم من كل تلك الهواجس انتفض المجتمع الالماني، لا سيما عندما لامسته رياح ثورات ربيع اوروبا وكأن صخرة سقطت في بركة الماء وجعلت المفاهيم الثورية تتفاعل وتثري التحرك الجماهيري، مما آل الى تآكل النظام الاقطاعي وتلاشيه التدريجي، واهتزاز اركان الدولة القديمة. بالنتيجة نهضت الطبقة الوسطى وانبثقت الطبقة العاملة اليانعة من رحم الاوضاع الجديدة، وفي الوقت ذاته تطورت طرق المواصلات وارست الصناعة اركانها ونشأ الاقتصاد اللبرالي في المانيا والذي فاق مثيله في بريطانيا بلبراليته، لأن الاقتصاد الالماني اتخذ منحى يختلف الى درجة ما عن نظرية آدم سميث الذي يعتبر منظّر الاقتصاد اللبرالي والاب الروحي للاقتصاد المستند على المنافسة الفردية الحرة. اعتمد الاقتصاد في المانيا على قوة اقتصاد الدولة، ولم يتخذ الطابع الفردي البحت، مما مهد الطريق لتأسيس الامبراطورية الثانية بعد تحقيق وحدة اجزائها سنة 1871.
في اجواء اختمار الافكار الثورية ترعرعت في المانيا اولى نواتات المفاهيم الاشتراكية الاصلاحية حينما دعا المفكر الاشتراكي موسيس هيس الى اقامة اشتراكية اجتماعية واسس تنظيماً لتحقيق ذلك الهدف. تنبأ هيس بحصول استقطاب بين قوتين في المجتمع بحيث تقف البرجوازية عند احد القطبين والعمالة المنتجة عند القطب الآخر. لم تنل حركة هيس التأييد المطلوب ولم تتمتع بالفاعلية التي تجعلها حركة جماهيرية ذات زخم وصدى. مع ذلك، تواصل الحراك الجماهيري وانطلقت ثورة برلين في آذار ( مارس ) 1848 تطالب بالاصلاحات الدستورية واطلاق حرية الصحافة والفكر وانهاء كافة مظاهر الاقطاع. لكن قوات الملك البروسي فردريك وليم الرابع جابهت الثوار بالعنف وسقط 138 مواطناً، مما اضطر الملك الى اصدار اوامره بإنسحاب الجيش والعودة الى ثكناته، وطلب من الثوار الهدوء بعد ان قدم لهم المواساة ووعدهم بالاصلاحات الدستورية وتشكيل حكومة تضم لبراليين وتعمل لبناء المانيا جديدة. بالرغم من استقرار الاوضاع وانحسار مد الثورة بعد ان سجل الثوار بعض الانتصارات تحت ظل الملكية، اعتبرت تلك المرحلة مقدمة لجولات مستقبلية، لأن روح الثورة بقيت يقظة في قلوب الراديكاليين وشرائح العمال واصحاب الحرف اليدوية والنخب المثقفة وفقراء الفلاحين. في ربيع عام 1849 اشعل الديمقراطيين الراديكاليون فتيل ثورة شملت عدة ولايات المانية وابرزها انتفاضة مدينة دريسدن ( Dresden ) في مقاطعة ساكسونيا والتي اشترك فيها الاشتراكي الفوضوي الروسي باكونين. عندما هرب ملك المقاطعة ووزراؤه الى قلعة هوهين شتاين، شكل الثوار لجاناً ثورية لحفظ النظام. اقلقت تلك التطورات النظم المحافظة في اوروبا ومن بينها روسيا القيصرية ودفعها للتضامن وكسر شوكة الثوار وايقاع ضحايا كثيرة في صفوفهم واعادة الملك الهارب الى عرشه.
لم تثن انتكاسة انتفاضة مدينة دريسدن الثوريين عن تعبئة الجماهير في كافة دويلات ومقاطعات المانيا وتأسيس الجمعيات ذات التوجهات الراديكالية. بالنتيجة، اندلع التمرد الشعبي في مدينتي بادن وهانوفر في حزيران ( يونيو ) عام 1849، لكن تم سحقه وهرب العديد من الثوار الى سويسرا. بعد فترة الهيجان الذي اجتاح عدة ولايات المانية منتصف سنة 1849 انبثقت تنظيمات عمالية ذات كيان مستقل والزمت اعضاءها بمواصلة الكفاح حتى وان تطلب الامر حمل السلاح واللجوء الى العنف. بالرغم من الدور القيادي للمثقفين اللبراليين من ابناء الطبقة الوسطى في ثورات 1848، شهدت المرحلة نضوج الوعي السياسي الطبقي عند الشرائح العمالية وفقراء الفلاحين، مهدت تلك الاجواء الارضية وعبدت الطريق لتوحيد الولايات الالمانية الممزقة، لا سيما بعد ان امتلأ ابناء الطبقة الوسطى بالامل ووظفوا الكبرياء الوطنية لذلك الهدف. من جانيه استثمر اوتو بسمارك ( 1898 – 1815 ) نتائج الثورات داخل المانيا وخارجها وتمكن من ابراز المانيا موحدة وبموقع متميز على خارطة العالم سنة 1871 عن طريق انجاز الانتصارات العسكرية في الداخل وفي الخارج. اظهرت سياسة بسمارك تغلب الايديولوجيا الوطنية العسكرية على التوجه اللبرالي والثوري، مما مكنه من سحب البساط من تحت اقدام الفصيل الثاني. بعد تحقيق الوحدة الالمانية تجاوزت تأثيرات تجربتها نطاق حدودها وأثّرت بعمق على الاوضاع في معظم الدول الخاضعة لهيمنة امبراطورية النمسا والمجر.
لم تكن العاصمة فيينا، عرين عراب الاستبداد والمحافطية، المستشار مترنيخ في منأى عن تأثير رياح الثورات. في تلك المدينة انتفضت مجاميع الطلبة وفرضت سيطرتها على الشارع وطالبت بتنحية مترنيخ وبإجراء اصلاحات دستورية واقامة حكم ملكي دستوري. من جانبهم رفع الراديكاليون سقف المطالب ودعوا الى اصلاحات سياسية واقتصادية جذرية وايجاد حل للفقر المدقع الذي ينهش بشرائح واسعة. بعد ان انفجرت الاوضاع كالبركان والقيت الخطب الحماسية التي تطالب بوضع حد للقمع والاستبداد، اندفعت قوات الدولة ومارست العنف واطلقت النار مما اوقع عدد من القتلى في الحال. اثرها تصاعدت وتيرة الاحتجاجات واقيمت المتاريس ووقعت المدينة في قبضة الفوضى. عندما ادرك المستشار مترنيخ بأن الاحتجاجات ـخذت منحى قد يخرج عن السيطرة، اقترح ان يعلن ولي العهد الامير فينيدش غراتس نفسه دكتاتوراً ويستخدم كافة الصلاحيات لإعادة الهدوء والنظام. لم يجد ذلك نفعاً، بل تفاقمت الامور، مما اضطر مترنيخ الى تقديم استقالته والهرب في نفس الليلة مع افراد عائلته خارج النمسا والاستقرار في انجلترا. بالرغم من منح ولي العهد فينيدش نفسه صلاحيات استثنائية في استخدام القوة، فشلت الشرطة في احتواء الهيجان، مما اضطر الحكومة للاذعان لبعض مطالب المنتفضين، مثل اطلاق حرية الصحافة والتجمع وتغيير بعض القوانين لصالح الطبقة السفلى والحد من الاستغلال المريع للعمال. ادى سقوط المترنيخية الى اهتزاز اركان حكم سلالة هابز بورغ، وانبلاج بصيص الامل لمستقبل افضل لشعب النمسا ولشعوب شرق اوروبا. مع ذلك استمرت السلطات النمساوية على المطاولة وادارة الازمة ونجحت بوضع نهاية لانتفاضة فينا او تمييعها، مما مكن المحافظين من الثبات على اقدامهم ثانية.
في بوهيميا ( التشيك ) اندلعت ثورة براغ تطالب بتخفيف ثقل نير الهيمنة النمساوية والحصول على ادارة ذاتية ضمن الامبراطورية، لكنها لم تحقق الغرض المطلوب. لم ترضى غالبية المجريين البقاء كجناح شرقي ذليل تابع لجسم امبراطورية النمسا، مما جعل ذلك الجناح مثل تلك الابنة العاقة. انتفض المجريون مطالبين بالاستقلال عن فيينا وتأسيس حكم ملكي دستوري خاص بهم يحقق الاصلاحات وينهي العلاقات الاقطاعية ويلغي الدستور النمساوي البالي. في شرق وجنوب شرق قارة اوروبا رفضت الشعوب السلافية في رومانيا وصربيا وكرواتيا سيطرة الاقلية المجرية عليهم وانتفضت مستلهمة بالكبرياء الوطنية والقومية. لكن النظم العميلة في تلك البلدان تمكنت من كسر شوكة الثوار الوطنيين بعد ان تلقت المساعدة من السلطات النمساوية.
رياح ثورات ربيع الشعوب تلامس ايطاليا
كان لنهوض الوعي القومي والشعور الوطني في اوروبا تأثيرات عميقة على ايطاليا الممزقة الى دويلات وممالك، وتعاني من الهيمنة النمساوية والصراعات الداخلية، مما جعلها تربة خصبة لانفجار الثورات المتلاحقة. عندما فشلت الثورة الاولى سنة 1820 وسحقت بتعاون نظام النمسا مع القوى العميلة داخل ايطاليا تبعتها ثورة 1831 التي أُخمدت ايضاً بتدخل مباشر من المستشار مترنيخ واعدم العشرات من قادتها واودع المئات في المعتقلات. لم تثن تلك الاخفاقات عزيمة الثوار، بل تقوى عودهم لجولات اخرى تهدف لتوحيد البلاد وطرد الاحتلال النمساوي. صقلت التجارب المريرة جيلاً من الشباب يؤمن برسالة الوحدة الايطالية وعلى رأسهم مازيني ( 1805 – 1872 ) البطل الذي سعى من اجل ايطاليا موحدة وجمهورية النظام ولعب دوراً بارزاً في بعث الوعي القومي. وهي تشق طريقها لإنجاز مشروع الوحدة، شهدت ايطاليا عدداً من الانتفاضات والحروب التي لم تتوج بنتائج ايجابية بسبب ضعف التنظيم في صفوف الثوار واستشراء الخلافات بينهم من ناحية وتعجرف مترنيخ الذي اعتبر ذلك البلد مجرد ظاهرة جغرافية لا تمتلك اية فرصة او امل للانتقال الى دولة موحدة ذات سيادة كاملة. بالرغم من عبقرية مترنيخ في السياسة وادارة النظام المحافظ، عكس موقفه عدم استيعابه لنهوض الامم او تجاهله لتأثير رياح الافكار التحررية التي هبت على عموم اوروبا. في خندق الثورة التزم الرمز مازيني بالسقف العالي للطموح وبالثقة بتحقيق الهدف واكد على ان الايطاليين امة واحدة وليسوا شراذم وشيع متصارعة. واستمد مقومات القوة والديمومة من سكان القرى والارياف واعتمد على شريحة الشباب وعلى الاصلاحيين والراديكاليين.
في 12 شباط ( فبراير ) 1848 اندلعت ثورة في جزيرة صقيلية بقيادة الديمقراطيين الراديكاليين وليس اللبراليين او المعتدلين، مما بلور مواقف متباينة من قبل الدول الكبرى تجاه الاحداث في ايطاليا. من جانبها فضلت بريطانيا ان تكون ايطاليا دولة موحدة تستطيع مواجهة النمسا وفرنسا وتتكافىء معهما بالقوة، لكن الاولى لم تلعب ذلك الدور الحاسم لمساعدة الثوار، مما اضعفهم واربكهم وتسبب بنشوء الخلاف بين المعتدلين والراديكاليين. اما النمسا وبقية النظم المحافظة فلقد دعمت اصدقاءها وعملاءها داخل ايطاليا لخشيتها من تنامي زخم الشيوعيين الناشىء وهلعهم من سريان الخطر الاحمر. في هذا السياق نبه السياسي الاسباني المحافظ ام دي موري ( Mory ) الى مخاطر تجاوز مطالب ثورات اوروبا حدود الاصلاحات وتحولها الى ثورة اشتراكية او انتفاضة الرعاع والجياع التي تعصف بكافة النظم القائمة. في ظل تلك الذهنية السياسية رفض بابا الفاتيكان حرب الثوار الايطاليين على النمسا، ودعا الى الوقوف الى جانبها وعدم ترك الامور بيد الثوريين المنفلتين ( حسب رأيه )، مما برر احتلال النمسا لأجزاء كبيرة من ايطاليا تحت ذريعة حماية الامن بالنظام وصيانة الملكية الفردية والبنيان الاجتماعي من الانهيار. بالنتيجة تمكنت النمسا من الانتصار في حربها ضد الثوار الايطاليين، والذي اعتبر نصراً لكافة النظم المحافظة التي نظرت الى الثائرين كمتهورين أوغاد ومتطرفين ركبوا رؤوسهم. لم تخف الطبقة الوسطى والمؤسسة البابوية والقوى التقليدية ذات الامتيازات خشيتها من انتشار ضياء الافكار الجديدة التي يبثها الاشتراكيون او الشيوعيون اليافعون، لأن الطرف الاول ينظر الى الدولة القائمة حامية للقانون والنظام والملكية الفردية والتقاليد والقيم الموروثة. بالرغم من قناعات المحافظين ومواقفهم وممارساتهم تجاه التغيير، استمر حماس قادة الثوار مازيني وغاريبالدي وبعض اساتذة الجامعات وطلبتها وجنرالات سبق وخدموا اثناء الحروب النابوليونية، بالاضافة الى متطوعين قدموا من قارة امريكا.
لم تخر عزيمة قادة الثورة في ايطاليا عندما انتكست في العديد من مراحلها، لأنهم ايقنوا بأن الكبوة مؤقتة والوثوب مؤكد والانتصار قادم طالما تنبض روح الثورة مع خفقات القلوب. بعد ان تشتتت معظم الفصائل المسلحة وتراجعت امام زحف جحافل الجيش النمساوي والفرنسي في بعض مفاصل ومراحل الثورة، لملم غاريبالدي مجاميع المقاتلين المبعثرة واعاد تنظيمها وعبئها لاستئناف الهجوم. اهتدى الثوار بمقولة مازيني التالية : "عندما يثور بسطاء الناس يكون الله على رأسهم"، مما شحن المقاتلين بالعزيمة والأمل بأن الثورة في ايطاليا وعموم اوروبا لن تموت، لا سيما بعد ان كسبت تعاطف شعوب القارة من انجلترا والى هنغاريا وشبه جزيرة البلقان. بالرغم من بسالة الثوار وتضحياتهم امتلكت جيوش النمسا اليد العليا واحتلت مدينة ميلانو بسبب غياب تكافؤ السلاح والعدد بين الطرفين، بالإضافة الى دور الجيش الفرنسي ومساهمته بإسقاط جمهورية الرومان الايطالية، الذي اعتبر بمثابة سقوط آخر معقل لثوار اوروبا ونصراً للنظم القائمة. وهكذا بقيت ايطاليا لحين تلك المرحلة ممزقة وتحكمها القوى المحافظة التي تنال التأييد والدعم من النمسا ومعظم الدول الكبرى. عندما تمكنت القوة وبطش السلاح من سحق الثورات، فشلت في الوقت ذاته بوأد الافكار التحررية او حجب انتشارها، مما دفع عراب المحافظية مترنيخ الى اطلاق القوم التالي: " عندما توصد الابواب بوجه تسرب الافكار، فإنها تدخل من النوافذ".
احد الاسباب الرئيسية التي ادت الى فشل توحيد ايطاليا في تلك المرحلة كان اعلان البابا بيوس التاسع ايقاف الحرب ضد النمسا وسحب قواته من المواجهة، مما ادى الى ازدياد السخط عليه واضطراره للهرب الى غاييتا. من هناك اعلن التحريم الكنسي بحق الثوار وناشد كاثوليك العالم للدفاع عنه واعادته الى مملكته وكرسيه الرسولي. بعد ان اخمدت الثورة تم اعلان دولة البابا جمهورية تحت اسم الجمهورية الرومية التي امتدت الى البندقية وتوسكانا وجزيرة صقلية. من المفارقات التي حصلت آنذاك كان تحالف جمهورية فرنسا الثانية برئاسة لويس نابليون، حفيد نابليون بونابرت، مع البابا بقصد اجهاض قيام جمهورية ايطاليا الفتاة بقيادة الثائر مازيني. بقصد التظليل ادعى لويس بأن تدخله يهدف لاحلال التصالح بين الثوار وبين البابا ومنع جيش النمسا من التدخل بشؤون ايطاليا. اثناء تقدم القوات الفرنسية ناشد لويس الايطاليين لفتح ابوابهم امام قواته الصديقة، لكن الهدف الحقيقي توضح عندما حاصر الجيش الفرنسي روما وامطرها بوابل من قنابل المدفعية بحيث لم تستطع قوات الثائر غاريبالدي الصمود وانسحبت مسيرة 500 ميل تقريباً الى مناطق جبلية وعرة وهي ملاحقة من قبل الجيش الفرنسي والنمساوي. بالنتيجة، سقطت روما واستسلم اهلها واعيد البابا بيوس التاسع الى الكرسي الرسولي. بعد اخفاق ثورات تلك المرحلة وفشل قيام الدولة القومية الموحدة، قاد الخطوة اللاحقة الملك الايطالي فكتور الثاني والى جانبه ماسيانو وعضو البرلمان كافور ومن ثم الثائر غاريبالدي. تتوجت تلك الجهود بتحقيق الوحدة الايطالية تحت ظل نظام ملكي دستوري سنة 1859.
لهب الثورة تنتشر من فرنسا ثانية
بعد ان اسدل الستار على عهد نابليون بونابرت سنة 1815، أنهت الدول المنتصرة والمنضوية تحت خيمة الحلف المقدس الجمهورية الفرنسية الاولى واعادت الملكية بقيادة لويس الثامن عشر. اجرى الملك اصلاحات دستورية متواضعة وقرر اعادة النظر في تشكيلة مؤسسات الدولة ومراجعة تطبيقات مبادىء الثورة الفرنسية الكبرى التي توهج بريقها في عموم القارة لأكثر من عقدين. لم تستطع الملكية الجديدة من استيعاب التطورات، مما فجر الاحتجاجات والانتفاضات التي دعت الى تقويض ذلك النظام. في تموز ( يوليو ) 1830 عمت اجواء الثورة معظم المدن الفرنسية ونالت تعاطف الطبقة السفلى واصحاب الاعمال الصغيرة والحرفيين وغرقت باريس في الفوضى، مما اجبر الملك كارل العاشر الى التنازل عن العرش ليخلفه لويس فيليب الذي اجرى على الفور بعض الاصلاحات الدستورية بقصد امتصاص غضب الشارع. اقلقت تلك التطورات النظم المحافظة في امبراطورية النمسا وروسيا القيصرية وبروسيا التي خشيت من انتشار شظايا ثورة باريس وتجاوزها حدود فرنسا، لا سيما والنظام بها عاجز لوحده في كبح جماح الثوار ومعاقبة مثيري الشغب. كخطوة استباقية خططت تلك الدول للقيام بغزو عسكري لفرنسا، لكن ذلك المشروع لم يرى النور ولم ينطلق. لم تكن مخاوف النظم المحافظة مجرد اوهام، بل تحققت التوقعات عندما امتدت شرارة ثورة آذار الباريسية الى بعض دول اوروبا وتسببت بإنهيار الملكية في هولندا عندما انتفضت بلجيكا ضد هيمنتها واجبرتها على التخلي عن مناطقها الوطنية المحتلة في جنوب البلاد. بالتالي، اعترفت الدول العظمى بالكيان البلجيكي كدولة تتمتع بالاستقلال والسيادة سنة 1831 تحت ظل ملكية دستورية. في ضوء تلك التطورات استمد شعب بولندا عزيمة مضافة ونهض ضد هيمنة دول الحلف المقدس على أرضه وصمّم على تأكيد ذاته القومية. في سبيل اقامة دولته القومية المستقلة تحرك الجيش البولندي الناشىء والى جانبه النبلاء اللبراليين وعامة المواطنين وجابه القوات الروسية واجبرها على الانسحاب من اجزاء واسعة من الارض البولندية التي سبق واحتلتها تلك القوات. إثرها أعلن البرلمان البولندي في كانون الاول ( ديسيمبر ) 1834 قيام دولة وطنية مستقلة تتمتع بالسيادة على كل ارض بولندا التاريخية والمعترف بها منذ سنة 1772. بالرغم من تلك الانجازات العسكرية والسياسية وتحقيق الاستقلال الذاتي، وخاصة في العاصمة، كراكاو، استمر نفوذ بروسيا الالمانية والنمسا قائماً في تلك البلاد، وبقيت غالبية المواطنين تعيش القهر والظروف المعاشية غير الانسانية.
لم تكن ثورة باريس 1830 الصفحة الوحيدة في سجل ثورات فرنسا، بل احدى صفحاته. بعد سنة من التاريخ المذكور اعلاه انتفض في آذار 1831 عشرون الف عامل في مدينة ليون وهم يحملون السلاح ويهتفون ( اما ان نعمل احراراً او نموت مقاتلين ). حينذاك لعب الفنانون والادباء الفرنسيون دوراً بارزاً في إذكاء روح الثورة، واستذكر المثقفون الرومانسيون بإكبار امجاد اجدادهم الذين فجروا الثورة الفرنسية الكبرى. تفاقمت الاوضاع في المدينة، مما دفع رجال الشرطة لإستخدام العنف واطلاق النار على المتظاهرين. هاجت النفوس وخرجت الامور عن السيطرة ورد العمال بإطلاق الرصاص من بنادقهم المتواضعة، واستمرت المصادمات المتقطعة الى شهر نيسان ( ابريل ) وسقط عشرات القتلى. بالرغم من نجاح القوات الحكومية في اخماد ثورة مدينة ليون، وصلت شرارتها الى باريس ثانية حيث نظم العمال انفسهم وحملوا السلاح واقاموا المتاريس. خلال ذلك الهيجان وفقدان النظام انقسم المجتمع الباريسي الى جبهتين: جبهة العمال والفقراء والشرائح الراديكالية المثقفة والمتعاطفة مع الثائرين، وجبهة البرجوازيين الاغنياء والمحافظين والارستقراطيين الذين ارتعبوا من الجياع والغوغاء والمنبوذين والراديكاليين الذين يهددون اركان النظام القائم ومستقبله.
ارخت احداث ثورة باريس بظلال قاتمة على اهلها وهم يعيشون اياماً عاصفة، لا سيما عندما امتد امامهم مستقبل مجهول وفي خزين ذاكرتهم ثقل احداث الفترة الروبسيسرية التي كانت لاتزال تؤرقهم. اقلق شعار "تحرير العمال والمضطهدين" الحكومة وزرع الهلع في قلوب المسؤولين، مما اوجد اصطفافات جديدة مكنت السلطة من استقطاب شرائح اجتماعية واسعة واخماد ثورة عمال باريس 1831 وانقاذ الملكية. حينها استعاد المحافظون انفاسهم واعتقدوا بأن عصر العصيان والتمرد والهيجان قد ولى واستقرت الامور لصالح الانظمة القائمة. بعد فشل تلك الانتفاضة انحسرت الآمال في مشاريع الراديكاليين وتراجع زخم التيار الثوري ليس في فرنسا فحسب، بل وفي عموم قارة اوروبا، في الوقت الذي تقوت فيه شوكة النظام في امبراطورية النمسا وبروسيا اللتان تخلتا عن لغة الحوار والتفاهم مع المنتفضين واستعانتا بالقوة والتلويح بإستخدام السلاح. وفرت تلك الظروف الفرصة لدولة بروسيا لسحق ثورة جماهير برلين وسهلت الامر على النمسا لاستعادة هيمنتها على اجزاء من ايطاليا. بالرغم من تلك الانتكاسات استمرت نزعة الثورة في فرنسا حية وناراً مستعرة تحت الرماد تتحين الفرصة للوثوب والالتهاب. بالنتيجة اندلعت ثورة عنفية في باريس في شباط ( فبراير ) 1848 والتي رافقتها احداث مروعة حينما قتل المئات في ساحات المجابهة وفارقت الحياة آلافاً اخرى في المستشفيات من دون ان يتلقوا العلاج المطلوب، وتم العثور على اشلاء المئات من المصابين الذين زحفوا نحو الحقول وهم يكتوون بجراحاتهم ويطلقون صرخات الألم وطلب النجدة. في آيار ( مايو ) من نفس السنة وقعت اعمال عنف في العاصمة الفرنسية وسقط عشرات الضحايا واعتقل الآلاف الذين تحولت طموحاتهم الى الأمل المفقود، خاصة عندما استحوذت الطبقة الوسطى على المشهد السياسي ومارست اسلوب تسويف الاهداف الحقيقية للثورة او الانتفاضة. حينها تعانقت ذكريات الفرح والحزن والرعب والنشوة لأيام ثورة 1789 مع التجارب المأساوية لإنتفاضة 1848. بالرغم من سحق الثورة المذكورة، تمكن الثوار من جني بعض الثمار، ولا سيما وتتوجت التجربة بالاطاحة بحكم لويس فيليب، آخر ملك سلالة البوربون وتأسيس الجمهورية الفرنسية الثانية.
جعلت الارتجاجات والتصدع الاجتماعي وغياب الاستقرار الايام اللاحقة حبلى بالمظاهر السلبية في حياة الفرنسيين ونشطت الاغتيالات السياسية وسادت روح الثأر والانتقام، مما انعش النهج الدكتاتوري في الحكم تحت ذريعة ضبط الأمن واعادة الهدوء. فقدت الضوابط والقيم مفعولها وراج النفاق السياسي وازداد عدد الجرائد والصحف الرخيصة التي تحمل العناوين الديماغوجية والعاطفية مثل صوت الشعب وضمير الشعب وروح الشعب وممثلي الشعب وما شابه. بالإضافة لتلك انتشرت صحافة العنف واثارة الغرائز وترويض الاذهان، مما احال مبادىء الاخوة والمسارات والعدالة الى خديعة بحق الفقراء والمنبوذين وسلاح بيد الرأسماليين لشرعنة استغلال العمال. اوهمت فترة نشوة الهيجان والانتصارات المؤقتة والاوضاع المشوشة طلائع العمال والنخب الراديكالية والمنظرين الثوريين واعتقدوا بنضوج الوقت للوثوب الى المقدمة ورفض المكوث في المؤخرة مغمورين وبائسين. لم يكتف هؤلاء بتحقيق تلك الطروحات في محيط اوطانهم، بل اعطوا مشاريعهم في الثورة طابعاً أمميًاً. في تلك الاجواء الذهنية اندفع الثوريون الرومانسيون ورفعوا سقف طموحاتهم وكرسوا حياتهم من اجل الشعوب المظلومة والشرائح المقهورة وحلموا بإختزال الزمن واقامة نظم انسانية نموذجية. لم يشهد الواقع السياسي الى الربع الأخير من القرن التاسع عشر بصمات واضحة لنشاط الطبقة العاملة ولا دلائل لنضوج برامجها السياسية التي تمكنها من ادارة دولة المستقبل.
الى جانب الافرازات السلبية والطموحات الطوبارية لبعض الاطراف، انتشرت المنتديات الثقافية والاجتماعية في فرنسا وتحولت الى محافل لتوعية وتنظيم الجماهير وغدت نماذج اقتدي بها في ايطاليا وبولندا والمانيا. في تلك الاجواء لم تستطع جمهورية فرنسا الثانية تجاهل المتغيرات، مما دفعها لإقامة علاقات سلمية مع الشعوب المقهورة وايدت حقها في نيل حريتها واستقلالها، واحترمت الحدود الدولية التي رسمتها معاهدة فينا 1815. بالإضافة لهذا فتحت ذراعيها واستقبلت مئات السياسيين المنفيين او الهاربين او اللاجئين اليها ووفرت لهم العيش والاجواء للنشاط السياسي.
بريطانيا تتعايش مع التيارات الاصلاحية
في خطوة إحترازية بادرت بريطانيا قبل بقية دول غرب اوروبا الى اجازة تأسيس تنظيمات للحركة العمالية واستجابت للعديد من مطالب العمال بغية ابعاد خطر الانتفاضات العنفية. ومع ذلك لم تكن البلاد في مأمن من رياح الثورة. في آب ( اغسطس ) 1819 اندلعت الثورة في مدينة مانشستر حينما تظاهر 50000 عامل مطالبين بحق التصويت في الانتخابات وتحسين ظروف العمل وتقليل ساعاته ورفع اجوره. تصدت قوات الشرطة لتلك المظاهرة واستخدمت العنف، مما اوقع العشرات من القتلى ومئات المصابين. مهدت تلك التطورات الظرف لتأسيس اتحاد نقابات العمال الذي قاد حركتهم لبضعة عقود. خلال ثورات ربيع اوروبا 1848 وبعدها تمكنت بريطانيا من النأي بنفسها عن الهيجان وسادها الهدوء النسبي وعمها الرخاء بالمقارنة مع معظم الدول التي مزقتها الصراعات وأدماها العنف ونهشها الفقر واربكتها الفوضى. بالرغم من تمتعها بالاستقرار الى درجة معتبرة، لم تقف غير مبالية بما يجري حولها، خاصة وهي دولة عظمى ذات التزامات واحدى القوى الرئيسية لحفظ التوازن في اوروبا وفي العالم. بقصد التعبير عن موقفها الانساني وقيامها بدور ايجابي في خضم الاحداث الساخنة في محيطها فتحت ابوابها لإستقبال الثوار الهاربين من بلدانهم على اختلاف اتجاهاتهم وجنسياتهم والذين يحملون التطلعات ومشاريع التغيير في نظمهم السياسية. اغتاض مستشار النمسا مترنيخ، من مواقف وتصرفات بريطانيا واتهمها بالتواطىء مع بعض الحركات الثورية في اوروبا والوقوف خلف ما يحدث من ارتجاجاحات واحداث عنف. لم تكن شكوك مترنيخ في غير محلها، لا سيما ولمس تعاطف بريطانيا مع ثوار ايطاليا بقصد اضعاف امبراطورية النمسا وارباك وضعها وتحويلها الى منافس ضعيف. هذا لا يعني انفراط العقد الذي يشد الدول الكبرى لبعضها ومغازلة احداها الاخرى عندما يحدق الخطر الجدي وتهدد الثورات مستقبل الانظمة المحافظة. وللتدليل على ما قلنا اضطلعت بريطانيا بدورها المتميز في منع الحروب الشاملة بين دولها كالتي اندلعت في عهد نابليون بونابرت، لكنها سعت الى التقليل من زخم الحركات الراديكالية ولجم ثورات الشرائح العمالية وابناء الطبقة السفلى في المجتمع عن طريق الاصلاحات تارة واضعاف دور الثوريين وسحب البساط من تحت اقدامهم في احيان اخرى.
بالرغم من مرور بريطانيا بفترة هادئة نسبياً وهي الى جوار دول صاخبة وهائجة، لم تستطع وقاية ذاتها او تحصينها ضد الايديولوجيات الثورية التي هبت على كل اجزاء قارة اوروبا وتجذرت عن طريق تأسيس الاحزاب والتنظيمات. تحولت الجزر البريطانية الى تربة تقبل نمو المفاهيم اليسارية وتساعد على نشوء المدارس الفكرية الاصلاحية والراديكالية. في تلك البيئة انبثقت الحركة العمالية الجارتية ( الميثاقية ) التي لعبت دوراً بارزاً في تحقيق مطالب العمال والشرائح المعدمة. طالبت الحركة بحق كافة الذكور المؤهلين للتصويت في الانتخابات البرلمانية والغاء امتيازات الاثرياء بشأنها وضرورة جعلها سرية وامينة عن طريق استخدام صناديق خاصة لبطاقات الاقتراع وتحديد مدة دورة مجلس النواب. في آذار ( مارس ) 1848 بادرت الحركة الجارتية لقيادة مظاهرات سلمية رفعت مطالب اصلاحية، لكن الحراك الجماهيري تخطى الحدود المرسومة، مما تسبب بوقوع اعمال عنف وشغب وهتف بعض المتظاهرين بحياة الجمهورية والغاء الملكية في بريطانيا. اقلقت تلك التطورات المسؤولين ودفعتهم لاستدعاء الاحتياط من الشرطة لاحتواء الهيجان ووضعه تحت السيطرة. بعد ان تمكنت الدولة من بسط الهدوء واعادة النظام، انكشفت نقاط ضعف الحركة الجارتية وسوء ادارتها لتلك الانتفاضة وتركها للامور تحت تأثير الثوريين المتطرفين، مما تسبب في انحسار زخم الجارتيين وتضاءل حجمهم لصالح اتحاد نقابات العمال البريطانية الناهض. على العموم بقيت الحركة الثورية في الجزر البريطانية متقوقعة ومتراجعة بسبب نيلها تأييداً محدوداً من غالبية أوساط المجتمع الانجليزي، بالإضافة الى موقف الكنيسة الوطنية المناوىء للحركات ذات التوجهات الثورية أو العنفية. عندما تراجعت الحركة الجارتية او اضمحلت وطالتها الانشقاقات، شغل الفراغ اتحاد نقابات العمال الذي تبنى الاصلاحات الدستورية وطالب بتحسين ظروف العمل وتحديد ساعاته، وخاصة للنساء والاطفال. ومع ذلك لم يكن لذلك الاتحاد صلة مباشرة او متناغمة مع بقية التنظيمات العمالية السائدة في اوروبا وذات المنحى الراديكالي ولم يعتبر نفسه نسخة مماثلة لها، ولا سيما في النواحي الايديولوجية او الاستراتيجية.
عند استعراض الواقع الايديولوجي والاجتماعي في بريطانيا إبّان القرن التاسع عشر، لا بد من الاشارة الى دور المصلح الاشتراكي البارز روبرت اوين ( OWEN ) ( 1857 – 1771 ) الذي وصف برنامجه الاقتصادي بسكة الحديد التي تأخذ بالانسانية الى طريق يوصلها الى السعادة الكونية الجماعية. تفاءل اوين بإمكانية تحقيق رؤآه وتمسك بقناعاته عندما تفهم الشعور السائد في اوروبا آنذاك والذي يتطلع الى المجتمع المثالي، طالما يمتلك الانسان طبيعة خيّرة طاغية. من أجل اثبات اصالة وامانة رسالته انكر طبقته الاجتماعية عندما انقلب من رأسمالي الى اشتراكي اصلاحي متحمس وادان الرأسمالية لأنها تقف وراء كل الشرور، مثل السرقة والادمان على المسكرات وممارسة الرذيلة وارتكاب الجريمة. من اجل ايصال مفاهيمه وطروحاته الانسانية، بشر اوين بأن الخلاص من مساوىء النظام الرأسمالي يكمن بخلق علاقات اجتماعية ترتكز على الانتاج التعاوني الذي يصب في المصلحة العامة ويفيد كافة ابناء المجتمع. بالإضافة الى هذا، دعا الى ضرورة ايلاء اهتمام خاص بالتعليم والثقافة لأن تعميم المعرفة والتنوير يقودان الى الارتقاء بالمواطنين. خلال نشره المفاهيم والقيم الاشتراكية، نبذ اللجوء الى العنف ورفض اقامة نظام دكتاتورية البلوريتاريا الذي كان يطالب به الاشتراكيون الثوريون، لأنه اعتقد بإمكانية تحقيق التغيير لصالح العمال والفقراء عن طريق النضال السلمي والركون الى التطور الاقتصادي التدريجي. في هذا السياق حث اوين الطبقة العاملة الى تنظيم صفوفها واثبات جدارتها وتطوير امكاناتها الثقافية والمعرفية والالتزام بأخلاقيات العمل. لم يكتف بهذا بل شدد على ضرورة اقامة مستوطنات او تجمعات اشتراكية تعاونية ضمن المجتمع الرأسمالي القائم، مما يهيىء الارضية تدريجياً لتأسيس مجتمع العدالة وتطبيق الاشتراكية.
بالرغم من اتهام اوين باللاواقعية من قبل خصومه، برز كقائد عمالي يتمتع بسمعة جيدة وينظر اليه الكثيرون بإكبار ويضعوه بمرتبة انبياء الاصلاح، لا سيما عندما نبذ العنف واثارة الغرائز ودغدغة العواطف كوسيلة لتحقيق المطالب المشروعة. بدلاً من رفع وتيرة العداء او الصراع الطبقي العنفي، دعا العمال الى التعاون فيما بينهم والاعتماد على تطوير واقعهم ادارياً واخلاقياً، مما يجعلهم مؤهلين لإقامة النظام الاشتراكي بطريقة سلمية وناجحة. على الصعيد التثقيفي نشر روبرت اوين كتابه الشهير (ما هي الاشتراكية) سنة 1831 والذي الهم اوساطاً واسعة من العمال وملأهم بالايمان بإمكانية اقامة الاشتراكية وانتصار نظامها عن طريق الكفاح السلمي وتوفير البيئة الملائمة. بالرغم من انتقاد كارل ماركس لروبرت اوين بخصوص برامجه لإقامة النظام الاشتراكي واتهامه اياه بالطوباوية والسير وراء السراب، بقي الاول على صلات مع الثاني لفترة غير قصيرة بسبب اهمية هذا الرجل الفكرية.
في أجواء الاعتقاد او التفاؤل بإقامة المجتمع المثالي تسلق المواطن الاوروبي العادي الى عربة القطار الصاخب يحذوه الامل بأن يأخذه الى المحطة التي ينعم فيها بالعدالة وتسودها الحرية والسلم. لكن عندما ساد الهيجان واختلت القيم والمعايير واصبح العنف سيد الموقف، أفل نجم روبرت اوين وتراجع شأن افكاره وبرامجه في الاصلاح والتغيير، لا سيما عندما فشلت التعاونيات الاشتراكية التي اسسها في الولايات المتحدة الامريكية.
ثورات ربيع اوروبا تتأرجح بين اليأس والأمل
عندما ملأ شعوب اوروبا الأمل بإمكانية ازاحة نير الامبراطوريات وتنسم عبق الحرية وانطلقت في موجات من الثورات والانتفاضات رداً على الظلم والقهر، استطاعت الانظمة التقليدية من اجتياز المرحلة والابقاء على مواقعها واركانها. اندحرت اوروبا الشباب وغدت احلام جماهيرها سراباً وتجرع قادتهم كأس المرارة واعترفوا بالهزيمة، مما دفع الفوضوي الاشتراكي الفرنسي برودون ( Proudhon ) للتصريح بما يأتي: ( تعرض الثوار للهزيمة وتشرذموا واودعوا المعتقلات وعُذبوا واعدم العديد منهم وسقطت اوروبا الديمقراطية من ايديهم لتقع فريسة بيد جيوش الطغاة واجهزة الدولة القمعية. لكن هذا لا يعني موت الشعوب لأن الجماهير على سبيل المثال في ايطاليا وهنغاريا وبولندا وغيرها سوف تواصل احتجاجاتها ضد الظلم والقهر بصمت، ثم يعلو صراخها ليؤرق الحكام ويوصل صداه في طول وعرض القارة ) انتهى المقتطف.
في فرنسا تتوجت ثورة 1848 بتأسيس الجمهورية الثانية التي انعقدت عليها الآمال، لكنها سقطت رهينة بيد المتهورين والمغامرين الذين تنكروا لتطلعات الشعوب المقهورة واصطفوا مع النظم المحافظة. جعلت تلك الظروف شعوب اوروبا تنحني تحت سياط الشرطة وتتعرض لحملات تأديبية وقادت الآلاف من الثوار الى اعتلاء منصات الاعدام او التغييب في السجون والزنازين. حينها لم يمتد امام عيون جماهير اوروبا سوى السراب والشعور بالضياع وهي تحصد الهزيمة وتتلقى الضربات الموجعة التي افقدتها الثقة بجدوى الثورة. في بريطانيا سقط مشروع الاصلاح الذي تبنته الحركة الجارتية ( الميثاقية )، وفي شرق اوروبا فشلت جهود مؤتمر الاقوام السلافية الذي انعقد بمدينة براغ في حزيران ( يونيو ) 1848 والذي سعى لتنسيق التضامن بين تلك الشعوب. في العاصمة فينا استخدم الجيش الاساليب المروعة واوقع المئات من المنتفضين ضحايا، وبالتالي لم تحقق الانتفاضة الا القليل من المطالب. لم يكن الحال في الولايات الالمانية افضل، اذ تم حل مجلس الشعب بدولة بروسيا في كانون الاول ( ديسمبر ) من نفس السنة وبقيت المانيا مقسمة الى دويلات كونفدرالية. استسلم الثوار في بودابست ولم تتحقق اهدافهم بالاستقلال من الامبراطورية الام، لا سيما عندما تواطئت الشرائح الاقطاعية والارستقراطية في الوطن مع السلطات النمساوية.
على العموم اخفقت ثورات ايطاليا بتوحيد اجزائها الممزقة وبقيت ترزح تحت هيمنة امبراطورية النمسا، واستمرت بولندا تئن تحت وطأة روسيا القيصرية وبروسيا والنمسا. وبقيت الشعوب السلافية ودول جنوب شرق اوروبا تحت الهيمنة النمساوية او العثمانية. تميزت بريطانيا بوضع خاص واستطاعت وقاية نفسها الى درجة كبيرة من الهيجان والارتجاجات لأنها دولة مترفهة اقتصادياً ويتمتع مواطنوها بفسحة من الحرية بالمقارنة مع البلدان الاخرى، واجرت العديد من الاصلاحات على اوضاع العمال وفي اسلوب الادارة. اما في روسيا فلقد تمكن القيصر نيقولا الاول ( 1855 – 1796 ) من وأد الثورة عن طريق حملات النفي الجماعي واسلوب البطش، ليس فقط بشعبه بل وفي كل بقعة يصل اليها مجال تأثيره. بالإضافة الى هذا نصح القيصر حكومتي بروسيا والنمسا بعدم التواني بإستخدام اقصى درجات العنف لسحق الثوار.
تحت وطأة إخفاقات ثورات 1848 عمً اليأس ودبت الخلافات والانقسامات بين اللبراليين المعتدلين وبين الديمقراطيين الراديكاليين، وفضًلت بعض الفصائل ترك الامور تتطور ذاتياً وتؤدي الى الاصلاحات الاقتصادية والسياسية، وشكّك آخرون في قدرة الثوار على المطاولة وجدوى المجابهة في ظروف غير متكافئة. رأى البعض إمكانية تحقيق التغيير دون تفجير الثورات العنفية لأن التطور الصناعي وزيادة الانتاج وانتشار التعليم كفيلة بتحسين اوضاع العمال ومعيشة الفقراء. بعد فترة الهيجان والارتجاج الاجتماعي اسدل الستار على الثورات لفترة غير طويلة في معظم ارجاء اوروبا وبقيت شعوبها رازحة تحت الهيمنة الاجنبية او فاقدة لكيانها القومي الموحد. يعزى فشل ثورات ربيع الشعوب في تحقيق اهدافها الى الاسباب التالية: 1- تردد اللبراليين بربط مصيرهم بمصير الطبقة العمالية والشرائح الدنيا في المجتمع. 2- خشية العديد من ابناء الطبقة الوسطى والاعتداليين من تجاوز الثوريين الراديكاليين الحدود المقبولة والانجراف نحو المجهول. 3- تعاون الانظمة المحافظة فيما بينها وتناسي خلافاتها والوقوف بحزم وشدة تجاه الثوار. 4- استخدام قطعات الجيش وقوات الشرطة العنف المفرط والترويع لسحق المنتفضين وكسر ارادتهم. 5- توجس اجهزة الدولة البيروقراطية وكوادر جيشها من نتائج هيجان الغوغاء، مما دفعها لإتخاذ موقف معاد لها. 6- بروز التفاوتات في المطالب وتأرجحها بين الكفاح من اجل الاستقلال عن الهيمنة الاجنبية او توحيد الكيان القومي الممزق او السعي لتحسين اوضاع العمل والالتفات الى حالة البؤساء والمعوزين واشاعة الحريات العامة. 7- استعانة قادة الثورة احياناً بالخطابات الرنانة وبالديماغوجية واثارة المشاعر والتشبت بالاحلام الوردية.
عند مناقشة ثورات ربيع اوروبا، لا بد من الاشارة الى بروز الاصطفافات الاجتماعية بسبب اختلاف الرؤى والاهداف وغياب الارضية السياسية المتجانسة بين الدول وداخل البلد الواحد. على العموم برز على مسرح الثورة فريقان رئيسييان: فريق الطبقة الوسطى وليبرالييها ومثقفيها الذي سعى الى احداث اصلاحات سياسية واقتصادية محددة مثل حق التصويت في الانتخابات واشاعة فسحة من الحريات وتحسين ظروف العمال وفقراء الفلاحين مع الابقاء على المؤسسة الملكية القائمة. أما فريق الثوريين وطلائع العمال فلقد نادوا بديمومة الثورة لحين تحقيق العدالة الاجتماعية ورفع القهر والاستغلال عن الطبقات المسحوقة، الى جانب انهاء نفوذ الاقطاع ووضع حد لامتيازات مجموعة النبلاء. اقتنع الثوريون بإستحالة انجاز رسالة الاصلاح في البنية السياسية من دون تغيير اسس الدولة وتقليص صلاحيات الملك ونفوذ الشرائح الثرية لحساب غالبية المواطنين. في مشروع الثورة لم يستبعد الراديكاليون خيار استخدام العنف في سبيل ازاحة النظم القائمة، لكن الوقائع حينها اظهرت عدم امتلاكهم المقومات والخبرة التي تؤهلهم لحسم الامور لصالحهم، لا سيما وان الطبقات السفلى لا تزال بحاجة الى الوعي والنضوج. ومع ذلك ساور الطبقة الوسطى والاعتداليين المخاوف وتنبهوا الى اخطار نهوض الطبقة العاملة بقيادة التيار الشيوعي الوليد، لا سيما عندما اختارت الركون الى سرير الثوريين وأرست سفنها في مينائهم ووضعت بيضها في سلة الثورة الطبقية. الى جانب شرائح عريضة من العمال، التحق بقطب المنظرين الاشتراكيين الثوريين مجاميع من طلبة واساتذة الجامعات والمثقفين والادباء واصحاب التطلعات الرومانسية والحالمين بإيجاد الحلول الساذجة التي تفضي الى اقامة الفردوس على الارض. مع ذلك افرزت انتفاضات شعوب اوروبا رجالاً عمليين وصادقين ومقاتلين اشداء من اجل الحرية والتغيير من امثال مازيني وغاريبالدي وكوسيت وباكونين وآخرين.
تتحدث بديهيات الثورة عن احتمال فشلها او انتكاستها وتعرض قادتها ورجالها للاعتقال والتعذيب او الاعدام، او انحراف مسيرتها مما يؤدي الى التهامها لأبنائها تحت ذرائع متنوعة. ومع ذلك لا تدور عقارب الساعة الى الوراء ولا تسود انماط الحياة القديمة جميعها ثانية لأن التحولات والنقلة النوعية تضع بصماتها بدرجات وتمهد الارضية لإنبثاق مفاهيم وقيم جديدة وتوفر بيئة اجتماعية مختلفة. بالرغم من فشل ثورات ربيع الشعوب في الوصول الى غاياتها وانتصار الانظمة المحافظة وبقائها على كرسي الحكم، اضافت تلك التجربة رصيداً لحساب الامم والشعوب المتطلعة لواقع افضل، لا سيما وصدرت تشريعات تخص الاصلاحات الدستورية وتحسين اوضاع العمال والفقراء. لم يفلح عتاة ودهاقنة العصر بإجهاض مشروع الوحدة في ايطاليا والمانيا والذي مهد الطريق لنيل شعوب رومانيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا استقلالها وتأكيد هويتها القومية. في جانب ادارة الدولة انتهت امتيازات التفويض الالهي الممنوحة للملوك والاباطرة، وسقط تحالف البابوية مع الانظمة التقليدية، وتمت تصفية بقايا الاقطاع في النمسا وهنغاريا. بالرغم من مخاض الولادة العسيرة تلازمت تلك العملية مع ظهور وليد يتمتع بالحياة الافضل. لم تنجز ثورات الربيع رسالتها بالشكل المطلوب بالرغم من التضحيات وسقوط عشرات، بل ومئات الآلاف من المواطنين ومن المشاهير والموهوبين في مختلف الجوانب، لكن تلك التجارب المريرة امدت الاجيال اللاحقة بالطاقة وملأتهم بالايمان بالقضية العادلة ودفعتهم للبحث عن وسائل تحقق الحريات وتصون كرامة الانسان وتأمن له المعيشة اللائقة. كانت ثورات ربيع الشعوب ثمرة نهوض الشعوب بشرائحها من ابناء الطبقة الوسطى والسفلى بالاضافة الى الرجال والشباب الذين الهمتهم مفاهيم المنظرين الانسانيين وفلسفات المصلحين وفروسية الابطال. لم تكن تلك الثورات حدثاً عابراً، بل نثرت بذور المفاهيم الحديثة في تربة صالحة للنماء واكتساب مقومات الحياة، مما جعل كلا التيارات والاحزاب اللبرالية والتنظيمات العمالية الثورية تترعرع جنباً الى جنب.
انبعاث التيار اللبرالي
اللبرالية تيار دعا منذ بداية انطلاقته الى الحرية والانعتاق وتمتع بأفق فكري واسع مكنه من التفاعل مع المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على اوروبا بعد العصور الوسطى وانبثاق عصر النهضة والتنوير. استمد التيار مقوماته مستعيناً بطروحات المفكرين والفلاسفة والمنظرين في مجالات نظام ادارة الدولة والحريات العامة وحقوق الانسان ومعيشته من امثال فولتير وروسو وديديروت ( Diderot ) وآخرين.
لم يظهر الفكر اللبرالي بالصدفة ولم ينطلق من الفراغ، بل انبثق منذ ان شهدت اوروبا تحولات مهمة في مجالات عدة وتوسعت تجارتها على يد هولندا والبندقية وجنوة ومن ثم اسبانيا وبريطانيا وفرنسا، مما ادى الى تطور الاقتصاد ونهوض الطبقة الوسطى وترنح مؤسسات الدولة الاقطاعية وقيام الدولة المركزية. لذلك لا يمكن فصل نشوء اللبرالية المبكرة عن فترة نهوض الصناعة وتوفر الانتاج واتساع رقعة الاكتشافات الجغرافية وازدياد النشاط الاستعماري واستحواذه على مصادر المواد الخام وايجاد الاسواق لتصريف البضاعة.
يعتبر عصر النهضة الانعطاف العميق الذي مهد الطريق لإزاحة العبء الثقيل للتقاليد والمفاهيم البالية ولاستبداد السلطات ومؤسسة الكنيسة. من جانبها نفضت الحركة التنويرية الغبار عن كتابات الفلاسفة الاغريق والرومان وشجعت على ترجمة الاساطير القديمة التي تعبر عن المثل الانسانية وحفزت الاذهان وغيرت النظرة الى العالم، مما جعل العقلانية تنتصر على الشعوذة وهيأ الارضية لنماء المفاهيم اللبرالية التي تعتمد على النظريات العلمية وتعتبر العقل الفيصل لقبول ما هو صحيح ومنطقي ورفض ما هو عكس ذلك. من اجل تأكيد موقفه، ايًد التيار اللبرالي الابتعاد عن تداول شأن العقائد الدينية ورفض تدخل الكنيسة بإدارة الدولة وصياغة نمط حياة الانسان وتحديد طريقة تفكيره. ابتعد التيار عن الخوض بأمور السماء ووجه اهتماماته بالارض ومن عليها من المعوزين والمظلومين والمقهورين، مما جعله ينشط في مجال رحب ويستوعب العلماني والمتدين المنفتح والالحادي والحداثي والتقليدي والميسور الحال والفقير، ويساهم بتوسيع آفاق المفاهيم الديمقراطية.
لفظياً، اللبرالية مصطلح مرن وفضفاض، مما يساعده لاحتواء طيف واسع من التوجهات والمفاهيم التي تخص حرية الفرد في المعتقد والتملك والتعبير عن الرأي والتمتع بحقوق المواطنة وممارسة دوره في صياغة نظام ادارة الدولة. تنأى اللبرالية بنفسها ان تكون ايديولوجية مذهبية، بل تطرح مفاهيمها كثقافة وممارسة برغماتية ( تطبيقية وعملية ) تقبل التغيير بما يناسب حاجات الانسان المادية والمعنوية ومستوى نصوجه. وهي ترفض الاسر الايديولوجي والانغلاق الفكري وتتقارب مع المدارس ذات التوجهات التحررية والانفتاحية، مما عرًض هذا التيار للتدرج والمرور عبر المرحلة المبكرة والوسيطة والحديثة.
تقف اللبرالية عند القطب المناقض للمحافظية عندما تدعو الثانية الى الابقاء على النظام التقليدي لإدارة الدولة، والى صيانة القيم والعلاقات الاجتماعية القائمة وترفض المساس بها او تغييرها بعمق. ادخل مصطلح المحافظية في حقل السياسة المفكر ادموند بروك بعد الاحداث المروعة التي شهدتها الثورة الفرنسية الكبرى 1789 وتأسيس الجمهورية الاولى على انقاض حكم سلالة البوربون. اكتسبت المحافظية بعض التعاطف والتأييد كرد فعل للممارسات العنفية للفترة الروبسبيرية التي منحت المحافظية الفرصة للدفاع عن موقفها في الحفاظ على السلم الاهلي ونبذ ثورة الرعاع وعدم تشويه منظومة التقاليد التي يرتكز عليها البنيان الاجتماعي. يعتقد عرابو المحافظية بأن الثورة تفسد القيم وتمزق الاطر الاخلاقية التي تصون تماسك المجتمع وتحافظ على الانسجام بين مكوناته المختلفة. في المجال الاقتصادي يؤمن المحافظون بأن الفرد مسؤول بالدرجة الاولى عن تطوير وتحسين وضعه الاجتماعي والمعاشي وان الدولة تتحمل مسؤولية حفظ النظام العام ومراقبة السوق والعملية الاقتصادية عن بعد وعدم التدخل بها الا بدرجة محدودة. بالرغم من التعارض القائم بين اللبرالية والمحافظية، وفرت الفترة الروبسبيرية الظرف لمد جسر مؤقت وحصول مقاربة بين التيارين، لأن اللبرالية المبكرة لم تتبنى هدم البنيان الاجتماعي او فرض التغييرات الراديكالية عن طريق العنف.
منذ البداية، لم تكن اللبرالية حركة سياسية متمثلة بحزب ولم تكن تنظيماً ايديولوجياً او طبقياً، بل التزمت المواقف الفكرية والمبادرات الفردية او الجماهيرية واحياناً النخبوية التي تستطيع بلورة صيغ واستيعاب شرائح مختلفة في انتمائها الطبقي ومرجعيتها الاجتماعية والعقائدية. بالرغم من اتخاذ العديد من الاحزاب والتيارات السياسية كلمة اللبرالية عناوين وتسميات لتقديم نفسها بوجه مشرق، فهي لم تكن براءة اختراع تحت اسم فيلسوف او منظر معين، بل انطلقت كتوجهات تستعين بمختلف المدارس النهوضية والاصلاحية والفكرية التحررية التي تأخذ بالانسان الى الارتقاء مادياً وروحياً. خلال نشاطها النضالي ابعدت اللبرالية نفسها عن مشروع التخندق الطبقي وتأجج الصراع بين المكونات المجتمعية واستخدام العنف بقصد الاقصاء الطبقي، وتناغمت مع تيارات الحداثة. اعترض التيار اللبرالي على ممارسات رجال الكنيسة عندما تحول هؤلاء الى طغاة والى اصدقاء للخرافات واعداء للعلم والتنوير وانعتاق الانسان، وطالب صراحة بفصل الدين عن الدولة وعدم معادات العقائد الدينية التي يؤمن بها البشر وتنظم حياتهم الروحية والاخلاقية وتؤطر علاقاتهم السلمية مع الآخرين. ساهمت المفاهيم اللبرالية بفتح الآفاق وتعميم ودمقرطة التعليم لأنها رأت وجود علاقة طردية بين نشر الثقافة وبين رواج الوعي اللبرالي ونجاحه بأداء رسالته واستقطاب التأييد الواسع.
لم يسلم التيار اللبرالي من الانتقادات ولم يكن في مأمن من سهام الخصوم الذين وصفوه بالكيان الرجراج والهلامي والهجيني، لأنه يشمل طيفاً متفاوتاً او متناقضاً في التوجهات الفكرية والمرجعية الطبقية وانه يحتضن اليساري واليميني والوسط والثوري والمعتدل والملكي الدستوري والجمهوري والحداثي وربما التقليدي. دافع مناصرو اللبرالية عن نهجهم وقدموه كتيار واسع يناصر حرية الانسان بكل جوانبها وينادي الى تحقيق العدالة تحت ظل دولة المواطنة، ويؤيد لائحة حقوق الانسان. في خضم تلك السجالات طفح على السطح تياران لبراليان، وجًه اولهما اهتماماته الى الشأن السياسي وشكل الدستور ونظام الدولة، وانشغل الآخر بالواقع الاقتصادي بغية تقليص الهوة بين الطبقات من دون المساس بالملكية الفردية او اعاقة المنافسة الحرة.
عندما ظهر التيار اللبرالي على الساحة الاوروبية، مد خطواته الاولى ببطىء واستمد مقوماته في ظروف مادية موآتية ورفد نفسه من مفاهيم ونظريات الفلاسفة والمفكرين التنويريين والاصلاحيين من دعاة التغيير وخلال فترات متلاحقة. احد هؤلاء الفلاسفة هو الفيلسوف الانجليزي جون لوك ( 1704 – 1623 ) صاحب نظرية العقد الاجتماعي والمعارض لإمتياز الحق الالهي الممنوح للملوك والاباطرة. يقول جون لوك في هذه النظرية بأن الاختبار هو اساس المعرفة، وان لكل فرد حق التملك وبما يناسب ما يبذله من جهد ويصرفه من وقت لإتمام عمله، اي انه حر التصرف بما ينتجه. للفلاح مثلاً الحق بإمتلاك الارض التي يحرثها ويزرعها ويحصد غلتها. ومع ذلك لا تقر نظرية العقد الاجتماعي التساوي في الملكية بين المواطنين ضمن المجتمع الواحد، وترفض التمرد على القوانين طالما يهدف تطبيقها الى حماية ثروة الفرد ومعاقبة المسيء او المتجاوز على ملكية الآخرين. بالرغم من دعوة جون لوك الى سيادة القانون وتطبيقه على الجميع بالتساوي، رفض كل انواع الاستبداد وطغيان الحاكم او الدولة.
يعتبر الفيلسوف الالماني كانت ( Kant ) ( 1804 – 1724 ) احد ابرز الذين رفدوا تيار اللبرالية المبكرة والذي دعا الى تحرير فكر الانسان من القيود لأنه اعتبر اعمالات العقل في ظل القوانين ضمانة اساسية لحقوق وحرية المواطن. ايد كانت انطلاقة مبادرات التضامن بين المواطنين وتكاتف جهودهم لأنها وسيلة فعالة لإيقاف السلطة عن غمط الحقوق وكبت الحريات، لكنه شجع على الجنوح الى السلمية والتفاهم بين الشعب والدولة، مما يصون حقوق كافة الاطراف. بالإضافة الى هذا طالب هذا الفيلسوف بإحترام مبدأ حرية الاختيار عند الانسان وادان سلب ارادته، وربط الحصول على المعرفة بالجرأة على ابداء الرأي. بقصد توضيح موقفه وادانة الخضوعية والاستسلام استعرض حالة ضابط الجيش الذي يأمر الجندي بعدم الاعتراض، بل بإطاعة الاوامر ومواصلة التدريب، وجابي الضريبة الذي يرفض الخوض بأي نقاش ويأمر بتأدية المبلغ المقرر من قبل المطلوب، ورجل الدين الذي يحرم الاستفسار والجدل وينذر من عواقبهما ويوصي بقبول الايمان فقط.
الى جانب الفيلسوف كانت برز المفكر الفرنسي سيييس ( Sieyes ) ( 1836 – 1748 ) الذي اثرى مفاهيم اللبرالية المبكرة ولعب دوراً مهماً في ايضاح مفهوم حقوق الانسان، مما اكسبه سمعة جيدة وجعلته بمثابة الاب الروحي لللبرالية الكلاسيكية. طرح هذا المفكر قضية الطبقة العامة في المجتمع وجعلها بؤرة نشاطه وكرس جهوده بشأنها لأنها تنجز الكثير وتتحمل العبء الاكبر، لكنها في ظل النظام القائم لا تمثل شيئاً ذات قيمة، مما يعطيها الحق للنهوض والاسهام في ادارة الدولة وصياغة القوانين. في اشارته الى المجتمع الفرنسي نبه سيييس الى خطأ اعتبار ابناء الطبقة العامة مجرد رعايا، لا سيما وهي تشمل 25 مليون مواطن مقابل 200000 من ابناء طبقة النبلاء والارستقراطية والاثرياء. بالرغم من دعوته الى المساوات امام القانون وفصل السلطات واتاحة الفرصة امام عامة الناس بتحسين احوالهم، لم يؤيد المساوات السياسية والاجتماعية، بل الابقاء على التفاوتات الاقتصادية واختلاف الادوار تبعاً للمرتبة الطبقية. في هذا السياق طرح فكرة المواطن الخامل والمواطن الفاعل الذي يعمل ويدفع الضرائب، وربط حق المشاركة بالانتخابات النيابية ووزن صوت الناخب بكمية الضريبة التي يدفعها. يدلل هذا على ان مفهوم العدالة الاجتماعية الحقيقية لم يكن قد بلغ النضوج والبعد المطلوبين.
منذ مراحلها الاولى لم تكن طروحات اللبراليين منغلقة على مجموعة او طبقة معينة ولم تكن حكراً لتوجه فكري واحد، بل لامست طيفاً مجتمعياً واسعاً واستهوت بعض شرائح النبلاء وملاك الارض والميسورين واصحاب الحرف، ونالت تأييد العديد من كبار مسؤلي الدولة والقضاة واساتذة الجامعات والمحامين والاطباء والادباء وبعض رجال الاعمال وحتى من المتحررين من رجال الكنيسة، مما اكسبها قواعد عريضة في المدن والارياف. تدريجياً اشتد زخم وتأثير التيار اللبرالي وتوضحت مقاصده نهاية القرن الثامن عشر واذبان النصف الاول من القرن التالي عندما تبنى نظرية مهندس الاقتصاد الحر، آدم سميث ( 1790 – 1723 ) بشأن المنافسة الحرة وتقسيم العمل. يعتبر سميث المؤسس والاب الروحي لللبرالية الاقتصادية التي ترى بأن تحقيق الانسان لمصلحته الذاتية في اجواء المنافسة الحرة تؤدي الى ازدياد الرخاء العام لأن الفرد يطلق طاقاته الى ابعد مدى، وبالتالي يفيد نفسه والمجتمع ككل. في طروحاته حول الحرية الاقتصادية، دعا سميث الى عدم تدخل الدولة في مسار العملية الاقتصادية، بل تركها تأخذ المنحى الطبيعي. بعد آدم سميث نهض المفكر اللبرالي الفرنسي بنيامين كونستانت ( 1830 – 1767 ) وتبنى ايضاً نظرية الاقتصاد الحر ومبدأ حماية مصلحة الفرد التي (حسب رأيه) تؤدي الى تحقيق مصلحة كافة ابناء المجتمع. دعا ذلك اللبرالي الى ضرورة الحفاظ على توازن العلاقات بين السلطات الثلاث على يد الملك الذي يمثل القوة الحيادية تجاهها.
بعد الاحداث الدموية والتصفيات التي افرزتها الثورة الفرنسية، تعلق الامل بما اطلق عليه بالوسط الذهبي ( The Golden Middle ) اي اللبرالية لأنها مثلت الآلية لتجاوز المأزق وتهدأة العاصفة التي هبت على اوروبا اذبان النصف الاول من القرن التاسع عشر. في هذا السياق كتب المفكر باريري ( Barere ) الى نابليون بونابرت كلمات مهمة وجاء فيها ( الافكار الثورية استنفذت اهميتها وفقدت بريقها والمفاهيم الرجعية اصبحت مكروهة ومنبوذة، مما يفتح المجال لتبني التوجهات اللبرالية والاهتداء بها ).
ولفترة غير قصيرة بقي تأثير اللبرالية المبكرة ( الكلاسيكية ) مقتصراً على بعض دول غرب اوروبا، لكنه بدأ بالانتشار بعد ان اندلعت الثورة الثانية في فرنسا 1830 وآلت الى سقوط آخر ملوك سلالة البوربون وتأسيس الجمهورية الثانية. في اجواء ازدياد زخم ثورات ربيع اوروبا انتعش التيار اللبرالي ليشمل معظم القارة ويلامس بلجيكا ويحفزها لفصل نفسها عن هولندا وانتهاج الطريق اللبرالي وتشريع دستور اعتبر مثالاً جيداً. في العقد السابع من القرن التاسع عشر بلغت اللبرالية مراحل متقدمة في مسيرتها، لا سيما بعد ان تسلم مقاليد ادارة الحكم اشخاص يرعون القيم والثقافة اللبرالية ويستنيرون بمبادئها عند صياغة القوانين والدساتير. مهدت تلك التطورات الظروف لرسو سفن العديد من دول اوروبا عند شواطىء اللبرالية التي نظرت اليها كموانىء ملائمة لركون الانظمة الحديثة.
عندما بلغت مبادرات اللبرالية المبكرة واساليب نضالها ذروتها في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، بدأت اوساط اجتماعية واسعة تفقد ثقتها بقدرة مساعي اللبراليين على استيعاب مشكلاتهم وشككوا بقدرتهم على حلها. اعتقدت الشرائح العمالية والفقيرة والعديد من النخب المثقفة والاكاديمية بوجود فجوة بين الطروحات والشعارات التي يرفعها اللبراليون وبين انجازاتهم العملية على الارض، مما دفع الفصيل الاول الى الاعتماد على مبادراته الذاتية والعفوية واطلاق الاضرابات والمظاهرات التي مكنته من تحقيق بعض المكاسب مثل منع تشغيل الاطفال والنساء في المناجم. من اجل النهوض الى مستوى الاحداث غيّر اللبراليون تقييمهم لنظام الدولة وانخرطوا بزخم اقوى في النشاط السياسي الذي يبحث عن الحلول لمشكلات المواطنين المتفاقمة، مما ادى الى انبثاق اللبرالية الحديثة. طالب هذا التيار بالعدالة الاجتماعية وتوازن صلاحيات الدولة مع مساحة الحرية الفردية وانهاء كافة انواع الاضطهاد السياسي والتمييز على الخلفيات العرقية ولون البشرة، وحثت على ازالة الغموض حول مفهوم المواطنة. من اجل ابراز دورها امام التوجهات الراديكالية الناهضة، دعت اللبرالية الحديثة الدولة الى المراقبة الدقيقة للمسار الاقتصادي ولعملية توزيع الثروة وتصرفات ارباب الصناعة واصحاب رؤوس الاموال، مما اعطاها طابعاً يسارياً حذراً ومعتدلاً. في ضوء تلك التغيرات انخرط التيار اللبرالي بعملية بناء الانظمة السياسية الحديثة في بعض الدول المتقدمة وتناغم مع مسيرة الديمقراطين الناشئة التي رفعت شعار قيادة الانسانية الى مستقبل مشرق.
بالرغم من تبني اللبرالية الحديثة للعديد من المطالب السياسية والاقتصادية للطبقة العمالية، اختلفت الثقافة والتوعية التي نشرتها عن الايديولوجيا الاشتراكية والشيوعية، لأن الاولى تؤمن بالتفاوتات الطبقية وحماية الملكية الفردية وتدعو الى توثيق الصلات واحلال التفاهم بين الطبقة الوسطى وبين الشرائح العمالية والمعدمة من اجل تحقيق الاصلاحات التدريجية وبطريقة سلمية. اختلف اللبراليون عن الاشتراكيين بنقاط كثيرة ومن بينها تأكيد ذاتية الانسان ورفض اذابة كيانه بالجماعة وبحق المواطن بالمنافسة الاقتصادية الحرة التي تعتبر باعث طبيعي عنده. عارضت التوجهات اللبرالية غرس روح العداء وتأجيج العنف بين شرائح المجتمع المختلفة تحت ذريعة اقامة مجتمع العدالة الاجتماعية المطلقة، في الوقت الذي شددت التيارات الاشتراكية الراديكالية على ضرورة رفع وتيرة وحدة الوعي الطبقي وروجت لمفهوم الحقد الطبقي ودعت الى تعزيز التضامن بين عمال العالم والذي يقود الى اقصاء الطبقة الرأسمالية والبرجوازية بالقوة. وهكذا، اتسم التوجه اللبرالي بالطابع الاجتماعي والتوفيقي والتهادني في سبيل تحقيق الاصلاحات، لكن التثقيف الاشتراكي والشيوعي المستنير بالايديولوجيا الطبقية البحتة اتخذ منحاً تحريضياً وثورياً.
عند إبراز نجاحات التيار اللبرالي والتدليل على ايجابياته وانجازاته، لا بد ان نشير الى السلبيات ونقاط الضعف والتحديات التي جابهها خلال النصف الاول من القرن العشرين. في تلك الفترة ترنحت اللبرالية على مسرح المنازلة مع التوجهات اليسارية الثورية والقومية اليمنية المتطرفة واصبحت على جحرة المحك التي كادت ان تفقدها مقومات قوتها ومشروعيتها. دفع التيار الجارف والموجة العالية للفكر العرقي المتطرف في المانيا النازية والكبرياء الوطنية الفاشية في ايطاليا وطوفان الثورة الطبقية في روسيا وغيرها اللبرالية الى حافة الوادي السحيق، لا سيما حينما تأسست النظم الشمولية ذات الطابع الدكتاتوري الحزبي او الطبقي او الفردي. بعد ان اصاب اللبرالية الارتباك والدوار واجتازت التجربة، نهضت من كبوتها وتبنت مشروعها الدول التي سبق ولفظتها او نعتتها بمختلف الاوصاف ووجهت اليها تهم اضفاء الشرعية للنظام الرأسمالي او التقليل من شأن الطبقة الدنيا في المجتمع وتمييع حقوق العمال او الوقوف بوجه تطلعات الامة الراقية والمتميزة.
بزوغ فجر الفكر الاشتراكي
ساد اوروبا إبّان النصف الاول من القرن التاسع عشر الفقر الجماعي وهددت شحة المواد الغذائية الاساسية حياة ابناء الطبقة السفلى في المجتمع، وعانى الفلاح كثيراً من وطأة الظروف التي سببتها له مالك الارض وضرائب الدولة. عم السخط بين الفقراء في الريف وسكنة المدن من عمال المصانع الكبيرة والورشات الصغيرة الذين تهددت حياتهم بخطر المجاعة التي اهلكت ربع عدد السكان في بعض دول اوروبا، مثل ايرلندا بين سنوات ( 1845 – 1848 ). افرزت ظروف القهر والفقر والمعاناة مفكروين انسانيين يحملون الرؤى بإمكانية تحقيق الاصلاحات، مثل مونتسكيو وآدم سميث وجون ميلير وفيرغيسون وآخرون. لم يطرح هؤلاء ايديولوجية سياسية ولم يدعوا لثورة عنفية، بل طالبوا بمشاريع اصلاحية تدريجية تستند على تحسين اداء اجهزة الدولة وتطوير القاعدة الاقتصادية وتنظيم العلاقة بين الثروة وطريقة توزيعها، مما ينفع الشرائح الفقيرة وينهض المجتمع ككل. في هذا السياق قدم البريطاني توماس مور ( 1525 – 1478 ) برامج ذات صيغة اصلاحية او اشتراكية غير صقيلة، لكنه اضفى عليها لمسة روحانية وايمانية مستمدة من العقيدة المسيحية لأنها تدين تقسيم البشر الى اغنياء وفقراء وتكديس الثروة وتحارب الجشع والاستغلال. برز على مسرح الدعوة للاصلاحات المفكر سان سيمون ( 1760 – 1825 ) الذي اعتبر المنافسة الاقتصادية الحرة سبباً رئيسياً في اشاعة الفقر، الا انه رفض اللجوء الى العنف واحداث الفوضى وشجع على تطوير نظام التعليم واعتبره خطوة تقود الى اصلاح المجتمع. خلال مبادراته وضع سان سيمون الأسس البنيوية الاولى للاشتراكية الاصلاحية، خاصة واعتقد بأن الثورة الصناعية وازدياد الانتاج ينبغي ان يقترنا بإحداث تغييرات على العلاقات الاقتصادية التي تؤدي الى تحسين الظروف المعيشية للشرائح الدنيا والفقيرة، بالإضافة الى هذا انتقد سيمون تحول ارباب العمل الى مستغلين جشعين واوضح بأن النظام الرأسمالي بوضعه الراهن غير منصف وغير كفوء، مما يتطلب احداث تغييرات جوهرية عليه. من اجل توفير الفرصة لنجاح افكاره، اقترح ان يقود عملية الاصلاح وانصاف العمال والفقراء نخبة من العلماء والخبراء والصناعيين المؤمنين بضرورة التغيير.
الى جانب سان سيمون برز في فرنسا العديد من رواد الفكر الاشتراكي، مثل فوريير ( Fourier ) ( 1837 – 1772 ) الذي سعى الى ازالة شرور النظام الرأسمالي واقامة مجتمع متوازن يتعاون فيه الجميع من اجل الانتاج والعيش مرفهين واحرار. فتح الرعيل الاول من المفكرين الاصلاحيين الآفاق لإنبثاق المدارس ذات التوجهات الاشتراكية، لكن معظمها اعتقد بعدم امتلاك الطبقة العاملة الكفاءة والنضوج الذي يؤهلها لإدارة الدولة عند ازاحة النظام الرأسمالي بكافة مؤسساته البيروقراطية والثقافية والاعلامية وخبراته المتراكمة. الى جانب هذا كانت البلوريتاريا الصناعية لاتزال تمثل ربع عدد شغيلة الورشات الصغيرة والحرفيين واصحاب العمل الخاص، مما دفع هؤلاء المفكرين الى الاعتقاد بإمكانية تحقيق الاصلاحات عن طريق النضال السلمي واطلاق المظاهرات والاضرابات كأساليب لحل المعضلات الاجتماعية والاقتصادية التي سببتها الثورة الصناعية. نأى الاشتراكيون الاصلاحيون بأنفسهم عن الهاب ثورة العنف وركنوا الى الديمقراطية الاجتماعية التي تقلص الهوة بين الطبقات وتشيع الحريات العامة وتضمن المعيشة الافضل للشرائح الدنيا. بالرغم من عدم ابحار جميع الاشتراكيين الاصلاحيين من الرعيل الاول في زورق واحد بسبب اختلاف توجهاتهم ورؤاهم، نبذ جميعهم العنف وحمل السلاح بقصد اقامة النظام الاشتراكي بطريقة قسرية ومصطنعة ودعوا الى تثقيف العمال بالمبادىء الانسانية واساليب النضال المشروعة.
من المدارس الاشتراكية التي برزت على الساحة بعد منتصف القرن التاسع عشر كانت الاشتراكية الفوضوية بريادة الفرنسي جوزيف برودون ( Proudhon ) ( 1865 – 1809 ). في هذا الخصوص ينبغي عدم الركون الى المعنى الحرفي للفوضوية التي تدلل الى الاضطراب وغياب الاستقرار، بل الى مفهومها السياسي الذي يدعو الى اقامة الادارة الشعبية الذاتية والغاء الدولة بإعتبارها اداة شريرة ومتسلطة تتحكم بحرية المواطنين وتؤمن مصالح الطبقة الحاكمة على حساب الطبقات الاخرى. يرى الفوضويون بأن الدولة تسبب الاذى للمواطن لأنها ترغمه على ممارسة عمل لا يرغبه، وهي مؤسسة لا اخلاقية لأنها تجبر الناس على تأدية الضرائب وتأمرهم بتنفيذ اوامر القادة وتدفعهم الى خوض الحروب. تعتقد المدرسة الفوضوية بأن الفرد ينعم بالحياة الافضل ويعيش في سلام عندما تغيب الدولة القائمة. لعب هذا التيار دوراً ذو شأن في نشر الوعي الاشتراكي حسب مفاهيم رواده، بالرغم من عدم منطقيته او واقعيته وانعدام الفرص امامه لترجمته الى برنامج سياسي عملي.
الى جانب الدعاة الى الاشتراكية الاصلاحية، برز كذلك بعض المتطرفين المتحمسين للتغيير الراديكالي الذين تبنوا الفكر الاشتراكي كخليط هجيني متأثر بأحداث فترة الحكم اليعقوبي الروبسبيري العنفية ( 1791 – 1794 ). من بين هؤلاء الفرنسي بابيوف ( Babeuf ) الذي حرض على الانقلابات والتآمر على السلطات القائمة وتأسيس نظام يجرد الاثرياء من ملكيتهم ويوفر العمل للجميع مقابل حصولهم على اجور متقاربة، مما يحقق العدالة في التوزيع وفي فرص الحياة ومستوى المعيشة. بعد خروجه من السجن سنة 1795 افصح بابيوف عن مشروعه حول الشيوعية الثورية التي لا يوجد تحت ظلها ضرورة للنقود لأن المواطن يعمل ويقدم انتاجه الى مخزن الدولة العام ويتسلم ما يحتاجه وحسب جهده. قدم هذا المنظر الراديكالي نظامه الشيوعي الخام وغير المتبلور واعتبره مشروعاً سياسياً يضع حداً للصراعات والمنافسات والتفاوتات ويشيع روح الجماعة والتعاون والمحبة. سنة 1796 اصدر بابيوف البيان الذي حمل عنوان (المتساوون) ودعا فيه المواطنين الى التمرد والتآمر على السلطة واسقاطها، لكن المحاولة فشلت قبل ولادتها وانطلاقها وقبض على عرابها واعدم. بالرغم من غياب بابيوف عن ساحة الثورة استمر تأثير طروحاته حول الشيوعية الاصولية وواصل اتباعه محاولاتهم التآمرية لإنتزاع السلطة واقامة المجتمع الشيوعي حسب رؤى منظًرهم. من الذين تأثروا بنهج بابيوف كان الاشتراكي الراديكالي الالماني وايتلنغ ( Weitling ) الذي سافر الى باريس وانضم الى حلف الخارجين على القانون الذي كان بمثابة جمعية سرية تتبنى مفاهيم بابيوف. دعا وايتلنغ مثل استاذه الى ثورة العنف كوسيلة لإقاممة مجتمع الاخيار والعدالة الاجتماعية، لكن طروحاته لم تترعرع، بل فشلت لأن العديدين اعتبروها قاتمة لا تبعث البهجة في الحياة وانها تحيل الشيوعيين الى جنود صارمين ينشأون في ثكنات عسكرية.
على خط يتلاقى مع منهج بابيوف برز الاشتراكي الراديكالي الفرنسي بلانك ( Blanqni ) الذي عمل على توحيد اجنحة الحركات العمالية وصهرها في منظمة واحدة تنتهج الاسلوب الثوري. اعتقد هذا الاشتراكي بأن الطبقة الرأسمالية لا بد ان تصل الى حد الشبع والتخمة بسبب ازدياد الانتاج وارتفاع وتيرة الاستغلال، مما يدفع العمال الى تأسيس منظمات تعاونية تعمل على انقاذ الوضع وادارة المجتمع الجديد الذي تتحقق فيه العدالة والمساوات في توزيع الانتاج. من اجل انجاح طروحاته افترض بلانك ان تكون البلوريتاريا عنصراً سياسياً فاعلاً لإستخدام العنف ضد غريمتها البرجوازية. بالرغم من نظر البعض من الاشتراكيين الراديكاليين الى بلانك كرائد للفكر الشيوعي الذي سبق كارل ماركس، لم تمتع طروحاته بذلك الثراء وبالآفاق الاقتصادية والرؤى الواضحة حول مجتمع المستقبل، مما جعلها بدون قاعدة واسعة من المؤمنين بها والمؤيدين لها، لذلك تراجعت وانكمشت. من جانبه تجاوب ماركس مع فرضية بلانك حول استخدام العنف واقامة دكتاتورية البلوريتاريا، الا انه رفض فكرة الانقلابات وحبك المؤامرات السرية كوسائل لإزاحة البرجوازية عن السلطة.
كان الامر طبيعياً ان يبرز العديد من المنظرين الاشتراكيين الراديكاليين في فرنسا، لا سيما وعصفت بها اول ثورة جماهيرية عنفية حولت البلاد الى خزين من الافكار الثورية. برر الاشتراكيون طروحاتهم عندما اعتبروا تكديس الثروة سرقة تقوم بها الاقلية المتحكمة على حساب الاغلبية المحكومة، وان الثورة الصناعية ونهوض الرأسمالية سبب الفقر والمعاناة. بالإضافة الى فرنسا تحولت المانيا الى مدرسة مهمة تنجب نخبة مهمة من المفكرين او المنظرين الاشتراكيين وبتوجهات متنوعة. من بين هؤلاء الشاعر الشهير هاينرش هاينا ( Heinrich Heine ) الذي اعتبر العمال وطليعتهم من الشيوعيين قوة ناهضة تستطيع اقامة نظام العدالة الاجتماعية لأنهم يمتلكون الارادة ولديهم المصلحة في تحقيقه. في الوقت الذي حذر هذا الشاعر من الغرق والضياع في المثاليات التي عرضها المصلح الاشتراكي الانجليزي روبرت اوين ( Owen )، رفض كذلك فكرة دكتاتورية العمال واقامة النظام الشيوعي بالقوة. واقترح ان تنتظر الطليعة العمالية لحين إختيار اغلبية الشعب النظام الذي ينال رضاها وبملأ ارادتها عن طريق الانتخابات البرلمانية. الى جانب هاينش هاينا برز في المانيا الاشتراكي الثوري لاسالي ( Lassalle ) الذي نظر اليه البعض كمنافس لكارل ماركس ضمن حدود الوطن. بالرغم من ايمان لاسالي بالفكر الشيوعي دعا الطبقة العاملة الى ترتيب امورها داخل بلدها والاعتماد على قواها الذاتية، مما جعله يشدد على الصراع الطبقي ضمن الامة الواحدة ويختلف مع ماركس الذي رفع شعار اتحاد عمال العالم. من وجهة نظر لاسالي عن النظام الشيوعي تستمر الدولة في المستقبل قائمة ولا تضمحل كما جاء في الايديولوجيا الماركسية، واعتقد بأن الدولة تدوم قوية ويديرها العمال بالتناوب عن طريق الانتخابات. لفظ لاسالي انفاسه الاخيرة مبكراً متأثراً بجروحه في ساحة المبارزة. ومع ذلك استمرت طروحاته نشطة ومؤثرة بين اتباعه في الحركة العمالية والذين نافسوا الماركسيين حينها، مما دفع ماركس الى اعتبارهم شوكة في خاصرته. في ضوء تطور اتجاهات الاحداث خفت صوت اللاسالية وأفل نجمها وفقدت بريقها وتحولت الى جزء من الارشيف ومن عالم النسيان.
على العموم اختلف رواد الفكر الاشتراكي حول بعض الامور واتفقوا بشأن اخرى، مثل اضرار تقسيم المجتمع الى مالكي وسائل الانتاج والثروة والى عمال أجراء يدفعهم وضعهم الى التقاعس والتلكؤ في بذل جهدهم وتسخير مواهبهم لزيادة الانتاج وتطوير نوعيته. اعتقد الاشتراكيون الاصلاحيون بأن الانسان اجتماعي بطبعه وهو يعمل وينتج جماعياً ويبدع ويتعاون. لكن الفائدة من نتاج الجهد الجماعي لا تعم كافة المواطنين، مما يعتبر خللاً ينبغي معالجته. من وجهة نظرهم ليس الانسان جوهرياً في خصام وتناحر مع بعضه البعض، لكن غياب العدالة في امتلاك الثروة وفرص الحياة يخلق افراداً يتمتعون بالامتيازات الاجتماعية والمالية التي تمنحهم القوة والنفوذ، الى جانب آخرين معدمين ومستضعفين. استقى الاصلاحيون ثقتهم بطروحاتهم حول الاشتراكية من تفاؤلهم بالطبيعة الخيرة للانسان، واعتقدوا بأن الظروف الاجتماعية والاقتصادية تجعله انانياً وسيئاً، وان تحسين تلك البيئة كفيلة بإبقائه عنصراً خيراً. ومع ذلك بقي الامر مبهماً عن كيفية جعل وسائل الانتاج والثروة ملكاً عاماً، ولم يعط المنظرون الاشتراكييون الاجوبة فيما اذا سيكون هناك ادارة لا مركزية او ذاتية لإدارة عملية الانتاج وجمع الناتج في المعمل او الورشة او المزرعة، ام تكون هناك سيطرة مركزية واحدة تدار من قبل الدولة. لم يتطرق هؤلاء الى خطورة استفحال البيروقراطية والترهل في الجهاز الحكومي حينما يكون مسؤولاً عن جمع الناتج وخزنة وتوزيعه، مما يخلق شرائح متنفذة وطفيلية وفاسدة.
في الوقت الذي بشر به الاشتراكيون بإمكانية استعادة الانسان لطبيعته الخيرة ، رأى عرابو الفكر الرأسمالي والاقتصاد الحر بأن الانسان اناني غريزياً ومحب للذات وميال للتملك الفردي ومنافسة الآخرين من اجل التميز عنهم. بالنتيجة، تكون التغيرات الراديكالية العنفية والقسرية مجازفة تحمل البذور لتدمير البنيان الاجتماعي، وفكرة اقامة المجتمع اللاطبقي تحت ظل اختفاء الملكية الفردية اثارة مخادعة وتمنيات تقود الى السراب. اوضح معارضو الايديولوجيا الاشتراكية ان إقصاء طبقة ما ينجب طبقات او شرائح اجتماعية متفاوتة تستغل امتيازاتها الوظيفية والمادية ونفوذها السياسي، لا سيما عند وجود مجاميع نفعية منتسبة للحزب الحاكم ومؤمنة بفكره مقابل اوساط اخرى غير منتسبة وغير مؤيدة للوضع القائم.
تبلور وتشعّب مسار الفكر الاشتراكي
منذ القدم ولايزال الانسان يسعى لتذليل المعضلات الاجتماعية والاقتصادية ويكافح لإزاحة الظلم والقهر وتحقيق العدالة، مما دفعه لتفجير الثورات والانتفاضات التي اتخذت تسميات مختلفة واهتدت بقائد ملهم او منقذ مسيحاني او منظر او ثائر ديماغوجي رفع الشعارات الحماسية والساحرية. لا بد ان يكون للهيجان الاجتماعي اسبابه ومبرراته وارضية يستند عليها، بالإضافة الى مرجعية قيادية يلوذ بها. بخصوص قارة اوروبا، افرزت ظروف ما بعد القرون الوسطى وانطلاق عصر النهضة وابعاد سيطرة الكنيسة عن مجال ادارة الدولة، وتدشين الثورة الصناعية بيئة اقتصادية واجتماعية جديدة. بالرغم من غزارة الانتاج وامتداد ذراع الدولة المركزية لإيجاد الاسواق العالمية لتصريف البضاعة والاستحواذ على مصادر المواد الخام، ازداد عدد البائسين والفقراء واللصوص والمجرمين والمخربين للآلة الصناعية وتوالت الأزمات الاقتصادية. في تلك الظروف تكرست وتعمقت الفوارق بين الطبقات وتميزت احداها عن الاخرى بنمط معيشتها وبأنديتها وجمعياتها ومشاربها الفكرية والثقافية وبالإمكانات المادية المتاحة تحت تصرفها. الى منتصف القرن التاسع عشر كانت التنظيمات السياسية والاجتماعية لطبقة العمال والحرفيين لاتزال بوضعها الجنيني وعلى شكل جمعيات سرية او انسانية تجمع التبرعات من المحسنين الاثرياء وتوزعها على المعدمين، مما وفر الفرصة لأحزاب الطبقة الوسطى والمثقفين اللبراليين للهيمنة على المشهد السياسي والقيام بدور الراعي لمصالح الشرائح العمالية والفقيرة. الزمت تلك الاحزاب نفسها بتحقيق اصلاحات تدريجية دون تخطي الحدود وتعريض اطر تماسك المجتمع الى التمزيق او الى غياب الاستقرار. الى جانب تلك المساعي الاصلاحية برزت تيارات تتميز بالطوباوية ( المثالية ) والافكار الجميلة التي تقوقعت في نطاق التأمل واظهار النوايا الطيبة ونبذت العنف كوسيلة للوصول الى الاهداف.
لم تخل الساحة السياسية من الايديولوجيات الثورية الناهضة التي رهنت نجاحها بإنطلاق ثورة العنف التي لا مناص منها كوسيلة لإنقاذ الانسان من كافة مظاهر القهر والظلم. آمنت تلك التيارات الراديكالية بهدم البنيان الاجتماعي القائم واعادة تركيبه بطريقة تشفيه من كل الموروثات السلبية ومسببات التمييز والاستغلال. في غمرة الامل بإقامة الفردوس على الارض، نالت تلك المشاريع الخلابة تأييد وحماس اوساط عريضة من الشباب، وتوقدت في رؤوسهم الافكار الساخنة وتناولوا الايديولوجيا الثورية كقطع من الحصى لا تتمكن معدتهم من هضمها. وهكذا انطلق الفكر الاشتراكي الثوري يحمل الرسالة ويبشر بتحقيق الحلم الكبير وانقاذ البشرية من معاناة آلاف السنين، وملأ القلوب بالسرور وهي تتطلع لمشاهدة سماء مرصعة بالنجوم اللامعة ولإمكانية التحليق في الاعالي وغزو الكواكب وانبات حدائق جناء على سطح القمر والمريخ وغيرها. لم يترعرع الفكر الاشتراكي الراديكالي في وعي الفرد الاوروبي بصورة عفوية او اعتباطية، بل كنتيجة لإفرازات الثورة الصناعية التي اجحفت بحق العمال، وبالأخص النساء والاطفال الذين عملوا في ظروف قاسية وبأجور متدنية. في تلك الظروف عانى العمال والمعوزون من مشاكل السكن والتأمين الصحي ورداءة الغذاء وارتفاع اسعار الخبز ومن الاضطهاد السياسي، الى جانب مخاطر موجات المجاعة المتلاحقة، ولا سيما بين سنوات ( 1822 – 1847 ). بدلاً من الشعور بمعاناة العمال والفقراء وتلبية مطالبهم المشروعة، تمسكت الطبقة العليا والاقطاعيين وشريحة النبلاء بإمتيازاتهم واستعانوا بأجهزة الدولة وسخروها لكسر ارادة المقهورين، مما تسبب في تصاعد وتيرة وحدة الاحتجاجات والانتفاضات.
عندما سخنت الاجواء واستعدت الجماهير للنهوض والتضحية، برز على الساحة تيارات متنوعة في توجهاتها الفكرية واساليب كفاحها، لكن كلا الاشتراكيين الاصلاحيين والثوريين حملوا القناديل في ايديهم ومشاريع الانقاذ في رؤوسهم وهموم المظلومين على اكتافهم ونجحوا في التوعية والتعبئة للوقوف بوجه السلطة الحاكمة بطرق مختلفة. يدلل تاريخ انطلاق الفكر الاصلاحي والمطالبة بالمساوات والعدالة الاجتماعية الى وقت يسبق ثورات القرن التاسع عشر بعدة قرون. في المانيا على سبيل المثال، وقف القسيس مونتسير ( Munzer ) الى جانب الفلاحين وضد الاقطاعيين، مما ادى الى القبض عليه وقطع رأسه سنة 1525 بعد ان تلقى تعذيباً وحشياً. وقبل اطلالة القرن الرابع عشر وبسبب القهر الاجتماعي والفقر انبثقت دعوات من المصلحين الذين امتلكوا حساً انسانياً مرهفاً وشعروا بآلام ومعاناة الآخرين وطالبوا بإزالة الفوارق الاجتماعية او تقليصها وإنصاف المعوزين. قبل الثورة الفرنسية الكبرى بفترة طويلة تعالت اصوات تطالب بالاخوة والمسارات بين البشر وانقاذهم من مخالب العوز. في اجواء الامل تخطى بعض المتفائلين عالم الواقع وحلموا بإقامة مملكة مثالية ( Utopia ) يغيب فيها الظلم والفقر ويعيش جميع مواطنيها مترفهين متفاهمين. شهد منتصف القرن الثامن عشر انتعاش روح التمرد ضد الطبقة الحاكمة من ملوك وامراء ونبلاء واقطاعيين، مما اعطى الاحتجاجات المحدودة صفة الحركات الجماهيرية الساخنة. غيرت ارهاضات الثورة الفرنسية وحروب نابليون مزاج الجماهير، لا سيما عندما امتد امامها مشهد مئات الآلاف من الضحايا ودخان البارود الكثيف ومناظر الدماء والخراب الى جانب زهو امراء الحرب في الدول المنتصرة واحتفاضهم بإمتيازاتهم. هيأت تلك الظروف البيئة لاندلاع معارك، لكنها اختلفت عن سابقاتها من ناحية الاصطفافات والاهداف، وانجبت اشخاصاً حملوا طيفاً من المشاريع اللبرالية او الاشتراكية الاصلاحية او الثورية.
في العقد الرابع من القرن التاسع عشر برز ضمن الرعيل الاول من الاشتراكيين الانجليزي وايتلنغ ( Weitling ) الذي اصدر سنة 1847 كراسة احتوات البيان السياسي تحت عنوان ( اتحاد العدالة ) تبنى وايتلنغ افكار سان سيمون وطروحات الاشتراكي الفرنسي فوريير ( Fourier ) بشأن العدالة الاجتماعية، لذلك اعتبره البعض المصلح الذي مهد للفكر الشيوعي، وخاصة لأنه تعاطف مع قضايا الطبقة العاملة كثيراً. عندما تأثرت التنظيمات العمالية في فرنسا بطروحات الاشتراكي الفرنسي بابيوف ( Babeuf ) انضمت الى اتحاد الشيوعيين الذي قبل كل من كارل ماركس وفردريك انجلز في عضويته. في صيف نفس السنة اجتمع اعضاء الاتحاد في مدينة لندن مع جماعة الاخوان الديمقراطيين ( Fraternal Democrates ) ومع الجارتيين ( الميثاقيين ) ومع اعضاء جمعية الديمقراطيين العالمية في بولندا وايطاليا والمانيا. اضاف الى ذلك المؤتمر حضور كارل ماركس ومشاركته النشيطة بالمناقشات حساً ثورياً واعطى الحدث اهمية تاريخية تخص التيار الاشتراكي الناهض في اوروبا. عشية انقضاء المؤتمر الذي اطلق عليه ( ايام الحروف الحمراء ) انيطت مسؤولية صياغة برنامج عمل يلائم مجتمعات قارة اوروبا لكل من ماركس وانجلز. استجابة لذلك التكليف انكب الاثنان على صياغة الوثيقة السياسية والفكرية التي اطلق عليها البيان الشيوعي ( Communist Manifest ). بالنتيجة سطع نجم ماركس في مجال الاقتصاد الاشتراكي والفكر الثوري وتميز على مسرح الثورة، مما القي بالظلال على غالبية المنظرين وعلى برامجهم في الاصلاح والتغيير وحجّم دورهم. احتوت وثيقة البيان الشيوعي طروحات عدة اهمها: اولاً : انتقاد النظام الرأسمالي وابراز عيوبه ومساوئه. ثانياً : الدعوة لإنهاء الاقصاء الاجتماعي والتغريب للطبقة المنتجة في المجتمع. ثالثاً : ضرورة تنظيم الطبقة العاملة لنفسها في حزب يقودها ويهيؤها لعملية انتزاع السلطة من الطبقة البرجوازية واقامة دكتاتورية البلوريتاريا. رابعاً : الغاء الملكية الفردية التي تسبب كافة الشرور والمظالم وانشاء مجتمع لا طبقي بغية وضع نهاية للاستغلال والقهر. خامساً : اشاعة علاقات اجتماعية جديدة بعد هدم البنيان القائم وتغير العلاقة بين وسائل الانتاج ومحرك الآلة.
تنبأ ماركس في وثيقة البيان الشيوعي بحتمية انتهاء دور الرأسمالية كقائدة للدولة والمجتمع وافترض تأهل الطبقة العاملة للقيام بدورها بقيادة وانهاء الصراع بين من ينتج الثروة وبين من يملكها. لم تبق فرضيات ماركس مجرد احتجاجات ضد الممارسات المجحفة للرأسمالية بحق العمال، ولا فقط مطالب لإجراء تحسينات على اوضاعهم بل تحولت الى خارطة الطريق والى المنهج الذي تهتدي به الطبقة العاملة من اجل ازاحة المنظومة السياسية واحداث انعطاف جوهري يؤسس لعهد جديد للبشرية تقوده الطبقة المستغَلة. التزم ماركس قناعاته الفكرية والسياسية الخاصة بعد ان انكب على دراسة تاريخ تطور المجتمعات البشرية وتعاقب الثورات وانتقال الانسان من مرحلة الى اخرى اكثر ارتقاءً، بالإضافة الى اطلاعه على الفلسفات والعقائد الدينية المختلفة، مما اثرى عنده الشعور بمعاناة الانسان بشكل مرهف وربما متطرف.
اطلالة الايديولوجيا الماركسية
بعد اخفاق ثورات ربيع الشعوب بالوصول الى معظم اهدافها، تنوعت الايديولوجيات واساليب الكفاح بسبب اختلاف النظرة الى طبقات المجتمع وعلاقة احداها بالاخرى. هناك من نظر الى المجتمع كشرائح تختلف بمستوى معيشتها، لكنها من الممكن ان تتفاهم وتؤدي دورها تبعاً لقابلياتها ومهاراتها الفكرية واليدوية. في الوقت الذي تتعايش فيه هذه الطبقات يحق للطرف الذي يشعر بالغبن المطالبة بحقوقه والارتقاء بأوضاعه في كل الجوانب، مما يوفر الفرصة لتضامن الجهد الجماعي والسير بالبشرية الى واقع افضل بعد الاستعانة بتراكم الخبرات والتجارب والتدليل على الاخطاء من اجل تقويمها. على القطب المناقض برزت مدرسة فكرية اعتبرت المجتمع طبقات في عداء وصراع مستديم لا ينتهي الا بإقصاء الطرف المستغِل بالعنف والابقاء على طبقة واحدة تقود مسيرة المستقبل وتدير مجتمعاً لا طبقياً. بالرغم من رفع دعاة هذا المشروع الثوري الشعارات الساحرية المغرية وامتلاؤهم بالامل بإمكانية تأسيس نظام انساني نموذجي، ردّ عليهم الخصوم بأن ارتقاء الانسان ليس حكراً على فلسفة او ايديولوجية بحد ذاتها، بل انه ثمرة لإبداع وجهود كل طبقات المجتمع التي تختلف في وضعها الاقتصادي وفي مهاراتها الذهنية والبدنية ودورها في العملية الانتاجية. تعتقد هذه المدرسة بأنه من الافضل ان يتوازن المجتمع ويستوعب كافة الشرائح على اختلاف مرجعياتها الاجتماعية والفكرية ومشاريعها في التغيير والتطوير السلمي والتدريجي، ويحمل على احد جناحيه الفرد التقليدي والمؤمن بالروحانيات او الاسطوريات وبما فوق الطبيعة، وعلى الجناح الآخر اللبرالي والمؤمن بالماديات والبعيد عن الايمان بالمثاليات.
بسبب الارهاصات والارتجاجات الاجتماعية التي شهدتها اوروبا في القرن التاسع عشر وازدياد المخاوف والقلق بشأن صياغة المستقبل، برزت ثلاثة تيارات سياسية تعبر عن توجهات فكرية مختلفة. شمل التيار الاول اللبراليين والديمقراطيين الاجتماعيين، والثاني الاشتراكيين الراديكاليين والماركسيين، ومثّل التيار الثالث دعاة التعصب القومي والتفوق العرقي الذين تمكنوا فيما بعد من ايقاظ الكبرياء الوطنية المتطرفة ونشر ثقافة احقية العرق الافضل بقيادة الامم والشعوب او استبعادها او صهرها. فيما يخص التيار الماركسي الناشىء والحركات العمالية الثورية فلقد تلقت الضربات وتعرّض قادتها للاعتقال او الاعدام او النفي ليغدوا لاجئين سياسيين في بريطانيا او فرنسا او بلجيكا. تمكنت النظم التقليدية من الحد من نشاط المنظمات الراديكالية لفترة ما بعد ان تحققت النجاحات في تطوير وسائل الانتاج والحصول على مناشىء للمواد الخام وايجاد اسواق مزدهرة للبضاعة، بالإضافة الى انجازات استراتيجية نوعية مثل فتح قناة السويس واختراع جهاز الهاتف الذي جعل العالم صغيراً ومطوعاً للدولة الرأسمالية. خلف تلك الواجهة استفاقت الشرائح العمالية والمهمشة بعد الضربة التي تلقتها، واشتد وعيها واصرارها على حقوقها، وانتشرت تنظيماتها وتبلورت الرؤى السياسية لقادتها. وقف خلف ذلك النهوض اشتراكيون اصلاحيون مثل روبرت اوين وبيرن شتاين وكاوتسكي ( Kautsky ) وثوريون من امثال فردريك انجلز ووليم ليبكنخت ( Liebknecht ) وفروريك لاسالي واوغسطس بيبل، بالإضافة الى كارل ماركس الذي تميز عن كل هؤلاء وبرز دوره.
في الوقت الذي ظهر تأثير الاشتراكيين الاصلاحيين باهتاً، تقوى عضد الثوريين وتوسع مجال فاعليتهم على يد آلاف المثقفين المنفيين والهاربين من اوطانهم والذين بشروا برسالة العمال الاممية خلال لقاءاتهم ونشرياتهم في الصحف والبيانات الحزبية. حينها اصبحت باريس ولندن المدن الرئيسية التي استقطبت الثوريين والنخب الفكرية الاشتراكية واوساط الطلبة الذين تشبعوا بالروح الاممية واستعدوا للنضال والقتال في جبهات دول اخرى بعد ان تطلعوا ليس لتحرير اوطانهم فحسب، بل والعالم بأكمله. بالرغم من تلك المشاعر الانسانية الحماسية، طالت التنظيمات العمالية الخلافات وحتى الصراعات وتبادل الاتهامات مما دفع كارل ماركس وفردريك انجلز الى تأسيس تنظيم خاص بهما سنة 1847 اطلقا عليه اسم ( اتحاد او عصبة الشيوعيين ) الذي انضم اليه حلف العادلين ( The League of The Justs ). اتخذ ذلك التنظيم شكلاً هرمياً تستند القاعدة على لجان سميث بالكوميون ( Commune ) وتقف على قمته اللجنة العليا اي القيادية، مما جعله يتشابه مع سمات الخلايا الاولى للمؤمنين بالعقيدة المسيحية في روما. تتوجت جهود ونشاطات ماركس وانجلز بإنفجار عدة انتفاضات عمالية في دول غرب اوروبا، وبالتحديد في ايطاليا وفرنسا والمانيا.
تدريجياً، اتسعت وبشكل متسارع فعاليات الحركة الشيوعية اليافعة وغمرت القلوب المجهدة واتخذت طابعاً عاطفياً وحماسياً وقفزت فوق مرحلة النضج والاستيعاب من جانب اوساط غير قليلة من ابناء الطبقة العاملة.
في بداية الامر لم يكن لعصبة الشيوعيين التي اسسها ماركس وانجلز في باريس، والتي ضمت شرائح من الطبقة السفلى والعمال واصحاب الحرف اليدوية وعددا من المثقفين الثوريين، ذلك الصدى في كل دول غرب اوروبا. لكن نشاطها توسع بين المهاجرين الى فرنسا من الالمان وغيرهم واكتسحت الماركسية الساحة، ولا سيما عندما نالت التأييد والقت الظلال على مفاهيم الاشتراكي الالماني هيس ( Hess )، مما منح الاولى اليد الطولى في مجال الثورة العمالية الاشتراكية. اعتمد ماركس على نظريته ونهجه الخاص في العمل الثوري الهادف الى بناء المجتمع الاشتراكي على انقاض النظام الرأسمالي، واعتقد بتطويره النظرية الشيوعية التي اطلق عليها الاشتراكية العلمية المستندة على المادية التاريخية. من اجل تكريس هذا النهج عمل على تهميش وتقليل تأثير خصومه من الاشتراكيين وانتقد طروحاتهم ونظرياتهم مثل روبرت اوين وسان سيمون وفوريير ووليم وايتلنغ وبلانك. شدد ماركس في فرضيته على ان الطبقة العاملة هي الوحيدة الجديرة على قيادة مجتمع المستقبل اللاطبقي، وربط نجاح مشروعه بقيام الثورة الاشتراكية في بريطانيا بإعتبار طبقتها العاملة اكثر نضجاً ووعياً وهي في بلد متقدم في الصناعة وغزارة الانتاج.
عندما انحلت عصبة الشيوعيين، اسس ماركس رابطة الشيوعيين التي عقدت مؤتمرها الاول في بروكسيل عاصمة بلجيكا، ومؤتمرها الثاني في لندن نهاية سنة 1847. اثناء المؤتمر الثاني ناقش الحاضرون بإسهاب في غالبية الجلسات مبادىء الاشتراكية العلمية لماركس الذي انيطت به مسؤولية صياغة مسودة مقررات المؤتمر. نهاية سنة 1848 ارسل ماركس نسخة من البيان الشيوعي الى الرابطة التي نظرت اليه كأشهر نص سياسي يخص ثورة الطبقة العاملة وبناء الاشتراكية. ومع ذلك لم تكن آنذاك جميع التنظيمات العمالية منظوية تحت قيادة رابطة الشيوعيين الماركسية، لأن العديد منها كان قد تشبع بالأفكار النقابية والمهنية وسعت لإحداث الاصلاحات في اوضاع العمال بطريقة سلمية او احتجاجية من خلال التظاهرات والاضرابات.
في هذا السياق نشب الخلاف بين كارل ماركس وغوتشالك ( Gottshalk ) الذي كان احد نشطاء الحركة العمالية في مدينة كولون الالمانية واسس جمعية ضم اليها العمال العاملين والعاطلين. ومع ذلك اقلقت التنظيمات العمالية الانظمة المحافظة لأنها تعرض الكيان السياسي والبنيان الاجتماعي للإنهيار، وبالأخص اذا ما تهاونت الانظمة في مجابهة الحركات الراديكالية. اعتبرت القوى المحافظة واليمنية التنظيم الماركسي بعبعاً مخيفاً وجرثومة تنشر وباءً خطيراً ومعدياً، لا سيما وهو يهتدي بوثيقة البيان الشيوعي ويتبنى العنف كوسيلة لإنتزاع الحكم والغاء الملكية الفردية وتأسيس دولة العمال. في اجواء ذلك القلق نسّق البابا في ايطاليا وقيصر امبراطورية النمسا والمجر ورئيس وزراء فرنسا كوزيت وجواسيس بروسيا وشرطتها السرية جهودهم بغية صدّ سيل التيار الشيوعي الناهض قبل ان يشتد زخمه ويجرف معه كل شيء. بالرغم من الاختلافات وتناقض المصالح في صفوف كافة الاطراف، تركز الصراع بشكل رئيسي بين فريقين، ضم الاول المحافظين وبقايا النبلاء والاقطاعيين والشريحة الارستقراطية والبيروقراطية، والذي استمد قوته من اجهزة الدولة وجيشها وسجونها ووسائل قمعها واعلامها، وضم الطرف الثاني ابناء الطبقة العاملة والشرائح السفلى والعاطلين والمنبوذين، بالإضافة الى عدد غير قليل من الاكاديميين والمثقفين الثوريين.
الفصل الثاني
الشيوعية امل الشعوب
ماركس ينسج لوحة ثورة العمال
عند تراجع دور الطبقة الوسطى واللبراليين في قيادة ثورات ربيع الشعوب التي اخفقت بتحقيق تطلعات اوساط واسعة في المجتمع، وخاصة الطبقة العمالية والشرائح الفقيرة والعديد من المثقفين والادباء والفنانين، تهيأت الاذهان للتجاوب مع المشاريع الثورية. مهدت تلك الانعطافات الطريق لتميز برنامج يخص التغيير الراديكالي لواقع المجتمع يحمل بصمات كارل ماركس بعد ان بحث بعمق في تاريخ تطور مسيرة الانسان وكتب الكثير في مجال الاقتصاد والفلسفة ومساوىء النظام الرأسمالي. بعد ن عاش ماركس فترة في باريس واحتك بالرعيل الاول من الشيوعيين الفرنسيين واجرى معهم مناقشات حول المفاهيم الاشتراكية واطلع على مستوى نضوج وعي الطبقة العاملة، ترسخت قناعاته بالشيوعية كنظام سياسي يضع نهاية للأزمات الاقتصادية والصراعات المجتمعية ويحقق العدالة وينهي الاستغلال والاقصاء للطبقة المنتجة. يوضح هذا ان ماركس لم يكن المنظر الوحيد والاول الذي طرح الفكر الاشتراكي او تحسس مأساة الطبقة العاملة وتعاطف مع قضيتها وتبنى مطالبها، لكنه تميز عن غيره من الاشتراكيين وتمكن من القاء الظلال حولهم. ظهر العديد من المنظرين للاشتراكية والمنادين بالعدالة الاجتماعية ونشروا الكثير حول ضرورة تحقيقها، لكنهم لم ينجحوا في تعبئة واستقطاب الجماهير الواسعة وكسب قلوبها كما فعل ماركس وانجلز اللذات تميزا ونظما حزباً يمثل العمال والفقراء. ومع ذلك لم تتمتع منظمة تحالف الشيوعيين التي اسسها ماركس بعمر طويل وتم حلها سنة 1852 لأنها اعطت الاولوية لتحقيق الاهداف الاممية على حساب الطموحات القومية والوطنية للشعوب الرازحة تحت هيمنة القوى الكبرى. حينها ابتعد ماركس عن النشاط السياسي وانغلق على نفسه وانكب على الكتابة حول المال والاقتصاد، مما جعل العديد من اتباعه ان يتخلوا عنه وينضموا الى الشيوعيين الالمانيين كارل شاربير وفيليخ ( Willich ). على مسرح التطلعات لإقامة النظام الاشتراكي ظهرت الى جانب منظمة تحالف الشيوعيين لماركس الحركة الجارتية ( الميثاقية ) في انجلترا والبلانكية في فرنسا والمجموعة الثورية في هنغاريا، بالإضافة الى تنظيمات عمالية في غالبية عواصم غرب اوروبا. اعترفت غالبية تلك التيارات بمشروعية ثورة العمال الهادفة لتقويض النظام الرأسمالي والغاء الطبقية في المجتمع وتطبيق الاشتراكية في البلدان الصناعية اولاً ومن ثم في بقية الدول.
قبل كارل ماركس بعدة قرون وبفترات متفاوتة ظهر المصلحون الذين غمرتهم المشاعر الانسانية وتعاطفوا مع الفقير والمظلوم وطالبوا بالعدالة الاجتماعية واعترضوا على احتكار الاغنياء للثروة. راود المصلحين البدائيين الامل بتأسيس نظام مثالي ينعم الجميع تحت ظله بالخير وبالعدالة في نيل المنفعة من الثروة العامة. في هذا السياق تبنى الرعيل الاول من المبشرين بالعقيدة المسيحية قضية الفقراء وناردوا بالعدالة والانصاف ولعنوا الاغنياء لأنهم اعداء الله وسارقي قوت الشعب. من اجل تأكيد ذلك النهج نهض الاسقف امبرسيوس وطالب بضرورة ان تكون خزائن الارض والطبيعة ملكاً لكل البشر لأن الله خلق خيرات وعطاءات الارض ووهبها للبشر ليستفيدوا منها بالتساوي. في انجلترا انتفض الفلاحون سنة 1381 بقيادة القسيس جون بول ( John Ball ) ضد جور وظلم الاقطاعيين. اعتقلت السلطات القسيس ووجهت اليه تهمة التحريض واثارة الشغب وادانته ونفذت به حكم الاعدام مباشرة. اعتبر الاشتراكيون المعاصرون والثوريون تلك المبادرات الانسانية او الاصلاحية عقيمة وساذجة وغير عملية، مما ينبغي تجاهلها او القاءها في عالم النسيان.
تمكّن كارل ماركس وبمساعدة فردريك انجلز من تقليل شأن العديد من الإشتراكيين او دفعهم إلى الظل، ولا سيما عندما اصدر وثيقة البيان الشيوعي التي تضمنت مشروعاً سياسياً ثورياً وثرياً اطلق عليه هو الاشتراكية العلمية. اعتقد ماركس بإمكانية تطبيق نظريته على ارض الواقع عن طريق انجاز الطبقة العاملة لرسالتها التاريخية وخوضها الحرب الطبقية التي تنهي بإنتصارها واقصاء الرأسمالية وتغيير علاقات الانتاج واقامة المجتمع اللاطبقي. خلال مساعيه طلب ماركس التأييد والدعم من الاشتراكي الفوضوي برودون، لكن الاخير رد بعدة رسائل يحذر ماركس من مخاطر طرح المذهبية الجاهزة ( Ready – Mdde Doctrine ) للثورة والتي وصفها بالنظرية الجامدة. خاب امل ماركس ببرودون واتهمه بالسذاجة والوقوع في اسر الاخلاقيات المثالية والافتقار الى الحس الثوري العملي الذي لا يستقيم مع الجرأة الثورية. لم يحتمل ماركس المختلفين معه ووصفهم بأصحاب المشاريع الخيالية او الفانتازية. في هذا الخصوص لا بدّ ان نُعرّج على الاشتراكي الفرنسي كابيت ( Cabet ) الذي استخدم مفردة الشيوعية ( Communismi ) لأول مرة وتأثر بالسلمية كإحدى السمات البارزة في تعاليم العقيدة المسيحية.
تمكن ماركس من الاقتراب من عقول وقلوب العمال عندما اكدّ على ضرورة تنظيم انفسهم في حزب سياسي خاص بهم لكي يلعبوا دورهم الرائد في الاحداث، واشار الى حتمية اندحار الطبقة الرأسمالية لأنها تحفر قبرها بيدها بسبب ازدياد عدد محركي الآلة الصناعية واشتداد تأثيرهم. الى جانب هذا انتقد ماركس كلا الاشتراكيين الطوباويين والمصلحين من امثال سان سيمون والثوريين الذين يتبنون الآمر كوسيلة لإنتزاع السلطة. من جانبهم شكك الاصلاحيون وبعض الاشتراكيين بإمتلاك الطبقة العاملة الخبرة والمبادرات التاريخية التي تؤهلها لقيادة المجتمع. من اجل توضيح موقفهم دعوا الى ضرورة الالتجاء الى الاساليب السلمية وممارسة الضغوط والاستنارة بطروحات المفكرين الذين يهمهم اصلاح الاوضاع وبنائها على اسس اكثر عدالة وانسانية وعقلانية. لكن ماركس رفض تلك المشاريع الاصلاحية واعتبرها ساذجة وفاشلة لأن التفاهم ( حسب رأيه ) مع مالكي وسائل الانتاج والرأسماليين كأسلوب لإرغامهم على الاستجابة لمطالب العمال الجوهرية مستحيلة. وشدد على رفع مستوى الوعي الطبقي واذكاء الصراع ضد الرأسمالية بقيادة الشيوعيين لأنهم رمز كفاح البلوريتاريا وجزء اصيل من كيانهم.
عندما حلل ماركس نتائج الموجة الاولى لثورات ربيع شعوب اوروبا والتي قادتها الطبقة الوسطى والنخب اللبرالية، اعتقد بأن تلك الثورات استنفذت زخمها وانكشف ظهرها للضربات وبدأت بالتراجع والدفاع عن النفس. في بريطانيا منيت الحركة العمالية الميثاقية ( الجارتية ) بنكسة، في بلجيكا تمكن النظام من احتواء الحركة العمالية، في روسيا القيصرية وامبراطورية النمسا والمجر حافظ النظامان المستبدان على موقعيهما وفي بروسيا الالمانية اطمأنت الملكية على اركان عرشها، اما عرين الثورة فرنسا، فلقد خاب امل الشعوب بنتائج ثورتها الثانية. من اجل الصمود امام الرياح وتغيير اتجاهات هبوبها، تمسك ماركس بقناعاته حول خصوصية كفاح الطبقة العاملة وضرورة ابتعادها عن الاستسلام او الذيلية او الوقوع فريسة للاحباط، بل التفاؤل، لأن الطبقة الرأسمالية تحمل بذور فنائها في داخلها وان المستقبل مشرق امام البلوريتاريا لتأدية رسالتها التاريخية. منذ البداية نذر عمله الفكري في سبيل الطبقة العاملة وفتح لها آفاق مستقبلها عندما طرح نظريته في المادية التاريخية والصراع الطبقي الذي ( حسب رأيه ) يتتوج بإقامة المجتمع الشيوعي. وكاسلوب تكتيكي مؤقت برر وقوف الطبقة العاملة خلف البرجوازية الحاكمة لحين القضاء التام على بقايا مؤسسات النظام الاقطاعي وعلى منظوماته الاخلاقية والقيمية. انتقد ماركس دعاة الاشتراكية المتسرعة الذين اعتقدوا بقدرة البلوريتاريا الالمانية على اقامة النظام الاشتراكي، وعرض استعداده للتعاون مع اي تنظيم وان كان برجوازياً في سبيل توفير الفرصة للطبقة العاملة للتأهل لإدارة الدولة بعد الاطاحة بالرأسمالية. خلق الموقف المتناقض عند ماركس الالتباس والغموض لأنه اعتبر البرجوازية العدوة اللدودة للبلوريتاريا، مما ينبغي على الثانية التربص بالاولى واقصائها عندما تحين الفرصة. بالإضافة لهذا اظهرت وثيقة البيان الشيوعي صراحة بأن الدعوة لوقوف الطبقة العاملة خلف البرجوازية عملية تآمرية وتكتيكاً مؤقتاً وشهر عسل ينتهي بالغدر والطلاق.
تحمل ماركس المسؤولية ورسم بفرشاته لوحة مستقبل البشرية وتقدم بمشروعه السياسي والفكري وعرضه على النخب الثورية وعلى التنظيمات العمالية المختلفة. في هذا السياق تطرق الى الواقع الاقتصادي وعلاقات الانتاج لأنها الوحيدة التي تتحكم في شكل النظام والطبقة التي تديره. واوضح ذلك عندما اشار الى ان الانتاج المادي يرتكز على عنصرين: اولهما: وسائل الانتاج وقواه المنتجة، وثانيهما: علاقة مكونات المجتمع بعضها ببعض والتي تحدد طبيعتها علاقتها بوسائل الانتاج اي اما ان تكون المحركة لها او مالكتها. في المجتمع البدائي استخدمت الاقواس والسهام وسكاكين الحجر او الخشب كأدوات للصيد، وفي المجتمع الزراعي كانت ادوات الانتاج المحراث والمنجل ووسائل تنقية الحبوب ونقلها الى طاحونات هوائية او مائية ومن ثم الى اماكن لتحويلها الى خبز. تطورت وسائل الانتاج في المجتمع الصناعي وظهرت الآلة البخارية التي تحتاج الوقود كالفحم الحجري والبترول وتتطلب انشاء مصانع كبيرة وايجاد وسائط نقل سريعة، مما دفع بالحاجة الى اختراع وصناعة السيارة والقاطرة والطائرة فيما بعد. في المجتمع الطبقي يسود نوع من تقسيم العمل وتتفاوت القيمة الاجتماعية تبعاً لإمتلاك الثروة او العلاقة بوسائل الانتاج. اوجد نظام العبودية العبد الذي يعمل وينتج ويؤمن مصالح مالكه ويعطي المشروعية لنفوذه الاجتماعي، في المجتمع الاقطاعي هناك من يملك الارض والانشطة المتعلقة بها، وهناك من يصنع المحراث والمنجل ومستلزمات تأسيس الطاحونة. وتحت امرة الاقطاعي الفلاح الأجير الذي يحرث ويبذر ويحصد وينقي البذور وينقلها الى الطاحونة حيث يوجد من يشغلها ويحول البذور الى طحين يوضع تحت تصرف عامل آخر في المخبز ليحوله الى طعام. في المجتمع الصناعي او الرأسمالي يوجد من يملك وسائل الانتاج ومن يقوم بتحريك وتشغيل الآلة ويعمل على صيانتها وادامة عملها، وهناك من يبني المصانع ومن يصنع الآلة او يطورها، وهناك من ينقل البضاعة او يخزنها.
من وجهة نظر ماركس خلق المجتمع الصناعي شرائح وطبقات في تناقض وصراع لا ينتهي الا بالإقصاء القسري، لأن هناك المستغَل الذي يفوق عدد المستغِل بكثير. لم يكن كثرة العدد عنصر قوة للمقهورين لأن الطبقة الحاكمة تستمد نفوذها من قوانين الدولة ومن وسائل بطشها واعلامها. بالإضافة لهذا يوظف النظام الرأسمالي لصالحه التقاليد والموروثات الفكرية والمعتقدات الدينية المغروسة في العقل الجمعي لأنها روافد تمنح الدولة الزخم والمشروعية، مما دفع ماركس الى توعية الطبقة العاملة لكي تدرك بأن جهدها البدني والعقلي مسلوب من قبل الرأسماليين. بالرغم من تصويبه سهام الانتقادات للرأسمالية يعترف بدورها التقدمي حينما خرجت من رحم النظام الاقطاعي ونشرت ضياء الحداثة على اصقاع واسعة واخترعت الآلة ووفرت السلع ووضعتها تحت متناول الانسان على نطاق اوسع ونقلتها الى البلدان الاخرى عندما كسرت القيود التي اعاقت التعاملات التجارية في ازمنة سابقة. في مجال تحرير الفكر انهت المفاهيم الحديثة طغيان الكنيسة وسلطة النبلاء والامراء واوجدت الدولة المركزية التي تستظل بالدساتير والقوانين العقلانية. ومع ذلك افترض ماركس بأن الرأسمالية هرمت وشاخت وتحولت الى حصن للمحافظية والرجعية والى عنصر سلبي لا يتمكن من مجارات الزمن وتحقيق تطلعات الشعوب عموماً والطبقة العاملة بشكل خاص. ويذهب ابعد من ذلك ويضمّن نظريته ان الرأسمالية مهدت الطريق للطبقة المنتجة لأخذ المبادرة وانهاء ظاهرة التهميش لشريحة اساسية وفاعلة في المجتمع. في ضوء تحليلاته لواقع دول غرب اوروبا، تنبأ بإنطلاق اول ثورة عمالية في البلد الاكثر تقدماً في الصناعة والاغزر في الانتاج وحجم الاقتصاد، وبالتحديد بريطانيا لأن طبقتها العاملة اكثر عدداً ونضوجاً وكفاءة لبناء الاشتراكية على انقاض الرأسمالية. استمد ماركس قناعته بحتمية قيام الثورات العمالية من ثلاث معطيات: اولها: كابوس الازمات الاقتصادية المتتالية والمهلكة للنظام الرأسمالي. ثانيها: التراجع الاقتصادي والكساد والتضخم المالي الذي يتسبب في الجوع والبؤس وازدياد البطالة، مما يدفع اوساطاً واسعة الى التمرد على الواقع القائم. ثالثها: نمو الوعي الطبقي وانتشاره وتحرك دافع الثورة عند العامل والذي يتمثل بإنطلاق المظاهرات واعلان الاضرابات وانفجار بركان الهيجان الاجتماعي.
في جو من الحماس استبشر العمال وامتلؤا بالامل عندما بزغ امام عيونهم الفكر الشيوعي الذي وعدهم بمستقبل مشرق وبإنفتاح باب لم تطى عتبته قدم الانسان. انتفض العمال بقيادة متنبي الايديولوجيا ورفعوا اليافطات التي تحمل شعارات تنادي بتآخي البشر وبإتحاد عمال العالم، مما اعطى تلك الاجواء صورة تتماثل مع تلك التي عكسها الرعيل الاول من المبشرين بالفكر المسيحي الذين نادوا بأن جميع ابناء الله اخوة متساوون ومتحابون. من الملفت للإنتباه ان نسبة غير قليلة من الماركسيين لم يكونوا آنذاك عمالاً يعملون، بل فقراء او محرومين من أبناء الطبقة السفلى او بائسين او عاطلين عن العمل الذين اندفعوا للثورة بدافع التعويض او التخلص من واقعهم المرير او للانتقام من الاثرياء والميسورين. تخلت تلك الشرائح عن طبيعتها السلمية الفطرية وكسرت حاجز الخوف واقامت المتاريس وحملت السلاح لأول مرة واندفعت بطريقة عاطفية محمومة وتحدت السلطات في شوارع باريس وبرلين ودريسدن وكولون وميلان واطلقت شعارات ربما لم تفقه كنهها وهتفت بحياة الاشتراكية والشيوعية.
الماركسية تندفع فلسفياً الى يسار الهيغلية
هيغل ( Hegel ) ( 1777 – 1831 ) فيلسوف الماني بارز اطلق لأول مرة مفردة الديالكتيك اي الجدلية وتناقض الاضداد التي حصرها في مجال الفكر او العقل واعتبرها العامل الحاسم في تطور وارتقاء حياة الانسان. في الثلث الاول من القرن التاسع عشر بدأت اركان الفلسفات المثالية ومنها فلسفة كانت ( Kant ) تهتز امام نهوض الفلسفة المادية الجدلية التي اسست لها قواعد على انقاض الفلسفات السائدة آنذاك، مما فتح المجال لظهور الفلاسفة الذين تبنوا النهج الديالكتيكي. في مقدمة هؤلاء هيغل ومن بعده الفيلسوف الالماني فوير باخ ( Feuer bach )، لكن الاخير انفصل عن الهيغلية وانتقدها بسبب ايلائها الفكر الدور الرئيسي في تطور مسيرة الانسان. اعطت الفويرباخية الاولوية للمادة لأن الفكر او الروح مشتقة منها ولا وجود لهما من دونها او خارجاً عنها، ولذلك فهي تمثل الحقيقة المطلقة في الوجود. بالنتيجة، يكون فوير باخ قد أرسى الحجر الاساسي الذي استندت عليه الماركسية، وخاصة في مجال المادية التاريخية.
منتصف القرن التاسع عشر ابتعدت الفلسفات عن نهجها المألوف بتناول المواضيع الفكرية المجردة، واصبحت جزءاً ملحقاً بالايديولوجيات السياسية او الحزبية، مما جعلها طرفاً في صراع الطبقات. تحولت بعضها الى مدارس فكرية تديرها الاحزاب التي تحيك التكتيكات وتعبىء الجماهير وتحفزها لخوض المعارك ضد الخصوم الطبقيين. من اجل التمييز بين الهيغلية وبين المادية التاريخية لكارل ماركس، اشارت الاولى الى صراع الاضداد في الفكر او العقل، لكن الثانية، وبالرغم من استقائها مفهوم الديالكتيك من الاولى، فهي تشدد على الصراع الذي يحصل في المجال المادي والاقتصادي وتنقله الى مسرح الثورة الطبقية. في هذا السياق افترض ماركس نهوض الطبقة العاملة كنتيجة لصراع الاضداد في المجتمع وحتمية انتصارها على الرأسمالية. يوضح هيغل في فلسفته ان التطور والتحول في واقع المجتمعات البشرية تنتج بسبب التطور الذي يطرأ على الفكر او الوعي، لكن ماركس يصر على دور الواقع المادي وعلاقات الانتاج في تطوير الفكر وتغيير القيم ومفاهيم الحرية ومنظومة الاخلاق. وهكذا، يقلب ماركس المعادلة في فلسفة هيغل ويعتبر الواقع الاقتصادي المادي وعلاقات الانتاج بمثابة البناء التحتي ( Infra Structure ) الذي تنعكس منه كافة عناصر البناء الفوقي ( Super Structure ) من افكار وثقافة ومعتقدات واخلاق. بالرغم من طغيان المفهوم المادي على فلسفة فوير باخ، اعترض عليها ماركس لأنها ابرزت دور الجوانب الانسانية والاخلاقية في عملية تغيير واقع المجتمع ولم تتبنى فكرة الصراع الطبقي كوسيلة لإقصاء الرأسمالية بالقوة وتأسيس دكتاتورية البلوريتاريا.
لم تكن كل مضامين فلسفة هيغل مثالية وغير واقعية كما وصفها خصومه، لأنه هو من استنبط مفهوم صراع الاضداد وانتقد الافكار البالية واساليب المؤسسات القائمة وحتى الدينية منها لأنها لا تمثل الحقيقة وقد تجاوزها الزمن وهرمت، مما تدعو الحاجة لتغييرها او التخلي عنها. عندما نأى ماركس بنفسه عن الهيغلية والفويرباخية، بدأ يروج لفلسفته بخصوص المادية التاريخية ( Historical Materialism ) والتي تؤكد على جوهرية العداء الدائم ضد السلطة التي تقف امام تطلعات المجتمع المدني، ولا سيما طبقته العاملة. اعتقد ماركس بعدم امكانية معالجة الوضع الشاذ، الا بوضع نهاية للنظام الطبقي واقامة المجتمع الشيوعي الذي تختفي فيه الطبقات والملكية الفردية.
في الجانب الفلسفي البحت يرى هيغل ان تاريخ الانسان يتحرك بطريقة بالامكان تتبعها ومعرفة توجهاتها، وان هذا التاريخ يعبر عن سلسلة من التطورات في الفكر او العقل الذي يحوي مجموعة من الطاقات الكامنة التي تنتظر الفرصة لكي تنتقل الى واقع اكثر ارتقاءاً. يعتبر هيغل التمتع بالحرية على رأس هذه الطاقات. وبالتالي يؤدي صراع الاضداد الى ازالة العراقيل من امام تحقيق الحرية، ويحرر عقل الانسان من الكوابح ويرفعه الى مستوى اكثر نضوجاً واستيعاباً، ولا سيما بعد دحر الظواهر السلبية او الاقصائية. يشبّه هيغل مراحل نضوج العقل وارتقائه بالادوار التي يجتازها الطفل الوليد اثناء نموه النفسي والروحي والتي خلالها يؤكد ذاته ويتغلب على المعوقات. خلال عملية نفي الضد السلبي في العقل تنبثق الافكار الخيرة والمثل النافعة مثل الحرية والشعور بإستقلالية الذات. تستمد الحرية قيمتها الحقيقية في سياقها التاريخي، ففي نظام العبودية تمثلت بإنعتاق العبد من استعباد سيده له وحصوله على وضع اجتماعي افضل. مع مرور الزمن وارتقاء عقل الانسان بعد ازاحة الظواهر السلبية، اتخذ مفهوم الحرية معناً وبعداً مختلفاً، بحيث عجز النظام القائم والتقاليد الاجتماعية السائدة من تلبية استحقاقاتها. بالنتيجة استجاب عقل الانسان الى ضرورة ازاحة المفاهيم والقيم القديمة واستنباط صيغة تتجاوب مع حرية العقل في المجتمع الصناعي. بغية توضيح مفهومه حول صراع الاضداد، يطرح هيغل حالة السيد المالك وعلاقته بعبده والتي تمنحه وضعاً اجتماعياً يختلف عن الذي للعبد. في الوقت الذي يرى العبد نفسه ذليلاً وضيعاً وفاقداً للاستقلالية وحتى ممتناً لسيده طالما لا ينتزع منه حياته، يتمتع السيد ومن خلال علاقته بعبده بكامل حريته وبشخصيته المعنوية وبكيانه الاقتصادي. بالرغم من استقرار العلاقة بين الاثنين وحاجة كل طرف الى الآخر من اجل تحديد هويته وموقعه الاجتماعي، ينشأ الصراع الخفي وتطل التناقضات برأسها ويبدأ العبد بالتململ والتمرد ومن ثم يثور لأنه يتوق الى الحرية والشعور بآدميته. يسعى العبد للتخلص من هويته وكسر الاغلال لكي يصبح انساناً متكافئاً مع مالكه، لكن الاخير لا يستطيع تحرير عبده لأن ذلك يؤول الى حرمانه من صفة المالك ومن الوضع الاجتماعي المتميز، مما يخلق التناقض وصراع الاضداد. من البديهي ان يملك السيد الموقع الاقوى، لأنه يستعين بمؤسسات الدولة وبالاجهزة البوليسية والى جانبه القانون والاعراف السائدة، وفي متناول يده وسائل التعذيب والتأديب مثل السوط والسلاسل وما شابهها.
من غير المنطقي ان تستقر الامور على حالها، فعندما تحين الفرصة ويحتدم صراع الاضداد ينهض العبد وينتقض ضد العبودية وينتصر في ثورته، مما يجرد المالك من مشروعية امتلاك انسان آخر ويفقد وضعه الاجتماعي المتميز. في الوقت الذي يفقد العبد فيه صفته الاصلية ويغدو انساناً حراً ونداً لمالكه، يأخذ كلاهما وضعاً اجتماعياً واقتصادياً جديداً تسود فيه علاقات وقيم ومفاهيم تختلف عن سابقاتها. عندما استعان ماركس بفلسفة هيغل حول صراع الاضداد، رفض ان يكون العقل ساحة هذا الصراع والقاعدة التي يتوقف عليها تطور وارتقاء حياة الانسان. في الوقت الذي ابرزت الهيغلية دور الفكر او العقل في عملية التطور، شددت الماركسية على الواقع الاقتصادي وعلاقات الانتاج واعتبرتها العامل الحاسم في تطوير الفكر. من اجل تقديم فلسفة خاصة به، القى ماركس الظلال حول الهيغلية ووصفها بالفلسفة المثالية، وتمكن من تهميشها وارساء قواعد لمدرسة فكرية ثورية تنشر مفاهيم المادية التاريخية وثقافة تأجيج الصراع الطبقي الذي لا ينتهي الا بإقامة المجتمع الشيوعي. بالنتيجة احتكر ماركس الحقيقة المطلقة ونسج بأنامله لوحة لمستقبل البشرية عن طريق استخدام الخيوط التي وفرتها له طروحاته وروآه الانسانية الجميلة ومشاريعه الخلابة.
الماركسية تقدم مشروع خلاص البشرية
كم هو جميل وساحري ان يغفو المرء وهو غائص في الوحل ويستيقظ ليرى نفسه في اعالي السماء الزرقاء او على ظهر السحاب يغازل القمر ويتأمل الأجرام السماوية. في ظروف القهر والمأساة والمظلومية والغليان الاجتماعي طرح ماركس نظريته بشأن خلاص البشرية بطريقة ايمانية واضغى عليها مسحة عاطفية ومثيرة ومغرية. وحرك المشاعر عندما دعا جميع عمال العالم الى الاتحاد والنضال المشترك، لأن العامل ( حسب رأيه ) في النظام الرأسمالي ليس له ما يخسره في ثورته سوى السلاسل والاغلال التي على معصميه، لكنه في الوقت ذاته يربح العالم كله. وهكذا قدّم ماركس فرضياته كوقائع قدرية تحولت تدريجياً على يد رسله الى عقيدة ايمانية ترقى الى مستوى العبادة. ومع ذلك، لم تنبثق الرؤى الماركسية من العدم، بل استمدت بعض مقوماتها من الارضية التاريخية الخصبة التي مهدها من سبقوه من المفكرين والمنظرين في مجالات عدة. لتأكيد هذا الجانب حملت الماركسية لمسات من رومانسية جان جاك روسو بشأن تنظيم المجتمع ومن ثورية الاشتراكي الفرنسي بابيوف وغيره ومن علمية وتكنوقراطية المصلح سان سيمون، بالإضافة الى آثار بصمات فلسفة صراع الاضداد لهيغل. من جانبه حاول ماركس نفض غبار تلك التأثيرات والقفز خارج السبيكة لكي يظهر جزيرة منفصلة تتمتع بخصائصها، لا سيما وهو يحمل رسالة خلاص البشر المسيحانية. عندما كان ماركس غارقاً في عالم التأملات وممتلئاً بالحماس حول مشروعه الانقاذي، تخيل ذلك المجتمع الذي ينقّي فيه الانسان نفسه ويطهرها من الانانية ودافع حب التملك او التميز على الآخرين اقتصادياً واجتماعياً. وتطلع الى تنشأة فصيلة من البشر تقتل الخطيئة في داخلها وتتنكر لميولها وغرائزها المكنونة في اعماق نفسها وتتجاهل ذاتها ولا تفضلها على الآخرين، بل تذيبها في الجماعة او تهلكها على مذبح المصلحة العامة.
في احدى جوانب تحليلاته لمسيرة التاريخ استند ماركس على ثورة عمال باريس 1848 التي ( حسب رأيه ) عكست حدة العداء الطبقي بين البلوريتاريا وبين الطبقة الرأسمالية او البرجوازية والذي لا يحسم على الاغلب الا بالعنف واقصاء الرأسمالية وتأسيس نظام دكتاتورية العمال. برز في هذا الخصوص العديد من المصلحين والاشتراكيين قبل وبعد اندلاع ثورات ربيع الشعوب ورفعوا مطالب اجتماعية وانسانية محضة تخص الاصلاحات وتقليل الفوارق الطبقية، مما يؤدي الى انصاف العمال والشرائح المعدمة عن طريق اطلاق المظاهرات والاضرابات والفعاليات الاحتجاجية. قدمت الحركة الفابية ( Fabism ) الاصلاحية في بريطانيا بالإضافة الى تيارات وتنظيمات اخرى في غرب اوروبا، برامج تحقق الانتقال السياسي والتدريجي من المجتمع الرأسمالي الى الاشتراكي.
اختلف العديد من المنظرين الاشتراكيين مع طروحات ماركس حول تأجيج الصراع الطبقي واستخدام العنف كوسيلة للإقصاء، لأن طبقات المجتمع متداخلة والفواصل بينها وهمية وليست جدراناً فولاذية. بالإضافة الى هذا فإن الوضع الطبقي رجراج وغير مستقر والانتقال من حالة الى اخرى متوقعة، لا بل ومؤكدة، مما يجعل صهر الطبقات بالعنف وصياغة مجتمع لا طبقي امراً خطيراً وغامضاً في نتائجه. لكن ماركس اتهم هؤلاء الاصلاحيين بالمثالية وبأنهم اسرى للتفكير الساذج، وطرح مشروعه الثوري في وثيقة البيان الشيوعي وكأن مؤلفه نبي يحمل رسالة انقاذ ليس الطبقة العاملة فحسب، بل والبشرية جمعاء. وهكذا انتفض ماركس من فوق ركام ثورات ربيع اوروبا وتمكن من اكتساح مسرح الثورة عندما خاطب عقول العمال والمعدمين ولامس قلوبهم وكسب التأييد الواسع من المثقفين الراديكاليين والادباء والفنانين. في اجواء التفاؤل انطلق الرعيل الاول من المبشرين بالماركسية يملأهم الحماس والايمان بقضية العمال ونشروا رسالة الخلاص وتدشين عهد جديد للإنسان. اعتبر الثوريون تلك الايديولوجيا عصارة ما توصل اليه عقل الانسان في مجال علم الاقتصاد والاجتماع وفلسفة تتميز عن الاخريات وتفوقها علمية ودقة وشمولية وتفهماً لمشكلات الشعوب. بالنتيجة، انحسر تأثير وتلاشى بريق معظم النظريات التي تخص الاصلاح والتغيير السلمي التدريجي، وطرحت الماركسية نفسها كالخيار الوحيد الذي من دونه لا يتحقق الخلاص.
بعد اخفاق ثورات ربيع الشعوب ونشر وثيقة البيان الشيوعي تقبل المقهورون الماركسية بعاطفية وايمان وكأنها وصفة دوائية سحرية او مضاد حيوي يفني الجراثيم والبكتيريا الضارة. تطرف البعض بإعجابهم بها واعتنقوها وكأنها بديهيات معصومة لا مأخذ عليها ولا تشكيك بصوابها، مما يصونها من اثارة السجالات بشأن مفاهيمها.
عندما نعكس هذه الصورة عن الايديولوجيا الماركسية، لا نتجاهل تبني البيان الشيوعي قضية العمال وحاجتهم لتأكيد ذاتهم واصلاح اوضاعهم، ولا ننفي تحسس ماركس شخصياً لمعاناة المقهورين والمهمشين. لكن اعتبار طروحاته مشروعاً متكاملاً وقابلاً للتطبيق بخصوص تأسيس مجتمع مثالي سعيد تسوده العدالة المطلقة امر يحتاج الى البراهين ومسألة مفتوحة للنقاش المعمق. اعتبر البعض ما اتى به ماركس وصفة صحية ووجبة غذائية متكاملة وغنية بالفيتامينات، والبسوها ثوب التعاليم الدينية الملزمة التطبيق، والذي يعترض عليها او لا يؤمن بها يكون خائناً لمصالح الطبقة العاملة او هرطيقاً يستحق السوق الى محاكم التفتيش. حينها توفرت للقارىء الكتب والكتيبات وآلاف الصفحات التي تتغنى بالماركسية وتمجدها، مما سبب في حالات كثيرة الدوار والتشوش وتنوع الاجتهات وبروز التناقضات، وحير البعض في الاجابة عن الكثير من التساؤلات حول طريقة وامكانية تطبيق الشعارات وتوضيح الصورة لمجتمع المستقبل. من اجل الرد على الاشتراكيين الاصلاحيين وتهميش دورهم اتهمهم ماركس بالطوباوية والفرق في طوفان المثالية، لكنه نسي بأن ما رسمه هو في خياله حول صورة مجتمع المستقبل لم يكن سوى تأملات وتطلعات رومانسية وافتراضات تفتقر الى البراهين. المثالية تعني الافكار او المشاريع الجميلة والخيرة والساحرية التي لا تستند على الدليل لإمكانية تطبيقها او ترجمتها الى الواقع، بل تبقى ضمن الرؤى وفي مجال التأملات او التمنيات.
في مجال انتقاد النظام الرأسمالي يقول ماركس بأن دافع التملك والميل الى الاثراء صفات دخيلة وشريرة خلقتها الطبقية وشكل الاقتصاد وعلاقاته التي شوهت الطبيعة الاصيلة والخيرة للانسان. لكن منتقدي الماركسية يؤكدون بأن تاريخ حياة الانسان العاقل والمنتج لم يخل من مرحلة اختفت فيها ظاهرة الملكية الفردية بل تلازمت مع تطور المجتمعات البشرية واثبتت بأنها احد العناصر الاساسية لطبيعة الانسان. تدلل الدراسات التي تخص غرائز وميول الانسان ان الطفل الرضيع يميل الى الاستئثار بما يعتبره ملكاً له ولوحده، مما يدفعه لإحتكار صدر امه وحضنها ويرفض مشاركة او منافسة طفل آخر له بما يعود اليه فقط وعندما يشعر بمنافسة او مشاركة من الآخرين للركون الى حضن او صدر الام يصرخ ويبكي من اجل اقصاء المنافسين. كلما ينمو جسد ووعي الطفل ونضوجه تترسخ فيه غريزة حب التملك ويتمسك بكل ما يعود اليه من قطع الحلوى ووسائل اللعب واللهو وما شابه. داخل العائلة الواحدة يميل كل فرد من ابنائها الى منافسة الآخر والتميز عليه ولا يقبل التخلي عما يعتبره ملكاً له او جزءاً من حقوقه. في نفس السياق نستعرض حالة الفلاح الذي انخرط في صفوف الشيوعيين بعد ان تأثر بشعاراتهم الانسانية الخلابة، ثم صودرت قطعة ارضه ووسائل الحراثة والحصاد والناتج الزراعي وارغم على الانتساب الى المزرعة التعاونية الجماعية او الحكومية. هذا لا يعني ان الفلاح قد تنكر لدافع حب التملك وتخلى عن ملكيته طواعية، بل انه اشترك في الثورة العمالية او ايدها لأنه لم يكن يدرك الى ماذا ستؤول اليه الامور في النظام الجديد. يسري هذا المثال على اصحار الحرف اليدوية والورشات الصناعية الصغيرة وبعض ابناء النخب المثقفة الذين ساندوا الثورة في بداية انطلاقها، ثم انضم العديد منهم الى المعسكر المضاد للاشتراكية.
تقول نظرية ماركس في المادية التاريخية بأن عقل الانسان مثل وعاء بالإمكان تفريغه مما يحويه من الغرائز والافكار والميول والمعتقدات والعواطف والاخلاقيات ومجموعة التقاليد والسلوكيات. في حالة النظام الاشتراكي يتغير البناء التحتي وعلاقات الانتاج، مما يؤدي الى ملء عقل الانسان بمفاهيم وافكار واخلاقيات وقيم جديدة وبالنتيجة يظهر مواطن متطهر من الانانية وحب الذات والتملك ودافع استغلال الغير. في ظل هذا النظام يسمو الانسان على شعور الانتماء الديني او العرقي او القبلي وحتى الوطني وينبذ الثقافة البرجوازية وقيمها البالية، وينمو فيه حب الايثار والانصهار في بودقة الجماعة. يقلل ماركس من اهمية ودور الخصائص العرقية والقومية في صياغة شخصية خاصة بكل امة. وفي الوقت ذاته يشدد وبشكل محموم على الصراع الطبقي كعامل حاسم يتتوج بإقامة مجتمعات اممية لا طبقية تقودها الطبقة العاملة وتزول فيها تدريجياً السمات الوطنية والقومية والثقافية وحتى الحضارية وتنبثق علاقات وقيم اممية. من وجهة نظر ماركس تكون كافة عناصر البناء الفوقي خاملة وتابعة ولا تؤثر على عملية التطور، بل تتغير تلقائياً عند تغيير الاساس الاقتصادي وعلاقات الانتاج. لكن التفسير المنطقي يقول بأن مكونات القاعدة التحتية والبناء الفوقي متفاعلة وتتبادل التأثير ويثري كل طرف الآخر. وان تمتعت نظرية البناء التحتي والفوقي بقدر من العلمية، لا يمكن التسليم والقبول بفرضية اختفاء محتويات الوعاء الفوقي واعتبارها خاملة وتزول بسهولة لتفسح المجال لقيم ومعتقدات واخلاقيات جديدة تستمد مشروعيتها من البناء التحتي الجديد. تثبت الحقائق استحالة تجريد الانسان من التراكمات الفكرية والايمانية التي تضرب جذورها في اعماق العقل والنفس، مما يصعب النظر اليها منفصلة عن الخزين الثري من الغرائز والعواطف والميول التي توارثها البشر ممن سبقوهم على كوكب الارض بآلاف السنين. يختزن الانسان في داخله النزعات والاهواء المتصارعة والمتناقضة التي تدلل على البغضاء والانانية او المحبة والايثار والعطاء او الاستعلاء والعدوانية او التواضع والسلمية والانقياد، لكنها تعتبر جزءاً من كيانه العاطفي والعقلي وقد تكون منظبطة الى حد ما ضمن اطار القوانين والروادع والاعراف والاخلاقيات الايمانية. بالرغم من طي آلاف السنين من تاريخ الانسان الواعي والعاقل وتغير ادوات الانتاج والعلاقات الاقتصادية وانظمة ادارة الدولة واختفاء طبقات قيادية تلقائياً وتدريجياً، استمرت العديد من العقائد الدينية والمفاهيم والقيم تتعايش مع الانسان وتسكن اعماق عقله وروحه. لم يستغن عن الايمان بالغيبيات وبما فوق الطبيعة وبالسحر والتنجيم وبتأثير الارواح الخيرة والشريرة، وعشق ولا يزال الاساطير والملاحم والرمزية.
الفلسفة او الايديولوجية او النظرية قد تخدم للإستنارة بها من اجل تحقيق الاصلاح والتطوير، لكن يفشل اعتبارها علاجاً يطهر الانسان من الغرائز والصفات المتجذرة بمجرد تغيير واقعه الاقتصادي او من خلال الندوات الثقافية ومحاضرات حشو الرأس بالمفاهيم الثورية والساحرية. في الوقت الذي تعتبر الايديولوجيا الماركسية عواطف الانسان ومعتقداته وميوله للإنتماء الى الامة او الوطن او القوم اجزاءاً هامشية وطارئة، تؤكد حقائق التاريخ بأنها مقومات جوهرية وشروط لديمومة الحياة الطبيعية، وان الغاءها القسري يشوه المجتمع ويصدّع أركانه. تبقى مشكلات الحياة وتعقيداتها وتشعباتها اعمق واصعب من ان تستوعبها او تذللها او تعالجها اية ايديولوجية او نظرية سياسية او اقتصادية وبأية زخرفة ازدانت. هذا لا ينفي اهمية اطلاق الثورات او الفعاليات الاحتجاجية الاخرى كوسيلة لإزالة الظلم والقهر وتحقيق الاصلاحات والتطوير، لكن لا تستطيع نظرية ما طرح نفسها كمشروع وحيد لخلاص البشرية على اختلاف اعراقها واوطانها وتنوع حضاراتها وثقافاتها ومستوى تطورها الصناعي والاقتصادي. في الوقت الذي يعتبر ماركس نظريته في الصراع الطبقي واقامة دكتاتورية البلوريتاريا الوسيلة الوحيدة لإنقاذ البشرية وانهاء كافة التناقضات، ينظر الى بقية التيارات السياسية او الدعوات الاصلاحية السلمية مشاريع طوباوية او فوضوية او انقلابية تآمرية او عقيمة لا تلبي التطلعات لبناء مستقبل مشرق للأنسانية. في هذه الحالة تتحول الايديولوجيا الى عقيدة دينية مقدسة ويعبد المؤمنين بها نبيها ويطيعون رسله ويؤدون طقوسها ويحيون شعائرها ويحفظون نصوصها ويطبقوها بمهابة. تطرح الماركسية نفسها بثقة بإمكانية اقامة الشيوعية في مجتمع لا طبقي تختفي فيه الملكية الفردية وكل انواع الاستغلال، لكن غاب عن ذهن المؤمنين بأنهم يفتقرون لأبسط دليل يثبت بأن الحياة تكون ابهج وافضل عند تأميم الملكية الفردية وغياب المنافسة والرغبة في التميز اقتصاديا بين المواطنين. لا توجد تجربة تؤكد بأن المجتمع المتجانس هو اكثر اشراقاً ونجاحاً من المجتمع الذي يبنى على التنويعات وتحفزه المنافسة وتطرزه شرائحه المختلفة والمتفاوتة في قابلياتها الذهنية والبدنية وفي مستوى معيشتها.
يعتبر ماركس البرجوازيين ومالكي الثروة والمزارعين الاغنياء شرائح طارئة على المجتمع لأنها طفيلية وانانية ومستغِلة، مما ينبغي اقصاءها وتجريدها من ملكيتها ونفوذها وتحويلها الى فئة منتجة ومتطهرة من صفاتها الرذيلة. في هذا السياق يبرر استخدام العنف من اجل خلق مجتمع متجانس يضع نهاية للتناقضات بين الشكل والجوهر ( Form and Essence ) ويختفي فيه صراع الاضداد. ويرى الطبقة العاملة شريحة متجانسة وموحدة في الرؤى والاهداف ومحصنة من اقتراف الخطأ والإثم وغريبة عن صفة الانانية وحب التملك ومحقة في كفاحها للإطاحة بالفئة الطفيلية وادارة دولة المستقبل. لكن النظرة الموضوعية تبين ان العامل كغيره من البشر يخطىء ويصيب ويحمل الرذيلة والفضيلة ونقاط القوة والضعف ويختزن في اعماقه الغرائز والاهواء والنوازع والعواطف بكافة انواعها. رفع ماركس شعار الاممية التي تعني ان وطن العمال يتجاوز حدود بلدهم ليشمل العالم كله، لكن ذلك الشعار تحول الى وهم وانهار عندما نشبت الحرب العالمية الاولى وتقاتلت الدول الاوروبية وانخرط العمال في جيوشهم الوطنية لمحاربة اقرانهم في البلد المعادي. ان قيام اتحاد فاعل وحقيقي بين عمال البلد الواحد امر صعب، والامر اصعب لإيجاد اطار يضم عمال القارات والدول التي تختلف في ثقافاتها وحضاراتها وتقاليدها وتراكم موروثاتها الايمانية، وتتفاوت في مستوى تطورها الصناعي والاقتصادي. لا تتوفر تجربة او ممارسة تظهر ميل العمال الى الاتحاد وتجاهل حدود وطنهم الجغرافية وخصائصهم الاثنية والثقافية والتنكر لمصالحهم الخاصة. تستطيع الشعارات الساحرية الهاب العواطف لكنها تبقى احلاماً او اوهاماً تفشل المؤتمرات والمهرجات العالمية في منحها الحياة او تحقيقها. تختزل الايديولوجيا الماركسية خيارات الانسان وتقرر مصير طبقات المجتمع، وتقدم الحلول لمشكلات الاقتصاد ولعلاقات المواطنين وتوعد بحصول الاعاجيب والطفرات النوعية في الاخلاقيات والقيم. في اجواء ممزوجة باليأس والامل شهدتها اوروبا تحولت الماركسية على يد المؤمنين بها الى مشرع للقانون والى قاضي والى منفذ للحكم يقصي الطبقة المدانة ويعلي من شأن الطبقة المقهورة التي تمتلك الأهلية لقيادة المجتمع. عندما نهضت الماركسية وتحولت الى فكرة رسائلية ثيولوجية ( عبادية ومقدسة ) وسادت الخيلاء بأنها تعبد الطريق الى حياة النعيم في الفردوس الارضي، لم يؤخذ بالحسبان ارواح الملايين التي تزهق اثناء الرحلة قبل ان يبلغ الانسان عتبة السعادة الموهومة او يدنو من السراب في صحراء لا ترى العين نهاية لرمالها.
تنبؤات ماركس على المحك
اذبان العقد الرابع من القرن التاسع عشر تنبأ ماركس ببداية النهاية للنظام الرأسمالي وقرع الناقوس بيده لكي يعلن احتضار ذلك النظام وأزوف ساعة وفاته، وحرض العمال في غرب اوروبا للاستعداد واطلاق الثورات الطبقية ضد مستغليهم وسارقي عرق جبينهم. ساعدت المناخات الفكرية والاوضاع البائسة المجموعة الثورية اليسارية الناهضة على تعبئة العمال وكسب تأييدهم وتحريضهم للإنتفاض في عدد من عواصم غرب اوروبا، وخاصة في باريس التي اطلق عمالها 72 اضراباً بين سنوات (1869 - 1870 ) وشارك فيها 40000 عامل، ثم ارتفع العدد الى 116 اضراباً وعدد المضربين الى 82232، مما اكسبها طابعاً شعبياً واسعاً. حينما تصاعدت وتيرة المجابهات في حزيران ( يونيو ) 1870 قتلت الشرطة عشرات العمال، وفي تشرين الاول ( اكتوبر ) سقطت ضحايا اخرى، مما منح الاضرابات تعاطفاً عالمياً وتأييداً من شخصيات فكرية بارزة على الساحة العمالية الثورية مثل كارل ماركس وجوزيف برودون اللذان دعيا الى تأسيس كيان سياسي مستقل للعمال. بالرغم من بعض نقاط الإلتقاء بين ماركس وبرودون حول مشروعية كفاح العمال لنيل حقوقهم وتأكيد ذاتهم، دبّ الخلاف بينهما بشأن الاساليب التي ينبغي اتباعها.
تصاعدت سخونة احداث باريس سنة 1871 وحمل العمال السلاح واقاموا المتاريس في شوارع المدينة وشكلوا مجاميع مدنية مسلحة ( ميلشيات ) واعلنوا قيام دولتهم العمالية المصغرة التي اطلقوا عليها كومونة باريس. لم تدم تلك السلطة سوى ثلاثة شهور حيث تم سحقها من قبل قوات الحكومة المركزية وبتشجيع ومباركة النظم المحافظة، وسقط عشرات الآلاف من الضحايا. لم يكن ماركس متورطاً بتلك الاحداث، لكن تجربة قيام ونجاح دولة العمال اظهرت خطأ تقديراته حول هوان وترهل النظام الرأسمالي وانهياره الوشيك. بطريقة ايمانية قدم ماركس فرضياته بشأن العداء المستديم بين العمال وبين الرأسماليين والذي يحسم بخوض الحرب الطبقية واقامة دكتاتورية البلوريتاريا. لكن النظريات تبقى في مجال الشك حتى وان اعتمدت في بعض استنتاجاتها على تجارب تاريخية او استشهدت بأزمات او اخفاقات تعرض اليها نظام ما. في هذا السياق اشار ماركس الى حقبة تلاشي النظام الاقطاعي وقيمه ونهوض الرأسمالية، ولا سيما في بريطانيا عند تطور صناعتها وغزارة انتاجها وتوسع قاعدة طبقتها العاملة. عند استدلاله بذلك الانتقال، اندفع الى التسليم بحتمية الانهيار الوشيك للنظام الرأسمالي على يد من خلقها هو وخاصة بعد ان دخل المنجب مرحلة الشيوخة واصبح عاجزاً على حل الازمات ومشكلات المجتمع المادية والروحية المتفاقمة. اوقع ماركس نفسه في بعض التناقضات عندما اعتبر البلوريتاريا الشريحة المرشحة والمتأهلة لإدارة الدولة على انقاض الرأسمالية. فهو وصف من ناحية الطبقة العاملة كمجموعة مسحوقة ومذلولة ومسلوبة الارادة وتعاني من العوز في امكانياتها الفكرية والثقافية، ومن الناحية الاخرى رشحها كوريث شرعي للنظام الرأسمالي. لا بدّ ان يكتنف الامر الخطورة والمجازفة عند اناطة مسؤولية ادارة الدولة بطبقة مسحوقة مادياً ومعنوياً ولا تختزن التجارب والخبرات لتدشين حقبة مجهولة المعالم وغريبة على الانسان.
ساد النظام الاقطاعي لعدة قرون وتعايش مع المجتمع الرأسمالي الصناعي الناشىء لفترة غير قصيرة، واختفى تدريجياً بعد اضمحلال مؤسساته، مما مهد الطريق لترعرع قيم ومفاهيم واساليب جديدة لإدارة الدولة. نمت الرأسمالية واكتملت بداياتها في رحم النظام الاقطاعي وتنسمت الحياة بولادة طبيعية ومن دون جراحة قيصرية. تعايشت بقايا القيم الاقطاعية لفترة تحت ظل الثورة الصناعية وتتابع الاختراعات والاكتشافات الجغرافية وانبثاق الافكار النهضوية والتنويرية وتراجع شأن وتأثير الفكر الثيولوجي. لم تعلن الرأسمالية الناهضة الحرب الطبقية العالمية ولم تؤجج الصراع العنفي المجتمعي كوسيلة لإقصاء النظام الاقطاعي ونسف كافة مؤسساته وشطب كل القيم والمعتقدات وبتر الأجزاء، بل تعايشت وتكيفت معه لمدة غير قصيرة لحين نضوج الظروف التي جعلته حقيقة راسخة وناجحة في التطبيق. هذا لا ينفي عدم اندلاع الثورات والانتفاضات وجولات الكفاح ضد حكم النبلاء وطغيان الملوك وتحصنهم بنظرية التفويض الالهي. الثورات التي سبقت رسوخ اسس الرأسمالية لم تهدف الى هدم المجتمع وتمزيق نسيجه، ولم تدع الى اقصاء او افناء طبقة او شرائح معينة، ولم تفرض ايديولوجية رسائلية تؤسس لنظام لم يخضع للاختبار لتأكيد نجاحه. خلال قرون تحققت الانعطافات التاريخية التلقائية عندما تهيأت ونضجت الظروف المادية والذهنية على يد المبدعين والمخترعين والمكتشفين والمنظرين والمصلحين في مجال علم الاقتصاد والاجتماع وادارة الدولة.
عندما يفترض ماركس نشوء وترعرع الوعي الاشتراكي في رحم المجتمع الرأسمالي، ينبغي ان يرى الوليد النور ويتنسم الحياة بولادة طبيعية لا تتطلب عملية قيصرية، ولا اجراءات تمزيق الرحم وايذاء الاحشاء او بتر اجزاء منه. في هذا السياق تفشل التجربة وتتتوج بهدم اسس البناء الاجتماعي والغاء قيمه المغروسة في الوعي والعقل الجمعي. لم تشهد مرحلة تلاشي النظام الاقطاعي والانتقال الى الرأسمالية إعلان ديكتاتوية الإخيرة. الوقوف بوجه النزوع الطبيعي للإنسان والتلاعب بمسيرة حياته تحت ذريعة تطبيق نصوص ايديولوجيا الخلاص لا يكون موفقاً حتى اذا توفرت النيات الحسنة والتمنيات الطيبة والمشاعر الانسانية.
اعتقد ماركس بأن بلاء البشرية ومحنتها وتناقضاتها وصراعاتها الداخلية وحروبها الموضعية والعالمية تتأتى من شرور التملك الفردي للثروة، مما يدفع الطبقة العاملة للنهوض والغاء ليس هذه الظاهرة فحسب، بل وكافة القيم والعلاقات الاجتماعية التي استندت عليها الحضارات منذ آلاف السنين. بالنتيجة، تنقذ الماركسية ( حسب رأي منظرها ) الانسان وتطهر فكر الرأسمالي والتاجر والمزارع الغني والفلاح المالك وصاحب الورشة واللبرالي والتقليدي من جراثيم مرض حب التملك والاقتناء او التميز على الغير اقتصادياً. في الحالة هذه لا بدّ ان تتعسكر الجهة المؤمنة بهذه الايديولوجيا في خندقها وتدفع الشرائح والنخب الفكرية التي لا تنسجم تطلعاتها مع الايديولوجيا الى الخندق المعادي وتراقبها بالشك والريبة من اجل اقصائها او ترويضها.
في اجواء الارتجاجات الاجتماعية تنبأ ماركس او تخيل دنو انتهاء حقبة الرأسمالية والانتقال الحتمي الى الاشتراكية على يد الطبقة العاملة، لأن الرأسمالي ( حسب رأيه ) يقف حجر عثرة امام تطور انماط الصناعة واسلوب ادائها، ويعجز عن استيعاب متطلبات الانتاج المتصاعدة وطريقة توزيعه بكفاءة، ويفشل في حل الازمات الاقتصادية والاجتماعية المتتالية. بالتالي، تتفاقم الاوضاع في ظل النظام الرأسمالي وتدفع الحاجة الطبقة العاملة لتبوء مسؤولية قيادة عملية الانتاج الجماعية التي تحقق تطلعات الانسان وتؤسس للعدالة الاجتماعية في مجتمع تختفي فيه الطبقات وفرص المنافسة الاقتصادية والاستغلال. لكن التجارب اللاحقة اثبتت بأن الاقتصاد المؤمم والموجه من قبل الدولة المركزية اقل نجاعة من مثيله الحر، لأن طاقات الانسان في غياب المنافسة لا تستثمر بالطريقة المثلى والمجدية والمبدعة، مما يجعلها عرضة للتراخي والذبول مثلما تضمر العضلات في فترات الخمول وقلة التمارين الرياضية النافعة.
قد يدخل مسار الانسانية في نفق نجهل نهايته عند الاستعانة بالفرضيات والتوقعات التخيلية التي تؤسس لصيغة نظام سياسي فريد حتى وان استعرض المفكر الانعطافات التاريخية وجعلها احد فروع العلم وأطرها بمفاهيم تلامس مشاعر المحرومين والمهمشين والمقهورين، ونجح في تشخيص مساوىء الطبقة التي تدير الدولة. تفترض الايديولوجيا الماركسية امكانية انتهاء الصراعات والتناقضات في المجتمع الاشتراكي الذي تسود فيه القيم والاخلاقيات الانسانية وتختفي شرور ومساوىء البرجوازية وكافة المعتقدات التي تمنحها الشرعية. من الواضح ان تاريخ الانسان سلسلة من الصراعات والتناقضات والانعطافات، ولا توجد مرحلة خالية منها. وهكذا، بعد ان تبادر الطبقة العاملة لحسم معركتها مع الرأسمالي المستغل وتدشن لحقبة جديدة، لا بدّ ان يفتح رسل وتلاميذ الايديولوجيا جبهة القتال ضد من يؤمن بالروحانيات والمثاليات ولا يؤمن بالمادية التاريخية، وضد من يختلف معهم في الرؤى والتوجهات. ثم تتوسع مساحة الاشتباك لكي تشمل اخوة ورفاق الامس الذين يتهمون بالهرطقة والانحراف وخيانة المبادىء او الاصابة بمرض البرجوازية.
يؤكد المصلحون وبعض منظري الاشتراكية على ضرورة استمرار التعايش والانسجام بين شرائح المجتمع المتفاوتة في مستواها الاقتصادي والمتنوعة في رؤآها وتوجهاتها السياسية حتى عند تدشين مرحلة من التغيير، وبخلافه يبقى الاحتراب والاقصاء والاجتثاث سيد الموقف، مما قد يقود البشرية الى العبث او العدم. بالرغم من معاناة العمال والشرائح الفقيرة تحت ظل النظام الرأسمالي، لا يمكن انكار خدماته وانجازاته في مجالات الاقتصاد والتعليم والصحة ونضوج المفاهيم اللبرالية والديمقراطية وادارة الدولة الدستورية. عندما نعول على نظرية او فلسفة ونرفعها الى مستوى المشروع المتكامل الذي يرتقي بالبشرية وينقذها من بلائها ولا نوفر الدليل، نكون قد رسمنا في مخيلتنا صورة لمجتمع وهمي. يؤخذ على الماركسية تقديمها الوصفات السحرية التي تنهي كافة اشكال التناقضات، وتخلق مجتمعاً مثالياً متناغماً بعد بتر اجزائه الهامشية والمستغِلة. لم يكن ماركس مخطئاً حينما وصف تاريخ الانسان كسلسلة من الصراعات بين الاضداد، لكن في الوقت نفسه وفي ظل المنافسة الاقتصادية نرى الحياة نشيطة وثرية في الابداع والعطاء والبناء والتطوير. الدعوة للاصلاحات وانهاء معاناة المعوزين ضرورية، لكن ليس عن طريق اثارة الصراع الطبقي المحموم وتفكيك البنيان الاجتماعي واعادة تركيبه بطريقة مصطنعة تحت ذريعة استحالة التعايش بين الطبقة المستغِلة والمستغَلة. لم يشهد الماضي حقبة تدلل على اللاطبقية في المجتمع، ولا تتوفر البراهين التي تشير الى ان الانسان يعيش في نعيم وسعادة وقناعة افضل عندما يتنازل عن خصوصياته الاقتصادية وفرديته ويذوب في كيان الجماعة.
حينما يتنبأ ماركس بالمعركة الحتمية والاستئصالية بين الطبقة العاملة وغريمتها الرأسمالية يبدو وكأنه يروج لنظرية الافناء لأحد الاطراف. النيات الحسنة والطروحات الساحرية والمرعبة في آن واحد قد تدغدغ العواطف وتوقظ الغرائز والنزعات العدوانية الكامنة في اعماق نفس الانسان والتي تتحين الفرص للنهوض. من جانبهم يعوّل الاصلاحيون واللبراليون على امكانية التفاهم والتعايش بين المكونات المجتمعية المختلفة عندما تتفاعل ايجابياً وتؤثر وتتأثر وتلتقي وتتقاطع او تتوازى وتتناقض لكنها تبتعد عن اقصاء او بتر اي طرف وتعتبره جزءاً يعطي الصورة كمالها. يكون الاجراء طبيعياً حينما نغير الرداء الذي لا يتناسب مع حجم الجسم، لكن العقل السليم يستهجن الابقاء على الرداء واجراء عملية جراحية للصدر والكتفين بغية تكييفها لذلك الرداء. ترى التيارات التنويرية والحداثية وجود ارضية مشتركة تنسجم فيها وتتفق مكونات المجتمع المختلفة، ولا سيما حول المشتركات التي لا خلاف عنها، مثل مبدأ الحرية والعدالة الاجتماعية وصيانة حقوق وكرامة الانسان من خلال قيام دولة دستورية تستقل فيها السلطات الثلاث عن بعضها. بالإمكان الاستدلال بعصر النهضة وازدهار المفاهيم الديمقراطية والاصلاحية في اوروبا اذبان القرن السابع عشر وبعده، والتي ارتقت بحياة الانسان من دون ان يتلقى جرعات ثورية عنفية او يقع تحت تأثير سحر الايديولوجيا. حينها برز المبدعون في العلوم والفنون والآداب الى جانب اشخاص حملوا المبادىء الانسانية في رؤوسهم والقناديل في ايديهم، وتجنبوا اسلوب الديماغوجية وطرح التطلعات الموهومة، ونشروا رسالتهم بطريقة يستوعبها المواطنون ويتقبلوها بعفوية. تدريجياً انبثق واقع مجتمعي بقيم مختلفة واستظل بإنجازات عمّت كافة الشرائح بدرجات متفاوتة من دون اجراء عملية قيصرية قد تشوه الجنين او تضع نهاية لحياة الام. لم يتسم عصر النهضة والانعطافة الايجابية ببروز مفكر رسائلي اوحد يحمل ايديولوجيا الخلاص، ولم يعتل المسرح السياسي قائد لحزب ثوري جماهيري او زعيم ملهم يصنع التاريخ ويصيغ المجتمع الجديد بإستخدام المطرقة والسندانة.
تبقى النتائج المستقاة من التطبيق هي المعول عليها لإثبات صحة النظرية وليس التكهنات او الآمال التي تضفي على تلك النظرية صبغة المعصومية والتكامل والقدسية. ان تلقين المبادىء وطرح الشعارات الخلابة والسير خلف انبياء مشروع خلاص البشرية وتحويل ايديولوجيتهم الى مسألة قدرية يمهد الطريق لرحلة محفوفة بالمجازفات والمخاطر او مجهولة النهاية. من اجل تجنب مثل تلك الاحتمالات، لا بدّ من ان تتوفر للانسان حرية الاختيار واحترام وعيه ونزوعه الطبيعي، مما يمكنه من تفضيل ما يصلح له ورفض ما يعيق اصلاح ظروفه المادية والمعنوية وامتداد آفاقه. عند اشاعة الحرية الحقيقية ترفض الغالبية الشطب القسري للموروثات والعقائد والاخلاقيات والتقاليد المغروسة في الوعي الجمعي، حتى اذا قدمت الوعود بتحقيق حلم المنظِّر بإنبثاق مجتمع سليم من آثام البرجوازية ومن وباء الملكية الفردية والمنافسة الاقتصادية الحرة.
تراشق الانتقادات بين ماركس وبين الاشتراكيين
اعتمد كارل ماركس في طروحاته بخصوص نظام المجتمع الجديد على نتائج الثورة الصناعية وظهور مجاميع كبيرة من العمال الذين يعملون سوية في المصانع. لا ينكر موقفه في تحسس مشكلات وعذابات الشغيلة وتعاطفه مع المقهورين وبعث الوعي فيهم للنهوض وازالة الغبن. لكنه وقع فريسة المثالية والتأمل عندما تطلع الى مجتمع يؤسسه العمال ( البلوريتاريا ) لأنهم اصحاب الضمير الحي والايادي النظيفة ولهم المصلحة في تحقيق العدالة. كان ماركس موفقاً في تحليله للعديد من الشؤون السياسية والاقتصادية، لكن التناقضات داخل المجتمع والصراعات بين المجتمعات لأسباب اقتصادية واختلافات ثقافية وعقائدية وغيرها تبقى قائمة من دون ان تستطيع اية ايديولوجية او فلسفة مادية او مثالية من استيعابها وايجاد الحلول الشافية لأهواء الانسان ولغرائزه. في الوقت الذي انتقد فيه ماركس بعض منظري الاشتراكية واتهمهم بالطوباوية، لم يتنبه الى غرقه في الخيلاء والتوقعات الفائقة التي ينجزها النظام الاشتراكي بإدارة العمال وقيادة الطليعة الشيوعية. لذلك، تلقى سهام الانتقادات من غرمائه الاشتراكيين واتهموه بالهوس بالنظرية والهروب نحو الامام، ولا سيما عندما يبشر بقيام مجتمع متطهر من الانانية وحب التملك واستغلال الغير تحت ظل دكتاتورية البلوريتاريا. عندما يبرز سؤال حول مدى نجاح عملية تفويض الطبقة العاملة بقيادة المرحلة الجديدة التي تأخذ بالانسانية الى انعطافة تاريخية، يجيب ماركس بأن هذه الطبقة جديرة بحمل الرسالة واقامة المجتمع الشيوعي، من دون ان يتنبه الى المخاطر التي ترافق المسيرة او الى نتائجها المأساوية. لكن في احيان اخرى اخذ جانب الواقعية والعقلانية واوضح بأن الشيوعية لا تصنع بالرغبات، بل بنهوض اقتصادي واجتماعي شامل يوفر البيئة الصالحة لنمو مثل هذا النظام.
يأخذ بعض المفكرين الاشتراكيين من امثال بيرن شتاين ( Bern stein ) ولاسالي ( Lassalle ) على ماركس ابتعاده عن الواقع وولوجه عالم الخيال عندما يوجه الانظار الى الهدف من دون ان يصف الطريق للوصول اليه. يعتقد بيرن شتاين بأن الاهداف ووسائل تحقيقها متلازمة، واذا تغير احدها يتغير الآخر لأن كل طريق يصل الى نهاية مختلفة. لم تقتصر انتقادات بيرن شتاين على الجوانب الايديولوجية عند ماركس، بل وشكك بتنبوآته السياسية حول ازمات النظام الرأسمالي وفشل نضالات الطبقة العاملة السلمية في تحسين ظروفها المادية والمعنوية. استعان بيرن بالمكاسب التي حصل عليها العمال في المانيا ودول اوروبية اخرى بما يخص رفع الاجور وتحديد ساعات العمل والحصول على حق التصويت للذكور في الانتخابات البرلمانية. من النجاحات الاخرى للتوجهات الاصلاحية نجاح احزاب الاشتراكية الديمقراطية ( SPD ) بتوطيد علاقاتها مع اتحادات ونقابات العمال، مما مكن تلك الاحزاب من تأكيد وجودها ودفع بعض ممثليها الى مجالس النواب والمشاركة بفعالية في تشريع القوانين الحديثة وصياغة الحالة السياسية للبلاد. بعكس ما توقعه ماركس تناقص القهر بحق الطبقة العاملة بشكل واضح وشعرت بوجودها الانساني، مما جعل بيرن شتاين يتمسك بقناعاته وتفاؤله بإمكانية الانتقال السلمي والتدريجي الى المجتمع الاشتراكي من دون العنف وهدم البنيان القائم وفرض دكتاتورية البلوريتاريا. من وجهة نظره تكون بعض طروحات الايديولوجيا الماركسية غير دقيقة وبعضها متطرفة، مما يتطلب اعادة صياغتها ورفض بعضها بالمطلق. لذلك اكّد ضرورة اخضاع فرضيات ماركس الى الفحص والتدقيق قبل البت بصحتها المطلقة وامكانية تطبيقها على ارض الواقع، لأن الحقيقة تختلف عن الاعتقاد الدوغماتي.
لم يتخذ بيرن شتاين موقفه كعداء شخصي لكارل ماركس بل بدافع التقليل من شأن وتأثير النظريات التي تفجر العنف المجتمعي وتسبب الكوارث. واعتبر تطبيق بعض المفاهيم الواردة في وثيقة البيان الشيوعي لماركس جنوناً وحماقة، ولا سيما رفع حدة الصراع الطبقي الذي يتتوج بالتناحر والاقصاء لأجزاء من المجتمع. تعزز موقفه اثناء وجوده في لندن واحتكاكه بالاشتراكيين الفابيين ( Fabian Sociatists ) الذين تطابقت آراؤهم مع قناعاته بخصوص التطور السلمي والانتقال التدريجي الى النظام الاشتراكي من دون الحاجة لتأسيس دكتاتورية البلوريتاريا. حدد بيرن اعتراضاته على الماركسية بالجانب الاخلاقي والاقتصادي والسياسي. اعتقد بأنها تقلل من شأن الاخلاقيات حينما تعتبرها جزءاً من البناء الفوقي المتغير وانها تتجاهل المثل والتقاليد والاعتبارات الانسانية الموروثة وتبرر الاقصاء والعنف كوسيلة لبلوغ اهداف غير واضحة المعالم والنتائج. ويرى بيرن ان هدم المجتمع واعادة بنائه على بحر من الدماء لا يؤمن حياة حرة او هادئة، لأن الانسان ينبغي ان يكون غاية بحد ذاتها وليس مشروعاً للتضحية به تحت ذريعة انجاز رسالة واعدة في اهدافها وساحرية في طروحاتها. ويدين الثورة الاشتراكية التي يروي طريقها سيل من الدماء وتتراكم في مسرحها تلال الجماجم وتستخدم اساليب ظالمة لا تستقيم مع بناء مجتمع العدالة والانسانية.
في الجانب الاقتصادي يتبنّى بيرن شتاين عدم دقة التقديرات والتنبؤات التي طرحها ماركس في كتابه ( الرأسمال ) ( The Capital ) والتي اكدت ازدياد بؤس وفقر الطبقة العاملة. في هذا الخصوص اشار بيرن الى التحسن الملموس الذي طرأ على وضع العامل في الدول الصناعية المتقدمة، لا سيما واصبح اكثر ترفهاً ويعمل في ظروف افضل ويسكن بيتاً جيداً ويرتدي بشكل اليق واجمل. في الوقت نفسه يوضح بيرن بأن الاصلاحات لم تتحقق بفضل كرم وسخاء الرأسمالي، بل بجهود اتحادات العمال ونضالها في سبيل رفع الاجور وتقليل وطأة الاستغلال الطبقي. سياسياً يرفض بيرن نظرية امتلاك العمال الوعي والكفاءة اللازمة التي تؤهلهم لقيادة المجتمع بدلاً من الدولة الرأسمالية، ويرى بأن توقع بزوغ فجر الاشتراكية قريباً غوص في المثالية والتوقعات المبالغ فيها. بالإضافة لهذا يرى اهمية النظر الى العمال بواقعية وعدم اعتبارهم ملائكة او انقياء مظلومين او مجموعة من البائسين الذين يعانون من الفقر والعوز كما وصفهم ماركس في وثيقة البيان الشيوعي. بالرغم من تطور الشرائح العمالية ثقافياً وذهنياً ومهنياً، فهي ليست محصنة من اقتراف الخطأ او متميزة عن بقية مكونات المجتمع في دورها السياسي. اتخذ بيرن مواقفه السياسية والتزم بقناعاته الشخصية بالاستناد الى التطور الفكري والتنظيمي للعمال في المانيا اواخر سنة 1890 وانبثاق الحزب الاشتراكي الذي تبنى الوسائل السلمية وخوض الانتخابات البرلمانية كأسلوب يؤدي الى الانتقال السليم للاشتراكية ( حسب رأيه ). ومع ذلك ايدّ حق العمال في اطار احزابهم ونقاباتهم في اطلاق الاضرابات والمظاهرات وممارسة الضغوط تحت قبة البرلمان او خارجه. عن طريق الوسائل السلمية والاحتجاجية تمكنت احزاب الاشتراكية الديمقراطية في غرب اوروبا من تطويع بعض خصائص النظام الرأسمالي وترويض سلوكياته المتوحشة لصالح العمال والفقراء من دون تهديم اسس الدولة او اشعال شرارة ثورات عنفية تهتدي بنظرية مذهبية فولاذية. بالتالي حصل العامل الاجير على العديد من المكاسب وأمّن لعائلته معيشة افضل في ظل دولة ديمقراطية توفر الرعاية الاجتماعية للعاطل او المعوز.
لم تنل طروحات بيرن شتاين قبول العديد من الاشتراكيين اللذين استهجنوا انتقاداته للماركسية، وخاصة الشيوعيان الالمانيان البارزان كارل ليب كنشت ( Karl Liebknecht ) وروزا لوكسمبورغ اللذان اعتنقا الماركسية بالمطلق ورفضا اخضاعها للمراجعة وصياغتها من جديد بشكل محوّر. بالرغم من قبول الاشتراكي الشهير كاوتسكي ( Kautsky ) ( 1938 – 1854 ) بعض وجهات نظر بيرن شتاين ورفضه لبعضها فلقد شكك في قدرة الطبقة العاملة على ادارة الدولة الاشتراكية واعتبر مثل تلك الخطوة غامضة في نتائجها ومحفوفة بالمخاطر. بشكل عام شكّك عدد من المفكرين الاشتراكيين بنجاح النظام الشيوعي الذي تطلع اليه ماركس، ولا سيما في ظروف غياب الفرصة لترعرع حكم ديمقراطي تعددي وعادل ينبذ البطش والاقصاء والإجتثاث. في هذا السياق خشي الاشتراكي الفوضوي الروسي باكونين ( Bakunin ) من احتمال تأسيس نظام استبدادي شمولي، لأن الايديولوجية المذهبية تحمل البذرة لنماء الدكتاتورية بشكل ما، بالرغم من المقاصد الطيبة والشعارات الخلابة، مما دفعه الى رفض جعل دكتاتورية البلوريتاريا منهجاً للنظام الاشتراكي.
طرح ماركس نظريته بشأن اقامة دولة العمال على انقاض النظام الرأسمالي الذي ترهل واستنفذ مقومات استمراره بعد ان اثبت عجزه عن استيعاب المرحلة. بالرغم من ذلك البرنامج الواعد والساحري تعرض ماركس لسهام المنتقدين الذين اتهموه باللاواقعية وبالمبالغة في التوقعات لأنه لم يقدم الادلة والمعطيات الملموسة حول امكانية تحقيق الحلم الكبير للطبقة العاملة بتنفيذ رسالتها التاريخية وحلها للمعضلات الاجتماعية والاقتصادية وانهائها لكافة مظاهر القهر والاستغلال والتمييز. من جانبه توصل ماركس الى استنتاجاته عن طريق استعراض الانعطافات البارزة في مسيرة تاريخ الانسان، لكنه في الوقت نفسه صاغ لوحة تأملية للمستقبل بإستخدام خيوط ايديولوجيته الخاصة وبعيداً عن الخوض في دراسات حقلية وبحثية يشترك فيها الخبراء والاختصاصيون في مجال علم الاجتماع والنفس والاقتصاد وفروع اخرى من العلوم الانسانية.
يظهر من نظرية ماركس بشأن الدياكلتيك بأن شكل الاقتصاد والعلاقات التي تنعكس عنه يمثلون القاعدة التحتية ( Infra Structure ) وهي العامل الوحيد والفعال في عملية التطور والارتقاء. اما عناصر البناء الفوقي ( Super Structure ) فهي سلبية وخاملة ومتأثرة وغير مؤثرة وتأخذ ولا تثري لأنها انعكاس كامل للبناء التحتي. تعبر هذه النظرية عن التفسير العلمي الى درجة معتبرة، لكنها تتعرض للنقد وتجابه التحديات عندما تتطرف وتبالغ في دور الاقتصاد وعلاقات الانتاج وتهمش فعالية الافكار والثقافة والفن والعقائد الموروثة والمتجذرة وتعتبرها انعكاساً آلياً لما تحتها ومعرضة للزوال او التغيير عندما تتغير القاعدة. لا بدّ ان يلعب الابداع الفكري والفني والاختراعات والاكتشافات وعبقرية الانسان دوراً فاعلاً ومؤثراً في تطوير الاقتصاد وعناصر القاعدة التحتية. لا يمكن تجاهل تأثير النهوض العقلي والارتقاء الروحي على القاعدة التحتية، مما يجعل عناصر البناء الفوقي نشيطة وغير خاملة ومؤثرة في الاقتصاد وتطوير الآلة. بالامكان وصف صيغة التفاعل المتبادل بين عناصر القاعدة التحتية والبناء الفوقي بعلاقة التربة مع ما يتوفر في الجو من الهواء وضوء الشمس فيما يخص نمو وعطاء الشجرة. شعيرات جذورها تمتص ما تحتاجه من المواد الغذائية الاولية الخام من التربة واوراقها الخضراء تقوم بعملية صنع الغذاء من النسغ الصاعد من القاعدة وتوزيعه على كل جسم الشجرة عن طريق النسغ النازل. وهكذا تتوزع الادوار وتتكامل الوظائف بين البناء التحتي والفوقي من دون الغاء او تقليل دور اي طرف في عملية الانتاج التي تستقي مقومات نجاحها بتفاعل العناصر المتجهة من الاسفل الى الاعلى وبالعكس.
تفترض الماركسية ان تغيير القاعدة الاقتصادية يؤدي تلقائياً الى اختفاء مكونات البناء الفوقي من الافكار والثقافات والمعتقدات والتقاليد والاخلاقيات وحتى اللغات وظهور اخرى مختلفة. لكن منذ اكثر من 3000 سنة الاخيرة شهدت مسيرة الحياة تغيرات عميقة في البناء الاقتصادي ووسائل الانتاج وعلاقاته في الوقت الذي لا يزال الانسان يعتنق ذات العقائد الدينية ويعشق الرمزية والاسطورية ويؤمن بالغيبيات والتنجيم ويعتز بالثقافات والفلسفات القديمة وبالعديد من المفاهيم التي ورثها من الاجداد البعيدين. بالرغم من طي صفحة نظام الرق والعبودية واختفاء الاقطاع من مسرح الحياة وانبثاق وازدهار الرأسمالية، لم يتخل الانسان عن بعض الثقافات والموروثات الايمانية، بل جعلها ركناً مهماً في منظومته الفكرية والاخلاقية والقيمية. في الوقت الذي تتعارض المفاهيم الديمقراطية واللبرالية مع الموقف الفولاذي الذي يرقى بنظرية البناء التحتي والفوقي الى مستوى الايمان بمعصوميتها، تؤكد من جانبها على علاقة الاخذ والعطاء والتأثير والتأثر والاثراء المتبادل بين المستويين.
تتلقى الايديولوجيا الماركسية الانتقادات عندما تختزل تعقيدات العلاقات بين ابناء المجتمع وتخضعها للعامل الاقتصادي والمادي وتهمّش او تلغي تأثير الجانب الروحي للحياة. ويؤخذ عليها التقليل من شأن المعتقدات الميتافيزقية ( فوق الطبيعة ) والاسطورية المستقرة في الوعي الجمعي لقطاعات واسعة من البشر وفي كل الامكن. في هذا الخصوص لا يتوقف شعور خوف الانسان من المجهول وتأمل الحياة بعد الموت والتفكير في لغز وكنه الحياة والوجود والايمان بالقوة الخالقة والخارقة والعجز عن اعطاء الاجابات الشافية والمقنعة للكثير من الاسئلة المحيرة. توحي الماركسية بأنها تمثل الحقيقة التي تمكنها من تفهم المشكلات وطرحها على مشرحتها وتشخيص المرض وتوفير العلاج. ولتوضيح موقفها تبرز الصراع الطبقي الاقصائي بطريقة قدرية والذي لا يحسم بالتفاهم او التعايش السلمي، بل بالاحتراب واقصاء الطرف المستغِل. اختلف العديد من الاشتراكيين والمصلحين مع توجهات ماركس بهذا الشأن، ولا سيما واعتقدوا بإمكانية تحقيق الاصلاحات والارتقاء بوضع المعوزين من خلال التفاهم او ممارسة الضغوط والفعاليات الاحتجاجية التي تؤدي الى تقليص هوة التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية. بالتالي اختلف مع التنظير الماركسي كل من تحسس خطورة اعتبار المجتمع شرائح لا تتفاهم او تلتقي، بل تخوض حرباً او صراعاً لا ينتهي الا بإفناء احدهما للآخر. في ذلك الاطار الذهني والنفسي رأى معارضو ماركس من المصلحين او الاشتراكيين المعتدلين بأن خلق مجتمعات لا طبقية من خلال العنف والاقصاء قد تؤسس لنظام احادي النظرة وقاصر على الاجتهاد وفقير في الابداع. وتوقع هؤلاء ان تبني التطلعات الماركسية مجتمعات مشوهة ومصطنعة وباهتة لا تقوى على التماسك والاستمرار على الحياة الطبيعية او الاثراء والارتقاء. قد تكون تشخيصات ماركس للواقع الاقتصادي واعتباره العامل الحاسم والوحيد في تقرير نوعية النظام السياسي وكافة عناصر البناء الفوقي مصيبة الى درجة ما، لكن في الوقت نفسه لا نستطيع انكار دور الابداعات الفكرية والثقافية والادبية على مستوى الملاحم والاساطير والرواية والشعر وبقية الفنون والتي ارتقت بحياة الانسان الروحية وأثرتها على مدى عشرات القرون. في هذا الخصوص يبرز امامنا تأثير الفلسفات اليونانية القديمة والحضارة الهيلينية وجمال فن العمارة الغوطية والادب الكلاسيكي الرائع الذي ازدهر في عصر الرومانسية والاكتشافات الجغرافية وتوسع آفاق تطلعات الانسان الى جانب ظهور مشكلات اجتماعية بسبب الفقر والاستغلال مما افرز اسلوباً خاصاً في كتابة الرواية واعطاء الادب نكهة متميزة. يتحقق التطور من خلال الثورة مع توفير فرصة نجاح التفاعل البنّاء بين المتناقضات والمتشابهات، مما يفند نظرية إذكاء التناحر الطبقي وهدم البنى المجتمعية تحت ذريعة تطبيق النصوص الايديولوجية وتأسيس واقع حتى وان كان مصطنعاً او مشوهاً. لا يمكن الركون الى نظرية سياسية واقتصادية تصور العالم المتجانس اكثر اشراقاً من المتنوع وتفترض ان تكون الحياة ابهج وامتع في حالة الغاء الملكية الفردية. عند ازالة الفوارق الطبقية وتحكم الدولة وحزبها العمالي بكافة المرافق الاقتصادية والانتاجية والخدمية ومنابع الثروة قد تزداد احتمالات تعميم الفقر ويذبل حماس الفرد للابداع وقد يتعتم المضيء ويبقى المظلم مظلماً.
تحتاج البشرية نظريات او مشاريع فكرية ممكنة التطبيق وتؤدي الى الاصلاحات المادية والارتقاء الروحي، في الحالة هذه لا يثمر الاعتماد على ايديولوجية تلغي فرص انسجام شرائح المجتمع وتوجج التصارع بينها تحت ذريعة تنفيذ رسالة الخلاص واقامة الفردوس على انقاض الجحيم. لتأكيد وفائهم وايمانهم بتلك الرسالة مدَّ تلاميذ ماركس ورسله سكة الحديد ووضعوا عليها عربات القطار التي حملت مجاميع من المسافرين المسحورين والناقمين والبائسين والحالمين الماسكين الريح من اذياله. تسلق تلك العربات كذلك العديد من المثقفين والادباء والفنانين واصحاب الفكر النير والصادقين في نواياهم والمستعدين للتضحية ليس فقط براحتهم، بل وبحياتهم. في تلك البيئة السياسية والاجتماعية تلقى المعجبون والمهوسون وحتى الغوغاء جرعة الايديولوجيا التي لا تستطيع رؤوسهم استيعاب معظم مفرداتها ولا معدتهم هضم مفاهيمها. انطلق ذلك القطار بسفرته المحفوفة بالمخاطر ومجابهة الزوابع التي تجعل فرصة بلوغ الهدف غير مأمونة او مؤكدة ونتائجها غامضة.
تقسم الماركسية المجتمع الى شريحتين رئيسيتين : شريحة الانسان الجوهري والمنتج وشريحة الانسان الهامشي والطارىء والطفيلي الذي لا بدّ ان يندحر ويتم اقصاؤه او استئصاله. وهكذا تحتكر المعايير لتحديد المجموعة التي لا تستحق الحياة ولا تصلح لقيادة المجتمع لأنها مستغِلة وانها فقدت مقومات الاستمرار. لكن الدلائل والتجارب اثبتت ويثبت بأن هذه الطبقة حققت نجاحات باهرة وانجازات هائلة وابدعت وطورت وتمكنت من مراجعة ذاتها بقصد تشخيص الخلل وتجاوز الاخفاقات والتعامل مع الضغوط ومع الانتفاضات والارتجاجات. بالإضافة لهذا لا تتوفر معطيات تؤكد بأن الطبقة التي يرشحها ماركس لقيادة المجتمع عادلة لا تمارس الظلم وانها افضل كفاءة في الادارة وتحقق السعادة والارتقاء للانسان وتبعد عنه كل اشكال القهر. تتماثل احداث الثورة المتطرفة التي تهدم اعمدة البناء الاجتماعي مع عملية قلع الاشجار الباسقة والمورقة في غابة قديمة تحت ذريعة غرس نباتات تتمتع بالحيوية وبمواصفات الحياة التقدمية. لكن مثل هذه الاجراءات تنتهي بكارثة كبرى وممارسة صارخة على الطبيعة، لا سيما عند اختفاء الغابة الاصلية من دون نمو وترعرع نباتات بديلة، مما يصدم الانسان وهو لا يرى امام عينيه سوى امتداد لأرض قاحلة وجرداء.
تفاءل ماركس بإمكانية معالجة التناقض بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة مما يضع نهاية لكافة اشكال الصراعات داخل المجتمع. وعندما طرح موضوع العامل الأجير غاص في الرمزية والمثالية والتفلسف وابتعد عن التعامل معه كإنسان من لحم ودم وروح ونفسية تختزن في اعماقها الغرائز والاهواء والعواطف المختلفة. خلال ذلك النشاط الذهني اسس مختبراً في مخيلته لإجراء تجارب تستطيع خلق علاقات بشرية خالية من الاستغلال. بحماس وثقة دعا ماركس الطبقة العاملة للكفاح من اجل تحرير نفسها من عبودية الرأسمالي عبر تقديم التضحيات واراقة الدماء، لكنه لم يتنبه الى احتمال وقوعهم في نوع جديد من الاسر للايديولوجية ولأجهزة الحزب والدولة البيروقراطية. لا تتحقق الحرية للإنسان برسم مستقبل وردي في الخيال ولا بالتوقعات الساحرية لمستقبل لا يملك احداً صورة توصيفية حقيقية عن شكله. ولا تنتصر الطبقة العاملة بسحر الايديولوجيا، بل بإرتقاء مستواها الفكري والمعنوي وتحسن اوضاعها المعيشية ضمن مجتمع ينهض بكافة شرائحه.
تحاول الماركسية تجاهل ميول الانسان الفطرية في الاختلاف والتنوع وتتخذ موقفاً سلبياً تجاهها، ولا سيما وهي تؤمن بإمكانية خلق مجتمع متجانس في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وحتى الفكرية وادار ظهره للطبيعة البشرية التي ترفض التجانس وتفضل الإبقاء على التنوعات التي تعتبرها حافزاً مهماً يدفع للتطور ولإثراء عناصر الحياة. عندما تختزل الماركسية الانسان وتعتبره مجرد جزء من العمل الاجتماعي العام والذي يتحرك في دولاب الدولة والحزب فهي تجرده من كيانه ومن حريته في الاختيار. خلال مسيرة حياة الانسان اتضحت امكانية تعايش الاختلافات وعلى استمرار التفاعلات وحتى الصراعات التي تؤول الى الالغاءات التلقائية للظواهر المعرقلة لعملية التطور والتغيير. لا يتشوه المجتمع عندما يتشرب من خصائص الماضي وتحتضن بعض قيمه، بل يثرى حاضره ويصون استقرار مستقبله. تتناقض الحياة الطبيعية مع البناء الاحادي والمتجانس في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية. عندما جرّد الفلاح والمزارع الثري من ملكيته الارض وادوات الزراعة وارغم على العمل في التعاونيات التابعة للدولة الاشتراكية بقصد تكريس التجانس بين الجميع، ساد السخط والحنق والرفض العام وفتر حب العمل وتراجعت الزراعة وقل الناتج وساءت النوعية. من خلال سعي الفرد للافصاح عن كفاءته وتأكيد ذاته واندفاعه للإبداع والتميز عن الآخرين في التملك يطور نفسه ويحقق المصلحة العامة سواء قصد ذلك ام لا. ليس مشروع تأسيس المجتمع المثالي الذي ينهي دور الرأسماليين والبرجوازية الصغيرة ويقصي النخب الفكرية والفنية والاكاديمية التقليدية والمؤسسات الروحانية وهم وضلال فحسب، بل ومؤذي.
عند تكريس الايقاع الايديولوجي الواحد وفرض التجانس السياسي لا بدّ ان تنتفي الحاجة لمنظمات المجتمع المدني والجمعيات الادبية والنقابات المستقلة والمرجعيات الروحانية غير الموجهة من قبل الدولة او غير المنظوية لحزب الطبقة العاملة بشكل مباشر او غير مباشر، مما يجعل هذا الحزب الحاضنة الوحيدة لكافة المواطنين والمصدر الرئيسي للتوجيه والارشاد والمنهل الوحيد لاستلام الثقافة والوسيلة المسموح تلقي المعلومة الاخبارية منها. لكن الرأسمالية كنظام برغماتي يستعين بالتجربة التي قد تحقق النجاحات او تتطلب المراجعة والتغيير، ولا تتوجس من ترعرع الافكار وتنوع الثقافات والعقائد ولا حتى من مناقشة فرضيات ماركس في الجوانب الاقتصادية والفلسفية. لذلك نرى النظم الناجحة لا تزال ترفل بالحياة التي تلوّنها التعدّدبة والإختلافات والتناقضات وتنبسط أمامها وخلفها صفحات مشرقة وظليلة. تبقى الفرصة ايجابية لطرح الديمقراطية كأسلوب للحكم وكمفاهيم وثقافة وتقاليد حية ومرنة تتنامى ولا تكتمل او تخمد في حركتها، بل تعيش التطور والتبلور والتحور والتغيير وتقبل اثراء نفسها من التجارب.
النظام الشمولي يتمثّل بالراديكالية اليمينية واليسارية
انبثق مفهوم النظام الشمولي ( Totalitarism ) في عشرينيات القرن الماضي، وبالتحديد بعد الحرب الكونية الاولى عندما اطلقه لأول مرة اللبرالي الايطالي جيوفاني اميندولا وبعد ان قام بتحليل اشكال من النظم التي سادت في ايطاليا والاتحاد السوفيتي والمانيا آنذاك. يبين امندولا بأن الاسباب الرئيسية لظهور ورواج تلك الانظمة كانت الارتجاجات التي تعرضت اليها اركان الحداثة في اوروبا وضعف البنية الديمقراطية، بالإضافة الى ارهاصات ثورات شعوب القارة منتصف القرن التاسع عشر. من المتفق عليه ان النظام الشمولي استبدادي واملائي ( دكتاتوري ) يسير على ايقاعية سياسية واحدة ولا يقبل التعددية وتنوع الاجتهادات الفكرية، بل يسعى لإخضاع الفرد بصرامة وتسخيره لمصالح الحزب والدولة التابعة له. يتخذ هذا النظام مساراً احادياً يؤدي الى نهاية مغلقة ويشطب كافة الخيارات لكي يبقى على الساحة خيار واحد يسير على هدى عقيدة او ايديولوجية دوغماتية. بالتالي، يضع النظام نفسه عند القطب المناقض للديمقراطية او اللبرالية وعلى يمين الدكتاتورية الفردية، سواء اكانت مدنية او عسكرية.
يتميز النظام بخصائص عدة، اهمها: اولاً: الابتعاد عن الاسلوب الاعتيادي في الانتخابات البرلمانية التي تؤدي الى تشكيل حكومة الاغلبية وقيام الدولة بسلطاتها الثلاثة المستقلة عن بعضها. ثانياً: تربع دكتاتور على قمة هرم السلطة ويتمتع بصلاحيات مطلقة. ثالثاً: تعويد او ترويض المواطن لمنهج الايمان بالايديولوجيا التي لا تترك المجال لحرية الاختيار او الرفض. رابعاً: تأسيس حزب ذي قاعدة جماهيرية واسعة تمكنه من تسخير الدولة لتطبيق منهجه. خامساً: اشاعة الاقتصاد الموجه من قبل الدولة مركزياً. سادساً: قيام دولة تضع تحت تصرفها جهاز شرطة وامن قمعيين بحيث يتمكن من رصد كافة الحركات والنشاطات الجماهيرية ووضعها تحت المراقبة الدقيقة والحذرة. سابعاً: تهيأة شبكة اعلامية واخبارية مخلصة للنظام وكفوءة في بث الدعاية المؤثرة ( Propaganda ) وتزييف الحقائق وقادرة على ارباك فكر المواطنين او تخديره او استغفاله.
في النظام الشمولي يلعب القائد او السكرتير العام للحزب دوراً مركزياً ويحمل الرسالة التاريخية، وتلقى حوله الهالة التي تجعله مصيباً في قراراته ومحقاً في الاجراءات التي يتخذها. وهكذا تسود ثقافة القطيع التي تؤمن بأن المعترض على القائد مخطىء وينبغي استئصاله واذاقته مرارة الهزيمة ورميه في عالم النسيان او اخفاء آثاره بين طيات الزمن. يرفض النظام مبدأ الحوار ولا يقبل بنتيجة لا غالب ولا مغلوب لكي يبقى هو المنتصر على الدوام. يستمد النظام الديناميكية والقوة من أقلية تتمكن من تثوير قطاعات مجتمعية واسعة وتسخير طاقاتها لمآرب الدكتاتور، مما يدفعها لمباركة وتأييد استخدام العنف والاجتثاث. وبقصد غسل الادمغة او تفريغها واعادة حشوها والتلاعب بعواطف البسطاء والمغرر بهم، تقام المهرجانات الخطابية وتعقد الندوات الثقافية وتطلق الاحتفالات بذكرى ولادة منظر الايديولوجيا او مفجر الثورة او رحيله وتتحول تلك المناسبات الى طقوس وشعائر ينبغي على الجميع تأديتها.
بغية تأطير الوعي والشعور الجمعي، يروج النظام الشمولي لإيديولوجية رسائلية تحقق اهدافاً سامية لأمة او لعرق او لطبقة ناهضة، وفي الوقت نفسه يبرر تصفية الجهة التي تناهضه او تعرقل اداء تلك المهمة التاريخية. ولا تقتصر اساليبه على التصفيات الفردية، بل ترقى الى الابادة شبه الجماعية لشرائح او لأقوام تحت ذريعة وجود اجزاء قذرة في المجتمع لا تستحق الحياة. يوغل النظام في التظليل والتمويه من خلال اجهزة الدعاية التي تخفي الممارسات البربرية خلف شعارات براقة وعبارات جذابة، وتعكس للعالم الخارجي صورة مشرقة وبهيجة. من المفارقات الشاذة ان الافعال اللا انسانية تنال المقبولية من الجماهير المسحورة والغارقة في موجة من العواطف الملتهبة. وبقصد الخديعة يوفر النظام للقواعد الحزبية مجالاً للتعبير عن الرأي وممارسة الديمقراطية في انتخاب اعضاء اللجان السفلى، لكن تلك الحرية تبقى مقيدة ومقننة ومراقبة بأوامر صارمة من المسؤولين في قمة هرم الحزب. بالرغم من تنوع المشاريع السياسية للنظم الشمولية واختلاف اهدافها وروآها ومرجعيتها الطبقية والايديولوجية، فهي تلتقي بالكثير من المشتركات والخصائص مثل فكرة الدكتاتور الضرورة وحكم الحزب الواحد. يسخر هذا الحزب امكاناته لتعبئة الجماهير ونشر ثقافة القطيع والتغريد الجماعي في السرب والعزف على الايقاعية الواحدة. جميع النظم الشمولية تبرر البطش والترويع والاقصاء وتشويه آدمية الانسان وجعله مجرد قطعة في جسم آلة الحزب والدولة. ولا تعترف بالتعددية وتبادل السلطة وقبول الآخر، بل تكرس عبادة الشخصية وتنسج الهالة حول القائد وتشجع تأليف الاساطير وتنظيم القصائد الشعرية حول المخلوق الفريد وعن طريقة ولادته العجائبية ومواهبه الفذة وثراء عطائه للانسانية وحبه الجم للأطفال. تعبد هذه التوجهات الطريق امامه للتحكم بقاعدة هرم الحزب وبكل مكونات المجتمع دون الحاجة للرجوع الى الدستور والقوانين وحتى الاعتراف بالبرلمان، وخاصة عندما تتجمع حوله بطانة من المتملقين والانتهازيين وضعاف النفوس. في الوقت الذي تحتمل الديمقراطية اختلاف الآراء وتستوعب تنوع التيارات السياسية وانبثاق الافكار الجديدة وتعترف بأن الانشطارات في الاحزاب امور طبيعية، يعتبر النظام الشمولي ظهور التكتلات او الانشقاقات والمعارضة مؤامرة وخيانة عظمى لا ينبغي السكوت عليها والتسامح معها، بل سحقها وابادة مثيريها. في ظل الحكم الشمولي لا بدّ ان يبقى الحزب القائد متماسكاً وحازماً ونقياً ايديولوجياً وموحداً في الإرادة لأنه يحمل الرسالة ويقود المجتمع ويتكفل بتربية الانسان وتوجيه العائلة والمدرسة والجامعة والمعمل والورشة والنقابة وكافة المرافق الترفيهية والادبية والثقافية. يستقي النظام فاعليته التعبوية من الاعتماد على الشعارات الخاوية من المضمون ويمارس الديماغوجية بقصد فرض صواب الايديولوجية وتضخيم فرص نجاحاتها وحجم انجازاتها. ومن اجل التمويه يلقي الاعلام المؤمم الظلال حول ايجابيات الماضي ويسلط الاضواء على مشاريع المستقبل الوهمية ويبالغ بالنسب المئوية المتحققة للخطط الخمسية. في نفس السياق تدّعي وسائل الاعلام بأن السكرتير العام للحزب ينال تأييد الجماهير ويعتمد عليها ويرجع اليها في كل قراراته، لكن في الحقيقة يبقى هو العنصر الممتلىء وتكون هي خاوية وهزيلة ولا وزن او قيمة او مستقبل لها من دونه، لأنه يحمل على كتفيه المسؤولية التاريخية والمهام الجسام والرسالة التي تحقق تطلعاتها.
يؤمم النظام الشمولي الذاكرة الفردية والجماعية ويحيلها الى ملكية الحزب لكي يسهل عليه الامر لتشويه الحقيقة والتغطية على الطغيان او دفنه في عالم النسيان، لكن ذاكرة الانسان تبقى يقظة ولا تقبل الاستغفال. بالرغم من الترويع والبطش والتصفيات الفردية وشبه الجماعية والاستعانة بالدعاية المؤثرة وبالاجهزة الامنية والاستخبارية الرهيبة، تساور النظام المخاوف والقلق والشكوكية من اقرب المقربين ويؤمن بنظرية المؤامرة وتربص العدو الخارجي وخطر الطابور الخامس والثورة المضادة. تدفع تلك الذهنية النظام الى تقسيم البشر الى جبهتين ويندرج في اولها اصدقاء مؤقتين وموالين مخلصين ويندرج من ثانيها اعداء دائمين ومناهضين وخونة يستحقون الابادة. يكون الامر طبيعياً ومتوقعاً عندما تخلق هذه النظم لنفسها احياناً الاعداء الوهميين او تغبرك الروايات حول المؤامرات المتوقعة ضدها بقصد حشو الآذان بالعبارات الجاهزة للدفاع عن النفس وتبرير الاساليب البربرية وادانة المقابل.
استثمرت النظم الشمولية الاختراعات العلمية والانجازات الصناعية والابداعات الفنية والفلسفية للإنسان ووظفتها لحسابها، وتمكنت ليس فقط من غزو العقل لقطاعات واسعة من البشر، بل ومن الانتشار بسرعة وعلى مساحات واسعة وفي دول ذات شأن اجتماعي واقتصادي. دفعت تلك الانعطافات الخطيرة بعض المفكرين الى تسمية الفترة " بعصر الإغواء الايديولوجي ". وعندما اعتقد الماركسيون اللينييون بأن النظام السوفيتي على النقيض من النظام الشمولي نهض كاتب الرواية الانجليزي المعروف جورج اورويل وكتب ما يلي ( عندما ينتقد اليساريون والشيوعيون النظم الفاشية والنازية، فهم يعبرون عن الازدواجية ويظهرون هوية مزيفة عند ادعائهم بأنهم يؤمنون بالديمقراطية ويعارضون الاستبداد والطغيان ).
خلال النصف الاول من القرن العشرين ظهرت عدة انواع من الانظمة الشمولية التي جميعها مثلت اوجهاً لعملة واحدة. لم تنطلق تلك النظم من الفراغ، بل نشأت وترعرعت بسبب الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي سادت اوروبا، ولا سيما عندما انهارت الامبراطوريات الثلاث في النمسا والمانيا وروسيا. انتشرت في بعض الدول الفوضى وانعدم السلم الاجتماعي في ظل حكومات ضعيفة لا تستطيع استيعاب الغليان الجماهيري والصراعات الحزبية او تحمل افرازات الحرب الاولى. في تلك الظروف طرحت المشاريع الايديولوجية الراديكالية وبمختلف اشكالها نفسها منقذة للأمة ومتعهدة بلئم جراحاتها واعادة كرامتها وكبريائها وانهاضها لإداء رسالتها التاريخية. بالرغم من تناقض الاهداف والمرجعية الاجتماعية لتلك النظم، فهي التقت ببعض المفردات عندما منحت نفسها عناوين مغرية او انسانية مثل الاشتراكية القومية ( النازية ) او الوطنية الفاشية او حكم السوفييت العمالي.
في المانيا، وبالتحديد بعد اندحارها في الحرب الاولى نهضت مجموعة راديكالية مؤمنة بأيديولوجية التفوق العرقي وبالخصائص البيولوجية المتميزة ونجحت بتأسيس كيان سياسي واجتماعي يقوده حزب تدعمه قطاعات المجتمع المسحورة والملتهبة العواطف والفاقدة للإرادة الذاتية. بالإضافة الى القاعدة الصناعية والعسكرية المتوفرة اصلاً، استعان النظام النازي اليافع بماكنة الدعاية المؤثرة التي تمكنت من تخدير العقول وكسب القلوب وتسخير الاجساد لتحقيق الاهداف في الاستحواذ او صهر الاقوام او التعامل معها بدونية واذلالها في احسن الاحوال. بالنتيجة، تمكن ذلك النظام الشمولي لفترة من غرس ثقافة التفوق العرقي في الوعي والشعور الجمعي عند الجيرمان، مما سهل الامر لهتلر لترويض المجتمع ودفعه الى اتون الحرب العالمية الثانية. مطلع العقد الثاني من القرن الماضي انبثق نوع من الانظمة الشمولية في ايطاليا واسس الدولة الفاشية القوية عسكرياً واقتصادياً على حساب حريات المواطن وحقوقه وكرامته وحياته المعيشية. تمكن ذلك النظام من مغازلة الجماهير ودغدغة عواطفها وتأميم ارادة الفرد وتحويلها الى ملكية الدولة، وخاصة عندما عزف على وتر اعادة امجاد الماضي للرومان وتأسيس الامبراطورية. سحقت الموسولينية كافة مناهضيها واقامت حكماً شمولياً مكنها من ترويض المجتمع، مما سهل لها الامر لمد ذراعها خارج حدودها الوطنية بقصد الاستعمار والاستيطان، ولا سيما في القرن الافريقي، لكنها هوت قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية بفترة قصيرة.
قد يبدو الامر مستغرباً او مفاجئاً للكثيرين عندما يرتدي احد صنوف النظم الشمولية ثوباً اممياً وانسانياً ويتبنى ايديولوجية الخلاص البشري التي تنقذ العمال والمقهورين من مخالب الرأسمالية ويضع حداً لكافة اشكال الظلم والاستغلال. في هذا السياق تأسس النظام البولشفي الماركسي في الاتحاد السوفيتي وروّج لمفهوم الصراع الطبقي ولأهلية الشغيلة في اداء رسالتها وادارة الدولة والمجتمع بعد تأميم او الغاء الملكية الفردية واشاعة الاشتراكية. استغل ثوار اكتوبر 1917 الفراغ السياسي في روسيا بعد الفترة القيصرية وافرازات الحرب المريرة وانتشار ثقافة العنف بين الجنود العائدين من جبهات القتال، ورفعوا الشعارات الساحرية وطرحوا مشروع اقامة الفردوس على الارض وإبعاد كافة انواع الشرور عن الانسان. مما لا شك فيه ان الثوار تمتعوا بعلاقات دافئة مع الطبقات الدنيا ومع المنبوذين والمهمشين، وتفهموا هموم ومعاناة العمال والفلاحين الفقراء، مما مكنهم من كسب قلوب وعقول قطاعات عريضة من المجتمع. في ظل هذا النظام الشمولي وبقصد تطبيق نصوص ايديولوجيته لا بد أن تتعرض البنية المجتمعية للهدم بالكامل ويعاد صياغتها وتغيير عناصر بنائها الفوقي عن طريق اقامة دكتاتورية البلوريتاريا التي تمهد الطريق لإشاعة النظام الشيوعي. حينما تغمر القلب سكرة النشوة ويصاب العقل الراجح بالشلل، تنسى الاجساد شظف العيش والكدح في الورشة والمعمل والحقل ولسعة برد الشتاء والمغامرة بحرية الاختيار، ولا سيما عندما تتذكر يوم اندلاع الثورة ويرن في اذنها صوت رصاص النصر ويتراءى امام العين بريق الشعارات الواعدة ورمز المنجل والمطرقة. خلال اكثر من سبعة عقود تحت ظل النظام السوفيتي الشمولي، لم تستطع تجربته البرهنة على واقعية النصوص الايديولوجية التي سار على هداها. بالرغم من المفردات المغرية والجميلة والمرجعية الطبقية التي استند عليها النظام، لم يرى المواطن الروسي امامه تلك الواحة ذات الماء الرقراق والعذب.
عندما نهضت النظم الشمولية وتحول بعضها الى شأن ذات اعتبار وتأثير، اصبحت المؤسسات والقيم والثقافة الديمقراطية واللبرالية على المحك وتحت الاختبار المصيري، مما دفعها الى مراجعة الذات والتحرك لفضح ومحاربة كافة اشكال الاستبداد والدكتاتورية والطغيان واعتبارها ظاهرة مؤسساتية مهينة لكرامة الانسان ونكسة لإنجازات عصر الحداثة والتنوير والدمقرطة. بقصد التوضيح، لم يقتصر تأسيس النظم الشمولية على بعض دول اروربا فقط، ولم يكن عملاقاً دون الاتباع من الاقزام والمقلدين. لقد انجب النظام الشمولي ابناءاً شرعيين في العديد من دول العالم الثالث التي اقامت نظم الاستبداد والشمولية تحت ذريعة تأكيد الذات القومية او الدينية وتوحيد كيان الامة الممزق او حماية الوطن من الاجنبي المستعمر.
نهوض الوعي القومي وانبثاق التوجهات الاممية
منذ القدم تنوعت المجاميع البشرية واختلفت ثقافاتها وقيمها وتقاليدها وخصائصها الجسمية والنفسية ولغاتها، وتكونت الامم خلال عوامل التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والحروب أو الصراعات. من الطبيعي ان تفتخر اية مجموعة بشرية بهويتها الخاصة بها لأن الانسان يميل غريزياً الى الارتباط مع من يعتبرهم قريبين من مشاعره واحاسيسه ويشتركون معه في وسيلة التخاطب والمفاهيم التي تؤطر الوعي الجمعي وتحدد الهوية التي تميزه عن غيره من الاقوام. لغوياً، مفردة القومية ( Nationality ) مشتقة من اللاتينية Natus التي تعني محل الولادة المشتركة لمجموعة من البشر على مساحة ما من الأرض. وعندما نتطرق الى القومية لا نقصد النقاوة العرقية او الصفات الوراثية المشتركة لأن خلال التاريخ هجرت الاقوام موطنها الاصلي ورحلت بسبب الظروف المناخية والكوارث الطبيعية او الصراعات الداخلية او الكثافة السكانية العالية او لإمتلاكها القوة ودافع الغزو والاستحواذ والاستعباد، مما خلق واقعاً مجتمعياً هجينياً وفاقداً للنقاوة العرقية. عندما تحاربت الاقوام او غزا احدها الآخر حصل الصهر والانصهار والالحاق والالتحاق، ولا سيما عندما شكل المنتصر النواة التي اجتذبت القوم المندحر الذي تعرض كيانه للذوبان وطمس الهوية، مما فرض واقعاً ديمغرافياً جديداً نال المقبولية واصبح معترفاً به. لذلك، يعتبر حجم الواقع القومي المنظور في اية مرحلة حالة غير حقيقية، بل مصطنعة ولا تتطابق مع النقاوة العرقية او مع صلة النسب. ومع ذلك، لا بدّ من التعامل بعقلانية وواقعية والاعتراف بوجود الامم المختلفة ككيانات تتمتع بواقع جغرافي وثقل سكّاني له نمطه الاقتصادي وحالته السياسية وتراكم تجاربه التاريخية وله وسائل تفاهمه وتماسكه.
بالرغم من تداخل معنى القومية مع الامة احياناً يبقى مفهوم الثانية اوسع وادق لأنها تشير الى مجموعة من الاقوام والاعراق الذين يعيشون على ارض بثرواتها ويعبرون عن ذاتهم بلغة واحدة او بلغات وتربطهم المصلحة المشتركة والمصير الواحد والتقاليد والخصائص النفسية المتقاربة ويخضعون لأحكام وقوانين واعراف تنظم حياتهم وعلاقاتهم. فهم البعض الامة بطريقة منغلقة ومتعصبة وعرَّفها كمجموعة من البشر تتصف بخصائص عرقية تميزها عن الاعراق الاخرى، وعرَّفها آخرون حسب العقيدة الدينية واطلقوا عليها ملة التي تعني القوم المؤمن، مثل الامة المسيحية او الامة الاسلامية او اليهودية وخلافه.
تتطور الامة ويدوم بقاؤها تبعاً للظروف الاقتصادية والمكانية والاجتماعية الداخلية الذاتية، بالإضافة الى محيطها الاقليمي والمواقف الدولية تجاهها. وكل امة تحمل في داخلها عناصر شخصيتها المعنوية والروحية التي لا تتطابق بالكامل مع غيرها من الامم. اما شخصية الفرد ضمن الامة، فهي تصيغ نفسها داخل مجتمعها خلال تشربها من عوامل التاريخ والثقافة والفن ونشاطات الحياة الاخرى. عندما تتهيأ الظروف امام الامة المهمشة او المقهورة او الممزقة تنهض طلائعها السياسية والفكرية لتحفيز الشعور الجمعي وتوجيهه للبحث عن الهوية المفقودة لأن نهوض الامة رديف لصون كرامة ابنائها ورفض لتشويه شخصيتها.
لقرون عدة عاشت غالبية أمم اوروبا ممزقة وتعاني من هيمنة الدول العظمى والامبراطوريات، او رزحت تحت إدارة الامراء والحكومات المحلية الباهتة والضعيفة. بعد قيام الثورة الفرنسية الكبرى 1789 سقطت خميرة الوعي القومي في عجينة الشعوب المقهورة واهتزت القيم القديمة وازدهر الفكر اللبرالي والتحرري وتوسع التعليم وفسحة الحرية، مما اسهم في ازدياد الحماس والتصميم على البحث عن هوية الامة وتأكيد الذات الوطنية. بالرغم من الطابع الاستحواذي لحروب نابليون بونابرت، حركت المعارك التي خاضتها جيوشه المشاعر القومية في العديد من البلدان. في انعطافة تاريخية لاحقة استثمرت الطبقة الوسطى الناهضة فترة اندلاع ثورات ربيع الشعوب منتصف القرن التاسع عشر وجعلتها فرصة لتحفيز الجماهير واقناعها بأن المطالب السياسية والاقتصادية مرتبطة عضوياً بتحقيق التطلعات القومية والتحرر الوطني، وان العلاقات التي تربط المجتمعات المختلفة اقل اهمية من تلك التي تربط ابناء الامة الواحدة. بالإضافة لهذا، اطلقت الطبقة الوسطى نداء ( الامة في خطر ) والذي نال مباركة العديد من كبار موظفي الدولة والشرائح اللبرالية المثقفة واساتذة الجامعات وبعض ارباب المال والصناعة. ولتأكيد هذا النهج قدم مالكي السفن واصحاب المصارف في جنوة مبالغ كبيرة لدعم الثورة المسلحة الساعية لتوحيد دويلات ايطاليا لأنهم اعتقدوا بأن وحدة الامة تؤدي الى انعاش الصناعة الوطنية وازدهار الاقتصاد عموماً.
في خضم التطورات التي شهدتها اوروبا، انبثقت الحركات والتيارات السياسية التي سعت لإنقاذ الامة من الهيمنة الاجنبية او لتوحيد اجزائها واعادة صياغتها بطابعها القومي الخاص بها. بالنتيجة، انفصلت بلجيكا عن هولندا وانقذت اقتصادها بعد ان التقت المشاعر القومية مع المصالح الوطنية، وكذلك انفصلت النرويج عن السويد بقصد تأكيد هويتها. في شرق اوروبا انتفضت التشيك من اجل تأكيد ذاتها القومية وانقاذ نفسها من براثن الاحتلال النمساوي، وثارت بولندا لقلع مخالب امبراطورية روسيا القيصرية وبروسيا والنمسا التي كانت تنهش في جسدها. بالرغم من اعتبار هنغاريا آنذاك جزءاً مكملاً لإمبراطورية النمسا، تمردت وفضلت الابوة الشرعية وابراز كيانها القومي المستقل.
في الوقت الذي بقيت المسألة القومية خاملة وغير متحفّزة في بعض دول اوروبا بسبب الظروف الداخلية وانتشار الامية والجهل، نشطت وتحركت في دول اخرى على يد دعاة الفكر القومي والطلائع السياسية. نهض في المانيا زيبن بفايفر ( Sieben Pfeifer ) سنة 1832 وتطلع الى رؤية بلاده موحدة تقف على اعمدة الحرية والعدالة وتحمل بإحدى يديها المشعل الذي ينشر ضياء الحضارة الى ابعد ركن في المعمورة وتحمل في يدها الاخرى الميزان الذي يمكنها من فض النزاعات الدولية وتسوية الخصومات. في ايطاليا ايقظ الثائر مازيني ( Mazzini ) ( 1872 – 1805 ) الحس القومي واسس حركة الشباب التي كافحت لتوحيد ممالك ودويلات البلاد تحت نظام جمهوري. مهدت تلك الحركة لظهور تنظيم بولندا الفتاة وايرلندا الفتاة وتشيكا الفتاة وغيرها والتي حملت البيارق ذات الالوان الثلاثة الموحدة ( الاسود والاحمر والاصفر ) وجعلتها رمزاً مشتركاً للأمم الناهضة. في تلك المرحلة من تبلور التوجهات القومية في اوروبا ساد جو من التفاهم والتعاون، مما دفع تنظيمات اوروبا الفتاة الى اصدار لائحة سنة 1834 التي نصت احدى فقراتها على ما يلي : ( تحمل كل امة رسالة خاصة بها تستطيع من خلالها التعبير عن ذاتها وتحقيق تطلعاتها القومية المقدسة، لكنها في الوقت ذاته عليها ان تتعاون مع الامم الاخرى بغية انجاز رسالة انسانية مشتركة ). بالنتيجة، سادت اذبان القرن التاسع عشر القناعات لرسم خارطة جديدة تنظم شعوب اوروبا ودولها على اساس الجغرافيا الوطنية والظروف التي تميز الامم عن بعضها من ناحية تراكم التجارب التاريخية والواقع الاقتصادي والحضاري والثقافي وربما اللغوي، بالإضافة الى التماسك المجتمعي. الى جانب تلك التيارات القومية انبثقت التنظيمات ذات الاهتمامات الاممية على يد المنفيين والهاربين اليساريين والاشتراكيين من دول مختلفة، وخاصة عندما اشتد نشاطهم في دول ذات شأن، مثل بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وسويسرا.
بالرغم من المشتركات التي جمعت الامم المقهورة او الممزقة اطلت الخلافات برأسها وظهرت التباينات في الاهداف، وخاصة عندما برز الفكر القومي المتطرف وتبنى مشروع ايلاء الامة دورها التاريخي المتميز في قيادة الامم الاخرى او احتوائها. في هذا النهج اعتبر حملة الفكر القومي المتطرف الاخوة والمساوات بين الشعوب مجرد كلمات جميلة لا مكان لها على ارض الواقع، لأن صوت القوة والفعل اعلى من صوت الكلمات. بالإضافة لهذا، خاب ظن الشعوب بفرنسا، عرين الثورة العالمية، ولا سيما عندما ادارت ظهرها للأمم المقهورة وانحازت للامبراطوريات وتحولت الى دولة استحواذية. ومع ذلك بقيت مبادىء الثورة الفرنسية ملهماً للحركات القومية واستمرت باريس ملاذاً وايقونة للثوار الهاربين من اوطانهم. لم تستطع بعض التيارات القومية تنقية نفسها من التوجهات المتطرفة ونزعة الاستعلاء العرقي، ولا سيما عندما نجح دهاقنة الفكر القومي في الهام الجماهير وتأجيج مشاعرها بخصوص دور الامة الناهضة في تأدية الرسالة المناطة بها. آل نهوض وتوحيد بعض الامم الممزقة الى توسيع شكيمة الدولة على حساب حقوق وحرية المواطن والى بروز نزعة الاستعلاء القومي او العرقي التي سعت للتقليل من شأن بقية الاقوام، مما احال تلك الدول الى حصون للتعصب. في الوقت الذي اعتبرت تطلعات الامم المقهورة لإثبات هويتها نقطة مضيئة وانجازاً انسانياً، اندلعت الحروب الطاحنة والواسعة على خلفية المغالات بالكبرياء القومية او العرقية، وتأسست كيانات سياسية متطرفة تنبنى التوجهات الشوفينية (الإستعلائية) وتمارس التطهير العرقي وطمس هوية الآخرين. في هذا السياق اساء دعاة التفوق العرقي لنظرية عالم البيولوجيا، داروين في الارتقاء والتطور والبقاء للأصلح وسعوا لتبوء امتهم موقعاً متميزاً وريادياً واحتوائياً لبقية الامم والشعوب. من جانبه استثمر نابليون بونابرت نهوض الامة الفرنسية واسس نظاماً دكتاتورياً عسكرياً واعطى المشروعية لحروبه الاستحواذية تحت ذريعة نشر مبادىء الثورة وانجاز رسالتها الانسانية. بعد ان توحدت الولايات الالمانية بسبب يقظة الحس القومي واتّباع الاجراءات العسكرية الصارمة، تحولت تلك البلاد الى دولة عظمى وقوة تسعى للتوسع واذلال الشعوب الاخرى، مما دفع رمز الوحدة، اوتو بسمارك، الى ضم المناطق الحدودية المتنازع عليها مع فرنسا بالقوة وفرض الامر الواقع. مهدت تلك الخطوة لتحفيز شعور التفوق العرقي عند الجيرمان قبل نشوب الحرب العالمية الاولى، وبالتحديد في عهد الامبراطور وليم الثاني ( 1941 – 1859 ) وتهيأت المناخات لترعرع الفكر النازي في فترة لاحقة. لم تكن تجربة نهوض الامة الايطالية وتوحيد دويلاتها خالية من الافرازات السلبية ونمو الكبرياء القومية المتطرفة. بعد توحيد تلك الدويلات نهضت ايطاليا عسكرياً واقتصادياً وتمهدت الظروف لإقامة الدعامات لجسر سارت عليه القاطرة التي حملت مؤسسي الدولة الفاشية. في ظروف متقاربة ادى استقلال الولايات المتحدة الامريكية عن بريطانيا ونهوضها الى ترعرع الرغبة في التوسع وضم العديد من الولايات بالكيان الاصلي عن طريق الشراء القسري او التلويح بالعصا الغليضة، مما احال بلاد العم سام الى أمة تمارس دوراً استحواذياً واحتوائياً في العالم.
في حالات اخرى حركت العقيدة الدينية او الانتماء المذهبي المشاعر والهبت الحماس لتأكيد هوية الامة، وكما حصل في ايرلندا الكاثوليكية التي انتفضت ضد التسلط الانجليزي الانكليكاني. في سياق مشابه الى درجة ما كافحت شعوب البلقان بمرارة للحفاظ على هويتها القومية والدينية وصيانتها من تأثيرات الهيمنة العثمانية المختلفة عنها في العقيدة. بالرغم من تحرر تلك الشعوب وقيام يوغوسلافيا المستقلة، برزت بين مكوناتها الاثنية نزعة التطرف واحتواء الطرف الاقوى للأضعف بغية طمس هويته او صهره. وللتدليل على ذلك مارست القومية الصربية الاضطهاد وشنت حملات التطهير العرقي لبقية المكونات.
لا تسري التطورات والنتائج السلبية لإنبثاق الوعي القومي ونهوض الامة على جميع تجارب الشعوب التي سعت لتأكيد ذاتها. بهذا الاتجاه تحول كفاح اليونان لإزاحة نير الهيمنة التركية الى الاسطورة والنموذج الذي الهم الحركات القومية التحررية في جنوب شرق قارة اوروبا. وفي حالات مماثلة ادى اذكاء الحس القومي الى بروز تيارات سياسية وطنية حققت الاستقلال وازاحت الهيمنة الاجنبية واسست كيانات قومية ناحجة، كما حصل في بولندا وهنغاريا وتشيكيا وبلغاريا والبانيا وعند انفصال الدنمارك عن هولندا والنوريج عن السويد.
في الوطن العربي تأخر انبثاق الحس القومي والحراك الجماهيري للبحث عن هوية الامة. لكن بعد بضعة عقود، وصلت اولى شعاعات النهوض القومي التي انبعثت في اوروبا الفتاة، ومن ثم تركيا الفتاة الى بعض الدول العربية وحركت المشاعر ضد الهيمنة الاجنبية. كانت مصر البلد الاول الذي تجاوب مع رواج الوعي القومي، ولا سيما بعد فترة احتلال نابليون لها عام 1801. وفي مرحلة لاحقة، أعلن الوالي محمد علي باشا ( 1822 – 1741 ) الاستقلال عن الباب العالي وأسّس دولة وطنية تتبنى بعض جوانب الاسلوب الغربي في الادارة، مما اسهم في انضاج مفهوم تأكيد هوية الامة. مطلع القرن العشرين تحركت فصائل من النخب الاكاديمية العربية وطلبة الدراسات في اوروبا لبعث الوعي ليس فقط للكفاح ضد الهيمنة الاجنبية، بل وإنهاض الامة لكي تأخذ المكان اللائق تحت الشمس. في هذا الخصوص لا يمكن تجاهل دور الحركات الجهادية المسلحة ضد الوجود الاجنبي والتي هيأت لها وقادتها الزعامات القبلية التقليدية. خلال عملية تبلور الفكر القومي وتحديد مساراته في الاقطار العربية، برز على الساحة السياسية تياران رئيسيان قاد احدهما المتثقفون الذين تأثروا بأيديولوجية امم اوروبا وبما يخص تأكيد الهوية وسعوا لبعث الوعي والحماس بغية تحرير الاوطان وتوحيدها تحت ظل دولة قومية واحدة. واستظل التيار الثاني بمظلة الدين وتبنى العقائد المذهبية كوسيلة لتأكيد هوية الامة او القوم، مثل الوهابية في السعودية والسنوسية في ليبيا، بالإضافة الى طروحات الاخوان المسلمين في غالبية الدول العربية.
عندما حصلت الانقلابات العسكرية والتغيرات السلطوية في العديد من الدول العربية خلال النصف الاول من القرن الماضي، تشبثت معظمها بالتطلعات القومية وتأكيد هوية الامة، مما مكنها من استقطاب التأييد والتعاطف المعتبر، وخاصة عندما تبنت هدف تحرير الارض المحتلة من قبل الاستيطان اليهودي الصهيوني. في مصر، وبالتحديد سنة 1952، حصل التغيير السياسي بقيادة مجموعة من الضباط، وتتوجت التجربة بإستحواذ التيار الناصري الذي جعل من زعيمه ( جمال ) رمزاً لتوحيد الاقطار العربية. في اجواء الحماس والثورية الرومانسية، طرح جمال عبد الناصر مشروعه الايديولوجي بخصوص تأكيد الذات القومية وقيام الوحدة العربية. بالنتيجة، نهضت اوساط معتبرة من الجماهير وهي تحت سحر الكلمة، وطالبت بتغير انظمتها القطرية وفسح المجال للالتحاق بالقلب النابض في القاهرة.
لم يكن التيار الناصري التنظيم الوحيد الذي اعطى الوعي القومي زخماً وأمده بالحياة وانعش الآمال بتحقيق الوحدة العربية، بل سبقه احزاب وحركات تبنت الايديولوجيا القومية والتأكيد على هوية الامة الواحدة. انتهجت تلك الحركات اسلوب الانقلابات ورفع الشعارات الديماغوجية الى جانب استخدام العنف مما جعل المؤمنين بالوحدة القومية ليس مجرد سياسيين ايديولوجيين، بل مجاهدين يحملون رسالة توحيد الامة. في حالات كثيرة تحولت التطلعات القومية الى توجهات متطرفة، ولا سيما عندما طغت النزعة الاستحواذية في بلد يسعى للالحاق القسري لبلد آخر تحت ذريعة انجاز الامة لرسالتها الخالدة. مهدت تلك التوجهات لاستفحال العداء بين الاقطار العربية، وخلقت محاور يخاصم احدها الآخر، بالإضافة الى تفجر الصراعات السياسية والحزبية داخل البلد الواحد. بالنتيجة، تزعزعت الجبهة الداخلية وانقسم المجتمع وانعدم الاستقرار وتلكأ تطبيق برامج التنمية وتطوير البنى التحتية. لم تقتصر الممارسات الخاطئة على هذا المستوى، اذ اوغلت التيارات القومية العربية في طمس هوية بقية المكونات الاثنية داخل البلد الواحد، وسعت الى انكار وجود بعضها او حاولت صهرها وتعريبها بقصد احداث تغييرات ديموغرافية لصالح القومية الكبرى.
كما سبق ذكره، لقد لعب نهوض الوعي القومي لأمم اوروبا دوراً مركزياً وأضاف زخماً لثورات ربيع الشعوب، ولا سيما حينما لامس المشاعر المشتركة لأبناء الشعب الواحد الذي اعتز بهوية الانتماء وافتخر بما يكتنزه من موروثات تخص التقاليد والحضارة والثقافة والترابط المجتمعي واللغة الواحدة. من المعروف ان كارل ماركس ساهم بجهود فكرية وتوعوية وتعبوية في ذلك الخضم وتعاطف مع قضايا العمال والشرائح الفقيرة وتفهم مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية، وعارض الميول الجيرمانية التي سعت الى جرمنة بعض الاقوام السلافية. ايد ماركس الحركات القومية والتحررية التي انطلقت في بولندا وهنغاريا وبوهيميا وايطاليا والمانيا وفنلندا واليونان ودول البلقان، لكن وثيقة البيان الشيوعي التي اصدرها سنة 1848 لم تعط التطلعات القومية تلك الاهمية المركزية التي اولاها اياها دعاة الفكر القومي من الطبقة الوسطى. في هذا الخصوص انتقد ماركس في الادبيات الاشتراكية دعاة الفكر القومي المنعزل وآثر دور التضامن الاممي للطبقة العاملة، لأنه اعتقد بأن رفع وتيرة التوجهات القومية يصب في مصلحة النظام الرأسمالي، ويضعف زخم الحركات العمالية ويبعدها عن هدفها المركزي للإطاحة بهذا النظام. واختلف حتى مع بعض الاشتراكيين عندما آمن بأن تحرير الامم ونهوضها الحقيقي مرهون فقط بنجاح الثورة العمالية وقيام الاشتراكية، وليس بتأسيس كيانات وطنية او قومية برجوازية. في هذا السياق اعتبر طروحات الفكر القومي بدعة يستخدمها الرأسمالييون لتخدير المستغَلين والهائهم عن قضيتهم الجوهرية. ولتوضيح مقاصده نشر في الادبيات الاشتراكية بأن النظام الرأسمالي لا يملك الجنسية الفرنسية او الانجليزية او الالمانية او غيرها، بل جنسيته العمل الاستعبادي وشراء جهد العامل مجاناً، مما ينبغي على الطبقة العاملة تهيئة نفسها للنضال الأممي وتجاوز الحدود الجغرافية والخصوصيات العرقية او الحضارية. خلال استقرائه الشخصي لحركة التاريخ اصر ماركس على حتمية انتصار التوجهات الاممية على الفكر القومي البرجوازي.
من جانبهم، اعتقد دعاة التوجهات القومية بأن يكون الوطن الحضن الخاص لشعبه وهوية تميزه عن بقية الامم في تقاليده وفنه وحضارته وتاريخه وواقعه الاقتصادي والجغرافي. وفي هذا الحضن يعبر الفرد عن ذاته المعنوية ويتوفر له الأمان والهوية الاعتبارية. تفاءل مروجو الايديولوجيا القومية بإمكانية تحقيق التطور الاقتصادي والنجاح السياسي لكل شعب على طريقته الخاصة، وفي الوقت ذاته ترفد تجربته بحر الانسانية بالماء الذي يروى الارض عموماً. استعان هؤلاء بفرضية اعادة تنظيم القارة الاوروبية على شكل دول وطنية او قومية تستقي مشروعيتها من ترابطها الاجتماعي وواقعها الاقتصادي وخصائصها الثقافية واللغوية ومن عوامل التاريخ والجغرافيا.
في أجواء الانعطافات والتبلور السياسي وتخمر الافكار في اوروبا، تعارضت توجهات دعاة الفكر القومي مع طروحات الاشتراكيين الامميين، لأن الفصيل الاول سعى لتأسيس كيانات وطنية او قومية مستقلة، في الوقت الذي اعطى الفصيل الثاني الاولوية لمعالجة مشكلات الشرائح الفقيرة وتحسين اوضاع الطبقة العاملة واتاحة الفرصة امامها لأداء رسالتها في قيادة المجتمع وادارة الدولة. في المانيا، تبنى زعيم توحيد ولاياتها اوتو بسمارك ( 1898 – 1815 ) الفكر القومي واعتبر الاشتراكيين الامميين اعداء الوطن وحجر عثرة امام نهوض الامبراطورية الجيرمانية. ورفض ان تكون بلاده ارضاً تتصارع فيها الايديولوجيات، بل ان تبقى متماسكة ومستقرة سياسياً ومتطورة صناعياً وعسكرياً كي تلعب دوراً مركزياً في رسم خارطة العالم الجيوسياسية.
منذ قرون ضمت ارض روسيا القيصرية إثنيات واقوام ولغات وعقائد دينية متنوعة، لكن بقي للمكون الروسي الموقع المتميز الذي يمكنه من احتواء وقيادة بقية الشعوب. في تلك الظروف عانى ابناء القوميات الصغرى من التهميش والاضطهاد والقهر، مما دفعهم الى التمرد والثورة بغية الحفاظ على الهوية والخصوصيات الثقافية والعقائدية. فشلت تلك الإنتفاضات في تحقيق التطلعات القومية، مما دفع طلائعها الى الانخراط بالحركات الثورية اليسارية الناهضة التي نصت اهدافها على حق تقرير المصير للشعوب وحتى حقها بالانفصال. في هذا الخصوص، نجح تثقيف الرعيل الاول من الشيوعيين الروس في استقطاب تأييد قطاعات واسعة من الاثنيات المهمشة والمغمورة، ولا سيما عندما وعد فلاديمير لينين قبل تفجر ثورة اكتوبر الاشتراكية بمنح كافة الاقوام حق تقرير المصير والانفصال ان شاءت ذلك. بالنتيجة، قفزت جماهير معتبرة من شعوب الاثنيات الصغيرة الى عربة الثورة البولشفية يحذوها الامل بإنفتاح الفرصة التاريخية امامها لإزاحة النير الروسي والحصول على الموقع الطبيعي بين الامم. لكن الاحداث اللاحقة وبعد رسوخ اقدام الدولة السوفيتية الاشتراكية، لم تظهر واقعية نصوص الاديولوجيا ونجاحها في تحقيق التطلعات القومية للأثنيات. اعتبر رمز الثورة، لينبن، اي اعتراض او تمرد يصدر من المكونات القومية انحراف عن المبادىء وخيانة لقضية الطبقة العاملة وللاشتراكية وانجرار وراء الثورة المضادة وعملاء الاجنبي. استغل مناهضو النظام السوفيتي انقلاب لينين على الوعود واستقطبوا شرائح واسعة من ابناء المكونات غير الروسية واجّجوا اوار الحرب الاهلية. في تلك الانعطافات وقعت السلطة السوفيتية في مواجهة مع قطاعات مجتمعية معتبرة في حجمها وتأثيرها، مما احرج النظام الاشتراكي اليافع واربك مسيرته منذ البداية. في فترة طغيان السلطة الستالينية وتحت ذريعة حماية انجازات ثورة البلاشفة تعرضت الاقوام المتمردة لحملات الترحيل الجماعي واعادة التوطين في مناطق نائية مثل سيبيريا وكازاخستان. اوغل ستالين بكسر ارادة الشعوب العاقة ( من وجهة نظره ) وسحق مشاعرها ومارس التطهير العرقي الى درجة ما، مما خلق ديمغرافية جديدة وواقعاً مجتمعياً مشوهاً. بدلاً من انصاف الاقوام المغمورة، تعرضت للتنكيل وطمس الهوية، وفرضت الروسية لغة رسمية في كافة مقاطعات وجمهوريات الاتحاد السوفيتي، مما ابقى الاستعلاء القومي عند الروس سمة ظاهرة. من جانبها، حولت اجهزة الدعاية المؤثرة ووسائل التثقيف الحزبية اجراءات السلطة السوفيتية الى انجازات هائلة للنظام الاشتراكي وللإنسانية.
عند استقراء التوجهات الجمعية للأمم والاقوام يتبين ان تلقين الانسان النصوص الايديولوجية واحاطته بشعارات الاخوة بين عمال العالم وشعوبه لا تجرده من مشاعر الانتماء القومي او ربما العشائري او الاعتزاز بمكون الاثني والمغالاة بذلك ان سنحت الفرصة، مما ابقى الطروحات الماركسية الانسانية مجرد تمنيات ونوايا طيبة لا تلقى التربة الخصبة للنماء. لتأكيد هذه الحالة، لا بدّ من ذكر الاخفاقات التي جابهها الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا لعقود عديدة تحت ظل النظام الاشتراكي في معالجة الميول الشوفينية وظاهرة الاستعلاء القومي عند المكون المجتمعي الكبير، مما اثار السخط والحنق والمرارة في نفوس الاقوام الصغيرة وتحينت الفرصة للإنتفاض وتأكيد الهوية وصيانة الخصوصيات الثقافية والمذهبية واللغوية. لقد تلاشى بريق المشاريع الاممية الطوباوية، واختفت الشعارات الجميلة والساحرية خلف دخان المعارك، وخفتت اصوات السياسيين الديماغوجيين امام لعلعة رصاص البنادق اثناء الحروب الاهلية والتهب سعير التطرف العرقي عند الطرف القوي والمهيمن وانتقضت روح الثورة في خندق القومية المهمشة والمقهورة.
الفصل الثالث
آمال اليائسين والبائسين تنعقد على روسيا السوفيتية
فلاديمير لينين وثورة البلاشفة
الى اواخر القرن التاسع عشر كانت روسيا القيصرية متخلفة اجتماعياً وسياسياً بالمقارنة مع دول غرب اوروبا وامريكا الشمالية، ولا سيما عندما تذوقت مرارة اندحارها في حرب القرم ( 1854 – 1856 ) ضد بريطانيا وفرنسا والامبراطورية العثمانية، واختزنت في ذاكرتها الآثار السلبية لحربها مع اليابان سنة 1904. اعتمد الاقتصاد الروسي آنذاك بالدرجة الاولى على الزراعة بسبب قلة المصانع وضعف كفاءة الصناعة، ولم تكن معظم القوى المنتجة شغيلة تدير الماكنة، بل فلاحين اجراء يزرعون ويحصدون لقاء نسبة قليلة من الناتج. واديرت مؤسسات الدولة بأسلوب بيروقراطي فاشل وفي ظل قيصر اوتوقراطي تربّع على قمة هرم السلطة وأطلق يد طبقة النبلاء والاقطاعيين للتمتع بالإمتيازات، في الوقت الذي ادار ظهره لغالبية المواطنين وتجاهل اوضاعهم المأساوية.
شعر قيصر روسيا، نيقولا الاول ( 1854 – 1796 ) ان رياح ثورات ربيع اوروبا قوية ومؤثرة ليس بسبب قوة الثوار وتأييد الجماهير، بل لضعف الملوك والحكومات وتهاونهم في ردع الغوغاء والرعاع وسحق انتفاضاتهم ( حسب رأيه ). وحينما تغلب عليه تكابره، دعا حكومة بريطانيا لعقد حلف ثنائي بإعتبار البلدين في مأمن من ثورات الربيع وخارج نطاق تأثيراتها. من اجل كسر شوكة المعارضين وكخطوة استباقية التجأ نيقولا الى العنف لخنق اي تحرك جماهيري او نشاط يشم منه رائحة الثورة، ومارس سياسة الترحيل الى سيبيريا واودع الآلاف في المعتقلات وطبق اسلوب الترويع والعقوبات الجسدية والجلد المبرح. وبقصد وأد حرية التفكير والتعبير وتكميم الافواه المعترضة، امر القيصر بغلق المنتديات الثقافية والاجتماعية واعتبر المفكرين المتنورين واللبراليين مصدر خطر ينفث السموم ويفسد العقول، واصدر التعليمات بتشديد الرقابة على الصحف وعلى كل مشتبه به. بالإضافة لكل هذا، اتخذت الخطوات الضرورية لترصين اركان الدولة وزيادة هيبة رمزها، مما تطلب اعتبار القيصر مفوضاً من عند الله وقائماً على رأس الكنيسة المسيحية الارثودوكسية وينبغي على الرعية اطاعته.
بالرغم من كل انواع البطش والتنكيل، انفجرت الثورة في روسيا في كانون الاول ( ديسمبر ) 1825، لكنها فشلت بسبب الارتباك وغياب القيادة المقتدرة، مما سهل الامر للقيصر آنذاك سحقها واعدام قادتها مع العشرات من المشاركين فيها ونفي الآلاف الى سيبيريا. اظهرت تلك الاحداث ان روسيا خارج الحضارة الانسانية وبعيدة عن مبادىء حرية الرأي وتطبيق العدالة واحترام كرامة الانسان التي بدأت تترعرع وتسود نسبياً في غرب اوروبا. وبقصد زرع الرعب والشكوك ومنع حصول المناقشات السياسية او اطلاق المظاهرات زرعت الدولة شرطتها السرية في كل زاوية من البلاد، لكن في الوقت ذاته استفحلت الجريمة المنظمة والاغتيالات. في ضوء تلك الظروف المعقدة، رأت النخبة الراديكالية واليسارية نفسها ناطقة بإسم ضمير الشعب ومعبرة عن آماله وتطلعاته للتغيير، وحملت على عاتقها مهمة تحفيز وعي الجماهير ومشاعرها واعدادها للثورة. استعان هؤلاء الثوريون بتقاليد الشعوب السلافية وإرثها الثقافي وغزارة حب الحياة والعطاء عندها، مما يؤهلها لريادة اوروبا المستقبل. في تلك الاجواء الموسومة بالرومانسية، الى درجة ما، اعتقدت النخبة الايديولوجية الناهضة بأن المجتمع الروسي ناضج للثورة الراديكالية التي تدشن حقبة جديدة تنعم فيها البشرية بإنتهاء القهر والحرمان والحروب وكافة اشكال الاستغلال.
في خضم ازدياد القناعة بضرورة الاعداد لثورة التغيير الجذري، برز طالب المحاماة فلاديمير لينين ( 1924 – 1870 ) الذي كان يميل للحياة الهادئة، لكنه سرعان ما انقلب على ذلك النمط من الشخصية بعد اعدام شقيقه اوليانوف اثر ادانته بمحاولة اغتيال القيصر الكسندر الثاني. عند ذلك المنعطف تغيرت حياة لينين واتسمت شخصيته الجديدة بالثورية وانكب على دراسة مؤلفات كارل ماركس وفردريك انجلز وآمن بالايديولوجية الشيوعية وتبنى مشروع ثورة العمال الراديكالية. اهم ما تأثر به لينين وجلب انتباهه ونال اعجابه من تلك المؤلفات كان مفهوم الصراع الطبقي ودوره في تحريك عجلة التاريخ وامكانية حسم الصراع بين المستغِل والمستغَل عن طريق الثورة العنفية واستخدام كافة الوسائل بغية تحقيق الهدف المنشود. عارض لينين التهادن والتصالح مع العدو البرجوازي وانتقد القيم الرأسمالية وديمقراطيتها، وكذلك الحياة البرلمانية التقليدية. في هذا السياق وجه انتقاداً لاذعاً وهاجم الاشتراكي الاصلاحي الالماني بيرن شتاين وعلى امثاله الذي آثروا الطرق السلمية للاصلاح والانتقال الى النظام الاشتراكي. وتبنى الاسلوب الميكافيلي واعترض على الاخلاقيات التي سبق ودعا اليها الفيلسوف الالماني كانت ( Kant ) ( 1724 – 1804 ) الذي رفض مبدأ ( الغاية تبرر الوسيلة ). لم يكتف لينين بالانتقاد، بل سخر من الاصلاحيين واتهمهم بالسذاجة والمثالية، لأنه شخصياً آمن بالعنف كوسيلة لنجاح الثورة، وقال في هذا الخصوص ان تحضير وجبة البيض المخفوق ( الاومليت ) لا تتم دون كسر البيض، اي تهشيم الجماجم. اعتبر لينين طروحات الاشتراكيين الاصلاحيين هرطقة فكرية وخيانة للايديولوجيا الماركسية، واصرّ على ضرورة قيادة الشيوعيين للعمال بغية انهاض وعيهم الطبقي وتعبئتهم لإنتزاع السلطة من الطبقة الرأسمالية بالقوة. واردف بأن مصالح الطبقة العاملة لا يحققها نظريون متخاذلون ومتحذلقون، بل ثوريون محترفون وواعون لدورهم التاريخي. طالت انتقادات لينين بعض قادة الحركة الشيوعية العالمية، ومنهم الالمانية روزا لوكسمبورغ. بالرغم من كون تلك المرأة ماركسية متحمسة وداعية للثورة الاشتراكية في بلدها، انتقدت البربرية التي انتهجها البولشفيك في الاتحاد السوفيتي بعد ثورة اكتوبر 1917. من طروحات روزا ان الحرية تتحول الى العبودية عندما تحتكرها سلطة الحزب او النخبة الحاكمة لنفسها. وان الحرية الحقيقية هي تلك التي يمارسها المقهور والمعارض، وتفقد مضمونها عندما تقتصر ايجابياتها على الطبقة السياسية الحاكمة.
قبل قيام وفشل الثورة البلوريتارية في المانيا سنة 1918، حذّرت روزا لوكسمبورغ كقائدة شيوعية، من مغبة غياب الحرية لأن في حالة الغاء الانتخابات النيابية وحجب الصحافة الحرة وغير المقيدة والضغط على حرية الرأي والمناقشة تموت الحياة في مؤسسات الدولة وتنتعش البيروقراطية ويستشري الفساد. لم تستطع روزا من اخفاء شكوكها بخصوص تعارض دكتاتورية البلوريتاريا مع الحياة البرلمانية التقليدية التي اعتبرها الشيوعيون سلاحاً بيد الرأسمالية لإضفاء الشرعية على نظامها. بعد اعدام روزا لوكسمبورغ غداة فشل الثورة العمالية في المانيا 1918، قارنها لينين مع النسر والدجاجة لأنها ( حسب رأيه ) تحوم احياناً في الاعالي، واحياناً اخرى لا تتمكن من التحليق والطيران أعلى مما تفعله الدجاجة.
يعترف لينين بأن الثورة البولشفية مشروع عنفي يصاحبه المآسي وتسيل على طريقه الدماء لأن الثائر يصوب ضرباته على رأس عدوه الطبقي من دون شفقة. ولكي يكون عملياً ووفياً للماركسية واميناً على ترجمة مفاهيمها، أسّس لينين حزباً عمالياً جماهيرياً منضبطاً يستند على قواعد صارمة تتسم بالسرية الشديدة، وجعله منغلقاً وغير شفاف، ولا سيما بعد ان انشق عن الحزب الديمقراطي الاشتراكي سنة 1903 وشكل مجموعة البولشفيك اي الاغلبية. تبنى حزب لينين البولشفي مفهوم الثورة العمالية واستعان بما يكتنزه التقليد الروسي الذي يؤمن بأن الثائر لا ينبغي ان يمتلك المشاعر الرقيقة او المقتنيات المادية، لأن عالمه وممتلكاته هي الثورة التي تدمر اركان ومؤسسات النظام القائم.
احدثت الحرب العالمية الاولى فراغاً سياسياً وامنياً في اوروبا وهددت البنية الديمقراطية اليافعة. في الوقت الذي تراجعت النظم الاعتدالية وانحسرت هيبة التيارات اللبرالية، نهضت الايديولوجيات الراديكالية ونشطت التوجهات الشوفينية الى جانب الهيجان الجماهيري، ولا سيما بعد ان قدمت البشرية الملايين من الضحايا ووقعت فريسة الضياع واليأس وبين مخالب المجاعة. في الجبهة اليسارية او الثورية لم تكن كافة تياراتها متوافقة في منطلقاتها ومواقعها تجاه استخدام العنف واحداث التحولات الراديكالية لصالح طبقة العمال. من التيارات التي برزت في مجال تعبئة العمال وتحفيزهم للمطالبة بحقوقهم كانت اتحادات نقابات العمال في بريطانيا والتنظيمات البرودونية الفوضوية والاشتراكيين البلانكيين في فرنسا والاشتراكيين الديمقراطيين في المانيا. اما روسيا، وبالرغم من السخط والحنق اللذان عما كل ارجائها عند انتهاء الحرب الاولى، كانت غير ناضجة لإطلاق ثورة عمالية راديكالية وللأسباب التالية: اولاً : ضعف وصغر حجم الطبقة العاملة وقلة تجاربها في الادارة والتنظيم. ثانياً : حسب المفهوم الماركسي لا يمكن اطلاق ثورة اشتراكية بشريحة واسعة من الفلاحين وفقراء المزارعين، لأن الماركسية تعتبر الفلاحين شريحة متخلفة وانانية ومحبة للتملك الفردي ومؤمنة بالخرافات والشعوذة وغارقة في المعتقدات الدينية المتوارثة. لكن لينين اصر على إمكانية الحزب الشيوعي البولشفي من تعبئة البلوريتاريا الروسية وتنظيمها وتحريضها للثورة. واعتقد بنجاح التجربة طالما يمثل الحزب مصالح طبقة العمال ويضع على عاتقه مهمة قيادتها وتوعيتها ومراقبتها. في تلك الذهنية الثورية انتقد لينين، لا بل وهاجم مواقف اتحاد نقابات العمال والاحزاب الاشتراكية الاصلاحية التي انفتحت على منظمات المجتمع المدني واقامت علاقات جيدة مع جمعيات التأمين والاسكان وشبكات الصحف والمجلات ودور النشر ومع النخب اللبرالية. وفي سبيل انجاح مشروعه كرّس لينين الانضباط الحديدي والصرامة والسرية والمركزية والطاعة للتسلسل الهرمي في الحزب، ورفض كل اشكال الاختلافات وتنوع الآراء او ظهور التيارات تحت ذريعة تنفيذ الطبقة العاملة لرسالتها في انقاذ البشرية من الشرور والظلم والاستغلال.
غداة انتهاء الحرب العالمية الاولى، لم يستطع قيصر روسيا، نيقولا، من ادارة الأزمة السياسية والاقتصادية، وفشل في تذليل محنة البلاد، مما مهد لقيام ثورة شباط الوطنية 1917 التي دعت الى الاصلاحات السياسية، وطالبت بإجراء انتخابات برلمانية حرة تحت ظل الحكم القيصري الدستوري. لكن البرجوازية الروسية وارستقراطيتها وجنرالات جيشها فشلوا بتأسيس نظام دولة ناجحة على انقاض الادارة السابقة. بالنتيجة، اصبحت روسيا على مفترق الطرق وامام خيارين، اما قيام دكتاتورية عسكرية، او السقوط في قبضة الاحزاب الراديكالية. شاءت الاقدار ومهدت الظروف الموضوعية لخمود جمرات شباط والتهاب نيران ثورة البولشفيك في برد اوكتوبر ( تشرين الاول )، وبالتحديد بعد عودة لينين من منفاه في سويسرا. حينها، صمم هذا الرجل الفريد على انتزاع السلطة من الحكومة الانتقالية المهزوزة وتدشين حقبة ثورة العمال بالرغم من المخاطر والكوارث التي قد تصاحب تلك الخطوة المتطرفة والمتسرعة. من جانبهم عبر المنشفيك، رفاق البارحة وخصوم اليوم للبولشفيك، عن رأيهم بأن تأسيس النظام السوفيتي في بلد متخلف مثل روسيا خطوة فاشلة ومجازفة غير محسوبة بدقة. لكن لينين تجاهل كل ذلك واستغل الفراغ السياسي وافرازات الانكسارات اثناء الحرب وتمكن من انتزاع السلطة بطريقة دراماتيكية. استثمرت قيادة البولشفيك شعور الحقد والنقمة التي اغتلت في نفوس مئات الآلاف من الجنود العائدين من جبهات القتال وهم جياع وشبه عراة. بعد ان ترك اولئك البائسين خلفهم التلال من جثث الضحايا، لاحقتهم صراخات وانين المصابين وهم يستغيثون ويطلبون اليد التي تضمد جراحاتهم. وظف لينين العواطف الملتهبة واستفحال ثقافة العنف واضافها الى التثقيف الديماغوجي بقصد سحر القلوب وتخدير العقول، واقنع المحبطين والجياع بأن ساعة الخلاص قد دنت لكي ينطلق المارد من اعماق جحيم النفس البشرية ويصلح كل ما هو فاسد وشرير. الى جانب هذا، استفاد البولشفيك من السخط عند الشعوب والاقوام التي رزحت تحت نير السلطة القيصرية المركزية، وتاقت الى التمتع بالحكم الذاتي وتطلّعت الى تحقيق حلمها في ظل الدولة السوفيتية. في تلك الاجواء طرح الشيوعيون السوفييت مشروعهم كنظام يضع حداً لبلاء الحروب ولكافة سلبيات الرأسمالية واستعبادها للعمال وظلم اقتصاد سوقها.
تمكنت مجموعة مؤمنة ومتعصبة ايديولوجيا ومنغلقة في تفكيرها ومنضبطة بدرجة عالية ومتفننة في استخدام الديماغوجية ورفع الشعارات وفرضت واقعاً سياسياً واجتماعياً غريباً على قطاعات معتبرة من النخب الثقافية والارستقراطية وعلى رجال الكنيسة وجنرالات الجيش وهيئات اركانه، لكنها في الوقت نفسه تمتعت بعلاقات دافئة مع العمال والفلاحين الفقراء ومع العديد من الشرائح الفكرية والادبية وتفهمت هموم ومعاناة المهمشين وكسبت تأييدها وتعاطفها. بسبب الظروف الكارثية في اوروبا آنذاك نال مشروع البلاشفة المقبولية العالمية الواسعة وانتشر صداه على بقاع الارض وانعقدت عليه الآمال في الخلاص، مما جعل الشعوب ترقص على نغمات ثورة اوكتوبر الاشتراكية مثلما سبق ورقصت على ايقاعات الفترة الروبسبرية اليعقوبية في فرنسا. لم يكن الطريق امام اقامة دكتاتورية البلوريتاريا مستوياً وسالكاً في امتداداته وآمناً عند نهاياته، لأن تعيين مجلس السوفييت تعارض مع الحياة البرلمانية المألوفة وان الديمقراطية عند لينين كانت الاطاحة القسرية بالنظام القائم والانقلاب على كافة تقاليده ومؤسساته واقامة دكتاتورية البلوريتاريا للثأر من المستغِلين واعلان الحرب المفتوحة على الاثرياء بغية خلق قيم وثقافة وعلاقات اقتصادية واجتماعية جديدة. منذ البداية، استفحلت الاخطاء والسلبيات في اداء اجهزة الدولة السوفيتية وسببت سيطرة مجالس العمال على المصانع وادارة الفلاحين للمزارع والتعاونيات فوضى في طريقة الانتاج وتوزيعه، مما ادى الى انخفاضه وتردي نوعيته. عندما سقطت اخلاقيات العمل وتقاليده وضوابطه، دبت الشكوك حول قدرة الحزب البولشفي وكفاءته على ادارة المجتمع والدولة، مما دفع المسؤولين الى تأسيس الميلشيات المسلحة وممارسة العنف ضد المعارضين والوقوف بوجه الظروف الحساسة والشاذة. بالتالي، وضع النظام السوفيتي نفسه، ومنذ ولادته، في مجابهة مع قطاعات واسعة من المواطنين. عندما طرحت الماركسية البولشفية نفسها نموذجاً وعلاجاً للمعضلات الاجتماعية ونظاماً سياسياً يطهر المجتمع من الطفيليين والمستغِلين، فهي مهدت لإدخال الإنسان في عبودية اختيارية يذيب الفرد خلالها ذاته لأنها عقبة امام تحقيق القفزة الجماعية الكبرى. بالإضافة لهذا، حول النظام المواطن الى جزء من الآلة الكبيرة وعرضه للفحص الدقيق والمستمر، واقام المحاكم الميدانية التي تصدر احكام الاعدام في معظم الحالات وتنفذها على الفور وفي الموقع بطريقة غير قانونية وغير انسانية. وهكذا، اندحر العقل الراجح والمنطق وانتصرت السادية والغرائزية، ولا سيما عندما حصدت الموجة الاولى من العنف المنظم ارواح الآلاف من الكوادر الفنية والعسكرية والفكرية والعلمية والاقتصادية ومن ذوي الميول اللبرالية ومن الروحانيين، بالإضافة الى الاثرياء وملاك الارض. سنة 1918 وبأمر من لينين شخصياً، تم اعدام القيصر، نيقولا، وكافة افراد عائلته الذين كانوا قد قبض عليهم واودعوا السجن غداة انتصار ثورة اكتوبر.
في اجواء التطرف وفورة العاطفة، استنبطت القيادة السوفيتية طريقة شاذة وهي اللجوء الى استئصال أجزاء من القدم لكي يناسب الحذاء الجديد، او بتر القدم وربط آخر اصطناعي من دون التفكير بإيجاد حذاء يلائم حجم القدم الاصلي، مما افقد المجتمع الروسي اجزاءاً من طاقاته المبدعة والفاعلة.
وبعد انقضاء فترة النشوة، انقلبت الاحلام الجميلة الى فانتازيا ( Phantasy ) ووقعت الجماهير بين مخالب الحيرة واهتزت آمالها واطلقت هتافات او صيحات مرتبكة وباستحياء وخشية وصرخت: ( يعيش لينين ويسقط ترودتسكي ) ( يعيش البولشفيك وتسقط الشيوعية ). دفعت الظروف اللا انسانية الاديب الروسي المعروف مكسيم غوركي والمتعاطف مع النظام السوفيتي الى الكتابة الى لينين لكي يشكوه لما يحصل بالبلاد من الممارسات الخاطئة والمهينة لكرامة الانسان. جاء في تلك الرسالة ما يلي: ( تكتسب الثورة القيمة الحقيقية والمعنى الايجابي عندما تشجع وترعى نمو الطاقات الكامنة في المجتمع، لكنها تعطي انطباعاً سيئاً عن نفسها عندما تدمر الطاقات الخيرة وتبتعد عن اكرام العلماء والمفكرين والمبدعين في كافة المجالات، ولا تستثمر قدراتهم من اجل البناء والارتقاء. حينما يقتصر هدفنا على انقاذ الجسد وضرب الرأس، نكون في الحالة هذه قد الحقنا الضرر الكبير بالدماغ ) انتهى الاقتطاف. من جانبه ردّ لينين على رسالة غوركي بقسوة وكتب الآتي: ( ان البرجوازيين ونخبهم الفكرية لا يمتلكون الدماغ، بل تحوي رؤوسهم القمامة والعفونة، مما ينبغي علينا انهاءهم بإعتبارهم اذرع الرأسمالية وابواقاً لها واعداء للثورة وخونة لقضية العمال ) انتهى الاقتباس. وهكذا، يعتبر رد لينين على غوركي اهانة وتحقيراً لشرائح من المجتمع، ولا سيما حينما وضعهم في مصاف الحشرات والبراغيث.
هزّت ممارسات ثوار اكتوبر ضمائر عدد من المفكرين الاشتراكيين الروس، ومنهم كاوتسكي الذي انتقد العنف غير المبرر من قبل البولشفيك بحق من اعتبروا فلول الثورة المضادة. لكن لينين رفض موقف كاوتسكي واتهمه بالارتداد والتخاذل، وشدد على ضرورة ممارسة العنف بغية احتثاث الاعداء الطبقيين، ومعارضي دكتاتورية البلوريتاريا. وبطريقة ايمانية مغلقة اوضح لينين بأن الحزب البولشفي يمتلك التصور والعقلية والفلسفة التي تجعله يستوعب الحاضر والمستقبل، وانه يمثل الحقيقة العلمية المطلقة التي تؤهله لإدارة المجتمع. ولم يعر الاهمية للتصرف المنضبط، لأن التاريخ ( حسب رأيه ) يولد ويصنع من جديد على يد الطبقة العاملة حتى وان كانت الولادة عسيرة او بعملية قيصرية. في الانعطافة التاريخية الخطيرة التزم الاشتراكي البارز كاوتسكي موقفه ورفع من حدة لهجته وانتقاداته لسياسة لينين، لأنه رأى بأن ثورة اكتوبر امام خيارين: اما انتهاج الديمقراطية واحترام كرامة الانسان والالتزام بالقيم والضوابط المعروفة، او الايغال بتأسيس الدكتاتورية تحت حماية الدولة البوليسية. يبدو ان العنف غداة الثورة البولشفية استقى غداءه من جذور تمتد لقرون ومنذ عهد القيصر ايفان الرهيب 1530 ومن موجات العنف التي رافقت ثورات الفلاحين المتتالية، ولا سيما سنة 1667 و 1773 التي اريقت خلالها دماء غزيرة امتزجت مع مياه نهر الفولفا ولونتها بالاحمر. الى جانب تلك الاحداث الداخلية لعبت احداث الثورة الفرنسية الكبرى وفترة العنف الروبسيرية وشظايا انتفاضة كومونة باريس العمالية 1871 دورها.
عشية اندلاع ثورة اكتوبر الاشتراكية، وعد لينين شعوب روسيا الاعتراف بحقها في تقرير مصيرها وحقها بالانفصال ان شاءت، مما دفع ابناء الاقوام من الاوكرانيين والارمن والاذريين والجيورجين والكازاخايين وغيرهم الى تأييد البولشفيك بحماس. لكن بعد رسوخ اقدام النظام السوفيتي انبرى لينين ونقض وعده واعتبر التطلعات القومية ودعوات الانفصال شيئاً من الماضي وخيانة لمصالح الطبقة العاملة واساءة للمبادىء الاممية ورافداً يصب في نهر الثورة المضادة. في الوقت الذي انفتح الشرخ بين السلطة السوفيتية وبين اوساط واسعة من الاقوام التي رزحت لقرون تحت الهيمنة القيصرية، راود لينين الامل، ليس فقط بإحتواء التطلعات القومية لتلك الشعوب، بل وبنشر لهب الثورة البولشفية لتلتهم ارض الدول الاوروبية التي شاركت في الحرب العالمية الاولى. في ذلك الاتجاه، نهض ساعده الايمن تروتسكي ودعا لإشعال حروب اهلية تمهد الطريق للطبقة العاملة ولطليعتها ( الحزب الشيوعي ) لتأسيس نظام جديد على الطريقة السوفيتية. اعتقد تروتسكي بأنه خلال الحروب الاهلية تأخذ الطبقة العاملة المبادرة لدحر الحرس القديم والاعداء الطبقيين قبل ان يتمكن هؤلاء من تسجيل اي انتصار.
لم تتحقق نبؤات قادة ثورة اكتوبر حول الثورة العمالية العالمية، لأن ما كان يسود في روسيا من ظروف اختلف عما في دول غرب اوروبا وان خصوصيات المجتمع وتراكم احداثه التاريخية زرعت الحقد الدفين والسخط الواسع في اعماق غالبية المواطنين ضد حكم القيصر المستبد والفاسد والمتخلف. في المانيا، وبعد سنة من انتهاء الحرب الاولى تقريباً، اشعل زعيما الحزب الشيوعي كارل ليبكنشت وروزا لوكسمبورغ ثورة عمالية وقدما برنامجاً سياسياً وتصوراً لإدارة البلاد. حينها، تحركت بعض قطعات الجيش في برلين لإجهاض الثورة الشيوعية واعتقلت الزعيمين واعدمتهما في 15 كانون الاول ( ديسمبر ) 1918. في مقاطعة بافاريا الالمانية انتفض العمال واقاموا الكومونة بمدينة ميونيخ سنة 1919 بقيادة يوجين ليفينا، لكنها اخفقت واعتقل قائدها ونفذ به حكم الاعدام رمياً بالرصاص في شهر مايو من نفس السنة. في 1920 وبأوامر من لينين تحركت قطعات من الجيش الاحمر وغزت بولونيا بقصد جعلها نافذة امامية توقد القيادة السوفيتية من خلالها فتيل الثورة البولشفية في غرب اوروبا. لكن الحملة فشلت عند ابواب العاصمة ( وارشو ) وعادت القطعات محبطة.
اظهرت الحقائق اللاحقة لقيام ثورة اكتوبر ان التجربة السوفيتية لم تكن ذلك النموذج الملهم وان الارض الروسية لم تكن المكان الناضج والموفق لتطبيق الايديولوجيا الماركسية، مما تسبب بتصدع المجتمع وممارسة العنف المفرط وارتكاب الفضائع. بالإضافة لهذا، دفعت تلك التجربة الثمن الغالي في هدر الطاقات والخبرات المتراكمة في العديد من جوانب الحياة. بالرغم من مرارة الخطوة وتعثرها رفعت قيادة الحزب الشيوعي شعار ( كل السلطة للسوفييت ولا مهادنة مع البرجوازية ومع الاعداء بكل الوانهم ومرجعياتهم ). من اجل تكريس نهج لا رجعة عنه أصدر لينين اوامره بعدم التواني عن استخدام العنف لكسر شوكة المتربصين بالنظام وابادتهم. وهكذا، انطلقت الموجة الاولى للعنف بين سنوات ( 1917 – 1922 ) وطالت الأركان الرئيسية للدولة القديمة وكوادرها الادارية والفنية والعسكرية والعديد من النخب الثقافية والاقتصادية، بالإضافة الى المزارعين الاثرياء ( الكولاك ) ورجال الدين وقادة الكنيسة. تتوجت تلك الممارسات بظهور قطبين متناقضين، واصطف حول القطب الاول افراد الجيش الاحمر الذي ضم الجنود المسرحين والمتطوعين الجدد من المنتمين للحزب الشيوعي وكذلك العمال العاملين والعاطلين والفلاحين الفقراء وفئات من المثقفين والادباء الثوريين. وتخندق حول القطب الآخر كافة مناهضي النظام السوفيتي الذين فقدوا مواقعهم وامتيازاتهم، ومن ضمنهم الحرس الابيض يقودهم جنرالات سابقين في الجيش القيصري ومعهم هيئة الاركان، وضم ذلك القطب كذلك اثرياء المزارعين وكبار الصناعيين ورجال المال ومجموعات من النخب الفكرية والفنية والثقافية اللبرالية واصحاب الامتيازات الاجتماعية، بالإضافة الى قادة الكنيسة وثقل زخمهم وتأثيرهم الروحي. بالنتيجة، تطور الصراع المسلح بين القطبين ليصل الى مستوى الحرب الاهلية التي لم تنتهي جولتها الاولى بإندحار احد اطرافها وانتصار الآخر، بل بإزهاق آلاف الارواح ووقوع البلاد بين مخالب الفوضى والمجاعة. بدون تردد او حرج، اوضحت القيادة السوفيتية سنة 1918 بأنها لا تخوض حرباً ضد افراد او مجموعة بحد ذاتها، بل حرباً شاملة تستأصل خلالها وتفني طبقة الرأسماليين والبرجوازيين وفلول الثورة المضادة وعملاء الاجنبي. في تلك المرحلة من الصراع فتحت سيبيريا ذراعيها بكرم لإحتضان مئات الآلاف الذين قضوا هناك بعد فترة غير طويلة بسبب الجوع او المرض او البرد او التعذيب. في الوقت ذاته قضي على مئات الآلاف من الاوكرانيين لمقاومتهم او اعتراضهم على انتزاع الارض منهم وفرض اسلوب الزراعة الجماعية والتعاونية والعمل القسري في مزارع حكومية او شبه حكومية. طالت تلكم الاجراءات مئات الآلاف من قوزاق حوض نهر الدون الذين تم ترحيلهم جماعياً سنة 1920 بقصد توطينهم في اماكن نائية وبمجمعات اصطناعية.
لا تتطور نوعية حياة الانسان ولا يرتقي المجتمع بإبداء النوايا الحسنة او بإدارة الدولة حسب نصوص ايديولوجية جامدة ولا بفرض سطوة القائد او السكرتير العام للحزب، ولا بتشغيل جهاز الدعاية المؤثرة والمخدرة، ولا برفع شعار القفزة الكبرى وحرق المراحل واطلاق المشاريع العملاقة على الورق. لا تتحقق الاحلام الفانتازية على يد رجل الضرورة الموهوب وصانع التاريخ المرغوب، لأن النموذج الناجح هو ذلك الذي ينشر الضياء ويغرس الامل والسرور في النفوس. ينبغي إدانة النظام الذي يعمم الظلمة والظلم ويشوه آدمية الانسان ويذله ويسيء الى الزراعة والى الفنون والآداب والاخلاقيات ويحرف التاريخ ويلمع الواجهة بالطلاء الزائف. ينهض المجتمع وتبتهج الحياة روحياً وتزدهر مادياً عن طريق تعميم الثقافة الانسانية واشاعة العدل والحرية وتطوير الاقتصاد وتحسين نظام الصحة والتعليم ونوعية الخدمات الاجتماعية. بالإمكان انجاز هذه الاستحقاقات عند ارساء ارضية لبناء سياسي يكفل الحقوق واداء الواجبات من قبل كافة المواطنين بالتساوي ومن دون اللجوء الى بتر اجزاء من القدم لكي يناسب حجم الحذاء، بل تبديله بحجم مريح ولائق للقدم.
البولشفية عصر ذهبي أم طلاء برّاق
من الواضح ان المدرسة البولشفية مستعينة بالايديولوجيا الماركسية غزت المجتمعات وانتشرت في كل القارات ونالت التأييد الحماسي بطريقة لا تضاهيها اية نظرية سياسية اخرى في القرن العشرين. بالتالي تحولت الى مشاريع للثورة الراديكالية وكأنها اسطورة العصر والعقيدة البديلة عن الديانات وانظمة الحكم التقليدية. مهّد ذلك المناخ الفكري الى نهوض البولشفيك وطرح انفسهم اولئك الفضلاء الواهبين ارواحهم من اجل بعث حياة جديدة في الآخرين بعد ان يدحر البرجوازية واقتصادها الحر وكافة قيمها. في جو من التفاؤل المفرط والتهاب العواطف اختفت الفسحة امام التفكير العقلاني والتأكد بأن الغاء او تأميم الملكية الفردية والانتقال الى الاشتراكية واللاطبقية يكون منضبطاً او تحكمه معيير اخلاقية وانسانية. لا يكون الامر موفقاً عند الاعتماد على مشروع ثورة العنف التي تصاحبها الهيجانات المنفلتة ولا عند اتاحة الفرصة امام الغرائز للإنطلاق وتغييب المنطق والعقل، ولا بجعل الانسان ضحية لمفاهيم ومفردات لا تتمكن معدته من هضمها ورأسه من استيعابها. الماركسية البولشفية تذيب كيان الفرد بالجماعة ولا تدع اية فرصة لحرية الاختيار عنده، وخاصة عندما تعمم ايديولوجية الحزب على كل مراحل ومرافق الحياة وتجعلها مادة للتربية والتعليم ابتداءاً من رياض الاطفال والى اعلى سلم في الجامعة كخطوة لبلشفة العلوم والآداب والفنون. اضطلعت البولشفية بحمل رسالة ماركس ونقلت فرضياتها الى مختبر الحزب وجعلتها تطبيقات وتشريعات وعلاجات شافية للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية وحلولاً سحرية للإشكالات في علاقات الاقوام والاعراق والشعوب. وهكذا، ارتقت الطروحات الماركسية الى مصاف الوصفات التي تهذب الغرائز وتصلح الخارطة الجينية للبشر، مما يمكنها من انبات فرد خال من شعور التغرب والانانية وحب الاقتناء، والذي يعيش في مجتمع يسوده الوئام والرضا والسعادة.
كرّس لينين الايقاع السياسي الواحد واطلق العنف بطريقة فاقت ما مارسته النظم القيصرية المتتالية، تحت ذريعة الوفاء لتنفيذ الرسالة التاريخية للطبقة العاملة.هل كانت البولشفية الابن الشرعي للماركسية، ام لقيطة لا تمت الى الأمومة الحقيقية بصلة؟ وهل كان نقل نظريات ماركس الى التطبيق العملي موفقاً واميناً، ام اصبح الربط بين المستويين مصطنعاً؟ هل طرحت الماركسية نفسها فعلاً عقيدة ايمانية، ام تم جعلها قسراً مشروعاً مسيحانياً لخلاص البشرية وديانة يحرم المساس بقوانينها الالهية، والذي يخالفها يكون قد اقترف الهرطقة ويستحق الحرق في كومة الحطب؟ هل نثر البذار الماركسي في غير موسمه، وهل سقطت البذور في تربة شحيحة الخصوبة ومالحة، ام ان تلك البذور افتقدت اصلاً مقومات الحياة والقدرة على النماء الطبيعي؟ من جانبه لم يتردد لينين مرة عن التعبير عن ايمانه المطلق بالماركسية كنظرية علمية متكاملة ورصينة وكمشروع سياسي قادر على الحياة. واكد على ان قناعته بنظرية ماركس ترقى الى مستوى الايمان بالمقدسات، مما ينبغي عليه ان يكون اميناً ودقيقاً في ترجمتها الى الواقع. اعتقد لينين بأنه تسلم من ماركس صكاً مفتوحاً ونظرية جاهزة يستطيع خلال تطبيقها خلق الانسان الملائكي في الفردوس الارضي، وفي الوقت نفسه توفرت بين يديه تصاميم العمارة التي رسمها ماركس في مخيلته حول شكل مجتمع المستقبل اللاطبقي.
عند بناء الدولة السوفيتية انتهج لينين سياسة الحزب الواحد الذي يهتدي بالايديولوجيا الماركسية، مما مهد الطريق لتأسيس نوع من اشكال النظم الشمولية. ولتأكيد هوية الدولة الجديدة، قرر مؤتمر الحزب البولشفي سنة 1920 رفض كافة اشكال الديمقراطيات اللبرالية او التعايش مع التعددية الحزبية ومع التيارات الفكرية التي تختلف عنه في رؤآها. بالإضافة لهذا صدرت الاوامر بتشديد الرقابة على كافة المحافل الثقافية، واقتصرت التجمعات والاجتماعات على تلك التي تعقدها منظمات الحزب والنقابات والجمعيات الخاضعة له. لم يكتف لينين بالاضطلاع بمسؤولية تطبيق نظرية ماركس في بلاده فحسب، بل عمل على اعطائها زخماً وبعداً قارياً ودعا العمال والجماهير الحائرة في اوروبا الى حمل السلاح والثأر من الحكام الذين تسببوا في الحرب الاولى، واعلان الحرب الطبقية من اجل تأسيس حكم دكتاتورية البلوريتاريا على الطريقة السوفيتية. ولكي تترجم الكلمات الى افعال، قررت موسكو وضع قطعات الجيش الاحمر تحت خدمة الثورات او الحروب الاهلية، واصدرت الاوامر للقيادات العسكرية بتجاوز الحدود الروسية ودعم اية ثورة بروليتارية تندلع في اوروبا. في ذات الوقت اطلقت وسائل الدعاية المؤثرة ابواقها لمباركة تلك الاجراءات ومنحها ثقلاً معنوياً ووقعاً نفسياً مريحاً. يوم 27 تشرين الاول ( اكتوبر ) اجتازت وحدات من الجيش الروسي الحدود الوطنية واجتاحت استونيا، احدى دول البلطيق، واسقطت دولتها واقامت نظاماً سوفيتياً، لكن بعد بضعة شهور زحفت القوات الالمانية واحتلت ذلك البلد الصغير الى تشرين الثاني ( نوفمبر ) 1918، اي عند هزيمة المانيا واستسلامها للحلفاء. حينها، تمكنت القوات السوفيتية من اعادة احتلالها لاستونيا وفرضت النظام البولشفي واقترفت الجرائم واعدمت المئات واعتقلت وعذبت الآلاف.
في جو من الحماس والتصميم قررت القيادة السوفيتية توسيع نطاق الثورة البولشفية لتمتد الى المانيا وغيرها، واقامت جسراً للتعاون بين الاحزاب الشيوعية الموالية لها. بالنتيجة، تخطت قطعات من الجيش الاحمر الحدود الروسية في تشرين الاول ( اكتوبر ) 1923 وهي تحمل التعليمات بدعم وتسليح ثوار الانتفاضة العمالية في مقاطعة ساكسونيا ( Sachsen ) وتورنغن ( Thuringen ) الالمانيتين. بغية مواجهة تلك الظروف اعلنت السلطات في المانيا حالة الطوارىء وفرضت الاحكام العرفية، مما مكنها من افشال الثورة واعادة النظام. عند انقضاء نفس الشهر وقع تمرد عمالي في ميناء هامبورغ الالماني وهاجم الثوار مخافر الشرطة ومقرات الدولة في المدينة، لكن بعد معركة بين الثوار الشيوعيين وقوات الدولة اندحر الفريق الاول وقتل العديد منهم بسبب التفاوت الكبير في القوة. خلال تنفيذها الاوامر، تعرضت قطعات الجيش الاحمر لعدة هزائم خارج حدود بلادها الوطنية، وفشلت بإخماد التمرد في استونيا سنة 1924، لأن جماهير العمال في ذلك البلد بقيت متفرجة ولم تنجر الى الصراع بالرغم من الطروحات الساحرية للبولشفيك بخصوص البلوريتاريا. سنة 1923 توجهت شهية القيادة السوفيتية صوب بلغاريا، ولا سيما عندما تحولت الى مسرح ساخن للثورة الشيوعية واستفحلت فيها الغوضى واعمال العنف وموجة الاغتيالات. وللتدليل على ذلك شهدت كاتدرائية العاصمة، صوفيا، في 17 نيسان ( ابريل ) 1924 حادثاً مروعاً اثناء مراسيم تشييع الجنرال جور جييف. حينها تم تفجير الكنيسة، مما اوقع 400 ضحية ومن بينهم 14 جنرالاً و 16 ضابطاً من الجيش البلغاري. وبقصد اخفاء الادلة وتبديد الخيوط التي قد توصل الى كشف الجناة الحقيقيين، تم اغتيال منفذ الجريمة اثناء محاولة القبض عليه من قبل المسؤولين. اثرها، وبطريقة عشوائية اعتقل 3000 من اعضاء الحزب الشيوعي البلغاري واعدم بضعة من قيادييه، لأن اصابع الاتهام وجهت الى زعيم الحزب ( ديمتروف ) الذي كان آنذاك يقيم سراً في النمسا.
في اجواء القمع والترويع وتكميم الافواه، لا بدّ ان تنطلق ولو بوجل، الاصوات وتعبر عن شكوكها بجدوى تطبيق نصوص الايديولوجيا وبالاستراتيجيات التي يضعها الحزب الراديكالي. خشي هؤلاء من النتائج التي يؤول اليها العنف وكسر ارادة الانسان وتشويه آدميته، ولا سيما عندما يمتلك الحالمون والهايجون والمنضبطون حزبياً النفوذ والفرصة لإنطلاق الغرائز وتغييب العقل. لم تكن المخاوف في غير محلها، فلقد أفرزت تجربة الثورة البولشفية الحرب الاهلية والترحيل الجماعي للعديد من الاقوام وانتشار المقابر الجماعية، وتعرضت شرائح واسعة لشبح المجاعة. وهكذا، تهيأت الظروف لتشويه بديهيات الحياة، وخاصة عندما اختطفت العواطف الملتهبة زمام المبادرة واوقعت العقل تحت سحر الكلمات وهيمنة الهتافات التي تدعو الى استئصال اعداء الثورة وتهشيم جماجمهم وتمكين الطبقة العاملة من اداء رسالتها. يصبح الامر مثيراً للقلق عندما تحتكر السلطة مجموعة ثورية ويتوفر تحت امرتها قاعدة جماهيرية عريضة ومسحورة ومتسلحة بايديولوجية جميلة المفردات والمضامين، لكنها لم تجتز اي اختبار يبرهن صلاحها وامكانية نجاح تطبيقها. النيات الطيبة والرؤى الرومانسية لا تضمن للمواطن حرياته وحقوقه، حتى وان وعدت المبادىء بتدشين عصر جديد عامر بالانجازات المذهلة والقفزات الكبرى للامام. في غمرة النشوة وعد القائد الشيوعي البارز ( تروتسكي ) بخلق الانسان الخارق في المجتمع السوفيتي، لكن غاب عنه او لم يتنبه الى ان تمنياته لم تكن مجرد اوهام، بل ان تحقيقها يشوه سمة الحياة الطبيعية لذلك الحاضر ولأجيال المستقبل. لا يجوز الائتمان الى رحلة تأخذ البشرية الى نفق طويل حالك، ويقدم مرشدها الوعود بأن تكون الظلمة مؤقتة وتتبعها الضياء الابدية.
قدم لينين نفسه وبادر ليكون رائد نقل النظرية الماركسية الى مجال التطبيق، واصبح سباقاً في تحويلها الى قوة سياسية ونظام حكم، مما تطلب تأسيس مختبر للهندسة الجينية. توفرت في ذلك المختبر الادوات الخاصة بالبتر او اعادة البناء والتركيب، ووضعت تحت تصرف كوادر الحزب كي يتمكنوا من ايجاد فصيل جديد من البشر بعد افناء الانسان البالي والرجعي والبرجوازي والعميل واليميني ويلقى بجميعهم في قمامة التاريخ. لا يكون الامر معقولاً عند التعامل مع الانسان وكأنه نوع من الأدغال تقلع وتحرق، او اعتباره نبتة يعاد غرسها في تربة تحوي اسمدة كيميائية صناعية بقصد انبات شتلات بمواصفات جديدة. سعت البولشفية الى التلاعب بخصائص الانسان الاعتيادية وكأنه نوع من الذرة او الطماطم او البطاطس او البطيخ يتطلب تغيير حجمها وتسريع نضوجها. حركت اساليب النظام البولشفي بحق شرائح واسعة من المكونات المختلفة للمجتمع الروسي ضمائر بعض رواد الفكر الاشتراكي، ومنهم باكونين الذي كتب رسالة الى رئيس جهاز المخابرات السوفيتية، نيجاييف ( Netschagev ) انتقد فيها طريقة ادارة الملف الامني والاساليب البربرية بحق المواطنين. واوضح بأن الشعب ليس ورقة بيضاء ينقش المسؤول عليها ما يشاء ويعطي الحق لنفسه بشطب هذه الشخصية او تلك. دفع الوضع المأساوي البعض لمقارنة ارهاب الدولة السوفيتية بذلك الذي مارسته محاكم التفتيش اذبان القرون الوسطى، ولا سيما عندما احتكرت قيادة الحزب البولشفي الحقيقة المطلقة واتهمت المعترض والمنتقد بالهرطقة والانحراف عن المبادىء وحكمت عليه بالموت بطرق مختلفة. عندما عاقبت الكنيسة الهراطقة بالحرق في كومة الحطب، ادعت بأنها تنفذ رسالة تطهير المجتمع من الانسان الخاطىء او انها تقصد قتل عمل الشيطان في المخطىء. وبتبريرات مقاربة، اعطت القيادة البولشفية الحق لنفسها بإفناء المنحرف عن المبادىء وحامل الجرثومة البرجوازية، تحت ذريعة خلق الانسان النقي والذي يتعافى من السلبيات القديمة الموروثة وكأن الاعجوبة قد حصلت واندحر الشيطان وتمزقت شباك مكره ودهائه.
بعيداً عن الممارسات الخاطئة لرجال الكنيسة قديماً، تفترض العقيدة الدينية بأن يكون عقاب حامل الخطيئة العذاب الابدي في نار جهنم، اما في ظل النظام السوفيتي، الجحيم واقع ملموس ومعاش في المعتقلات الرهيبة وفي معسكرات التأديب واعادة التأهيل واداء العمل البدني القسري او في مجمعات اعادة التوطين في اماكن نائية.
في اجواء غياب الضوابط الاخلاقية ومؤسسات الدولة الاعتيادية انتصرت ثقافة العنف، ولا سيما عندما نجحت الدعاية البولشفية في سحر كتل بشرية كبيرة واقنعتها بضرورة تكريس مفهوم الصراع الطبقي وتفضيله على التفاعل البناء بين مكونات المجتمع، واعتبار تطوير الدستور وتحقيق الاصلاحات التدريجية خدعة كبرى تحيكها الرأسمالية والبرجوازية. ساعدت تلك الظروف على ان تتحرك ايادي منظمات الحزب الشيوعي وخلاياه طليقة للتسلط على رقاب المواطنين والتحكم بأرواحهم والتلاعب بمقدراتهم. لا تستقيم مهمة الارتقاء بحياة الانسان واثراء جوانبها الروحية والمادية مع ترويج ثقافة الاقصاء والاستئصال وشطب القيم المتعارف عليها جميعاً ومفاهيم الخير والشر والاخلاقيات المتوارثة او محاولة دفنها تحت خرسانة نصوص الايديولوجيا المذهبية ( الدوغماتية ).
عندما اسست البولشفية نظامها اتخذت الايديولوجيا الماركسية اطاراً فكرياً وخطوطاً تسير عليها وتوصلها الى اقامة الاشتراكية ومن ثم الشيوعية. وبقصد تحقيق ذلك الغرض تحكم الحزب البولشفي بكافة مفاصل الدولة الاساسية وبالنقابات والاتحادات واطلق ابواق الدعاية المؤثرة لفبركة الامور وتشويه الواقع وقلب الاخفاقات الى نجاحات باهرة والاندحارات الى انتصارات كبيرة. اشبعت وسائل الاعلام المؤمم الاجواء بالآمال العريضة حول المستقبل وبأن البولشفيك يعبدون الطريق لتربية مجتمع يلفظ النخب الفكرية والثقافية والفنية البرجوازية واللبرالية وكل القيم الرأسمالية ويرميها في كومة القمامة، وفي الوقت نفسه يهيؤن التربة لشتلات خيرة تنبت في مجتمع العدالة والمساوات واللاطبقية. وهكذا، اعتبرت البولشفية نفسها الوريث الشرعي الذي يطبق نظرية ماركس ويقيم الفردوس على الارض بعد ان يصلح ما افسده تقسيم العمل وعلاقات الانتاج الرأسمالية. خلال مسيرة التاريخ لم تنهض المجتمعات وتتطور مادياً وروحياً بإتباع مفاهيم ايديولوجية او فلسفة معينة، بل بتفاعل وابداع مصادر متنوعة في مفاهيمها وقابلياتها الفكرية والجسدية والتي تخص كل الطبقات والشرائح. في الحالة هذه يكون النظام قد اقترف الخطأ الجسيم عندما يشطب النظريات الاجتماعية والسياسية التي تجيز التفاوتات الاقتصادية وتشجع المنافسة الحرة وتأكد على احترام خصوصية الفرد وترفض اذابتها في الجماعة تحت ذريعة تحقيق المصلحة العامة. تمارس السلطة الاعتداء على الطبيعة البشرية عندما تسعى لتغيير وعي الانسان قسراً وتؤسس المختبر الذي يجري التجارب لخلق فصيلة من البشر تؤمن بالايديولوجيا الاشتراكية.
شهدت مجتمعات غرب اوروبا وامريكا الشمالية تطورات معتبرة في مجال الصناعة وحققت نقلات مضيئة في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، من دون ان تهدم كل ما كان قائماً او تلغي التباينات بين الافراد والشرائح. الى جانب تحقيق التحولات غير الراديكالية او الثورية، امتدت الجسور بين الماضي والحاضر من دون ان يسود التجانس الفكري الاحادي، لأن تلك التجارب استوعبت اليميني واللبرالي والمحافظ والديمقراطي والماركسي والمؤمن بالعقيدة الدينية والملحد والعلماني. في المجتمع الثري بالحيوية لا تبقى قيمة للمؤمن من دون وجود اللامؤمن، ومن دون صون التقاليد لا تتميز الحداثة، ومن دون الاستناد على القديم، ولو لفترة، لا يكتسب الجديد بريقه، ومن دون احترام خصوصية الفرد لا يكون للكيان العام اي معنى. تمهد الايديولوجية لإقتراف الخطأ الجسيم عندما تدعو لتكييف واقع المجتمع بطريقة راديكالية وبعيداً عن السياقات الطبيعية، وخاصة عندما يراود رسلها الاحلام بأنهم يمهدون لمستقبل يحتضن الانسان الملائكي. البون شاسع بين تقديم وصف للتاريخ وتشخيص مراحله الاجتماعية والاقتصادية وطريقة ادارة الدولة وبين ان تطرح صورة ذهنية حول شكل المجتمع ونظام الحكم من دون توفير الأدلة على امكانية تحقيق ذلك التصور. من الناحية الاخرى، لا يستقيم تأسيس دكتاتورية الطبقة العاملة مع ضمان حرية الاختيار عند الانسان ومع تأمين الفرصة له للتعبير عن ذاته وتحقيق تطلعاته في الجوانب الاقتصادية والاعتبارية.
اعتقد رسل الماركسية بأن المجتمع اللاطبقي يؤمن العدالة والرضا والرفاهية، لأن التناحر والقهر والاستغلال والفقر ( حسب رأيهم ) يصبح شيئاً من الماضي. وكمادة فكرية كتب كارل ماركس في كتابه ( بؤس الفلسفة ) ما يلي: ( في المجتمع الشيوعي لا يبقى هناك مجال للتناقضات والاستغلال والقهر، وتدريجياً تختفي السلطة السياسية لأن مجتمع الكفاية المثالي لا يحتاج الدولة ). في وثيقة البيان الشيوعي 1848 اكد ماركس بأن تأسيس دكتاتورية الطبقة العاملة ينتهي بإقامة المجتمع اللاطبقي والخالي من الصراعات والتناقضات بكل اشكالها. في سياق مقارب اوضح لينين في كتابه ( الدولة والثورة ) 1917 طريقة ادارة الطبقة العاملة برعاية وارشاد الحزب البولشفي للدولة الجديدة وتنظيم الحياة الاجتماعية فيها، واكد على قدرة وكفاءة هذه الطبقة لبناء النظام الاشتراكي والانتقال الى المرحلة الشيوعية. وهكذا، تكون الافكار الرومانسية الجميلة التي شعت في مخيلة كارل ماركس قد التقطها لينين وآمن بها واصبح رائدها وبادر الى اعطائها الجسم والروح.
لا بدّ من التطرق الى الطروحات التي قدمها ماركس وتلك القناعات التي راودت لينين بشأن الثورة البلوريتارية. من جانبه، توقع ماركس بإندلاع اولى الثورات العمالية في الدول الاعلى تطوراً في الصناعة والاكثر غزارة في الانتاج، وبالتحديد بريطانيا وفرنسا وتليهما بروسيا الالمانية. لكن لينين لم يكتف بإطلاق الثورة في بلاده روسيا ذات الطابع الفلاحي اصلاً، بل وتطلع او نادى بإشعال فتيل الثورة الطبقية في كل دولة تتواجد على ارضها الشغيلة، بغض النظر عن الحجم ودرجة النضوج ومستوى الوعي عند تلك الشريحة. يبدو ان لينين استند على النظرية الماركسية بخصوص شيخوخة الرأسمالية وانكفاء دورها في ادارة الازمات الاقتصادية والاجتماعية وفشلها بتطوير اداء الصناعة واستيعاب المستجدات. بعد انقضاء نشوة الانتصار في الثورة، قلّ حماس العامل، لا سيما وشعر بأن العمل السابق لقاء الاجر انقلب الى شبه استعباد واصبح في بعض الحالات مواد غذائية وقطع ملابس متواضعة. تدريجياً، اختفى حافز الابداع وسادت روح التغرب عن الآلة، بل وكرهها، واستشرى عدم الشعور بالمسؤولية وبالمصلحة العامة وكأن الجميع غير مسؤول، مما قلب الآمال المعقودة على الطبقة العاملة وطليعتها الى فانتازيا ( Phantacy ).
لا بدّ من التوضيح بأن النظرية الماركسية اكتسبت موقعاً معتبراً بين العلوم الاقتصادية والفلسفات الانسانية، لكنها فقدت الكثير من جوانبها الايجابية عندما تحولت الى اداة بيد الحزب وايديولوجية تستغلها الاعيب السياسة ونزوات منفذيها. بالإضافة لهذا شوه صورتها هيجان البعض الذين لا تنتعش نفوسهم المتعبة او المريضة الا عند هبوب الزوابع وانفجار البراكين وانتشار الغيوم الداكنة التي تحجب ضوء الشمس ولمعان القمر. في هذا الخصوص، تحملت القيادة البولشفية المسؤولية عندما تصورت بأنها تسلمت الصك المفتوح وطرحت نفسها الوليد الشرعي والمؤهل لنقل النصوص الماركسية الى آليات لنظام الحكم. هنا السؤال: هل تطلبت الدقة والامانة في التطبيق إفناء شرائح ملاك الارض والمزارعين الاثرياء وارباب الصناعة والمال والنخب الفكرية اللبرالية والتقليدية وفئة التجار وحملة الفكر القومي والكوادر العسكرية وقادة المؤسسة الكنسية؟ مارس رسل الماركسية العبثية عندما اقاموا مئات المعتقلات الرهيبة ومعسكرات لأداء العمل القسري ونشروا المقابر الجماعية وجعلوا القمع والترديع منهجاً متبعاً. في الحقيقة، لم تكن الحياة تحت ظل القياصرة بهيجة ومشرقة وحلوة المذاق، لكن في الوقت نفسه، لم تعج السجون بملائين المعتقلين ولم تجابه الاقوام الترحيل الجماعي واعادة التوطين في مجمعات سكنية بائسة ولم تكن منصات الاعدام بذلك الكرم الذي اظهرته في عهد البلاشفة.
عندما استمد لينين قناعاته بشأن جهوزية الطبقة العاملة لإدارة المجتمع، استند الى فرضية ماركس التي ادعت بأن الرأسمالية حفرت قبرها بيدها واقتربت من حافته. ابتلع لينين السنارة ولم يتنبه الى ان النظام الرأسمالي كان لا يزال يرفل بالعنفوان ويرفض المذهبية السياسية الجامدة ويراجع ذاته بطريقة برغمائية بقصد تصويب الاخطاء وادارة الازمات وابقاء الاوضاع لصالحه. حقاً، ان للتحولات التاريخية ثمن، لكن محاولة التغيير القسري لنظام متجذر ويتمتع بمقومات الديمومة قد تكون قفزة في الظلام حتى وان استرشد الثائرون بأيديولوجية انسانية وساحرية المضامين او تسلحوا بالنيات الطيبة والصادقة. يحصل التغيير عند نضوج الظروف وتهيئة الارضية التي يستند عليها ذلك التحول. على سبيل المثال، في المانيا وبالتحديد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لم يتوطد وينمو النظام الرأسمالي نتيجة ثورة مسلحة او حرب استأصلت الاقطاعيين وابادة طبقتهم واقامت على انقاضهم دكتاتورية تسترشد بأيديولوجية شخص، بل ازدهرت الرأسمالية تدريجياً بعد نهوض الصناعة وتحقيق الانجازات العلمية وانتشار مفاهيم الحداثة. مهدت فترة الانتقال الطبيعي الى ازاحة الكثير من الظلال في الجوانب السياسية والاجتماعية والمعيشية للمواطن والى الاختفاء التدريجي لمعالم المجتمع الاقطاعي واضمحلال قيمه وتقاليده البالية.
ادعت البولشفية بأنها تنقذ الفلاح الاجير من نير عبودية مالك الارض، لكنها حولته الى عبد برداء مختلف، يكدح في مزارع الدولة السوفيتية او في التعاونيات، وعند نهاية الموسم يتسلم نسبة من الناتج تسد رمقه وتمده بالقوة لإستئناف ومواصلة العمل في الموسم التالي. عندما تخلص الفلاح الفقير من أغلال الاقطاعي، تحول الى رقم في مزرعة مملكة العبيد، واصبح ذلك المسخ الذي فقد ارادته واستسهل تنفيذ كافة اوامر كادر الحزب الشيوعي، وتحمل مراقبته له والتدخل ليس فقط بما يخص شؤون الزراعة بل وبخصوصيات حياته الزوجية والعائلية. لم تكن نتائج تلك الاوضاع الشاذة وبالاً على كمية ونوعية الناتج الزراعي فقط، بل واثرت سلباً على روحية ومعنوية الفلاح وتملكه شعور الاستهجان والقرف تجاه آلة الحراثة ومنجل الحصاد الذي مثّل احد الرمزين المنقوشين على علم الدولة السوفيتية العمالية. اذا كان العامل الاجير ( البلوريتير ) غريباً عن الآلة التي ادارها في ظل النظام الرأسمالي، فهو اصبح اكثر بعداً عنها عندما اممها النظام السوفيتي. واذا كان حماسه للعمل تحت امرة المالك الرأسمالي فاتراً، فلقد اصابته خيبة الامل والنفور عندما خضع لأوامر المسؤول الحزبي ووقع تحت مراقبة اللجنة الامنية في المصنع. واذا افتقر الى الشعور بالمسؤولية وهو يعمل لمالك المعمل، فلقد غاب ذلك الشعور عندما اممته دولة العمال وتحكمت بالتصرف بالناتج. لم تدمر سلبيات الزراعة الجماعية والموجهة من قبل الدولة خصوبة الارض فحسب، بل واستهلكت خصوبة الموروثات والتقاليد عند المزارع الروسي، مما وضع النظام السوفيتي ومنذ البداية في مواجهة وعداء مع ملاك الارض الصغار واثرياء المزارعين ( الكولاك ) ومع بطانتهم. مهدت تلك الاجراءات الى اندلاع المرحلة الاولى من الحرب الاهلية بين السلطة السوفيتية والقوزاق على ضفاف نهر الدون بين سنوات ( 1919 – 1920 ). في غمرة نشوة انتصار ثورة اكتوبر واستقطابها لشرائح مجتمعية واسعة، تمكن الجيش الاحمر من سحق تمرد الكولاك واعوانهم بعد ان قضى على اكثر من 200000 انسان ورحل عشرات الآلاف الى اماكن بعيدة عن مناطق سكناهم الاصلية.
اقامت السلطة السوفيتية دكتاتورية البلوريتاريا تحت ذريعة تأمين وصيانة مكاسب الطبقة المستغَلة، لكن الاوضاع التي عاشتها تلك الطبقة لم تتحسن او ترتقي على ما ساد في فترة ما قبل الاشتراكية. عندما اممت الدولة الملكية الفردية وكافة وسائل الانتاج ووضعتها تحت ادارة سلطة الحزب البولشفي، تراجع حماس العامل للعمل وفتر شعوره بالمسؤولية ووقع فريسة الحيرة وتناقض الشعارات والحقيقة. اظهرت الوقائع ان ثورة اكتوبر لم تكن مهرجاناً لبسط العدالة الاجتماعية وتوفير الحياة الرغيدة ولم تكن نموذجاً يدشن مرحلة تاريخية تهتدي بها الانسانية، ولا سيما عندما تحولت الى فرصة للثأر والانتقام من العدو الطبقي ( حسب المفهوم السائد آنذاك ) ومن فلول الثورة المضادة. في تلك الظروف الشاذة، تقمص المواطن السوفيتي شخصيتين، فمن ناحية يخشى حتى ظله، ومن الجهة الاخرى مستعد لإقتراف ابشع الافعال بحق من اعتبروا اعداء لمصالح الطبقة العاملة. بدلاً من نشر البهجة في النفوس غرست الثورة ثقافة العنف والانسياق وراء العاطفة والقبول بالعبودية الاختيارية تحت ذريعة التضحية من اجل اهداف كبيرة ونبيلة. وبقصد التضليل والمباهاة روّجت أجهزة الدعاية المؤثرة لإنجازات الدولة السوفيتية وحلها الحاسم ولأول مرة في التاريخ لظاهرة البطالة. لكن فاتها بأن تلك الظاهرة لم تكن موجودة في عصر العبودية والاقطاع حينما كان الجميع عدا المالكين الاحرار يؤدون العمل الاستعبادي لقاء ضمان لقمة العيش.
حينما فشلت قيادة الحزب البولشفي بإخفاء حقيقة الاوضاع المتعثرة في العديد من الجوانب، علقت كافة الاخفاقات على شماعة الصراع بين القديم المتمثل بالبرجوازي واللبرالي والرجعي وذيل الرأسمالية العالمية وبين الجديد الناهض الذي يمثله الفلاح والعامل والمثقف الملتزم بالفكر الماركسي وبالخط البولشفي. لم تترك وسائل التثقيف الموجه والمؤمم اية مناسبة الا واكدت فيها بأن الصراع العنفي بين القديم والجديد يستمر طالما يبقى هناك مناهض للنظام السوفيتي ولمصالح الطبقة العاملة، وان النصر النهائي والمؤكد هو للاشتراكية. عند انتقاد التجربة السوفيتية وادانة تأسيس دكتاتورية البلوريتاريا والممارسات التي تشوه آدمية الانسان وتفقده حريته في الاختيار والتفكير لا تعني عدم ضرورة انطلاق الثورات التي ترمي الى اصلاح النظام السياسي وتحقيق العدالة الاجتماعية وتطوير اداء المفاهيم الديمقراطية الحديثة والتجاوب مع تطلعات المواطنين التي لا نهاية لكمالها او بلغوها الاكتفاء.
يوسف ستالين، القيصر البولشفي
عند تحليل الظاهرة الستالينية في قيادة الحزب وادارة الدولة السوفيتية، لا بدّ من دراسة الخلفية الاسرية والاجتماعية والعرقية التي نشأ فيها يوسيب ( يوسف ) ستالين وعاش طفولته وفتوته ومقتبل شبابه. انه من ابناء جورجيا، البلد الاسيوي الصغير الذي كان ينظر اليه الروس بدونية ويعتبرونه تابعاً ذليلاً لهم. ترعرع ستالين في بيئة اتسمت بالعنف والتمرد والثورة واعتزت برموزها الاسطورية الذين تحلوا بالشجاعة المتميزة وبالكبرياء الوطنية ووقفوا ابطالاً بوجه التسلط والاذلال الروسي. عانت جورجيا عبر القرون من الانسحاق الطبقي ومن امتيازات النبلاء والاثرياء والارستقراطيين الذين عاشوا النعيم على حساب الغالبية المقهورة. منذ ان وعى ستالين على واقع الحياة، تحسس الاذلال الطبقي وتذوق المرارة، مما جعله يكتنز الحقد في اعماقه على النخب الثرية واصحاب النفوذ والمراكز الاجتماعية المرموقة. بالإضافة لهذا، لم يشعر بالانتماء الطبيعي لعائلته ولم ينل منها الدفىء والحنان ولم يعتز بوالده ( الاسكافي المتواضع والفقير ) بل نظر اليه ذلك النموذج الفاشل في الحياة والعاجز عن تلببية احتياجات الاسرة. دفعت تلك البيئة الاجتماعية والعائلية ستالين الى البحث عن التعويض والارتماء في احضان المجاميع الثورية الراديكالية التي وجد فيها الملاذ والمعزي والمكان الخصب للتعبير عن التمرد المتأجج في اعماقه.
بعد ان امضى ستالين فترة غير طويلة كأحد طلبة علم اللاهوت لم ترق له تلك المفاهيم والتعاليم ونبذها وفضل الانتماء الى احدى التنظيمات الماركسية. منذ البداية سعى الى التسلق في هرم الحزب الشيوعي والى امتلاك السلطة كوسيلة لإشفاء الغليل والتعبير عما يلتهب في اعماقه من روح التمرد. ومن اجل تحقيق تلك المآرب قدم نفسه الى الرفيق السكرتير العام ( فلاديمير لينين ) وتمكن من كسب وده والتقرب منه ونيل ثقته. في وقت قصير ارتقى ستالين في سلم الحزب وتم تعيينه المسؤول الحزبي عن شؤون الاقليات في بلده ( جورجيا ). لم يكن الرجل محبوباً من قبل رفاقه بسبب الانانية وحب ابراز ذاته وجعلها المحور في كل القضايا، لكنه من الناحية الاخرى اظهر نشاطاً متميزاً في العمل الخيري والتنظيمي. ولكي يثير الانتباه حول شخصه ابدى الاستعداد للصدام والجرأة لممارسة السطو واعمال البلطجة لإبتزاز النقود من ضحاياه وتقديمها للحزب. بعد ان انجز تلك المهمات واثبت نجاحه في مجال الكسب الحزبي، كوفىء سنة 1912 وانتخب عضواً في اللجنة المركزية لحزب البولشفيك.
غداة اندلاع ثورة اكتوبر الاشتراكية 1917، عاد ستالين من منفاه في سيبيريا والتحق فوراً بصفوف الثوار واستطاع خلال فترة قياسية التسلق في سلم السلطة وهرم الحزب. وتوفرت له الفرصة الذهبية عندما تراجعت صحة لينين البدنية والنفسية اثر محاولة اغتياله التي سببت رحيله المبكر. بالنتيجة وثب ستالين الى أعلى موقع في الهرم، وتم تعيينه سكرتيرا عاما للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي سنة 1924، بالرغم من التحذيرات التي سبق وأظهرها لينين لرفاقه قبل وفاته حول خطورة استيلاء ستالين على الموقع الاول في قيادة الحزب والدولة العمالية.
تمتع ستالين بشخصية مراوغة وميكافيلية، ورأى في الحزب الوسيلة للتعبير عن ساديته والمجال للتنفيس عن العقد والتعويض عن معاناة وجراحات الطفولة، مما دفعه منذ البداية لتبني العنف والترويع بطريقة فاقت كثيراً عما شهدته فترة اندلاع ثورة اوكتوبر تحت قيادة لينين. آمن ستالين مثل سلفه لينين بوحدة الحزب الايديولوجية والتنظيمية ورفض قيام التكتلات وظهور التيارات داخله، وسعى بكل الوسائل الى تحصينه من اللوثات والشحطات الفكرية واعتبرها انحرافاً وخيانة للمبادىء الماركسية اللينينية. وبقصد ترويض المجتمع وتطويعه وضع نصب عينيه عسكرة الجماهير العريضة واعتبر اعضاء الحزب مثل أولئك الرهبان المحاربين الذين توحدهم أخوة السيف ويجمعهم الايمان بالايديولوجيا الواحدة. وهو غارق في الهوس وضع على جسمه البدلة العسكرية ليكون النموذج في الحزب الذي اعتبره كأقدس الاقداس. راودته الاحلام بأن تكون روسيا مركز الجغرافيا البشرية والارض التي تحفظ نقاوة نظرية ماركس وتعكس التطبيق البولشفي لها، ونظر الى اوكرانيا والقوقاز واسيا الوسطى مناطق تقع على الهامش وما وراءها يمتد الجحيم الذي يحكمه البرجوازيون الاشرار. ولتكريس ذلك النهج رفض اية محاولة لتطعيم الفكر البولشفي واعتبر التوفيق بين جبهة الحزب الشيوعي والجبهة المقابلة خيانة، لأن الاولى تمثل الفضيلة والضياء والاخرى الشر والظلمة، والتقارب بينهما يلوث الاولى ويهجنها ويفقدها نقاوتها.
ربما لم تكن الظاهرة الستالينية ولادة لقيطة او طفرة ورائية، بل تنفست الحياة وترعرعت عبر الثقافة والمفاهيم البولشفية التي عبدت الطريق لتأسيس النظام الشمولي حسب المواصفات والمقادير التي انسجمت مع نمط شخصية ستالين. ارتدت الستالينية رداء البولشفية واكتسبت النماء والمنعة والغلبة بعد وفاة لينين واستحواذ زبانية ستالين على مفاصل الدولة السوفيتية الحساسة ومواقع قيادة الحزب الشيوعي. بدلاً من ان يمد المواطن الروسي خطاه على الطريق الامين تحت ظل علم المطرقة والمنجل، اتخذت مسيرته الجديدة اتجاهاً يتناقض مع بديهيات الحياة المألوفة. الى جانب هذا شهدت تلك الحقبة التراجع في مجال الفكر والثقافة الانسانية والاخفاق في ممارسة التقاليد الديمقراطية واستفحلت عقدة الخوف من العدو الخارجي والثورة المضادة والتي تحولت الى نوع من الهوس ومرض الفوبيا ( Phobia ). دفعت تلك الحالة الى المبالغة بخطر الجرثومة البرجوازية والعملاء، مما رفع من وتيرة تصفية العديد من كوادر الحزب واعضائه، وغُض النظر عن الفساد المالي والاداري والبيروقراطية الزاحفة التي تحولت الى غول يستحيل دحره. في الوقت الذي انجبت البولشفية رسولاً اوحى بأنها عصارة عبقرية العصور وبأنها تعبد الطريق لحقبة تاريخية مشرقة، فهو في الحقيقة شوه مسيرة الانسان واسترخص حياة الملائين ارضاءاً لأهوائه وشيد لذاته الامجاد على الجماجم. ان استمرار فترة الاستبداد الستاليني لعدة عقود لا يدلل على نجاح التجربة وكفاءة النظام بل على المهارة في الترويع وكسر الارادة والبراعة في التضليل. في عهده اصطدمت السلطة السوفيتية مع الشعب بطريقة او بأخرى، مما حول الحزب البولشفي من منقذ للعمال والفلاحين الى قوة غاشمة تقف بوجه قطاعات واسعة من المجتمع او مع أقوام بكاملها. وفر العنف الذي انطلق بين سنوات ( 1917 – 1922 ) الارضية لكي يستمر وتتصاعد وتيرته في عهد ستالين ويتحول الى نوع من الصراع بين الحزب البولشفي وبين اطراف من القوى الحية في المجتمع. بالإضافة لذلك، اشتدت حملات تصفية القوزاق واثرياء المزارعين ومعارضي النظام وتم ترحيلهم من مناطق سكناهم الاصلية الى سيبيريا وكازاخستان وغيرها تحت ذريعة درء خطرهم وتهديدهم لمستقبل النظام السوفيتي. ومن اجل اضعاف تلك الشرائح واذلالها وتجفيف منابع قوتها صودرت ممتلكاتهم واموالهم واسكنوا في مجمعات مصطنعة نائية تفتقر الى الكثير من متطلبات الحياة المألوفة. اودع الآلاف المعتقلات واحتجزت آلاف اخرى في معسكرات التأديب واعادة التأهيل وارغموا على اداء العمل البدني المجهد وكأن التاريخ يعيد نفسه ويذكرنا بالاساليب الفرعونية في تشييد الاهرام وبناء صروح الامجاد لهم ولذويهم على حساب عرق جبين العبيد.
بعد تصفية خصومه بمختلف اصنافهم والى ان لفظ انفاسه الاخيرة سنة 1953 ادار ستالين حكم شعوب الاتحاد السوفيتي بالقسوة والاستبداد والدموية بغية تكميم الافواه وكسر الارادة، ومارس الترحيل السكاني الجماعي بقصد احداث تغييرات ديمغرافية تصب في مصلحة النظام. لم يقتصر البطش على البرجوازيين وحملة الفكر اللبرالي ومعارضي النظام البولشفي، بل طال رفاق الامس وبعض المقربين اليه وعدد من الشخصيات المهمة في قيادة الحزب. ومن اجل التظليل وتبرير البربرية، ادعى ستالين بأنه يعمل للحفاظ على نقاوة الايديولوجيا الماركسية ونجاح المشروع البولشفي وتأمين سلامة دكتاتورية البلوريتاريا. اذا اخفق ستالين بأن يكون رسولاً موفقاً لتطبيق الماركسية اللينينية، فهو مما لا ريب فيه قد اتكأ على عكازة الصراع الطبقي وضرورة تصفية الاعداء بغية انجاز رسالة العمال بإدارة مجتمع المستقبل. بالإضافة لهذا استخدم ستالين البلاطات التي رصّها لينين بخصوص العمل الثوري وثقافة العنف وعبّد لنفسه الطريق لتأسيس امبراطوريته وكأن القيصر ايفان لرهيب قد بعث الى الحياة بثوب جديد.
ارهاب ستالين يجثم على الارض السوفيتية
في عهد ستالين واجهت الانسانية تحدياً كبيرا ومصيرياً لأن نظامه ابتعد عن الحضارة والقيم الديمقراطية واوغل في انتهاك حقوق الانسان والمس بكرامته وترويعه. حينها عاشت روسيا واجزاء كثيرة من العالم المحنة والمأساة، وخاصة عندما تناغمت الستالينية مع الانظمة الشمولية التي سادت بعد الحرب العالمية الاولى، وبالتحديد في ايطاليا ومن ثم المانيا. بالنتيجة، تلامس وتعانق انين وصراخ ونحيب ضحايا معسكرات الاعتقال النازية والفاشية المنتشرة في بعض دول اوروبا مع آهات المعذبين في معسكرات التأديب واداء العمل القسري والمرحّلين الذين اعيد توطينهم في المجمعات المصطنعة في كازاخستان والمناطق النائية. لم يتسم عهد ستالين بسقوط عدد هائل من الضحايا وتصفية الخصوم السياسيين بل وابدع بإفناء وتعذيب عشرات الآلاف من المشكوك بولائهم لطغيانه. أُطلق على الفترة بين ( 1936– 1938 ) السنوات اللعينة لأن الرعب الاحمر والاسود كشّر عن انيابه في طول الارض السوفيتية وعرضها، وبلغ عدد الضحايا 700000 والمحتجزين في المعتقلات ومعسكرات التأديب والتأهيل 1.3 مليون بتهم نسبة كبيرة منها مفبركة ( مصطنعة ) واحياناً فانتازية يرفضها العقل والمنطق. كان من بين الضحايا بعض قادة ثورة اكتوبر وخبراء اقتصاديين ومهندسين وعمال مهرة ونخب ثقافية وفكرية ودبلوماسيين سابقين وابناء الطبقة الارستقراطية وكوادر في الجيش والرموز الدينية والروحانيين. تراوحت التهم بين التجسس والعمالة للأجنبي او معادات النظام السوفيتي وتخريب الاقتصاد او الانحراف عن المبادىء الماركسية اللينينية او الاساءة لشخص ستالين واخرى واخرى... بالنتيجة، انغرس الرعب في النفوس وتحول الى كابوس يراود المواطن الروسي في يقظته ويؤرقه في منامه، وحاصرته الشكوك ولا يدري فيما اذا هو مخلص لستالين او يحمل جرثومة العداء للنظام الاشتراكي السوفيتي. عندما عاشت البولشفية الستالينية الهواجس، خلقت لنفسها العدو الذي لا يعدو ان يكون البرجوازي ومالك الارض والمثقف اللبرالي فحسب، بل كل من ينتقد اداء الحزب والدولة او لا يكون ضمن القطيع الذي ترعاه القيادة او يُشك بولائه لرجل الاسطورة. في تلك الظروف اخترعت الاجهزة الستالينية العدو الشبح واضافته الى الحقيقي، لأن النظام الشمولي يستمد عناصر حياته من توهم الاعداء بقصد تبرير العنف والاستئصال والترويع. بالتالي، يكون ستالين قد طبق المثل لكنه اضفى عليه الكرم والسخاء ليصبح ( من ليس معي فهو بالنتيجة ضدي، ولا بدّ ان يُفنى ).
كي يكون الصراع والعداء الطبقي حاداً ومنهجاً فاعلاً وحيوياً في النظام البولشفي الستاليني، شنت السلطات السوفيتية الحرب على قطاعات معتبرة في المجتمع الروسي، وبالأخص على ملاك الارض الصغار والكبار واصحاب المصانع الكبيرة والورشات الصغيرة وحتى على اصحاب الحرف اليدوية. في الريف تم ترحيل اكثر من مليوني مزارع الى اماكن نائية تحت ذريعة تشتيت روح المقاومة عند الكولاك ( اثرياء المزارعين ). بسبب تأميم قطاع الزراعة وتأسيس التعاونيات الحكومية وشبه المستقلة تراجع الانتاج بدرجة كبيرة، مما عرض اكثر من خمسة ملائين مواطن الى خطر المجاعة، وقضى على مليون آخر اثناء الترحيل وظروف السفر الشاقة. في تلك الظروف حلت مأساة انسانية كبيرة وأجبر المرحلون على الاقامة في مجمعات سكنية تفتقر الى ابسط شروط الحياة الطبيعية، مما دفع المزارعين والفلاحين الى السخط والنقمة على النظام الاشتراكي البولشفي. بالرغم من انتزاع الارض من مالكيها ووضعها تحت تصرف الزراعة التعاونية الجماعية، اعتبر الفلاحون انفسهم مواطنين اقل شأناً من الشغيلة وعمال المصانع الكبيرة في المدن حسبما فهم القائمون على الايديولوجيا الماركسية. في المزارع التعاونية مورس التجاوز على انسانية الفلاح والابتزاز والتدخل في خصوصيات حياته وامتهنت كرامته واخضع للمراقبة الدائمة. ان اراد احدهم الزواج وجب عليه الحصول على موافقة منظمة الحزب في المزرعة والتأكد من سجله وتاريخ حياته السياسية وكذلك ماضي وحاضر خطيبته. بالنتيجة، ترعرعت روح التمرد في نفس من يعمل في قطاع الزراعة ومن سكنة الريف بشكل عام وجعلهم في شبه ثورة دائمة ضد النظام السوفيتي. من اجل الايغال بتصفية طبقة اثرياء المزارعين وكسر شوكتهم قرر المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي وبتوجيه من ستالين شخصياً تصنيف هؤلاء الى ثلاثة درجات: شمل الصنف الاول الخطرين جداً والذين ينبغي على الفور ترحيلهم بعد مصادرة كافة ممتلكاتهم، ثم احتجازهم في معتقلات التأديب والتأهيل مع كل افراد عائلاتهم، ومن يقاوم يصدر بحقه حكم الاعدام. اقتصر الصنف الثاني على من هم أقل خطورة بحيث يتم حجزهم في معسكرات تحت رقابة مشددة وتصادر املاكهم. اما الصنف الثالث فيتم ترحيلهم الى مناطق بعيدة عن محل سكناهم الاصلي ويخضعوا للحراسة. لا بدّ ان يضحك المرء ويشعر بالاسى في آن واحد عندما يسمع بترحيل بعض المزارعين الذين ادينوا بسرقة قوت الشعب لأنهم ذبحوا خنازيرهم واكلوا لحمها من دون ابلاغ الجهة الحزبية في المزرعة. أدين آخرون لبيعهم كمية من ذرة محصولهم سراً، وأدين احد الفلاحين لأن عمه سبق وخدم كجنرال في الجيش القيصري، وحوسب آخر لأنه يرتاد الكنيسة باستمرار ويتمتع بعلاقة متينة برجالها. الى جانب تلك الاجراءات اقيمت دورات تثقيفية بالايديولوجيا الماركسية لأبناء الكولاك بقصد جعلهم يغّلبون المصلحة العامة ويقدموا ما بحوزتهم من المواد الزراعية للدولة التي تقوم بدورها بتصديرها الى الخارج والحصول على العملة الصعبة لتمويل الصناعة العسكرية التي كانت من اولويات اهتمامات ستالين.
خلال قمع انتفاضة الفلاحين في غرب اوكرانيا نهاية آذار ( مارس ) 1930 اعتقل 26000 واعدم منهم 650، مما اوصل عدد الذين نفذ بهم حكم الاعدام لنفس السنة في عموم الارض السوفيتية الى 20000 مزارع بعد ان ادينوا بالتمرد على النظام. من اجل استيعاب الاعداد الهائلة من المحتجزين تم تشييد معتقلات جديدة، بالإضافة الى توسيع رقعة معسكرات التأديب والتأهيل واداء العمل البدني القسري. بين سنوات ( 1928 – 1930 ) أُحتجزت عشرات الآلاف من العائلات وحشرت في اماكن ضيقة وفي ظروف غير لائقة لحين الانطلاق بهم الى مجمعات سكنية ومصطنعة ونائية عن موطنهم الاصلي. بعد سنتين من الفترة المذكورة اعلاه وصل عدد المرحلين الى ما يقارب المليونين وتوفي منهم 200000 بسبب الجوع والمرض ومعاناة الرحلة الشاقة. عند انجاز اية عملية ترحيل أُرغم المرحلون على العمل اما في مزارع تعاونية جماعية ان كانوا فلاحين لكي يكدحوا ويقدموا انتاجهم للدولة، او بالمصانع والمعامل المؤممة وهم محبطون وفاقدون لدافع حب الآلة او الابداع. على نطاق جمهوريات روسيا السوفيتية سقط بين سنوات ( 31930 – 1933 ) اكثر من ثلاثة ملائين ضحية المجاعة التي تسببت من الآتي: اولاً: سياسة التسليح وعسكرة المجتمع التي اتبعها ستالين بهوس وجعلها وسيلة تحمي نظامه وتقوي هيبة الدولة والحزب المتمثل بسخصه وتزيد تأثير البلشفة في الخارج، مما تطلب مبالغ طائلة من العملة الصعبة. ثانياً: فشل السياسة الزراعية واكراه الفلاحين على العمل في مزارع الدولة والتعاونيات والذي ادى الى انخفاض الناتج الزراعي وتراجع الاقتصاد بشكل عام وشلل معظم مرافق الحياة ما عدا في الجوانب الامنية والاستخبارية والاعلامية. وبقصد الخديعة فبركت وحبكت الدعاية المؤثرة ( Propaganda ) الروايات وروجت المعلومات المضلّلة وعكست صورة وردية ومبهجة للواقع.
في مرحلة اخرى من الصراع بين النظام السوفيتي وبين ملاك الارض واثرياء المزارعين قننت الدولة اصدار الاحكام القاسية وجعلته منهجاً للسلطة القضائية المسيسة طالما يوجّه العقاب ضد معارضي ستالين والخارجين على الخط الذي رسمه. رسخت تلك الاجراءات الارضية لتصعيد ارهاب الدولة المنظم واستمراره لمدة 25 سنة لاحقة، مما الحق الضرر الجسيم بقيم وضوابط المجتمع، وجعل الفساد المالي وبيروقراطية الادارة ثقافة مقبولة. تحت ظل نظام الاقتصاد الموجه واقطاعية الدولة الستالينية وفي ظروف تغييب الملائين في المعتقلات ومعسكرات التأديب وفي المنافي وهي معلقة بين الحياة والموت، انطلقت يد جباة الضرائب حرة لفرض الجبايات الثقيلة. بالرغم من انتشار الظلال القاتمة على البلاد السوفيتية، وخاصة عندما تراجعت الزراعة كثيراً واطل شبح المجاعة وهدد حياة الملائين، واصل ستالين حربه على قطاعات مجتمعية معتبرة وتوج ازهاقه لأرواح مئات الآلاف على منصاب الاعدام وبوسائل اخرى بين سنوات ( 1936 – 1938 ). وجد الفلاح نفسه تحت ضغوط شديدة، ولا سيما عندما فرضت عليه الدولة تقديم 40% من ناتجه الزراعي كضريبة. ومن اجل ان تضمن الدولة تلك النسبة وضعت الفلاح تحت رقابة اللجنة الحزبية او مجلس سوفييت القرية الذي تمتع بصلاحيات احتجاز وتعذيب وترحيل ومصادرة الناتج الزراعي للمخالف، مما دفع العديد من الفلاحين الى ترك الريف سراً والهجرة الى المدينة. عندما تفاقمت اوضاع القطاع الزراعي والثروة الحيوانية شرعت اجهزة الدولة والحزب بمراقبة سفر الافراد لوضع حد لهجرة الفلاحين ومنعت بيع تذاكر السفر بالقطار الا بعد التأكد من غرض المسافر.
هزت الاوضاع الشاذة اصحاب الفكر والقلم الذين يكتنزون المشاعر الانسانية، ومن بينهم الروائي الروسي الشهير شولوخوف الذي كتب رسالة الى ستالين يرجوه فيها معالجة الوضع وانقاذ الفلاح من معاناته ومن ضغوط اجراءات الدولة ومن بؤس حياته. في رده على تلك الرسالة كتب ستالين ما يلي : ( ان اللوم كله يقع على الفلاح الذي يتآمر على دولة السوفييت الاشتراكية ويقترف الافعال التي تؤدي الى تخريب الاقتصاد الزراعي وكأنه يشن حرباً غير معلنة على نظامنا، مما يستوجب انزال اقس انواع العقاب واروع الاجراءات بحقه. الفلاح الذي دافعت عنه مذنب وليس بريء، ومع ذلك اعطيت انا توجيهاتي لمسؤولي الدولة والحزب في تلك المناطق القيام بما هو مطلوب ومد يد العون لمساعدة المحتاجين هناك ). انتهت الرسالة.
واصلت دولة العمال والفلاحين السوفيتية سياسة جمع المحصول الزراعي من الفلاح الجائع اصلاً بقصد تصديرها الى الخارج والحصول على العملة الصعبة التي تسير الآلة الصناعية، وبالتحديد في المجال العسكري. بالتالي، تفاقمت المعاناة واتسعت لتطال 30 مليون انسان في مناطق حوض نهر الدون وفي القوقاز واوكرانيا وكوبان واجزاءاً كبيرة من كازاخستان. في حزيران ( يونيو ) 1933 ارتفع عدد الوفيات في تلك المناطق بسبب المجاعة الى 100000 بالمقارنة مع سنة 1932 اذ كان 90000، ووصل العدد الاجمالي لضحايا فترة المجاعة الى ستة ملائين انسان وغالبيتهم في اوكرانيا التي واجهت شبه ابادة جماعية. يُعزى سبب المجاعة التي نهشت في جسد تلك البلاد وحصدت ارواح الملائين الى سوء ادارة النظام السوفيتي واخضاع الفلاح قسراً للزراعة الجماعية والتعاونية ( الكولخوز والسوفخوز ) والاستيلاء على ناتج عرق جبينه، بالإضافة الى تعرضه بين الحين والآخر للعقاب الجماعي ولسوط وتدخلات منظمات الحزب المذلة بحقه. لكن الدولة من جانبها بررت حملاتها التأديبية والعقابية على الفلاح وحمّلته المسؤولية طالما يستمر على الثورة ويتمرد على السياسة الزراعية المرسومة ويخرب الاقتصاد. اتبع ستالين اسلوب الانتقام من الفلاح وكسر ارادته وتجويعه مقتدياً بالمثل القائل: اذق عدوك الجوع لكي تنتصر عليه. بالرغم من استفحال سياسة الترويع واخضاع القطيع، نهض الشيوعي الروسي البارز ( بوخارين ) وانتقد ما مارسه ستالين من عقاب بحق الفلاحين والذي فاق في بشاعته ما اقترفته النظم القيصرية واقطاعييها. في كازاخستان آلت تجربة المجمعات السكنية المصطنعة الى نتائج كارثية بحق الثروة الحيوانية ونفق 80% من المواشي والاغنام والابقار بين سنوات ( 1930 – 1933 )، مما ارغم مليوني كازاخي الى ترك اماكن سكناهم والتوجه صوب اواسط آسيا او الصين. في هذه الاحوال يبقى السؤال التالي ينتظر الجواب: لو نجحت الثورة الاشتراكية البولشفية بإنقاذ الفلاح من نير عبودية الاقطاع ومن شظف العيش، لماذا انتفض هذا الفلاح باستمرار وعلى عموم الارض السوفيتية، ولماذا اصبح الحزب في مواجهة وعداء مع جموع الفلاحين واذاقهم الذل واوصلهم الى حافة المجاعة.
لم تصب سهام ستالين المزارعين الاثرياء والقوزاق والبرجوازيين واللبراليين والقوميين بكل توجهاتهم والروحانيين فقط، بل طالب اصحاب المهن والحرف اليدوية وصغار الصناعيين الذين صودرت حريتهم في العمل الاختياري واممت مهاراتهم وتعرضوا للابتزاز تحت ذريعة حبهم للتملك الفردي وتلوث افكارهم بالجرثومة البرجوازية، مما يستوجب التشكيك بولائهم للنظام الاشتراكي. كوسيلة لإيجاد الشماعة لتعليق الاخفاقات وخلق كبش الفداء، تم تسريح الآلاف من الكوادر الفنية والهندسية والادارية وسحبت منهم بطاقة الاغاثة الغذائية والضمان الصحي وابعدوا عن السكن الحكومي بعد ان حُمِّلوا مسؤولية التلكؤ في الانتاج الصناعي. في عملية مماثلة طرد الآلاف من موظفي ومستخدمي الدولة بقصد تطهيرها من المخربين وفلول الثورة المضادة، ونفذ حكم الاعدام بـ 48 موظفاً وفنياً بوزارة المالية في ايلول ( سبتمبر ) 1930. وصل عدد المسرحين من الخدمة بين سنوات ( 1928 – 1931 ) الى 130000 واعتبر 23000 اعداء النظام وسحبت منهم بطاقة السلة الغذائية والعلاج المجاني. في مناطق حوض نهر الدون تم تسريح 48% من المهندسين سنة 1928 تحت ذريعة تحصين جهاز الدولة ضد الفكر البرجوازي.
تاريخياً مثلت الكنيسة الروسية الارثودوكسية حصناً فكرياً وروحياً ومعنوياً وحظيت بتعاطف وتأييد قطاعات واسعة من كل طبقات المجتمع، مما دفع ستالين لوضعها تحت المجهر واتباع كل الإجراءات من اجل التضييق عليها واخفات صوتها وتدجين قادتها. وبعد ان عانت الكنيسة من الممارسات الستالينية عن طريق الحملات التثقيفية ومراقبة مرتادي الكنيسة ومتابعة نشاطات رجالها، انخفض كثيراً عدد الكنائس التي تفتح ابوابها لإقامة المراسيم واحياء القداديس. سنة 1914 كان عدد مثل تلك الكنائس 54692 واصبح في سنة 1930 ثلاثين الفاً وفي 1936 خمسة عشر الفاً، وترافقت تلك الحالة مع انخفاض عدد الحضور بين سنوات ( 1917 – 1936 ) من 30 مليون مؤمن الى 10 مليون فقط. بعد ان نجحت السلطة الستالينية في اجراءاتها للحد من نشاط وتأثير الكنيسة، اصدرت سنة 1929 قراراً بمصادرة النواقيس تحت ذريعة ان رنات دقاتها تكدر راحة المواطنين. وفرضت ضرائب عالية على رجال الدين والذي يتهرب يقع تحت طائلة العقاب مثل اثرياء المزارعين واعداء النظام وتسحب منه بطاقة الاغاثة الدوائية والعلاج المجاني. بقصد التأثير على قرارات الكنيسة وتأجج الصراعات والانشقاقات فيها فرضت السلطة الستالينية نفسها طرفاً ورجّحت كفة على أخرى، وعينت بطريركاً يسير في فلكها. بالنتيجة، اعترض العديدون على ذلك القرار وانشقوا عن البطريرك الجديد، ودفعوا الثمن عندما تم ترحيلهم من مناطق سكناهم. تمادت السلطات بإجراءاتها واصدرت الاوامر سنة 1929 بمنع نشاطات الكنيسة في المجالات الخيرية والاجتماعية واغلاق ابواب كافة الكنائس ما عدا تلك التي يجيز لها القانون بإحياء القداديس واقامة الشعائر وتلاوة التراتيل. بالإضافة لهذا، شنت الشبيبة الشيوعية ( الكومسومول ) حملات ضد الايقونات والتماثيل وازالوها من اماكنها، مما اغضب المؤمنات والمؤمنين ودفعهم للصدام مع مدنّسي المقدسات ( حسب رأيهم ). فتحت تلك الافعال الجروح في نفوس وقلوب الفلاحين وبسطاء الناس الذين يكتنزون في اعماقهم الايمان بالمسيحية الارثودوكسية وجعلتهم لا يحبذون الماركسية اللينينية، بل تشاءموا من مستقبلها المظلم.
في 1937 استؤنفت الحملة على الكنيسة وتصاعدت وتيرة المضايقات واعتقل مئات الاساقفة والقساوسة وتم اعدام عدد منهم واحتجاز آخرين في معسكرات التأديب واعادة التأهيل، مما تسبب بإنخفاض كبير في عدد الكنائس ومرتاديها الدائمين. انخفض عدد الكنائس التي تقيم القداس باستمرار في عموم روسيا من عشرين الفاً قبل اندلاع ثورة اكتوبر 1917 الى الف فقط سنة 1941.
من خصائص نظام الاستبداد والشمولية ابتداع الاعداء باستمرار، مما دفع ستالين الى اعتبار الحرفيين واصحاب المهارات اليدوية وصغار الصناعيين شرائح غير مأمونة الولاء للاشتراكية لأنها تنتمي الى هوامش البرجوازية. في 1939 صدر القانون لتقرير مصير تلك الفئات وصهرها في بودقة البلوريتاريا وشطب وضعها الاقتصادي والاجتماعي. من وجهة نظر المؤمنين بخلق المجتمع المتجانس ينبغي ان يستمر الصراع الطبقي العنفي ويتحول الى حرب لا نهاية لها، لأن بعد اندحار العدو الجبار تبدأ الحاجة لإنهاء العدو الاصغر، وبعد افنائه تشتد الضرورة لإلغاء المشكوك بولائه، وتتوسع الدائرة لتشمل عدد من قادة الثورة ورفاق الامس المختلفين او المعترضين. بالتالي لا ينتهي النزال الا بإنهيار النظام او بتقويض وشلل اجزاء مهمة من مكونات المجتمع. عندما كانت التجربة اللينينية الستالينية وبالاسترشاد بالايديولوجيا الماركسية تبنى المجتمع الاشتراكي اللاطبقي عاشت شعوب روسيا السوفيتية المرارة والجحيم في الكثير من جوانب الحياة وتكرست ثقافة العنف المقنن من قبل الدولة، مما تسبب بإختفاء مئات الآلاف في ظروف غامضة وبأساليب شتى. لم تجد حينها الاقلام الخيرة وريشات الرسامين والفنانين الفرصة لتسطير المأسات ووصف الفواجع وازالة الغطاء عن الحقائق الكارثية. لم تكن حملات البطش تصرفات فردية وقليلة الحصول او نادرة، بل سياسة مركزية ممنهجة وبعلم واشراف اعلى مسؤول في هرم الدولة والحزب الشيوعي. لكن في حالات عديدة انطلقت حملات تأديبية عشوائية غير منظبطة، مما تسبب بسوء فهم الاوامر والفوضى او المبالغة بتنفيذها.
تطهير الحزب وتكريس عبادة الشخصية
سبكت تجارب الحزب البولشفي لبضعة عقود شخصيات قيادية تتمتع بقدرات عالية في مجال التنظيم الحزبي وتعبئة الجماهير والالمام بفلسفة المادية التاريخية والايمان المطلق بالايديولوجيا الماركسية، بالإضافة على قدر جيد من الثقافة العامة. لكن ستالين وبالرغم من وصوله الى الصف الاول من بين قياديي الحزب لم يكن ذلك الشخص الملم بالفلسفات بالدرجة الكافية ولم ينكب يوماً على دراسة فلسفة كانت او هيغل او فويرباخ بعمق، مما جعل العديد ممن في قمرة القيادة يتفوقون عليه فكرياً وثقافياً. وهو ذلك الحصان الجامح والطموح الذي يرفض ان يبقى في ظل القياديين الآخرين، صمم منذ البداية ازاحة وشطب كل من يعترض طريقه وبكل الاساليب مهما بلغت دناءتها. كان الكثيرون من خصوم ستالين الذين اصابتهم سهامه ابطالاً في ثورة اكتوبر ومخلصين للبولشفية، لكن حياتهم انتهت غدراً برصاصة اطلقها رفيق الامس او اختفوا بطريقة ظلامية ماكرة او التف حبل المشنقة حول رقابهم او نفيوا الى سيبيريا ليذوقوا الموت البطيء. صدرت الاوامر بإعادة طبع بعض مؤلفات ماركس وانجلز بقصد تقليل الضياء الموجهة اليها وتسليطها على كتابات ستالين وابراز اهميتها في مجال الفكر والفلسفة التي طغت عليها السطحية والعموميات. وهكذا، تمهد الطريق لتمجيد شخصيته وجعلها المحور في صناعة الاحداث التاريخية المفصلية مما دفعه لتوجيه المؤرخين لإعادة كتابة تاريخ روسيا الحديثة لأن ( حسب رأيه ) الطريقة المتبعة سابقاً عكست مفاهيم نظام العبودية والاقطاع والرأسمالية التي جميعها لا تعبر عن جوهر الانسان ولا عن كفاح الشعوب. وفي مساعيه لوضع بصماته على عملية صياغة المسيرة احيا التقاليد التي كانت تمجد الروح الوطنية والقومية اثناء حكم القياصرة، واعترف بأن الاتحاد السوفيتي بلد متعدد الاقوام والاعراق، لكنه اوجد اطاراً جديداً ينظم علاقات المكونات الاثنية واطلق عليه تسمية ( الوطنية البولشفية ). بالرغم من اعلانه المساوات بين كافة شعوب الامبراطورية السوفيتية وابعاده الطابع الديني او المذهبي الارثودوكسي عنها، اعتبر المكون الروسي النموذج للأخ الاكبر الذي يقود ويرعى اشقاءه الاصغر.
حينما غرق ستالين في الخيلاء وهوس عقدة العظمة، اعتبر نفسه ليس فقط منقذاً للانسان من محنته الاقتصادية والاجتماعية بل ومن ازمته الاخلاقية. في ذلك السياق ادعى انه ينقل المجتمع السوفيتي من مرحلة غياب الفضيلة والقيم الانسانية الى مستويات الرقي والكمال التي لا تعتبر الثروة معياراً لتقييم الانسان، بل الابداع والجهد والتضحية التي يقدمها لوطنه ولحزبه. وبقصد الاستخفاف بعقول البسطاء، روج بأن الدولار الامريكي لا يعني شيئاً وليس سوى نوعاً من النفايات. بالإضافة لهذا، دعا الى غرس ثقافة الأبوة لأهميتها في رعاية وتقويم وتماسك العائلة، لكنه اعتبر الحزب البولشفي الاب الحقيقي والناجح الذي يرعى ويرشد ابناءه. بالموازات مع حملات غسل الادمغة وشحنها، سخرت اجهزة الدعاية والاعلام الستالينية كل طاقاتها للتوعية بمفاهيم القائد الفذّ وصانع التاريخ والاعاجيب وحامل رسالة انجاز المستحيل. بالتالي، تحولت مشاريع بناء المدارس والمستشفيات وتعبيد الطرق واقامة الجسور ومد سكك الحديد وتشجير المتنزهات الى هدايا وعطايا من الاب الحنون والرفيق الحكيم والمعلم الكفوء الى ابنائه وبناته واخوته الذين يكنون له الجميل لأنه اخذهم بيده الى حياة الرفاه والسعادة والنعيم. أعطت الدعاية المؤثرة وحملات التثقيف الحزبية ثمارها، وخاصة عندما اهتزت جدران المدارس من قوة صدى الاناشيد التي رددتها حناجر التلاميذ كل صباح وهي تصرخ ( شكراً لك يا رفيق ستالين لأنك وهبت لنا الطفولة الهانئة والفتوة الواعدة ). تدريجياً، تهيأت الاجواء واستقرت الارضية التي ارتكزت عليها ثقافة عبادة الفرد وتأليه الانسان، واستمرت بسلاسة بعد بضعة سنوات من جلوس ستالين على عرش الدولة او الامبراطورية السوفيتية. اقترن ترويج ثقافة عبادة الفرد مع عمليات التصفية والاستئصال لشخصيات متميزة في الحزب الشيوعي الروسي من امثال بوخارين الذي دفع به ستالين الى الظل عندما جرده من كافة مسؤولياته الحزبية سنة 1933 مع مجموعة من الكوادر القيادية التي اطلق عليها الزمرة اليمينية. تم اعدام هؤلاء فيما بعد.
عندما ارتفع موج عبادة الفرد وتقوى سيلها غرق البعض في الدوامة ونسوا ذاتهم وتقمصوا شخصية ستالين ولعبوا في مجالهم دور الاب المرشد الذي يوجه الولد غير الناضج والعاجز على ادارة شؤونه بمفرده. لم يقتصر الاعجاب بشخصية ستالين وعبادتها على جغرافية الاتحاد السوفيتي، بل تجاوزها وزحف الى العديد من الدول، وبالأخص في شرق آسيا التي شهدت رواجاً للفكر الشيوعي وتقديساً لرسله. للاستدلال على ذلك نعرض القصيدة التالية للشاعر الفيتنامي توو هوو : يعيش، يعيش هوو شي منه الذي قاد البلوريتاريا وانار لها الطريق يعيش القائد ستالين، الشجرة الباسقة والخالدة التي في ظلالها يرفل السلام اقتل ... اقتل يا رفيق ومرة اخرى اقتل بطريقة لا تهدأ اليد ولو لدقيقة واحدة لكي تينع حقول الرز وتفيض عطاءاً ولكي يمضي الحزب الى الامام ونمضي نحن معه بقلوبنا وارواحنا نبجل الرئيس ماوتسي تونغ ونقدم كذلك لستالين العبادة الخالدة
في روسيا كتب الاديب والشاعر الشهير بوشكين الابيات التالية : يعيش لينين، يعيش ستالين تعيش الضياء الساطعة التي طردت الظلمة الحالكة
اعتقد لينين بأن الطبقة العاملة تفتقر الى الوعي المطلوب، مما يجعلها بحاجة الى حزب ثوري يقودها ويؤدي دور المرشد والساهر على مصالحها ويؤمن تطبيق نظام دكتاتوريتها. من جانبه، طور ستالين تلك النظرية واستند الى بعض العبارات من كتابات ماركس ولينين ورأى بأن الحزب الثوري نفسه بحاجة مستمرة الى التهذيب والتشذيب لكي يتطهر من العناصر الوصولية والمنحرفة والمتذبذبة او الملوثة افكارها بالقيم البرجوازية. بالتالي، يتطلب الامر وجود قيادة صلبة وحازمة وجريئة تتخذ الاجراءات الصارمة وتبرهن على اخلاصها للماركسية اللينينية وجدارتها في الإطّلاع بمسؤوليتها. راود ستالين خيلاء العظمة وتمتع بشخصية سادية وشكوكية، مما دفعه لتصديق الاشاعات الكيدية والفتك حتى بالبولشفيك المخلصين، طالما اعتبرهم معارضين لاسلوبه الاملائي وغير محصنين ضد الفكر البرجوازي. عندما شنت الاجهزة الستالينية حملات شرسة لتطهير الحزب وترويضه، تعكزت على شعار تربية الشيوعي النقي من الفكر الرجعي والانهزامي، لكن الغرض الحقيقي كان زرع الرعب وتكميم الافواه والتخلص من العناصر المناهضة للإملائية ولعبادة الشخصية. ولتفصيل تلك الاجراءات وجعلها منهجاً، صدرت الاوامر بإخضاع كافة اعضاء الحزب للإستجواب والتحقيق بقصد كشف حاضر العضو والحالة الطبقية السابقة لعائلته وتوجهها الايديولوجي، مما ادى الى طرد الكثيرين واسقاط عضويتهم او تخفيض مرتبتهم الحزبية. الى جانب هذا، الزم اعضاء الكادر بممارسة النقد الذاتي وكشف اسارير افكارهم والاعتراف بشحطاتها، وتحولت تلك الطقوس الى ما يشبه المحاكم الاستعراضية التي خلالها يقر احدهم بذنوبه ويطلب المغفرة او يشي برفيقه ويقصيه عن الحياة السياسية والاجتماعية. في بعض الحالات انهارت القيم الاسرية وادان بعضهم والديه بسبب انتمائهم الطبقي وماضيهم العقائدي وتنكر لهم لأنه اعتبرهم خونة للمبادىء الشيوعية والنظام السوفيتي الستاليني.
من اجل الابقاء على بؤرة واحدة تجتذب كل حزم الضياء، امتدت الاذرع الستالينية لإقصاء كافة العناصر التي تتمتّع بالثقل والتأثير داخل الحزب. بما ان ليون تروتسكي كان احد الشخصيات المركزية في الحزب البولشفي ولعب دوراً معتبراً في الترويج للايديولوجيا الماركسية وساهم بتحريك قطار ثورة اكتوبر الاشتراكية وصيانة مسيرتها من خلال تأسيس قطعات الجيش الاحمر، كان لا بدّ ان يتنبه اليه ستالين منذ البداية ويوجه اليه سهامه او يصطاده بشباكه. لم يطمئن ستالين على موقعه كقائد اوحد وهو يتعايش مع تروتسكي ذو التاريخ السياسي والفكري الغزير، ولم يرق له سطوع نجمه في الحزب والدولة السوفيتية، مما دفعه لحبك المكائد ضده واخفائه عن الصورة. استعان ستالين بجهازي الامن والدعاية اللذين صنعهما بيديه وترعرعا بتوجيهاته، وفبرك القصص عن نشاطات تروتسكي التخريبية والانشقاقية ووجه اليه تهمة الخيانة العظمى. في حزيران ( يونيو ) 1927 اقصي الاخير من الحزب البولشفي ونفي الى كازاخستان في السنة التالية، وبعدها غادر الاتحاد السوفيتي الى تركيا ومن ثم الى فرنسا والنرويج واستقر اخيراً في بلاد المكسيك.
لا تستقيم النرجسية وعقدة العظمة والتغول مع قبول الرفاق الند، بل ترفض ان يتلقى القياديون الضياء بالتساوي. تحت ذريعة تنظيف الحقل من الادغال ( حسب رأي ستالين ) تمت في كانون الاول ( ديسمبر ) 1934 مراجعة ملفات اعضاء القيادة والكادر وأقصى العديدين. تتوجت تلك الحملة بطرد 15218 عضو في الحزب واعتقل بعضهم وتم ترحيل 20000 مواطن الى كازاخستان وغرب سيبيريا في آذار من نفس السنة. في السنة التالية اعتقل 65000 كادر وعضو بتهمة التواطىء مع اعداء النظام الاشتراكي او انتقاد سياسة ستالين او تدبير محاول لإغتياله. كان من بين هؤلاء قياديين في الحزب او من التكنوقراط الذين اكتسبوا خبرات واسعة في قطاع الصناعة والاقتصاد والادارة، بيد انهم اتهموا بتشكيل خلايا تابعة للمنشق الكبير تروتسكي. بعد خمسة شهور من التحقيق والتعذيب الوحشي للقياديين في الحزب كامينيف والاديب كارل راديك اعتقل 17 قيادي آخر ومن بينهم يوري بيتياكوف نائب رئيس مفوضية الصناعات الثقيلة وليونيد سير يبراكوف رئيس ادارة منظومة المرور العامة وياكوف ليفثين نائب مدير ادارة سكك الحديد وبوريس نوركين مدير مؤسسة الصناعات الكيمياوية وميخائيل سترو يلوف رئيس مهندسي صناعات الفحم. في اجواء فانتازية وعاطفية ومن دون ان يكلف القاضي نفسه بالبحث عن الادلة واعتماده فقط على هلوسة المتهمين واعترافاتهم على انفسهم وهم تحت التعذيب البربري، صدرت احكام الاعدام رمياً بالرصاص. جاء في قرار الادانة ما يلي: ( امامنا مجموعة من المتآمرين الذين خططوا لشطب الدولة السوفيتية واسقاط النظام الاشتراكي واغتيال رمزه، ستالين. لقد نظم هؤلاء انفسهم في خلايا نائمة تنشط سراً وفي الظلام لأكثر من سنة وتتصل بالاجنبي وتتلقى منه الدعم والتأييد. في هذه الحالة لا تحتاج المحكمة الى البحث عن الادلة، ولا سيما واعترف هؤلاء بجريمتهم ) انتهى نص القرار. بعد اقل من عقدين من تربع ستالين على عرش الامبراطورية السوفيتية، ارتفعت وتيرة التصفيات والترويع لأن الدكتاتور اعتقد بأن الحزب البولشفي لا يتمكن من اداء رسالة خلاص البشرية الا عندما يتنقى ايديولوجيا ويتهيأ عسكرياً للحرب الوشيكة. استثمر ستالين حادثة اغتيال كيروف، مسؤول الحزب في مدينة بطرس بورغ ( لينين غراد ) في الاول من كانون الاول 1934، والتي لازالت لغزاً لحد الآن، واعيد التحقيق مع كامينيف وزبونوفيف واتهما بتورطهما بالإغتيال وبعلاقتهما مع المنشق تروتسكي، مما استوجب ادانتهما وتنفيذ حكم الاعدام بهما. في ربيع 1937 انطلقت حملة تصفوية وقبض على العديد من مسؤولي اللجان الحزبية، وبقصد توسيع تأثيرها، ارسل ستالين جلاوزته الى كافة المناطق للإشراف على عمليات التطهير واعتقال او استبدال المسؤولين بآخرين اكثر ولاءاً واخلاصاً له. اثناء مراجعة نتائج الخطط الخمسية المتلكئة اصلاً، وقع العديد من المهندسين والفنيين كبش فداء للاخفاقات في المشاريع الارتجالية. وجهت للبعض تهم تخريب الاقتصاد الاشتراكي والارتباط بمجموعة تروتسكي، وتحول التشكيك بالرفاق الى حالة مرضية هستيرية واصبح الزوج رقيباً على زوجته وبالعكس، مما رفع من وتيرة المداهمات والافتراسات في كل مؤسسات الدولة ومنظمات الحزب.
منذ البداية وضع ستالين نصب عينيه ترتيب الامور داخل الحزب البولشفي وجعلها تحت امرته الفردية الوحيدة، مما دفعه للقيام بإجراءات تغيير هيكلية الحزب وتنقيته من العناصر المتذبذبة ( حسب رأيه ). بالنتيجة، تم ابعاد شخصيات وضعت بصماتها على ساحات الفكر والاقتصاد والصناعة، لكن ستالين استهان بذلك واكد على ضرورة استمرار الصراع بين النظام الاشتراكي الناهض وبين اعدائه الطبقيين والايديولوجيين، وان التهاون يعرض مستقبل الدولة السوفيتية للخطر. وبقصد شحذ الهمم والنفاذ الى قلوب الجماهير المح الى ازدياد شراسة الاعداء في الداخل والخارج كلما تقدم الحزب للأمام وحقق النجاحات، وحذر بأن تأزم العلاقات الدولية ينذر بنشوب حرب كونية يكون احد اهدافها الرئيسية تقويض النظام الاشتراكي. في حملته التثقيفية والتعبوية، تمكن ستالين من اعداد وتأهيل اكثر من 150000 عضو حزبي يتم توزيعهم بين القطعات العسكرية، ليس فقط كمقاتلين، بل ومراقبين للمراتب العليا ومخبرين تابعين لجهاز المخابرات. بالرغم من تلك الاجراءات والخطوات الاحترازية، شكا ستالين الى اعضاء المكتب السياسي وعاتبهم لأن الحزب مصاب بالشلل او التراخي في بعض مفاصله وتطاله الاختراقات احياناً، مما يلزم اخضاعه لعمليات جراحية تعيد اليه عافيته ونقاوته. لم يتنبه ستالين الى اصابته شخصياً بمرض الفوبيا من رفيق البارحة ( تروتسكي ) الذي جعله يعيش هوس تغلغل المناولين في بعض خلايا الحزب وتسلق بعضهم الى المستويات العليا. عندما وقع اسيراً في شباك القلق والمخاوف، اعتقد بأنه محاط بالمخربين والدخلاء الذين يحيكون المؤامرات ويخربون الاقتصاد، وهدد بأن تترك تلك العناصر المسرح السياسي وتختفي خلف ستارته قبل ان يقذف هو بها الى نفايات التاريخ. لم يبق وعيد ستالين مجرد تهديدات يستهلكها الريح، بل تم تنفيذها وخاصة سنة 1927 عندما امر بتصفية 96000 عضو في الحزب، وفي 1930 ارتفع العدد الى 105000. غداة انعقاد مؤتمر الحزب البولشفي السابع عشر، طال الاستئصال عدد من المندوبين بمستويات رفيعة واعضاء في المكتب السياسي، مثل آيشا ( Eiche ) وبوجيتيف ( Potschgtev ) وكوسيور ( Kossior ) وجوباف ( Tschubav ) وروتسوتشاك ( Rudzatack )، بالإضافة الى عدد من اعضاء اللجنة المركزية الذين ابعد بعضهم الى سيبيريا او جبال الاورال. غرست تلك الافعال التذمر والحسرة في اعماق المواطن الذي رأى في معظمها دوافع كيدية وانتقامية آلت الى صعود الآلاف من الشرائح التكنوقراطية والمثقفة الى المشانق وتسببت بتبوء سلم الحزب والدولة عناصر شابة قليلة الخبرة، لكنها شديدة الولاء والطاعة لستالين، ولا سيما وهي تربت تحت ظلال جبروته. هل تستقيم تلك الممارسات مع رسالة خلاص الانسان وتأسيس الجهورية الفاضلة واقامة المجتمع المتجانس ؟
بين سنوات ( 1936 – 1938 ) تصاعد الارهاب الستاليني بشكل ملحوظ وامتدت اذرع اخطبوطه ابعد تحت ادارة رئيس جهاز المخابرات نيكولاي يشوف ( Jeshov ) الذي ركز سهامه على مجموعة تروتسكي لأنها تشكل خطراً كامناً في النواحي التنظيمية والايديولوجية. لم يردع ذلك تروتسكي ونشر مقالاً في جريدة لي تيمبس ( Le Tempes ) الفرنسية وجاء فيه ما يلي : ( ان الثورة في روسيا السوفيتية عند مفترق الطرق، وخاصة وان السيد ستالين يفهم الماركسية اللينينية على هواه ولا يستوعب الايديولوجيا وملحمة الثورة العالمية بعمقها وبعدها الصحيح. مما لا ريب فيه انه اشتراكي ووطني مخلص، لكنه لا يدرك بأنه يسيء الى الاشتراكية عندما يدير الحكم بهذا الاسلوب الفردي. يبدو ان طموح وجموح هذا الشخص يؤدي الى تأسيس نظام استبدادي يبتعد عن الطبقية، لكنه في الوقت نفسه لا يمثل جوهر الشيوعية الصحيحة ) انتهى الاقتطاف. في 30 كانون الثاني ( يناير ) 1937 كتب تروتسكي في جريدة لي ايكو دي باريس ( صدى باريس ) بلهجة اقسى واعنف حينما شبه ستالين بالقيصر ايفان الرهيب 1530 وبطرس الاكبر والقيصرة كاترينة. لم يتردد بوصف الدولة السوفيتية كرهينة بيد البيروقراطية والفساد، مما يتطلب قيام ثورة سياسية تنقذ الوضع وتصحح المسار وتعيد ثورة اكتوبر الى خيمة البولشفية اللينينية التي يرفرف فوقها علم الشيوعية.
الستالينية تشوه العلوم وتسترخص الارواح
مدت الستالينية يدها لتختطف العلوم والمعرفة وابداعات الانسان وطاقاته وتحرفها تحت ذريعة تطابقها مع الايديولوجيا الماركسية وتسخيرها لمصلحة الجماهير. في بادرة لا سابقة لها ولكي يرضي رغباته، جرد ستالين العلوم من اصالتها واساء لها عندما صنفها الى علم البرجوازية الرجعي وعلم الماركسية التقدمي. وللايغال بذلك النهج، تم اعتقال عدد من العلماء ونفي آخرين واعدام البعض تحت ذريعة معاداتهم للنظام البولشفي وعدم اعترافهم بشمولية ودقة العلم الماركسي. بالرغم من تغنّي وسائل الدعاية والاعلام الموجه بالطفرات العلمية المذهلة، ولا سيما فيما يخص الصناعة والزراعة، لم تحقق المصانع شيئاً ذات قيمة، ما عدا في الجوانب العسكرية، وانخفض الناتج الزراعي بنسبة 14% بين سنوات ( 1930 – 1934 )، واصاب اشجار الفاكهة الكارثة عندما ذبل او مات 85% منها. لكن مسؤولي اللجان الحزبية في البساتين التعاونية رفعوا تقارير كاذبة وحولوا الاخفاقات الى نجاحات وتخطي الارقام القياسية. وبقصد التظليل وايهام الناس، طبلت وسائل الاعلام الستالينية لمسألة تصدير الحبوب الفائضة عن حاجة البلد الى الخارج، في الوقت الذي تعرض المواطنون في اوكرانيا وشمال القوقاز وكازاخستان الى المجاعة او عانوا من سوء التغذية، ولا سيما عندما صودرت الحبوب من تلك المناطق بأمر من ستالين ونقلت بعضها الى المقاطعات التي عمتها النقمة والسخط بشكل اخطر. حصل الاسوء عندما انتشرت القوات العسكرية والاستخبارية في المناطق التي سحبت منها الحبوب لمنع سكانها من النزوح، مما تسبب بالكوارث ووفات مليون انسان تقريباً بسبب المجاعة.
في ايار ( مايو ) 1939 اعترض عالم البيولوجيا الشهير وعضو اكاديمية العلوم السوفيتية وحامل جائزة لينين للعلوم نيقولاي افيلوف على بحث يخص علم الجينات لإحتوائه اخطاءاً علمية جسيمة والذي قدمه ليسينكو احد المدعين بإضطلاعه العميق بالماركسية وبإيمانه المطلق بدقة علومها. اثناء المناظرة اثبت العالم افيلوف بالاستناد الى نظرية داروين بخصوص التطور والارتقاء وجود خطأ علمي كبير في بحث ليسينكو لكن رئيس اكاديمية العلوم السوفيتية تبنى رأي ليسينكو ووبخ افيلوف لأنه استقى كل معلوماته من نظرية داروين وتجاهل او قلل من شأن الماركسية التي تشمل كل العلوم وتفوقها بالدقة وبالمنفعة للبشرية.
اشار رئيس الاكاديمية العلمية الى ان الدارونية محدودة في نظرتها وتحليلها ولا ترقى الى مستوى الماركسية في غزارتها العلمية والانسانية. بعد المناظرة أُخضع العالم افيلوف للإستجواب وحينما سأله رئيس الاكاديمية عن رأيه حول دقة وشمولية وعلمية الماركسية، اجاب بأنه يكن كل التقدير لماركس الفيلسوف والاقتصادي وانه معجب بطروحاته وتبنيه لمشكلات العمال وشعوره بهموم الفقراء. في احد الايام وتحت جنح الظلام اعترض طريق افيلوف اربعة من رجال الامن واقتادوه الى المعتقل، وهو تحت التعذيب وجهت اليه تهمة تخريب الزراعة السوفيتية. ادين ذلك العالم وحكم بالاعدام، ثم خفض الحكم الى عشرين سنة. لكنه توفي بعد فترة قصيرة وهو في عمر الخامسة والخمسين بسبب سوء التغذية وشدة المعاناة. لم تستطع اجهزة القمع والترويع الستالينية من طمر عطائه وازالة البصمات التي تركها على مجاله العلمي، مما جعلها مراجع ومصادر يستعين بها العلماء ليومنا هذا. اما الدجال والمتملق ليسينكو فلقد حضي برعاية وتأييد المسؤولين، مما دفعه للتطبيل حول ابداعاته وتطبيقاته للعلوم الماركسية، ولا سيما في مجال الزراعة وعلم الجينات، وادعى بأنه انجز افضل مما توصل اليه عالما علم الوراثة مانديل ومورغان. قفز ليسينكو فوق الحقائق وغض الطرف عما اصاب قطاع الزراعة من الفشل المريع ومن التراجع.
في 1931 تعرض بوريس هيس احد علماء الرياضيات والفيزياء الروس البارزين الى مشاكل سياسية لأن بحوثه بخصوص نظرية الميكانيك والكمية والنسبية لم تتطرق الى العلم الماركسي ولم تشر الى دورها واثرها في تجاربه. عندما استدعي للتحقيق قال بأن الماركسية عقيدة اقتصادية مذهبية وقدرية وتندرج تحت النظريات الفلسفية والايديولوجيات السياسية، بينما نظريات الفيزياء وغيرها من العلوم تخضع للتجارب المختبرية وتعتمد على الاحصائيات والنتائج النهائية وتعدد الاحتمالات. لم يكن هيس عالماً ادعائياً او وصولياً وانتهازياً ولم يتنكر لنظرية الكمية والنسبية او ينهار مثل عالم الفلك غاليلو غاليلاي الذي ارعبته وحشية محاكم التفتيش وارغمته على التنكر لاكتشافاته الفلكية التي استندت على نظرية كوبر نيق حول مركز الكون ودوران الارض حول الشمس. اعتبرت القيادة السوفيتية الستالينية العالم هيس مارقأ لأنه اقترف خطأً فاضحاً بحق العلوم الماركسية واستهان بها، مما استوجب اقصاءه ليس فقط عن المجال العلمي، بل وعن مسرح الحياة واسدلت خلفه الستارة.
بدلاً من توفير الاجواء الملائمة والمشجعة للعلماء والباحثين، وضعوا تحت مراقبة رجال امن ستالين وتمت ملاحقة العديد ممن كان لهم باعاً في مجال علم الفضاء والارصاد الجوي وفي حقل الزراعة والصناعة والطب وغيرها. لكن هذا لا ينفي حصول بعض الانجازات العلمية بما يخص الانشطار النووي والتطلع لإكتشاف الفضاء وانهاض الصناعة العسكرية، ولا سيما القوة الصاروخية البعيدة المدى. بالرغم من تضخيم وسائل الدعاية المؤثرة للإنجازات العلمية السوفيتية، لم تسجل تلك الانجازات سوى اقل من نصف ما تحقق في الولايات المتحدة الامريكية خلال نفس الفترة. لا شك ان للتربية والتعليم ومناهل الثقافة وفسحة حرية التفكير دوراً في اعداد العلماء والكوادر في كافة فروع المعرفة. بالنتيجة، انشق عدد من العلماء السوفييت وهربوا الى امريكا الشمالية لكي يتجنبوا امتهان الكرامة وسلب الارادة ويبتعدوا عن اجهزة الحزب والامن التي وضعتهم في دائرة الشك او ربما رشحتهم لإعتلاء منصة الاعدام. اثناء الفترة الستالينية عانى قطاع التربية والتعليم من التزييف والتشويه وغسل الادمغة بقصد غرس مفاهيم ايديولوجية معينة وتكريس عبادة الفرد وتنشأت جيل القطيع. عندما زار الاخصائيون التربويون الغربيون الاتحاد السوفيتي، لاحظوا بأن التلاميذ يتم تلقينهم بالنصوص الماركسية اللينينية وبالتوجيهات الستالينية بغية خلق اطار فكري جمعي. اثناء زيارتهم لإحدى المدارس وحديثهم مع احد المعلمين، جاء في كلامه بأن المؤسسات التربوية تستمد مادة التعليم والتنشأة من الايديولوجيا الماركسية مما اوجد تحولاً ايجابياً عميقاً في اوضاع المواطنين، وخاصة العمال، بينما اقرانهم في غرب اوروبا اصبحوا اكثر جهلاً ومعاناتاً من السابق تحت ظل النظام الرأسمالي. رد احد اعضاء الوفد الزائر على ذلك المعلم وقال بأن العمال في بريطانيا مثلاً اصبحوا اكثر تعلماً ومعرفة ورخاءاً بالمقارنة مع عصر كاتب الرواية الشهير جارلس ديكنز في القرن التاسع عشر. لكن المعلم رفض ذلك والتزم بإيمانه بعقيدة الحزب البولشفي وببرامجه لأنه لا يخطىء ولا يكذب، بل يصدق على الدوام.
عندما اصبح ستالين القيموم الاوحد على تنفيذ الرسالة الماركسية البولشفية وبناء المجتمع المتجانس، اطلق الثورة الثقافية التي ترمي الى تطهير عقل الانسان من اللوثة البرجوازية وحب التملك ومن جرثومة العقائد الدينية والغيبيات المغروسة في اعماق اوساط واسعة، ولا سيما الفلاحية. بالإضافة لهذا، سعى الى غرس واشاعة المفاهيم الاممية بغية ثلم ولجم التطلعات القومية لشعوب الارض السوفيتية التي تشوقت لإزاحة الصخرة الثقيلة للنظام في موسكو. حينما كان ستالين غارقاً في اوهام تحقيق الطفرات العجائبية وتمثيل دور رسول الماركسية اللينينية، جابه معارضة من الشيوعي البارز بوخارين وعدد من اعضاء المكتب السياسي للحزب البولشفي، لكنه لم يأبه بذلك وترك عجلة العنف تتدحرج بسرعة وهو متحكم بإتجاهات حركتها. في اجواء نهوض العواطف وغياب الاعتدال والعقلانية، مثل دور البطل الاسطوري الذي يحول ليس بلاده فحسب بل والعالم اجمع الى جنائن يغرد فيها العندليب والشحرور وينسى الناس نعيق الغراب. وبقصد اسماع الصوت الصامت الذي يمثل الحقيقة كتب الشيوعي المنشق فكتور كراجينكو في مذكراته سنة 1929 ما يلي: ( كنت في البداية احد المتحمسين لسياسة الحزب وانا اعمل في مصنع للتعدين، حينها تحلقت في فضاء الافكار والآمال الكبيرة، ولا سيما وكنا جميعاً تحت تأثير سحر الكلمات والشعارات. بالإضافة لهذا، امتلأنا انا وزملائي بالحماس للعمل وتحقيق المستحيل والثقة بنقل الامة الروسية من وديان التخلف الى قمم الرقي. اعتبرت بلوغ تلك الاهداف رسالة سامية ونبيلة، مما يستوجب بذل كل شيء بغية تحققها. كنت مؤمناً حقيقياً بالايديولوجيا الماركسية وبمشروع الثورة البلوريتارية لأني اعتقدت بأن اللبرالية والديمقراطية البرلمانية اساليب مظللة تستخدمها الرأسمالية، وانها غدت افكاراً بالية تخطاها الزمن ) انتهى المقتطف. استعان ستالين بأسلوب بعث الحماس واطلق حملة لإشاعة مفاهيم وعلاقات جديدة وسط العمال، مما دفعه لإستبدال الكوادر الصناعية والادارية ذات الخلفية البرجوازية بعناصر بروليتارية لكي يشعرها بأنها صاحبة الشأن وهي تتبارى لزيادة الانتاج وتستحق الترقيات والمكافئات وحمل النياشين على صدورها. بالرغم من الاعلان عن تلك المغريات والمحفزات، تناقصت اجور العمال بين سنوات ( 1928 – 1933 ) وخاصة عندما شن ستالين حملته ضد المزارعين في القطاع الخاص وصادر كل اراضيهم وانتزع انتاجهم وارغمهم على العمل في المزارع التعاونية.
اثناء الحقبة الستالينية تعرض البناء الاجتماعي الى التصدع وترعرعت شرائح غريبة عما اعتاد عليه المجتمع، وخاصة بعد موجات الترحيل الجماعي والتوطين القسري وهجرة الفلاح من الريف الى المدينة. تشوه الواقع المجتمعي اكثر بسبب اقصاء شرائح مهمة في مجال الفكر والفن والثقافة والمعرفة واحتجاز مئات الآلاف في معسكرات التأهيل واداء العمل البدني القسري ونفي مئات الآلاف الى مناطق نائية. من اجل تشديد قبضة النظام ووضع كافة تنقلات وتحركات المواطنين تحت السيطرة والمراقبة. صدرت التعليمات بإصدار جوازات سفر داخلية لكي تحدد وتتابع حركة اثرياء المزارعين وافراد الحرس الابيض والمعارضين الآخرين، مما آل الى ترحيل مئات الآلاف من اماكن اقامتهم تحت ذريعة عدم امتلاكهم بطاقات السكن الخاصة.
على صعيد المعركة ضد رفاق الامس، اعيد سنة 1935 الى المعتقلات الرهيبة الآلاف من انصار المنشق البارز تروتسكي الذين سبق واطلق سراحهم في فترات سابقة. تعرض هؤلاء لإمتهان الكرامة وفرض عليهم اداء العمل البدني المجهد في المناجم، مما دفعهم للإضراب عن الطعام في 27 اكتوبر 1936 وطالبوا بفصلهم عن السجناء العاديين والمجرمين والمنحرفين. بدلاً من الاستجابة لمطالبهم تقرر ترحيل عدداً منهم، واثناء الرحلة وبهدف تنفيذ الاوامر لتصفيتهم قتل 25 معتقلاً وسكب على جثثهم الزيت واحرقت. من اجل خدع الرأي العام، اعلنت اذاعة موسكو في اليوم التالي نبأ اعدام عدد من السياسيين المدانين بإنتمائهم الى الثورة المضادة واثارتهم اعمال الشغب. في مدينة ماغادان ( Magadan ) عاصمة ولاية كوليما ( Kolyma ) اضرب عن الطعام سنة 1936 عدد من المعتقلين التروتسكيين ورفعوا صوتهم ووصفوا نظام ستالين بأنه ابشع من النازية الهتلرية، مما دفع السلطة الى الانتقام واعدام 26 معتقلاً. وللايغال بإذلال الانسان، ارغمت السلطة الستالينية المحتجزين في معسكرات التأهيل والتأديب على العمل في فتح قناة موسكو والقناة التي ربطت بحر الشرق بالبحيرة البيضاء، بالإضافة الى مد سكك الحديد في اماكن مختلفة. في الوقت الذي تباهت وسائل الدعاية بتلك الانجازات واضفت عليها عبقرية ستالين قارنها احد الجريئين بما حققته جهود وعرق جبين العبيد لبناء الاهرامات لتكون رموزاً تمجد فراعنة مصر القديمة وتخلد ذكراهم وذكرى ذويهم. مع مرور الوقت على قيام النظام السوفيتي الستاليني وبدلاً من انخفاض عدد المحتجزين في معسكرات التأديب واداء العمل القسري، ارتفع بإضطراد ليصل سنة 1935 الى اكثر من مليون وسنة 1941 الى المليونين. عندما تولى بيريا ( Berija ) رئاسة جهاز الامن الداخلي سنة 1938، اقترح نظاماً غذائياً جديداً للمحتجزين في تلك المعسكرات، لأن معدل الوفيات بينهم ارتفع الى 8% بالإضافة الى تراجع كمية العمل المنجز عند العديد منهم. طالب بيريا بزيادة عدد السعرات الحرارية في الغذاء الذي يتناوله المحتجزون لكي يتمكن هو من تمديد ساعات عملهم وجعلها 11 ساعة في اليوم، وتقليص عدد ايام استراحتهم الى ثلاثة فقط في الشهر الواحد.
اندفع ستالين بشدة لعسكرة المجتمع وتقوية الجيش الاحمر وجعله اداةً لقمع المعارضين في الداخل ومنافسة الغرب في الاهتمامات الدولية وتأسيس شكل من اشكال الامبراطورية برداء الاممية. لم يكن بناء ترسانة السلاح وانعاش الصناعة العسكرية والتكنولوجيا النووية من دون ثمن باهض وعلى حساب قوت شعوب الاتحاد السوفيتي. بين سنوات ( 1946 – 1947 ) توفي اكثر من مليون شخص بسبب فشل النظام بالتعامل او التكييف مع ظروف ما بعد الحرب الثانية. حينها، دبت الفوضى والفساد في ادارة الاقتصاد وفي طريقة توزيع المعونة الغذائية، وارتفعت اسعار بعض المواد الاساسية بشكل جنوني، مما أوصل مئات الآلاف الى حافة المجاعة. نهضت الحقيقة ودحرت عملاق الدعاية الستالينية عندما اصاب الجنود السوفييت الصدمة وهم يشاهدون ظروف الحياة في الجارة ( السويد ) وتبين لهم النعيم والرغد والحرية التي يعيش فيها المواطن العادي في ظل الدولة الرأسمالية، في الوقت الذي يعاني فيه اقرانهم من شطف العيش وتأميم الفكر والارادة في دولة العمال والفلاحين. في الدولة البوليسية تتنبه اجهزة الامن والمخابرات الى كل الظواهر والتحركات وتمد مجساتها للمراقبة والتحسب لأي طارىء. لذلك، تم وضع الضباط والجنود العائدين من ساحة القتال تحت المراقبة، واخضع العديدون للتحقيق ووجهت اليهم تهم الاصابة باللوثة البرجوازية، مما استوجب احتجازهم في معسكرات التأديب واعادة التأهيل واداء العمل البدني. عشية اندلاع الحرب الثانية، تعرض عدد من كبار قادة الجيش للتصفية والاعدام بتهمة الخيانة او العمالة والتجسس للغرب. من بين هؤلاء المارشال توخاجيفسكي الذي سبق واشترك بحملة تحديث الجيش الاحمر، لكنه اختلف مع ستالين منذ الحملة على بولندا سنة 1920. طالت البربرية الستالينية سبعة من قادة الجيش البارزين واعتقل 980 ضابطاً و 21 جنرالاً وسرح من الخدمة اكثر من عشرة آلاف ضابط قبل حلول سنة 1940. حينها، تم اعدام عدد من المدانين ولم يعلن الخبر وعدد الضحايا. استمرت عملية تطهير الجيش الاحمر الى بعد سنة 1940، وبالتحديد قبيل حملة هتلر العسكرية ( بارباروسا ) على الاتحاد السوفيتي سنة 1941، مما تسبب في مشكلات قتالية وخلل في صفوف القطعات اثناء معاركها ضد الجيش النازي.
عبر موجات العنف والبطش الستالينية، تم احتجاز واستجواب اكثر من ستة ملائين انسان، واعدام مئات الآلاف وترحيل مئات الآلاف واجبارهم على التوطن في اماكن نائية او في سيبيريا. من الممارسات المروعة سنة 1937، وبالتحديد بين شهري آب (اغسطس) وايلول (سبتمبر) اعدام 22500 وبعدها مباشرة احتجز 57000 واعدم منهم ثلاثين الف. في جمهورية تركمانستان الصغيرة اعتقل 13500 مواطن واعدم منهم رمياً بالرصاص 4037 تحت ذريعة قيامهم بنشاطات معادية لنظام ستالين. بقصد اعطاء التصفيات وعمليات الترحيل الجماعي طابعاً مركزياً وثقلاً معنوياً، كلف ستالين عدداً من قادة الحزب البولشفي بالاشراف المباشر على تلك الاجراءات. بالتالي، اصبح احدهم مسؤولاً لمناطق لينين غراد ( بطرس بورغ ) وآخر لحوض نهر الدون وآخر لشمال القوقاز وآخر لأوزيكستان وآخر لسمولنسك ( Smolnsk ) ووقع الاختيار على نيكيتا خروشوف ليدير تلك الامور في اوكرانيا وميكويان في ارمينيا. اظهرت حصيلة القمع بين سنوات ( 1937 – 1938 ) اعتقال اكثر من مليون ونصف مواطن واعدام 681692 وترحيل عشرات الآلاف، بالإضافة الى احتجاز آلاف اخرى في معسكرات اداء العمل القسري. لم تكن الاوساط الثقافية والنخب الفكرية في منأى عن بطش ستالين، ولا سيما وان هذه الشرائح تقوم بدور معتبر في نشر الفكر التنويري واللبرالي وتطالب بحرية الرأي وقيام الحياة البرلمانية وتدين الاستبداد وكسر ارادة الانسان وتشويه آدميته. بالنتيجة، اعتقل الآلاف من الاكاديميين والفنانين والادباء واساتذة الجامعات ووجهت اليهم تهم التجسس او بث الدعاية المضادة او تسميم الافكار او الترويج للمفاهيم والقيم البرجوازية. من جانبه اتبع ستالين اسلوب مخاطبة المشاعر وشحن الحماس والغيرة الوطنية، وبقصد ايجاد كبش الفداء وامتصاص النقمة امر بإعتقال احد قادة الحملات البربرية نيقولاي ايزهوف. وجهت لذلك الشخص تهم اساءة استخدام الصلاحيات وتطبيق التعليمات بشكل خاطىء او مفرط، مما استوجب ادانته وتنفيذ حكم الاعدام به سنة 1938.
في 1939 تلقى رئيس جهاز المخابرات السوفيتية ( بيريا ) امراً في غاية السرية من ستالين يخص الاسراع بتهيئة كافة المستلزمات لملاحقة واصطياد وتصفية الخصم القوي والخطير ( تروتسكي ) خلال ستة شهور. ولتنفيذ الامر تم تكليف رجل المخابرات الستالينية ( سودوبلاتوف ) بالمهمة والتوجه الى المكسيك، مكان اقامة تروتسكي آنذاك. من اجل خلق اجواء اعتيادية وابعاد الشبهات، اقام سودوبلاتوف علاقات طيبة مع عدد من اعضاء الحزب الشيوعي المكسيكي، وبالاخص مع المجموعة التي تحتك بتروتسكي. في المرحلة المتقدمة لإتمام عملية الاغتيال وقع اختيار سودولاتوف على رامون ميركادير ( Mercader )، نجل احد الاعضاء البارزين في الحزب والذي كان على صلات حميمة بتروتسكي. في 24 ايار ( مايو ) 1940 طلب رامون مقابلة او زيارة تروتسكي الذي وافق على ذلك من دون اي اعتراض او تأخير لعدم مساورته اية شكوك حول شخصية او نوايا الزائر. اثناء الزيارة هجم رامون على مضيفه ووجه ضربة قوية على رأسه بواسطة الفأس الذي يستخدم لكسر الجليد، مما جعل تروتسكي يصدر صرخة الم عالية ويسقط على الارض فوراً. اثرها، هجمت زوجت الضحية وحارسه على رامون لكنهما فشلا بالإمساك به وغاب عن الانظار. لفظ تروتسكي انفاسه الاخيرة في اليوم التالي وطويت صفحة حياته، لكن تأثيره الفكري والتنظيمي في مجال تطبيقات الايديولوجيا الماركسية استمر داخل وخارج الاتحاد السوفيتي. تنيه اعضاء قيادة المنظمة الشيوعية العالمية ( الكومنترن ) الى خطورة تلك الحادثة واقلقهم تغلغل ازلام ستالين في الاحزاب الشيوعية في العالم وتنامي تأثيرهم عليها. لم يطل قاتل تروتسكي رامون العقاب بل حظي بالرعاية والتكريم من السلطة السوفيتية ونال وسام لينين للأعمال المتميزة وتوفي سنة 1978.
استمرت عملية تصفية المنظمات التروتسكية عن طريق الاعدامات والاغتيالات والاعتقالات والنفي ليس على الارض الروسية فحسب، بل وخارجها على يد رجال مخابرات ستالين الذين مدوا اذرعهم لتصل الى اليونان والصين وفرنسا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا ودول البلطيق وغيرها. تمادى ستالين بإستخدام اسلوب الترويع الذي طال حتى الضيوف في بلاده، مما عرّض الآلاف من العمال المهرة والتجار والمستثمرين الفلنديين القادمين من الولايات المتحدة الامريكية والذين قدموا الى الاتحاد السوفيتي بعد ان سحرتهم دعاية نظام ستالين وتطلعوا الى رؤية بلاد الرخاء والقيم والعدالة الاجتماعية. اثناء اقامتهم في موسكو تعرضوا الى مضايقات واهانات وسحبت منهم جوازات سفرهم لتبقى عند الجهات المسؤولة طيلة مدة مكوثهم هناك، مما اشعرهم وكأنهم رهائن تحت رحمة اجهزة الامن ومهددين بمصادرة ما يملكون. تميزت الحقبة الستالينية بإرتفاع عدد ضحاياها الى المستويات القياسية التي سجلت الآتي: 4 مليون حالة وفاة بسبب المجاعة، 720000 حالة اعدام شنقاً او رمياً بالرصاص، 300000 ضحية في معسكرات التأديب واعادة التأهيل بسبب سوء التغذية والمعاملة الوحشية، 200000 حالة وفاة اثناء حملات الترحيل الجماعي واعادة التوطين في مناطق نائية والذين وصل عددهم الى ما يقارب الثلاثة ملايين، 6 مليون معتقل بتهم جنائية او انحراف ايديولوجي او تبني افكاراً قومية او ايمانية وروحانية وما شابه ذلك.
خلال فترة الحرب العالمية الثانية ادرك ستالين المخاطر التي تهدد بلاده، وسعى الى تلميع وجه النظام واظهار صورة مختلفة لما ساد في عشرينيات وثلاثينيات القرن. في ذلك السياق اطلق الآلاف من المزارعين الاثرياء من المعتقلات ومن معسكرات التأديب، ومد يده لقادة الكنيسة الارثودكسية بقصد تلطيف الاجواء وتدشين مرحلة جديدة معها تؤدي الى كسب ود المؤمنين. في المجال الاقتصادي والفكري سمح للفلاحين ببيع جزء غير قليل من منتوجاتهم في السوق وخفف القيود على اقامة الاحتفالات الترفيهية واطلاق بعض النشاطات الثقافية والادبية بشرط الا تسيء الى المفاهيم البولشفية ولا تقلل من شأن الايديولوجيا الماركسية لأنها خطوط حمراء. على صعيد السياسة الخارجية حل ستالين منظمة الاحزاب الشيوعية العالمية ( الكومنترن ) سنة 1943 لكي يظهر حسن النوايا تجاه دول الغرب ويوحي بأن النظام السوفيتي اوقف تأثيراته وتدخلاته بشؤون الاحزاب الشيوعية وانه لا يبغي تصدير الثورة البولشفية الى العالم. ومع ذلك لم تتوقف حملات الترحيل لبعض الاقوام مثل الأنغوش وتتار شبه جزيرة القرم والقرج في غرب اوكرانيا ودول البلطيق تحت ذريعة تنقية الجبهة الداخلية ورصّ صفوفها. طبعت تلك الممارسات ندباً سوداء على صفحات تاريخ روسيا الستالينية وهزت ضمير الانسانية.
بعد انقضاء عقدين ونصف على انطلاقة ثورة اكتوبر الاشتراكية وتطبيق الاسلوب الاشتراكي في القطاع الزراعي والصناعي، وبالرغم من عسكرة المجتمع وبلشفته وتسخير كل طاقاته، بقيت روسيا متأخرة لا تستطيع مجاراة الغرب في العديد من الجوانب. اتضحت نقاط ضعف النظام عندما تعثرت قطعاته العسكرية بإيقاف الغزو الالماني ودحره قبل ان يصل الى قلب الارض السوفيتية ويهدد كيانها بالإنهيار. حقاً، اندحرت المانيا النازية امام الاتحاد السوفيتي، لكن ثمن الانتصار كان باهظاً عندما ضحّت روسيا بـ 20 مليون مواطن، نصفهم من العسكريين. لم تصمد قوات ستالين بوجه جيوش هتلر بقدراتها الذاتية فقط، بل وبمساعدة الغرب عسكرياً واقتصادياً ولوجستياً وبطرق مختلفة، مباشرة وغير مباشرة. بالرغم من كفاءة اجهزة الاعلام الستالينية في بعث الحماس وشحذ الهمم وتعبئة الملايين ودفعهم الى ساحات المعارك، اكتنفت الخطط والاستراتيجيات القتالية الكثير من نقاط الضعف وقلة الكفاءة. تعزى اسباب الكارثة التي حلت بالجيش الاحمر في المراحل الاولى والمتوسطة للمعركة ليس فقط الى التفوق التقني والتسليحي للقوات النازية، بل والى المركزية الصارمة والتفرد بإتخاذ القرار وحصره بيد ستالين، بالإضافة الى استمرار حملات تطهير الجيش الاحمر من بعض قياداته ونخبه وكوادره واعتبارهم عناصر غير مخلصة ومشكوك بولائها للنظام البولشفي. قبل الاجتياح الالماني للأرض السوفيتية، تكابر ستالين وتجاهل التحذيرات بخصوص حملة هتلر ( بارباروسا ) وصعّد من عمليات تصفية الجيش، مما تسبب بتسريح اكثر من 20000 ضابط بين سنوات ( 1937 – 1939 ). ومع ذلك لا يمكن غض الطرف عن الكفاءة ونقاط القوة التي تمتع بها النظام السوفيتي الستاليني اثناء الحرب الثانية، بالمقارنة مع حكم القيصر في الحرب الاولى حول ادارة الاقتصاد وتوفير المواد الغذائية بالحد الادنى للتقليل من وطأة المجاعة وتأمين خطوط الامداد خلف القطعات الالمانية. حينها، خاطبت الدعاية السوفيتية مشاعر الشعوب السلافية واوحت اليهم بأنهم اخوة للروس ونداً لهم، اما الالمان فهم مقزوزون ومتعالون وينظرون الى الاقوام الاخرى ومنها السلافية نظرة دونية وتعتبرهم اقواماً واطئة.
بالرغم من خروج ستالين منتصراً في الحرب الثانية وبطلاً اسطورياً لها، ساد الاتحاد السوفيتي ظروف قاسية من ناحية توفير المواد الغذائية الضرورية وتقديم الخدمات اللازمة وخلق الاستقرار الاجتماعي. تفاقمت الامور بسبب التلاعب بكمية ونوعية الاعانة الغذائية وانتعاش البيروقراطية وتسلط الجهاز الحزبي وتفشي الفساد الاداري. في هذا الجانب، لا بدّ من ابراز التراجع الذي شهده القطاع الزراعي والتعاونيات الحكومية وشبه الحكومية، مما اوصل البلاد الى حافة المجاعة بين سنوات ( 1946 – 1947 ). على صعيد السياسة الداخلية والاجراءات الامنية، لم تخفف السلطة من وطأة قبضتها واستخدامها البطش والترويع والاستئصال، وخاصة تحت ادارة رئيس جهاز المخابرات ( بيريا ). حينها، أُعلن عن اكتشاف مؤامرة للإطاحة بستالين والتي خطط لها بعض الاعضاء القياديين في الحزب الشيوعي السوفيتي، وفي مقدمتهم كوسنتسوف وروديونوف وبوكوف، مما استوجب اعتقالهم وادانتهم وتنفيذ حكم الاعدام بهم على الفور.
بعد ان ادار ستالين سلطة السوفييت وادخل الماركسية اللينينية في مختبره وجثم فوق شعوب الارض الروسية لمدة ثلاثة عقود، توفي اثر نوبة قلبية داهمته يوم 5 آذار ( مارس ) 1953. غاب القيصر البولشفي لكنه ترك ارثاً ثقيلاً وظلالاً قاتمة وجروحاً في اعماق النفوس لا تلئم بوقت قصير، الى جانب بقع براقة تجذب عين الناظر. رحل الصنم بعد ان ترك بصماته على كل جوانب حياة الفرد الروسي، وخلف وراءه ذكريات الاحداث المثيرة والانجازات السياسية المتميزة على الصعيد الداخلي والعالمي. وترك كنزاً ثرياً من الحكايات حول اساليب التعذيب في المعتقلات السرية والعلنية ولمشاهد الاعدامات المتكررة والمتلاحقة ولمنظر قوافل الترحيل الجماعي وللمعاناة في معسكرات التأديب والتأهيل ولضحايا القهر وتشويه آدمية الانسان وكسر ارادته. عند رحيله ورث اخلافه شبكة معقدة وعنكبوتية من اجهزة الامن والمخابرات والشرطة السرية ومن مجاميع المتملقين والوصوليين والنفعيين الذين نسجوا الاكاليل حول سكرتير عام الحزب البولشفي. رحل رسول الماركسية اللينينية بعد ان ارسى الاساسات لنوع من النظم الشمولية وغرس ثقافة عبادة الشخصية وتبنى الاستبداد وحقق وثبة في ممارسة العنف وتراجعاً في احترام كرامة الانسان وصيانة القيم المتوارثة. ادت الحقبة الستالينية الى ان تختزن نسبة معتبرة من المواطنين الروس النقمة المكبوتة على النظام الاشتراكي وفقدوا الامل في المستقبل والجرأة على وضع اقدامهم ومد خطاهم نحو الامام، ولا سيما واصابهم الاجهاد والحيرة والانكسار النفسي والروحي.
بعد بضعة اسابيع من رحيل ستالين وانقضاء فترة الحداد الرسمية، بادرت قيادة الحزب الجديدة الى ازالة الانقاض وترميم البناء والابقاء على بريق الصورة. بالرغم من صدور قرار العفو العام واخلاء سبيل 1200000 معتقل ومحتجز، بقي اكثر من مليون انسان يقبعون في المعتقلات والزنازين وخلف سياج معسكرات التأديب الى سنة 1957 وبعدها. لم تبادر السلطة السوفيتية الى تعويض الضحايا او ذويهم ولم تنصف الذين ظلموا او هجروا وصودرت املاكهم او احتجزوا في معسكرات التأديب والتأهيل لفترات طويلة، مما اوحى للمواطنين بأن رحيل ستالين نهاية لحقبة وليست نهاية للنظام الذي ارساه. بعد انقضاء عقد لغيابه حاولت القيادة السوفيتية ازاحة طبقات الرماد التي تراكمت، ربما بدافع تأنيب الضمير وبقصد تطييب الخواطر ولئم الجراحات واراحة النفوس، اعترف سكرتير عام الحزب الشيوعي ( نيكيتا خروشوف ) بالظلم الكبير الذي وقع بحق العديد من قادة الحزب وكوادره ومن عامة المواطنين على يد ستالين. وبخطوة جريئة غير متوقعة انبرى خروشوف ليقول الآتي : ( لم يكن الذين اعدموا او قتلوا او اغتيلوا في عهد ستالين خونة للمبادىء الماركسية اللينينية ولا أعداء للحزب وللوطن، بل كانوا شرفاء ومخلصين، مما ينبغي ان نطلب المغفرة ونشعر بوخزة الضمير. ستبقى ارواح الضحايا تحوم في اجوائنا وفوق رؤوسنا لكي توقظ ضمائرنا على الدوام وتدفعنا لتقويم المسيرة ) انتهى النص.
عندما تم نقل الايديولوجيا الماركسية الى المختبر السوفيتي، احتفظت بلمساتها السحرية وانعقدت عليها الآمال بحصول الاعاجيب في روسيا وانتشار آثارها على القارات. وهكذا، انطلقت التجربة البولشفية بوجه مشرق وانتهت وهي ظليلة وتحمل الندب السوداء والرمادية والبيضاء. نجحت الماركسية اللينينية في المطاولة وتمكنت من التستر على الاخفاقات واخفاء الانتهاكات والتجاوز على حقوق الانسان وتأميم حرية تفكيره لعدة عقود وللاسباب التالية : اولاً: الاعتقاد بأن الثورة البولشفية ليست شأناً روسياً فحسب، بل تخص البشرية لأنها تحمل رسالة الخلاص. ثانياً: قوة تأثير تضحيات الجيش الاحمر ودحره للقوات النازية وتحريره لشعوب شرق اوروبا من الهيمنة الهتلرية. ثالثاً: اتجاه الافكار الى الخطر المركزي الذي شكلته النازية والفاشية على الشعوب والاقوام، مما ابعد الانتباه لما كان يجري في بلاد السوفييت، ولو لفترة. رابعاً: ديناميكية اجهزة الدعاية المؤثرة والاعلام الستاليني ونجاحها في تضخيم الانجازات وتسليط الضياء عليها والتعقيم على بربرية النظام.
ارهاب ستالين يطال منظمة الكومنترن
اسس كارل ماركس وفردريك انجلز الاممية الاولى سنة 1864 لتكون المرجعية العالمية لكافة التنظيمات الشيوعية، لكنها انحلت بعد ثماني سنوات عندما فشل ماركس في كسب المؤيدين واختلف مع الشيوعي البارز باكونين ومع الاشتراكي الشهير برودون حول آلية بناء الاشتراكية. عندما تأسست منظمة اتحاد العمال الاشتراكي العالمي في 1889، تم انتخاب الكومنترن الثاني الذي انيطت به ادارة شؤون الاحزاب الشيوعية القائمة آنذاك ومتابعة نشاطاتها الفكرية بحيث تتلائم مع ما جاء في وثيقة البيان الشيوعي ومع الايديولوجيا الماركسية التي اطلق عليها ( الاشتراكية العلمية والمادية التاريخية ). حينها، أقرت منظمة الشيوعية العالمية ( الكومنترن الثاني ) التعاون مع احزاب الديمقراطية الاجتماعية في اوروبا واقامة الجبهات الوطنية معها. لكن تلك التطلعات انهارت عندما ايدت احزاب الديمقراطية الاجتماعية اندلاع الحرب الاولى وساندت حكوماتها واضفت المشروعية للحرب. لم تنعم منظمة الكومنترن الثاني بالعمر المديد، بل قضى نحبها بعد قيام ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا 1917. اثر التطورات التي شهدها المشهد السياسي الثوري، تطلبت الضرورة تأسيس منظمة الاممية الشيوعية الثالثة بموسكو وبإشراف لينين. بغية إضفاء الطابع المتميز للكومنترن الثالث، تمت ادانة قرارات الكومنترن الثاني بخصوص التحالف مع احزاب الديمقراطية الاجتماعية. بالإضافة لذلك، اقيم نصب تذكاري يجسد الاممية الشيوعية وينافس برج ايفل ويوحي الى انتقال رمز الثورة من باريس الى موسكو.
بإشراف لينين انعقد المؤتمر الاول للاممية الثالثة في ربيع 1919 بالكرملين وفي ظروف بائسة من ناحية حالة قاعة الاجتماعات والاثاث والتجهيزات المناسبة وعجز وسائل التدفئة المتواضعة بتخفيف حدة لسعات البرد القارس. ابرز ما ناقشه ذلك المؤتمر كان المشروع الذي طرحة تروتسكي ( ساعد لينين الأيمن ) بخصوص اطلاق الثورة الشيوعية العالمية المستدامة، لكنه لم يوضح كيفية تنفيذ ذلك ولا شكل الدولة التي تتأسس في كل بلد. في تموز ( يوليو ) 1920 انعقد المؤتمر الثاني للاممية الثالثة في ظروف افضل من السابق، لا سيما وساده التفاؤل والامل بنشاطات وانجازات الحركات العمالية وفي مقدمتها الايطالية التي اقتربت من حافة النصر وتسلم السلطة. في الجانب العسكري والعملي زحف الجيش الاحمر نحو وارشو لكي يجعل بولندا المسرح او النافذة التي من خلالها تنتشر البولشفية في غرب اوروبا. في جانب آخر من المناقشات دشن لينين مهمة جديدة تضطلع بها الحركة الشيوعية العالمية، لكنه اوكل تنفيذها لمن يسير على الخط البولشفي. تضمنت تلك المهمة 21 بنداً ومن ابرزها الزام الاحزاب الشيوعية بفك اي ارتباط لها مع احزاب الديمقراطية الاجتماعية وانهاء اي مستوى من العلاقات معها، ووجوب طرد كافة العناصر الاصلاحية والانهزامية واعادة تنظيم هذه الاحزاب على القواعد اللينينية الأصيلة وتنقيتها من الشوائب الفكرية البرجوازية. بالنتيجة، ارتدت الاحزاب الشيوعية ثوب البولشفية بعد ان تم تطهيرها من التيارات الفكرية التي سادتها في فترة ما قبل اندلاع الحرب الاولى وقيام ثورة اكتوبر الاشتراكية. اكد المؤتمر على ان يكون الحزب الشيوعي طليعة الطبقة العاملة ومنفذ رسالتها التاريخية ومستعد لإطلاق الثورة البروليتارية، ليس فقط في بلدان الدكتاتورية بل وفي الدول ذات النظم الملكية الدستورية والديمقراطية البرلمانية. الزمت قرارات المؤتمر الاحزاب في اوروبا بصياغة سياساتها وبرامجها بطريقة تنسجم مع النظام الداخلي للحزب في الاتحاد السوفيتي، وعلى ضرورة ابعاد اي عنصر ينحرف عن ذلك الخط وانزال العقاب به. وبقصد تفعيل تلك القرارات واعطائها المصداقية، ظهرت في الفترة الستالينية القوائم السوداء التي ضمت اسماء العديد من الشيوعيين البارزين في دول اوروبا لأنهم اعتبروا منحرفين عن الخط البولشفي ومتمردين على قيادة ستالين. وهكذا، تم تدجين الاحزاب الشيوعية لكي تتكيف مع رؤى ستالين وتخضع لسطوته وتنحني امام أهوائه تحت ذريعة الحفاظ على نقاوة الماركسية اللينينية.
في جانب آخر، انتخب المؤتمر الثاني للأممية الثالثة لجنة تأسيسية تضطلع بمهمة توسيع رقعة الثورة البولشفية وتؤمن ادارة الاحزاب الشيوعية للبلدان التي تنتصر فيها البلوريتاريا على الرأسمالية وتشعرها بوقوف قطعات الجيش الاحمر الى جانبها متى ما تطلب الامر ذلك. اوحت قرارات المؤتمر الى ضرورة اعتبار الاتحاد السوفيتي جحر الزاوية للاحزاب الشيوعية العالمية والاستعانة بتجاربه وتشريعاته وبخبرته لتأهيل الكوادر الادارية والعسكرية التي تدير الدولة بعد الانتصار وتأسيس دكتاتورية البلوريتاريا. ايماناً بدور الدعاية المؤثرة ( Propaganda ) شكل المؤتمر جهازاً للاعلام برئاسة تروتسكي الذي انيطت به مسؤولية اطلاق نشاطات تجسيسية وتحريضية في اية بقعة تصل اليها مجسات ذلك الجهاز. من اجل تكريس تطبيق المفاهيم البولشفية رفضت قرارات المؤتمر كل اشكال التهاون والتعايش مع البرجوازية وتبنت اللجوء الى العنف والسير خلف شعار ( من ليس معنا فهو عدونا وينبغي استئصاله ). بما يخص هيكلية التنظيم، اتخذ المؤتمر قرارين في غاية الاهمية، اولهما الحفاظ على وحدة الحزب الفولاذية، وثانيهما نبذ كافة الافكار الاصلاحية او النقابية واعتبارها انحرافا خطيرا عن جوهر الماركسية اللينينية، مما يستوجب رفض التكتلات والاختلافات الفكرية والانشقاقات داخل الحزب وابقائه تحت قيادة مركزية صارمة وعالية الانضباط وتتمتع بالنقاوة الايديولوجية. ابقي على احد القرارات سراً، والذي خول اللجنة المركزية صلاحيات استجواب عضو الحزب والتأكد من ماضيه الايديولوجي والطبقي ومدى انضباطه وابتعاده عن الاجتهادات الفكرية واثبات ايمانه بالبولشفية وولائه المطلق لقيادة الحزب ورفضه للشللية والتكتلات. وللتمهيد لتلك الاجراءات، ابتدأت عملية فحص أضابير كوادر الحزب في آب ( اغسطس ) 1921، واستغرقت عدة شهور واسفرت عن ابعاد ربع الكوادر وبعض القياديين. حينها، مارست لجان التحقيق الترويع والتعذيب الجسدي والنفسي بغية كسر المعنويات والاذلال وتكميم الافواه وتكريس ثقافة القطيع والتغريد في السرب الواحد.
بالرغم من تأييد المؤتمر الثاني للاممية الثالثة اشعال الثورة الشيوعية في العالم، فشلت الحركة العمالية الايطالية في خريف 1920 بتحقيق النصر امام عنف وزخم التيار القومي المتطرف الذي اسسه موسوليني ودعمته معظم اجهزة الدولة والقطعات العسكرية. على الجبهة في بولندا تراجع الجيش الاحمر بعد اندحاره اما صمود البولنديين عند ابواب عاصمتهم وارشو. في المانيا تلقت الانتفاضة العمالية الضربة القاسية سنة 1921 واعتقل الآلاف وقتل واعدم المئات من الثوار، مما ادى الى استقرار الاوضاع لصالح النظام. شعرت الاحزاب الشيوعية في اوروبا بالغضب واستهجنت الهيمنة السوفيتية والعجرفة الروسية ومطالبة القيادة لها بتقديم التقارير حول نشاطاتها الفكرية واوضاعها التنظيمية.
الزم النظام الداخلي لمنظمة الاممية الثالثة كافة الاحزاب الشيوعية المنضوية تحت لوائها بإنتهاج البولشفية كمرجيعة فكرية وتنظيمية، وتطهير صفوفها من العناصر المتخاذلة والتوفيقية واستخدام اقصى درجات العنف بحق المتواطئين مع اعداء الطبقة العاملة. من اجل التمهيد لاطلاق الثورات العمالية اوعزت منظمة الاممية بتأسيس تشكيلات عسكرية داخل الاحزاب الشيوعية في اوروبا تخطط للاطاحة بالنظم الرأسمالية. ترجمت بعض الاحزاب تلك التوجيهات الى الواقع واطلقت الانتفاضات العمالية العنفية، وبالأخص في المانيا عندما اعلن حزبها الشيوعي في آذار ( مارس ) 1921 الثورة في مقاطعة ساكسونيا وتورنغن ( Thüringen ) واقام حكم الطبقة العاملة على غرار كومونة باريس 1871. اقلقت تلك التطورات السلطات في فرنسا وبلجيكا ودفعت جيوشها داخل الارض الالمانية، وبالتحديد في مناطق الرور بقصد الضغط على الحكومة المركزية لتقوم بدورها وتعيد الامور الى وضعها الطبيعي. بالتالي، تحركت القوات الالمانية في مقاطعة بافاريا ( Bayern ) نحو المناطق المنتفضة وسحقت التمرد وحلت سلطة العمال. في ضوء تلك المستجدات، انعقد المؤتمر الثالث للاممية الثالثة في موسكو سنة 1921 لمناقشة ما ينبغي عمله مستقبلاً بخصوص اطلاق الثورة العمالية على النهج البولشفي. اثناء تداول تلك النقطة، برز تياران : تيار تروتسكي الذي اقترح اشعال الثورة على نطاق العالم او التخطيط لانقلابات تتمكن خلالها الطبقة العاملة من انتزاع السلطة واقامة دكتاتورية البلوريتاريا. تمثل التيار الآخر بموقف ستالين الذي شدد على ان تكون الاولوية لترتيب الامور داخل الاتحاد السوفيتي وعدم توسيع نطاق الثورة البلوريتاريا في تلك المرحلة. يبدو ان المؤتمر استحسن رأي ستالين وقرر ارسال وفد الى المانيا ودفع الامور نحو اقامة تحالف بين اليسار الديمقراطي الاجتماعي وبين الحزب الشيوعي وعدم تصعيد التوتر او التطرف.
بعد ان ترسخت الارض تحت اقدام ستالين وهبَّت الريح لصالح سفنه داخل الحزب الشيوعي الروسي، وبدأ ينسج شبكة عنكبوتية لاحتواء منظمة الاممية الشيوعية وتدجينها. اقلقت تصرفاته وتعسفه العديد من قادة الكومنترن، ومنهم مارتيميان ريوتين ( Martimian Rjutin ) الذي افصح سنة 1932 عن امتعاضه من تدخلات ستالين بأمور المنظمة الاممية وخشي من عواقب طغيانه، مما دفعه لكتابة الآتي: ( يبدو وكأن ستالين يمتلك موقعاً في الكومنترن شبيهاً بالذي للبابا في الفاتيكان، لأن كلاهما محصن ومعصوم يمتع بالسلطة المطلقة ويحمل الصولجان. في موقفه هذا، يتصرف ستالين بطريقة استبدادية وفردية بعيدة عن الروح الجماعية والتضامنية، ويحتكر كل المسؤوليات بيده لكي يبقى في موقع لا يتمكن الآخرين من الاقتراب منه. بعيداً عن الشعور بوخزة الضمير وصحوته، اندفع ستالين ليكون الشخص البارز والوحيد على مسرح الشيوعية العالمية لكي يسهل عليه الامر لتقليم اظافر المنظمة الاممية وتجريدها من استقلاليتها بعد ان يتخلص من العناصر الفاعلة في قيادات الاحزاب الشيوعية. حقاً، خلت له الساحة بعد ان تمت ابادة المنظمات التروتسكية في العالم واختفاء الكثير من قادتها في ظروف غامضة او العثور على جثث بعضهم وهي مقطعة الاوصال ومن دون رؤوس او اطراف. لقد تشوه كيان الكومنترن وفقد استقلاليته واضحى لعبة بيد ستالين، لا سيما والمنظمة تعتمد على التمويل السوفيتي وتتصرف حسب توجيهات موسكو. من المؤسف جداً ان تطال اساليب شرطة ستالين ومخابراته منظمة الشيوعية العالمية وتزرع في قلوب الرموز القيادية الرعب وتضعهم في دائرة الشك والريبة بقصد تعريضهم للضغوط النفسية ولمخالب مرض البارانويا ( Paranoia ). لا اتردد بالإفصاح بأن قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي تمارس سياسة الاذلال، ليس فقط للمنظمة الشيوعية العالمية، بل وللاحزاب الشيوعية في اوروبا وغيرها ) انتهى النص. في نفس السياق، كتب القيادي في الحزب الشيوعي الفرنسي اندريه مارتيه ( Andre Marty ) رسالة سرية للغاية الى سكرتير المنظمة الاممية جيورجي ديمتروف في 23 حزيران ( يونيو ) 1937 انتقد فيها بشدة سياسة ستالين تجاه الكومنترن واستعرض القمع والترويع الذي يمارسه بحق اعضائه. لم تسلم العناصر الشيوعية الروسية التي كانت اعضاءاً في اللجان الاممية من الاضطهاد والتصفية. ومن بين الذين اعدموا كنورين ( Knorin ) عضو اللجنة التنفيذية للاممية وميروف واليخانوف المسؤولان في قسم العلاقات الخارجية للمنظمة. وهكذا، تحولت الاممية الثالثة من منظمة تحتضن كافة الاحزاب الشيوعية وترعى شؤونها وتوجهها واصبحت مزرعة يقطف منها ستالين ما يشاء ويغرس فيها ما يشاء او يقتلع من يبرز وينافسه في اجتذاب الضياء.
في اجواء علو الموجة الستالينية، اشتدت المساعي لبلشفة الاحزاب الشيوعية بقصد تحويلها الى تابع يدور في فلك الحزب في الاتحاد السوفيتي، مما احرج تلك الاحزاب في اوطانها وامام شعوبها، لا سيما وان بعض المفاهيم والمفردات الايديولوجية المتداولة في روسيا بدت غريبة على الثقافات في دول غرب اوروبا. وللاستدلال على سلبيات ذلك النهج إبتداء الانخفاض الملحوظ لعدد الاعضاء في الحزب الشيوعي البريطاني والفرنسي بعد ان استهجنوا وقع يد ستالين الثقيلة على الاحزاب. بدلاً من تدارك الامر، تمادت القيادة السوفيتية الستالينية وتكابرت وادعت بأن العقد الثالث من القرن سيشهد نهاية النظام الرأسمالي، لأن ساعة الخلاص قد حانت لقيام الثورة العمالية في الغرب، مما يلزم الاحزاب الشيوعية هناك بقطع علاقاتها وانهاء تخالفاتها مع احزاب الديمقراطية الاجتماعية ووضعها في مصاف العدو البرجوازي. لم تقتصر رغبات ستالين على توظيف منظمة الاممية الشيوعية لتصفية خصومه من الرفاق والتدخل في شؤون الاحزاب، بل وتحويلها الى جهاز يراقب ويتابع سياسة الدول الاخرى ويتجسس عليها بقصد ايجاد الثغرات للنفاذ من خلالها واثارة الاضطرابات والحروب الاهلية متى ما سنحت الفرصة. ولتسليط الضوء على النقطة الاخيرة، نستعرض احداث الحرب الاهلية في اسبانيا 1936 التي اعتبرها ستالين المختبر الذي فيه يجرب قدرته على تسخير منظمة الاممية الشيوعية لمراقبة ومتابعة التطورات في تلك البلاد ومدى تأثيره على مسارها. اظهرت الخارطة السياسية لاسبانيا في ثلاثينات القرن العشرين نيل الشيوعيين لتأييد جماهيري معتبر، وخاصة في الريف، مما حقق لهم الفوز بالاغلبية في الانتخابات النيابية سنة 1936. اقلقت تلك النتيجة اليمين والمؤسسة العسكرية والكنسية والقوميين وتوفرت للجنرال فرانكو الذريعة لتدبير الانقلاب واعلان الدكتاتورية العسكرية. على الفور ارسل هتلر وموسوليني قواتهما لدعم حكومة فرانكو، مما اشعل اوار الحرب الاهلية التي حولت اسبانيا الى مسرح تتصارع فيه القوى العظمى وتتبارز وتطرح ايديولوجياتها وتختبر مهاراتها في القتال واستخدام فنون السياسة لتحقيق المصالح. حينها، شعر ستالين وكأنه في وضع لا يحسد عليه، لأن اليساريين الاسبان لم ينالو الدعم الخارجي الكافي، وخاصة عندما ترددت فرنسا بتقديم المساعدة خشية ان تستفز هتلر، اما الحكومة البريطانية فهي لا تحبذ انتصار اليساريين. ولمجابهة تلك الظروف ولكي يلعب الدور الفاعل، اوعز ستالين الى منظمة الاممية الشيوعية بإرسال عشرات الآلاف من المقاتلين والمتطوعين من مختلف الجنسيات، والذين كان معظمهم اعضاءاً في الاحزاب الشيوعية ليقفوا الى جانب اليساريين الاسبان. في تلك المرحلة، نال المقاتلون الشيوعيون السمعة الجيدة واظهروا وجهاً مشرقاً لأنهم الوحيدون الذين يقاومون النظم الفاشية والدكتاتورية. لكن في الناحية الاخرى، تغيب المعايير الدقيقة ويختل التقييم عندما يسود الهيجان وتهتز الركائز ويصبح العنف سيد الموقف، مما يجعل التمييز بين الامل والحلم وبين الحقيقة والظلال وبين الزيف والاصالة امر صعب.
اثناء تعامل السوفييت مع الشان الاسباني الملتهب، وجد ستالين نفسه وكأنه يسير في حقل الالغام، لأنه رفض سياسة الجناح المتطرف في الحزب الشيوعي الاسباني وعادى التيار التروتسكي فيه. بالنتيجة، اضطر الى التعاون مع رئيس الوزراء الجمهوري الذي فاز في الانتخابات سنة 1937، وفي الوقت نفسه وقف ضد الفوضويين في برشلونه ورفض بالمطلق مهادنة التروتسكيين. لم يكتف بذلك وحرك عملائه لتصفية كل الخصوم على الساحة الاسبانية واغتالوا زعيم الحركة التروتسكية، اندريو نين واعتقلوا عدداً كبيراً من اعضاء التيار. بالاضافة لذلك، اوعز اعوانه من الشيوعيين لشغل المناصب والتوغل في المفاصل المهمة للدولة ليكونوا اذرعاً وادواتاً توجه سياسة الدولة في اسبانيا بحيث تحقق مصالح جحر الزاوية الاتحاد السوفيتي، الامبراطورية غير المعلنة. باءت معظم تلك الاساليب بالفشل بسبب مقاومة الوطنيين الاسبان لها ورفضهم تحويل بلادهم الى تابع ذليل للامبراطورية الستالينية. ومع ذلك ارسل دكتاتور الكرملين مئات الكوادر الشيوعية والمستشارين العسكريين الى اسبانيا لتعضيد جناح الحزب الشيوعي الموالي له، وهيأ الظروف لإقامة معسكرات في مقاطعة كاتالونيا تضم 4000 مقاتل.
اختلطت الامور في اسبانيا وفقد حتى الموهوبون قدرة التمييز بين الحقيقة ونقيضها، ومن بين هؤلاء كاتب الرواية الانجليزي الشهير جورج اورويل ( George Orwell ) الذي في البداية تعاطف مع التروتسكيين ليس ايماناً بالايديولوجيا الماركسية بل انجرافاً مع الموجة. لكن بعد ان عايش ممارسات عملاء ستالين وصراعات التيارات الشيوعية على الارض الاسبانية، انقلب على الستالينين والتروتسكيين في آن واحد ووجه في رواياته انتقادات لاذعة للنظام البولشفي الستاليني الذي اذل الانسان وحول البشر الى بهائم في مزرعة الحيوان ( Animal Farm ). وفي الجانب السياسي اعتقد اورويل بأن اساليب ستالين في تصفية خصومه من التروتسكيين والفوضويين اضعفت موقف اليساريين والجمهوريين الاسبان وصبت المياه في طواحين الجنرال فرانكو. بقصد التخفيف من وطأة الاحداث المأساوية للحرب الاهلية في اسبانيا، استقبلت موسكو بضعة آلاف من اطفال تلك البلاد لكي يترعرعوا في بيئة آمنة. لكن تلك البراعم الغضة عاشت ظروفاً نفسية وصحية سيئة وعانت من سوء التغذية واصيب عدد منهم بمرض السل الرئوي الذي اودي بحياة 200 طفل. تحولت تلك المدارس الى ما يشبه الافخاخ للاصطياد السياسي حينما اعتقل عدد من المعلمين فيها واعدم بعضهم بتهمة الانتماء الى التيار التروتسكي او التعاطف معه.
في خضم الحرب الاهلية الاسبانية، حصل تحول دراماتيكي في موقف ستالين تجاه هتلر ولاحت في الافق بوادر التقارب بين النظامين الشموليين بالرغم من اختلاف ايديولوجيتهما ومرجعيتهما الطبقية. وبقصد تهيئة الاجواء لتحقيق تلك الخطوة، رفع دكتاتور الاتحاد السوفيتي من وتيرة بطشه على خصومه، ولا سيما التروتسكيين وبعض القياديين في منظمة الاممية الشيوعية او احزابها. وصل القمع ذروته بين سنوات ( 1937 – 1938 ) ليطال آلاف الشيوعيين الروس والاجانب والمخلصين الذين يعلقون درع البلوريتاريا على صدورهم ويؤمنون بقضية الطبقة العاملة. تدريجياً، اتسعت رقعة التصفيات وشملت منظمة الشباب الشيوعي ونقابات العمال واتحادات الطلبة ومنظمة الاغاثة الدولية ومدرسة لينين العالمية والجامعة الشيوعية التي احتضنت الطلبة من مختلف البلدان والجنسيات. اثناء الزيارات الميدانية او الحقلية للمصانع والمزارع التعاونية، اصابت الطلبة الاجانب الصدمة وهم يطلعون على الوضع البائس والمتخلف الذي يعيش فيه العمال والفلاحون في الاتحاد السوفيتي بالمقارنة مع اقرانهم في غرب اوروبا. في 1937 قبض على 88 من العاملين في منظمة الاممية الشيوعية وبعد اشهر اعتقل 20 من مختلف الدرجات الوظيفية. اثناء التحقيق وتحت التعذيب البربري توفي عدد من هؤلاء الذين اتهموا بالانتماء للخلايا النائمة للتنظيم التروتسكي او بالعمالة للأجنبي.
اعتبر العديدون من الشيوعيين الامميين البارزين معاهدة عدم الاعتداء لمدة عشر سنوات المعقودة بين هتلر وستالين في 24 آب ( اغسطس ) 1939 خطوة مشؤومة وطعنة تتلاقاها الاحزاب الشيوعية في غرب اوروبا قبل ان تصيب دولها. لم تكن مخاوف هؤلاء تهيؤات واوهام، لأن تلك المعاهدة اطلقت يد النظام النازي في المانيا والفاشي في ايطاليا لتصعيد حملاتها القمعية على الشيوعيين في البلدين وفي بلدان اوروبية اخرى. على الارض السوفيتية توسعت دائرة الارهاب الستاليني لتطال ابناء الجالية النمساوية والبولندية والايطالية وغيرها. فضل بعضهم ترك بلد لجوئهم والالتحاق بجبهة الشيوعيين الاسبان خشية النفي الى كازاخستان او كوليما. حركت تلك الممارسات مشاعر الروائيين والهمتهم لتأليف القصص التي تخاطب ضمير الانسانية وتفضح بشاعة رسل الماركسية اللينينية تجاه المؤمنين بها والمخلصين اليها. وبهدف اثبات وفائهم للمبادىء الاممية، دافع الشيوعيون في تلك الدول عن النظام السوفيتي واطلقوا الكفاح المسلح ضد النازية والفاشية وسقط منهم الآلاف اثناء حرب التحرير وطرد الغزاة الالمان والايطاليين من البلقان وشرق اوروبا واليونان.
سهلت بنود معاهدة 1939 الامر لالمانيا النازية والاتحاد السوفيتي لتقاسم النفوذ في شرق اوروبا، وبالأخص في بحر البلطيق وبولندا، مما مكن ستالين من ضم اجزاء من شرق ذلك البلد الجار الى روسيا. نظر ستالين على الدوام الى بولندا كبلد رخو ومنطقة نفوذ له، مما فسح له المجال للتدخل حتى بالشؤون الداخلية التنظيمية للحزب الشيوعي فيها. عندما انشق عدد من قادة الحزب الاشتراكي البولندي واسسوا الحزب الشيوعي سنة 1937، رفض ستالين ذلك وامر بإعادة ترتيب هيكلية الحزب بعد ان اعدم 12 عضواً في لجنته المركزية. لم يكتف بذلك، بل اوعز لمنظمة الاممية الشيوعية بحل الحزب الشيوعي البولندي سنة 1938 وتشكيل قيادة جديدة تلائم اهواءه الشخصية. على الحدود الشرقية لبولندا والتي احتلتها قطعات الجيش الاحمر، اعتقل عشرات الآلاف من العسكريين ومن بينهم 15000 ضابط برتب مختلفة. اثر اقتراح رفعه رئيس جهاز المخابرات بيريا الى ستالين نفذ حكم الاعدام رمياً بالرصاص بعدة آلاف من الاسرى لمجرد اعتبارهم مصدر خطر كامن للاتحاد السوفيتي. لاحقاً، وبالتحديد في نيسان ( ابريل ) 1943، اكتشفت مقبرة جماعية في غابة كاتين ( Katyn ) تضم رفات اكثر من 4000 عسكري بولندي. بالإضافة لذلك، مارست اجهزة ستالين اجراءات شاذة في المناطق المحتلة من شرق بولندا، وتمت تصفية ملاك الارض وارباب الصناعة وحولت اهل البلد الاصليين الى غرباء في ارض الآباء والاجداد. نفذت عمليات الترحيل لعشرات الآلاف الى سيبيريا وكازاخستان بين سنوات ( 1940 – 1941 ) وابعاد 380000 الى الداخل البولندي. اثناء سفرات الترحيل لم يبق على قيد الحياة سوى ثلثي هؤلاء بسبب الارهاق وسوء التغذية وتفشي الامراض.
عندما تقاسمت المانيا والاتحاد السوفيتي النفوذ، حولتا الدول الصغيرة او الضعيفة في محيطها الاقليمي الى كيانات هشة وفاقدة لسيادتها على اوطانها. وهذا ما حصل لدول بحر البلطيق، وخاصة بعد ان اجتاحت قطعات الجيش الاحمر لتوانيا سنة 1940 واعتقلت على الفور 20000 مواطن بتهمة معادات النظام الستاليني. حينها، اعدم رمياً بالرصاص 1480 شخصا ونفي الآلاف، لكن وبطريقة مهينة نشرت جريدة البرافدا في 8 آب على صفحتها الاولى العنوان التالي: ( منذ هذا اليوم ابتدأت ضياء شمس ستالين والاتحاد السوفيتي تشع على دول وشعوب عديدة ). في 1941 تم ترحيل 35720 مواطن من دول البلطيق الى مناطق نائية ربما لم تصلها ضياء شمس ستالين. ضمت قوافل المرحلين الى المجهول رجال الفكر والصناعة والتجار وملاك الارض وضباط وكوادر ادارية، وتوفي عدد غير قليل لأنهم حشروا في وسائط نقل بدائية وعاشوا ظروفاً قاسية.
لم تكن معاهدة هتلر وستالين مديدة العمر، بل استهلكت نفسها مع اتساع نطاق الحرب الثانية وحتى قبل اعلان بريطانيا وفرنسا الحرب على المانيا اثر اجتياحها لبولندا. بالنتيجة، انطلقت حملات الترحيل الجماعي للمواطنين من الاصول الالمانية المتوطنين على ضفاف نهر الدون وابعدوا الى كازاخستان واومسك ( Omsk ). في آب ( اغسطس ) 1941 وبموجب اقتراح رفعه الى ستالين كل من مولوتوف ومالينكوف وشادنوف، تم ابعاد 96000 الماني وفلندي من مدينة لينين غراد ( بطرس بورغ ) وتوطينهم في مناطق نائية. وبعد شهر تم ترحيل 446480 الماني من مدن مختلفة الى جنوب سيبيريا بعربات قطار صغيرة ومكتظة قطعت الرحلة بمدة اسبوع. في تشرين الاول ( اكتوبر ) من نفس السنة شهدت مدن موسكو وغوركي ورستوف اجراءات مماثلة وابعد عنها 100000 الماني، مما اوصل العدد الاجمالي للمرحلين الى سيبيريا وكازاخستان ومناطق اخرى الى 1209430. فرضت السلطات على معظم هؤلاء اداء العمل القسري في تعبيد الطرق ومد سكك الحديد وفي المناجم. لم تقتصر تلك الاجراءات على ترحيل الالمان داخل الارض السوفيتية، بل وصل الامر الى طرد عدد من الشيوعيين اللاجئين وتسليم العشرات بين سنوات ( 1939 – 1941 ) الى الشرطة الالمانية السرية ( Gestapo ) تحت ذريعة تنفيذ معاهدة عدم الاعتداء الموقعة من قبل هتلر وستالين. اشتدت الحملة على الجالية الالمانية في روسيا سنة 1943 وشملت التشيكيين واليونانيين والارمن والبلغار والهنغار بقصد ترصين الجبهة الداخلية وتحصينها ضد المخربين والعملاء والمتعاطفين مع النازية.
على الصعيد الايديولوجي والتنظيمي، ترعرع في هنغاريا حزب شيوعي يهتدي بالماركسية وينتهج البولشفية، لكنه ابقى عامل الكبرياء الوطنية والروح القومية بارزاً. حينما قاد بيلاكون الحركة الشيوعية في هنغاريا وفجر الثورة العمالية سنة 1919، وظف المشاعر القومية واعتقد بإمكانية الهنغار اقامة النظام الاشتراكي بطريقة افضل من السوفييت. بعد نجاح الثورة وتأسيس كومونة هنغاريا، شن بيلاكون عمليات الترويع والقمع والتصفيات والاعتقال واقتاد العشرات الى منصات الاعدام، ومن بينهم عدد من رفاق الامس تحت ذريعة الوقاية من الثورة المضادة. في مجال السياسة الخارجية، مد دكتاتور هنغاريا بيلاكون ذراعه خارج حدود بلاده وتدخل بشؤون التشيك ودفع جيوشه داخل ارض سلوفاكيا سنة 1919. حينها، تحركت فرنسا وشنت هجوماً مضاداً وارغمت جيش هنغاريا الى الانسحاب، مما تسبب بهبوط المعنويات والانكسارات النفسية عند المقاتلين. في تلك التطورات سادت الفوضى في هنغاريا ودفعت بيلاكون الى اطلاق حملة الارهاب الاحمر والاستغاثة بلينين وطلب المساعدة العسكرية، لكن الاخير لم يفعل شيئاً بسبب انشغاله وغرقه بمشكلات بلاده الداخلية. عندما وقعت هنغاريا بين مطرقة الدوغماتية السياسية وسندانة النظام الشمولي، فشلت المساعي بتوظيف الروح الوطنية تجاه بناء الاشتراكية. بالتالي، سقطت كومونة هنغاريا العمالية وهرب بيلاكون خارج البلاد، لكنه احتفظ بموقعه كأحد قادة منظمة الاممية الشيوعية ( الكومنترن ). لأن المخابرات السوفيتية وضعت بيلاكون في دائرة الشك، تم استدراجه واستدعاءه الى موسكو ليواجه تهمة التعاطف مع التيار التروتسكي ومعاداته لستالين، بالإضافة الى عدم كفاءته كعضو قيادي في الكومنترن. اثناء استجوابه، تعرض للتعذيب الوحشي على يد رجال بيريا ثم ادين واعدم مع قياديين آخرين في كومونة هنغاريا. بأوامر من ستالين تبنى جهاز المخابرات السوفيتية سياسة وضع كافة اعضاء منظمة الاممية الشيوعية في دائرة الشك واخضاعها للمراقبة الدقيقة بغية تطهيرها من العناصر المنحرفة عن النهج البولشفي وتحصينها ضد اي اثر فكري وتنظيمي ومعنوي لتروتسكي.
لم تتحقق رؤى الأمميين الستالينيين بتعميم التجربة السوفيتية وفشلت مساعي الحزب الشيوعي الايطالي بإقامة الدولة العمالية، ولا سيما عندما اخفق زعيم الحزب غرامشي بإستقطاب التأييد وحصد الاصوات التي تؤهله لتشكيل الحكومة بعد الانتخابات البرلمانية. بالتالي، تمكنت قوات الدولة والفصائل الفاشية المسلحة ( الميليشيا ) من توجيه ضربتها واكتساح الساحة وتهميش الشيوعيين واضطهادهم واعتقال اعداد كبيرة وعلى رأسهم سكرتير الحزب غرامشي سنة 1926. عندما نجح العديد من الشيوعيين الايطاليين بالهرب خارج حدود وطنهم، وجدوا سيف ستالين مسلطاً على رقابهم وشبح الميليشيات الفاشية يلاحقهم. تلقى الشيوعيون البولنديون حصة الاسد من سهام ستالين الذي تدخل بشؤون الحزب في تلك البلاد بشكل سافر وأمر سنة 1937 بإقصاء 12 عضواً من لجنته المركزية بغية تغير هيكليته وتدجينه واخضاعه لسطوته. في يوغوسلافيا رفضت الحكومة سنة 1921 السماح للحزب الشيوعي من ممارسة النشاط العلني، مما عرض اعضاءه للملاحقة والاضطهاد واضطرهم للهرب الى النمسا او فرنسا او اللجوء الى موسكو بأعداد غير قليلة. عندما استقر في الاتحاد السوفيتي اكثر من 300 كادر، عمل اغلبهم كأعضاء نشطين في المنضمات التابعة للكومنترن، لكنهم تعرضوا للملاحقة والتطهير على يد رجال المخابرات الستالينية، وابعد بعضهم الى سيبيريا واعتقل آخرون بتهمة التعاطف مع التروتسكية او الانتماء للثورة المضادة.
في ظل النظم القمعية والمستبدة، ينشط ضعاف النفوس والمتملقين ويتحولون الى ادوات للنيل من الخصوم والوقيعة بهم او تصفيتهم بكافة الوسائل. استخدم ستالين عميله سكرتير الحزب الشيوعي الايطالي توغيلياتي الذي اشرف على تعذيب سكرتير الحزب في هنغاريا بيلاكون وساهم بعمليات تطهير الحزب الشيوعي البولندي سنة 1938، ودبر المكائد ضد بعض اعضاء منظمة الكومنترن مثل شوبرت الذي كان عضواً بارزاً في منظمة الاغاثة الحمراء العالمية. بعد ان انتهى ستالين من تصفية الحساب مع القيادات في المنظمة الاممية، التفت الى الشيوعيين العاديين الهاربين من اضطهاد دولهم واللاجئين الى الاتحاد السوفيتي. بين سنوات ( 1936 – 1937 ) تم اعتقال 1136 شيوعي الماني لاجىء، ولا يعرف ما حل بمعظم هؤلاء لحد اليوم، سوى ما اظهرته الوثائق الرسمية عن اعدام 82 واحتجاز 200 في معسكرات التأديب واعادة التأهيل ونفي عدد مماثل. توزعت تهم المعتقلين بين التهاون مع النظام النازي وعدم الجدية بإسقاطه وفسح المجال امامه للنهوض والتغول، او الفشل بتثقيف المجتمع الالماني بالقيم الماركسية اللينينية الاممية، وفي حالات اخرى بالعمالة لهتلر. تمادى الطاغية في ممارساته الشاذة عندما ارغم بعض الكوادر الشيوعية الالمانية الى العودة الى بلادهم في آذار ( مارس ) 1937، ومن بين هؤلاء اوتو والتر الذي انتحر برمي نفسه من النافذة في محل سكناه بدار الشباب قبل ان يتم ترحيله.
نهاية صيف 1945 طويت صفحة الحرب العالمية الثانية بإندحار القوة العسكرية الالمانية وانهيار النازية كنظام. بالرغم من حمل الجيش الاحمر رسالة تحرير شعوب شرق وجنوب شرق اوروبا، لم يستطع بريق الشعارات ازاحة الظلال والسحب السوداء لأن الشعوب تاقت الى اقامة نظم اعتدالية او ديمقراطية ليبرالية تلائمها بعد ان عانت ظروفاً نفسية وعاطفية واقتصادية قاسية. في ظل ما توفر من بيئة ايديولوجية وعسكرية. ارغمت تلك الدول على الدوران في فلك الاتحاد السوفيتي باعتباره النموذج وحجر الزاوية، واستنساخ التجربة البولشفية التي تؤول الى اقامة النظام الشمولي ونبذ الحياة البرلمانية. في خضم تطبيق التجربة السوفيتية، تشوهت مجتمعات شرق اوروبا، وترعرع مواطن يتصف بالخضوع والازدواجية والتزلف لرجال الحزب والدولة، وغاب او تعطل دور النخب الفكرية والمثقفة والشرائح الصناعية والفنية والتكنوقراط. وانتعشت الوصولية وثقافة القطيع والبيروقراطية بشكل خاص عن طريق الحزبيين الذين يرتدون بدلات الرفاق ويجعلوها دروعاً للاحتماء بها وتحقيق المصالح الذاتية من خلالها. كان قدر شعوب شرق اوروبا ان تقع بين مطرقة النازية وسندانة البولشفية الستالينية.
لم تنجح منظمة الاممية الشيوعية الثالثة في تدشين حقبة جديدة للبشرية بطريقة طبيعية ولا التأثير على مجتمعات غرب اوروبا بتغير قيمها ومفاهيمها بشأن ادارة الدولة، بالرغم من الهاب الحماس ورفع الشعارات الانسانية الساحرية والسعي الى اشعال فتيل الثورة او الحرب الاهلية هنا وهناك. عندما اخفقت الستالينية واذرعها بجعل الثورة الشيوعية مطلباً تلتف حوله غالبية ابناء القارة الاوروبية، توجهت الانظار صوب شرق آسيا، وبالتحديد في بلاد الصين. رمت الستالينية بثقلها في تلك البلاد الشاسعة التي نهشت بجسدها آنذاك الفوضى ومزقتها الصراعات المتنوعة الاشكال وهددت كيانها الهيمنة اليابانية. استعان ستالين بالبرلمان القائم في الصين ( الكومنتانع ) وجعله حصان طروادة يستطيع من خلاله التأثير على مسار الثورة الشعبية وتأسيس النظام الاشتراكي على الطريقة البولشفية السوفيتية.
في نهاية النفق شعاع نور أم اجنحة يراعة
رحل جوزيف ستالين إثر نوبة قلبية مفاجئة في الاول من آذار ( مارس ) 1953، وغابت تلك الشخصية الرهيبة التي اعتقد المواطن الروسي بأنها خالدة لا تهتز ولا تفنى. وعندما اختفى ترك وراءه تلك المؤسسة السلطوية والفكرية والثقافية التي اسسها واشرف على ادارتها لأكثر من ثلاثة عقود. ترك الرجل بلاده وهي قوية بقبضتها الادارية وحزبها البولشفي الواسع والمطعم بالستالينية، وبجهازها البوليسي والاستخباري وبموسستها العسكرية العملاقة وبجهازها الاعلامي الضخم. لكنها في الوقت ذاته تعاني من المستوى المعاشي المتدني ومن شحة البضائع ومن تراجع قطاع الزراعة وتربية الحيوانات، مما دفع الاتحاد السوفيتي الى استيراد المواد الغذائية الاستراتيجية، وبالأخص الحبوب. قبل ان يلفظ انفاسه الاخيرة ربما شعر الدكتاتور بتأنيب الضمير وتراءت امام عينيه قوافل المرحلين المهددين بالتطهير العرقي وطمس الهوية، وسمع أنين آلاف المعذبين في المعتقلات والزنازين، وطرقت طبلة اذنيه صراخ مئات الآلاف المحتجزين في معسكرات التأديب واعادة التأهيل وتأدية العمل البدني القسري. ولربما هزت مشاعره عتابات رفاق الامس وهم يفارقون الحياة على منصات الاعدام او بإطلاقه رصاصة ظلامية او يعانون من شدة آلام التعذيب. ولربما استذكر في ساعاته الاخيرة شكوى الملايين وهم يتضورون جوعاً ويموتون وهم يحلمون برغيف الخبز وبشريحة اللحم تصل الى اياديهم المرتجفة. حقاً، نجحت الستالينية بأسر الاجساد والافكار وارادة الانسان واممت حرية الاختيار عنده، لكنها في الوقت نفسه خطفت البهجة من النفوس وارجفت القلوب ونثرت الرعب وتركت عجلة البربرية تدور وتدور. ودع ستالين امبراطوريته بعد ان ارسى لها ركائز بدت متينة لاستمرار النظام الشمولي على يد اخلافه.
ثَقُل الليل وطالت المسيرة في النفق الذي لاح عند نهايته شعاع لضياء خافتة سنة 1956، وبالتحديد عند انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي. حينها، سلط السكرتير العام للحزب نيكيتا خروشوف الضوء على جزء او جانب من الحقيقة المرة وادان الحقبة الستالينية، وفضح الاساليب البشعة التي طالت المناضلين في الحزب والذين ادينوا ظلماً بخيانة مصالح الطبقة العاملة وبالانحراف عن الماركسية اللينينية واعتناق الهرطقة الايديولوجية. في احدى جلسات ذلك المؤتمر قال خروشوف الآتي: ( لم يكن جميع الذين قتلوا او اعدموا او عذبوا في عهد ستالين خونة للنظام الاشتراكي او اعداء للحزب، بل كان العديدون من الكوادر والاعضاء القياديين والعاديين من الضحايا شرفاء ومخلصين لقضية الطبقة العاملة، مما يدفعنا للإعتراف بالذنب والشعور بوخزة الضمير. ان ارواح هؤلاء الابرياء تحوم في اجوائنا وفوق رؤوسنا لكي توقظ فينا صحوة الضمير. عندما امر ستالين بقتل او تعذيب او تغييب الآلاف من الحزبيين او غيرهم، وسبب الدمار للاقتصاد واسس النظام الفردي والاملائي، انما اهان الحزب واقصاه واساء لجوهر الماركسية اللينينية ) انتهى المقتطف. تمكن خروشوف من احداث تحول مهم في الذهنية الفكرية والسياسية السائدة، مما ادى الى ازاحة تماثيل ستالين من الساحات العامة واسدال الستار على معظم كتاباته ومؤلفاته التي اختفت من المكتبات ومن محلات بيع الكتب.
من المعلوم ان الانتهازيين والمتسلقين الذين يجعلون من انفسهم ادواتاً يسخرها الدكتاتور لتنفيذ رؤآه وجسوراً توصله الى مبتغاه، سرعان ما ينقلبون على ذواتهم بصورة دراماتيكية وحسب تغير الظروف. في هذا السياق، تنكر رئيس جهاز المخابرات الستالينية بيريا لذاته وطوى صفحة ماضيه واستدار 180 درجة بعد رحيل ستالين. انسلخ الرجل عن الماضي الخشن وارتدى ثوباً ناعماً واظهر نفسه انسانياً ورقيق المشاعر تجاه المظلومين عندما دعا الى ضرورة اطلاق كافة المعتقلين والمحتجزين في معسكرات التأديب واعادة التأهيل واداء العمل القسري لأن ( حسب رأيه النير ) مثل هذا العمل اقل كفاءةً وانتاجية وجدوى من العمل الاجير الحر. في موقف يثير الاستغراب، ادان بيريا الشوفينية الروسية وتسلطها على بقية شعوب الاتحاد السوفيتي وندد بإرغام الاقوام على استخدام الروسية وجعلها اللغة الرسمية الوحيدة. في مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، ايد فكرة الانفتاح على الغرب وابداء المرونة وتقديم التنازلات له من اجل الحصول على مساعداته لإعادة بناء او اصلاح الاقتصاد السوفيتي. ودعا الى التصالح مع جوزيف بروس تيتو زعيم يوغوسلافيا، وطالب بإنسحاب قطعات الجيش الاحمر المتواجدة في المانيا الديمقراطية ( الشرقية ) وهاجم سياسة سكرتير الحزب الشيوعي اولبرشت ( Olbricht ) لأنه ( حسب رأي بيريا ) لا توجد ضرورة لبناء الاشتراكية في تلك البلاد. عندما انقلب بيريا على ماضيه، لربما طمح الى تمثيل دور ما في المرحلة الجديدة وجعل جماجم ضحايا آخرين لبنات للإرتقاء في المناصب والتسلق في سلم هرم السلطة السوفيتية. لكن كلماته المنطقية وطروحاته المغرية لم تسعفه، وبعد ان عزز نيكيتا خروشوف ومالينكوف موقعيهما في الحزب، التفتا نحو بيريا وسحبا البساط من تحت قدميه وجرداه من كافة مسؤولياته. بالتالي، تمهدت الظروف وحانت الفرصة وتم اعتقاله ووجهت اليه تهمة التجسس لصالح بريطانيا العظمى، مما تطلب ادانته وتنفيذ حكم الاعدام به بعد اربعة شهور من رحيل ستالين.
اثناء انعقاد المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفيتي في حزيران 1962، تقدم سكرتيره العام خروشوف خطوة اخرى لإدانة الستالينية وتبديد ظلالها واصدر التوجيهات بإبعاد جثمان صنمها من مقبرة العظماء. في اجراءاته تلك، اعتقد خروشوف بأنه رمى سمكة ذهبية في بركة ماء كدر، وانه تسلم مفتاح السجن الكبير لكي يفتح بوابته ويمهد لعالم الرومانسية ويطل على المستقبل المشرق ويدشن عهد يطهر كل ما افسدته التجربة الستالينية. خاطبت تلك المبادرات مشاعر العديد من الادباء في العالم ودفعت لويس اراغون لاطلاق عبارته ( دع العيون الزرقاء والهادئة تلتمع امام الوحشية الحمراء ). بقصد بعث الامل في النظام الاشتراكي السوفيتي وتعزيز الثقة بالايديولوجيا الماركسية، عكست وسائل الاعلام والنشريات الحزبية والندوات التثقيفية ديمومة البولشفية ونقلها الى مراحل متقدمة واوحى المنظرون لها بإمكانية بلوغ عتبة الشيوعية نهاية العقد الثامن من القرن العشرين. توقع خروشوف او تراءى له اضمحلال الدولة بعد ثلاثة عقود وذبول اجهزة الامن والمراقبة وانتفاء الحاجة لرجال الشرطة لأن المواطنين حينها يشعرون بالمسؤولية ويديرون ويراقبون انفسهم بوعيهم الذاتي ويؤدون عملهم طواعية وحسب قابليتهم. بالنتيجة، تزول كافة اشكال الاستغلال او الصراعات الطبقية وتختفي دكتاتورية البلوريتاريا ويتأسس المجتمع المتجانس بعد ان يرتقي روحياً ويكتفي مادياً.
بقصد اظهار الاتحاد السوفيتي كبلد ينافس الغرب ويتفوق عليه وينجح في تطبيق الاشتراكية والارتقاء بالإنسان بالرغم من سلبيات الفترة الستالينية، اصطنع خروشوف رفع مستوى معيشة المواطن بطريقة تخبطية ومن دون ان يهيىء لها المقومات. في خطوته تلك اضاف المنشطات لبذور إفناء النظام الاشتراكي أو تقويض اقتصاده. وعندما بشر بالنهاية الوشيكة للصراع الطبقي وبزوغ فجر الشيوعية بعد شيخوخة الاشتراكية، جرد البولشفية من زخمها العاطفي وثلم ثوريتها وأنهى دورها في التنظيم والادارة. في القطاع الزراعي فشلت خطة القفزة السريعة التي انعقدت عليها الآمال، وتبددت احلام خروشوف واضحت اوهاماً عندما انخفض محصول زراعة الحبوب كثيراً سنة 1963. بالنتيجة، ساءت الاحوال وارتفعت اسعار المواد الغذائية الاساسية وانطلقت الاضرابات في عدة اماكن، وابرزها في مصنع المحركات الكهربائية لمدينة نوتوجيركاسك في القوقاز. اشتكى العمال المضربون من عدم تمكنهم شراء العديد من الاحتياجات وحتى شرائح اللحم المقدد والصوصج. تصاعدت سخونة الاوضاع، ولا سيما عندما لجأت الشرطة الى العنف وسقط 23 ضحية اثناء مسيرة العمال وهم يحملون صور ماركس وانجلز ولينين. كسر المتظاهرون حاجز الخوف وانتقدوا السياسيين الذين ملئوا رؤوس العمال بالثرثرة حول الايديولوجيا الماركسية واغرقوهم بالشعارات الديماغوجية وبالحديث عن الانجازات الفانتازية. من بديهيات معظم الثورات ان تلتهم ابناءها او قادتها. يوم 13 تشرين الاول ( اكتوبر ) 1964 وبعد ان ترأس خروشوف الاجتماعات في القوقاز وعاد الى موسكو، وجد نفسه وقد جرده رفاقه في القيادة من كافة مسؤولياته الحزبية والوظيفية. حينها، اتهمه غرماؤه بالفردية في اتخاذ القرارات وبعدم صلاحيته لإدارة المرحلة كسكرتير عام للحزب الشيوعي السوفيتي. لكن رسمياً اعلنت وسائل الاعلام الحكومية احالة خروشوف الى التقاعد لأسباب صحية، مما تطلب الامر نقل المنصب الاعلى في القيادة الى ليونيد بريجينيف.
عندما يسود الفقر والقهر واليأس ويتنوع التمييز، يبقى الامر طبيعياً ان تلتحق الملايين بالحركات الراديكالية وبالاحزاب الشيوعية، لأن المقهورين يتطلعون الى معالجة الخلل وانصافهم عن طريق ازالة التفاوتات الطبقية. اعتقد رسل الايديولوجيا الماركسية بأن في عصر الاشتراكية او الشيوعية يغيب الظلم وتتحقق العدالة الاجتماعية وينتشر الخير والرفاهية وتنغرس الثقافة الانسانية. آمن الماركسيون بأن الشيوعية نبع الامل في مستقبل مشرق لأنها تؤسس لمجتمع يعمل جميع مواطنيه بتفاني وانسجام وتآخي ويضحون من اجل المصلحة العامة. عندما انطلقت فترة التبشير بالماركسية، اعلن رسلها وتلاميذها مشروع الخلاص وتطهير الفرد من الخطايا والعيوب في خارطته الوراثية، مما يؤول الى خلق الانسان الملائكي الذي ينبذ الملكية الفردية والانانية والتميز على الغير ويعمل حسب طاقته وينال ما تتطلب حاجته ويترك الفائض طواعية للصالح العام. لكن فات المبشرون بأن بلوغ ذلك الهدف باهض الثمن، لا بل ومستحيل وان الطريق وعر وغير سالك. لم يتنبه اولئك الرسل الى ان تنفيذ تلك الرسالة يتطلب ابادة شرائح وفئات مجتمعية تعتبرها هي نفايات وطفيليات او اجزاء قذرة واطراف ضارة ينبغي بترها. في الوقت الذي تطلع اخلاف ماركس الى تأسيس مجتمع الاكتفاء والنعيم والعدالة، ساد الفقر والمعاناة النفسية وارتدى الظلم والاستغلال والاذلال والتعسف اثواباً مختلفة، وانتشر الرعب الذي جعل الانسان يخشى حتى من ظله. تحت علم تطرّزه المطرقة والمنجل سئم العمال العمل وكرهوا الآلة، وشعر الفلاح وكأن المنجل والمحراث تحولا الى ادوات لاستعباده. ان حسن النوايا وسحر مضامين الايديولوجيا لا تعني شيئاً ذات قيمة ولا تضمن تحقيق الفوائد، طالما يمهد النظام الشمولي لوثوب الوحوش الى قمة هرم السلطة ويتجبروا وتصبح عملية ازاحتهم صعبة ومعقدة وازالة مخلفات كوارثهم بعد رحيلهم باهضة الثمن.
لم يعترف ستالين او اخلافه يوماً او يفصحوا عن نيتهم بتأسيس الامبراطورية السوفيتية الاشتراكية، لأن هذه المفردة ترتبط بمفهوم الهيمنة والاستحواذ وتوحي الى الاستعمار الذي وصفه لينين كأعلى مرحلة من تطور الرأسمالية. لكن الوقائع اظهرت النوايا لتشكيل نواة ذلك الكيان الهائل حينما فرض على جميع دول المعسكر الاشتراكي والاحزاب الشيوعية في العالم اعتبار الاتحاد السوفيتي حجر الزاوية والنموذج الملهم والاخ الاكبر والانضج والاكفء الذي يقود ويرعى اخوته الصغار. راودت ستالين الاحلام برسوخ اركان امبراطوريته الاشتراكية التي زينتها وزخرفتها المفردات الانسانية والعبارات المغرية والتطلعات للمستقبل البهيج، لكن تلك الواجهة الجذابة اخفت ورائها التصدعات والشقوق والمآسي والآلام.
بعد سبعة عقود من احتدام الصراع والمنافسة بين الاشتراكية والرأسمالية، انهار حجر الزاوية واخفقت التجربة السوفيتية وتفككت الكتلة الشرقية ليس بالقوة العسكرية للغرب او نشاط دعايته واجهزة مخابراته بشكل رئيسي، بل بتأثير الاسباب البنيوية داخل النظام الذي استند على الطروحات الايديولوجية البحتة وجعلها اسلوباً لإدارة الدولة والاقتصاد والتربية وكافة نشاطات الحياة. رافق تطبيق النصوص الماركسية ممارسات قيدت ارادة الانسان وحرية تفكيره في الاختيار وانشلت داخله دوافع الابداع وانعدمت امامه حوافز التطوير، مما دفع المجموعة الاخيرة في السلالة البولشفية الى مراجعة الذات وتحسس المسؤولية بإنقاذ الوضع ووضعه على الطريق السالك. في هذا السياق اطلق بوريس بالتسين خليفة داعية اصلاح النظام الشيوعي، غورباتشوف التصريح الآتي: ( شاء القدر وجعلتنا الظروف ان تكون بلادنا روسيا الحقل او المختبر لتطبيق الايديولوجيا الماركسية واختبار مدى صلاحيتها. في النهاية قدمنا الدليل بأن لا فرصة عندنا لإمداد هذه النظرية بعناصر الحياة الطبيعية. ان تحويل الماركسية اللينينية الى نظام لإدارة الدولة والمجتمع في الاتحاد السوفيتي ابعدتنا كثيراً عن الطريق الذي سلكه ويسلكه العالم المتمدن ) انتهى المقتطف. وللتعبير عن وجهة نظر مماثلة تقريباً، قال كادر شيوعي فيتنامي متقدم وهو في الثمانين من العمر ما يلي: ( اقولها من اعماق القلب وبحسن نية بأننا نحن الشيوعيين لم نقصد اقتراف اية ممارسة ضارة او الاساءة لأبناء الشعب، وحاولنا ان نكون طيبين وانسانيين، لكن في النهاية تحولت كل الآمال والتطلعات الى فشل وظلال واذى ) انتهى القول.
لم يشهد العقد الاخير من القرن الماضي اختفاء المعسكر الاشتراكي عن الخارطة الجيوسياسية في العالم فحسب، بل واقترن بإهتزاز الايمان بالمذهبية التي دعت الى تأسيس دولة العمال وحمايتها بمظلة دكتاتورية البلوريتاريا. في هذا الخصوص اشار غرامشي احد زعماء الحزب الشيوعي الايطالي الى خطورة تحول الماركسية الى عقيدة ايمانية قدرية وفرض تطبيقها بطريقة ميكانيكية، لأن ذلك يكون بمصاف ارتكاب خطىء جسيم. واضاف غرامشي بأن اخضاع الافكار النظرية للتجربة وتحليل النتائج علمياً وبطريقة شفافة وصادقة وجريئة يؤدي الى نبذ ما هو فاشل وضار والاخذ بما هو ناجح وعملي ومفيد. إنتهى القول. في الوقت الذي استبشر البعض بانبلاج فجر جديد للبشرية يحمل مشاعله الشيوعيون، رأى آخرون بأن جعل الايديولوجية الشيوعية نظاماً للحكم مثل احد التحديات التي واجهت الانسانية في القرن العشرين. وبقصد حسم المنازلة والانتصار فيها، اعتمد الشيوعيون على نظرية اذكاء الصراع الطبقي الاستئصالي واعادة بناء التركيبة الاجتماعية وارساء علاقات ومفاهيم وقيم جديدة، واستعان غريمهم بجدوى تعاون العمل والرأسمال الذي يؤول الى النمو الاقتصادي ويرفع مستوى المعيشة لعموم شرائح المجتمع ويتجنب بتر او اقصاء طبقة ما. عزز منظرو الرأسمالية المعاصرة ثقتهم بسياسة اقتصاد السوق الى جانب اخضاع كافة نشاطاته للمراقبة الدقيقة من قبل الدولة، ليس بهدف احلال العدالة الاجتماعية التامة، بل لإحداث التوازن وتأمين الاكتفاء العام عن طريق تطوير او تحسين نظام الرفاه والضمان الاجتماعي ( Welfare ). لم ينجح النظام الاشتراكي الماركسي بتقديم تجربة عملية متقدمة على النظام الرأسمالي في مجالات الاقتصاد وإدارة المجتمع وتحسين معيشة المواطن وصيانة كرامته.
عند تحليل الامور بموضوعية وتجرّد وبعقل منفتح وليس منغلق او متعصب، نرى بأن فرص الابداع والنهوض ليست حكراً على قوم او امة او عرق او قارة بحد ذاتها، لأن الانسان خلاق ومنتج ومتطلع اينما كان. لكن عندما تعاني الشعوب من الظلم والقهر والانسحاق وتعيش اسيرة التقاليد والمفاهيم السلبية والخاطئة التي تقيدها بالاغلال او تقع ضحية لوعود الايديولوجية، تتحول تلك الشعوب بالتالي الى معتقلين في قلعة متآكلة وتموت طاقاتها وتتراجع فرص التقدم والارتقاء امامها.
بولندا بين المخالب والانياب
منذ نهاية القرن الثامن عشر فقدت بولندا سيادتها على ارضها الوطنية والقدرة على ادارة شؤون مواطنيها، وعانت من التقسيم ومن احتلال او هيمنة ثلاث قوى عظمى آنذاك وهي روسيا القيصرية وامبراطورية النمسا والمجر وبروسيا الالمانية. هكذا شاءت الظروف ومهدت لوقوع البولنديين على مدى بضعة قرون تحت ضغوط وتدخلات جارهم الروس وغيرهم. بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى واندحار المانيا واسدال الستار على الحكم القيصري، واضمحلال امبراطورية النمسا والمجر لم تشعر بولندا بالأمان من اطماع التماسيح في دول الاقليم. بالرغم من انتصار ثورة اكتوبر 1917 وقيام النظام السوفيتي الاممي، لم يطرأ تغير جوهري في مواقف روسيا تجاه تلك البلاد، بل استمرت تدخلاتها واشتدت وطأة قبضتها عليها، ولا سيما في الفترة الستالينية وعلى يد اجهزة المخابرات السوفيتية. على خلفية الظروف السابقة والممارسات اللاحقة تصاعد العداء التقليدي بين البولنديين والروس واستمد الحياة من التربة التي غرست فيها الكراهية جذورها واججت روح الاحتراب بين الطرفين لعقود وقرون. خلال القرن التاسع عشر اندلعت بضعة انتفاضات للبولنديين ضد التسلط الروسي، ولا سيما في 1830، 1863 حينما انتفض النبلاء واتباع الكنيسة وقادتها وهم متسلحين بالمشاعر الوطنية وبالاعتزاز بإنتمائهم الى المذهب الكاثوليكي. عندما وضعت الحرب الاولى اوزارها واختفت ثلاث امبراطوريات من على سطح الخارطة الدولية، تطلع البولنديين الى استنشاق عبير الحرية وتحقيق السيادة الوطنية الكاملة على ارضهم. لكن قادة ثورة اكتوبر الاشتراكية كانت لهم استراتيجيتهم وتطلعوا الى تصدير البولشفية وتوظيف الايديولوجيا الاممية لإقامة امبراطورية غير معلنة او ربما غير مقصودة عن طريق جعل بولندا النافذة او الساحة الامامية التي منها تنطلق شظايا النظام السوفيتي وتشعل فتيل الثورة في المانيا وغيرها من دول غرب اوروبا. من اجل تفعيل تلك الاستراتيجية، اصدر لينين الاوامر لقطعات الجيش الاحمر في صيف 1920 بالزحف نحو وارشو وتنفيذ الخطط المرسومة. عندما فشل الهجوم بفضل مقاومة وصمود البولنديين، اضطر لينين الى عقد معاهدة صلح مع الحكومة البولندية. بعد رحيل لينين 1924 وسطوع نجم ستالين وتسلقه الى اعلى قمة هرم السلطة السوفيتية والحزب البولشفي، استيقظت عنده ذكريات مرارة الاندحار العسكري عند ابواب وارشو، وصمم على الانتقام من الجارة الغربية بولندا واخضاعها لمآربه. وبقصد جعل بولندا المنطقة الرخوة لتدشين مشروعه الامبراطوري، اطلق ستالين يد اجهزة الامن والمخابرات السوفيتية وبث الجواسيس في ذلك البلد ووظف عملاءه ليصبحوا دمى في الحزب الشيوعي البولندي.
في الفترة الستالينية تعرضت النخب الفكرية والثقافية اللبرالية والارستقراطية والكوادر الفنية والعسكرية ورجال الكنيسة الكاثوليكية الى القمع والترويع والتصفيات على نطاق واسع. اخفت تلك الممارسات اللاانسانية وجهها الكالح خلف يافطة نشر المبادىء الاممية وتحقيق تطلعات الطبقة العاملة. بين سنوات ( 1924 – 1938 ) عانت بولند من وطأة الارهاب الستاليني الاحمر، وخيم الرعب وسرت عمليات الاغتيال وصدرت احكام الاعدام بحق المئات من المعارضين لسياسة ستالين ومن الوطنيين والشيوعيين غير الموالين له. اما في 1939 فلقد حلت اللعنة والكارثة الكبرى على تلك البلاد اثر عقد هتلر وستالين معاهدة عدم الاعتداء بين الطرفين لمدة عشر سنوات، والتي حولت بولندا الى منطقة نفوذ يتقاسمها الاتحاد السوفيتي والمانيا النازية. بالنتيجة، تهددت الهوية القومية والوطنية بخطر التشوه وتعرض كيانها للانصهار تحت اقدام جحافل القطعات العسكرية الزاحفة اليها من حدودها الشرقية والغربية. سهلت تلك المعاهدة الامر لقطعات الجيش الاحمر للزحف على بعض مناطق بولندا في صيف 1939. اثناء المجابهة وبسبب عدم تكافىء الفرص، وقع 250000 عسكري بولندي اسرى عند القوات السوفيتية ومن بينهم 10000 ضابط برتب مختلفة. على الفور تشكلت المحاكم العسكرية الميدانية الخاصة واصدرت احكام الاعدام رمياً بالرصاص على مئات القادة والضباط. وفي اجراءات لاحقة وبإيعاز من رئيس جهاز المخابرات السوفيتية ( وزير الامن الداخلي ) بيريا اقيمت عشرات معسكرات الاحتجاز الجماعي، وفرض على الاسرى البولنديين العمل الاستعبادي لفتح الطرق وتعبيدها ومدّ الجسور والعمل في المناجم، وتم ترحيل بضعة آلاف الى سيبيريا وكازاخستان واوكرانيا. لم تقتصر تلك الاجراءات على العسكريين فقط، بل شملت المدنيين، مما اوصل عدد المرحلين الى 400000. طالت اعتداءات ستالين ارض بولندا عندما اقتطع بعض مناطقها الحدودية وضمها الى روسيا وحول مواطنيها الى رعايا تابعين لنظامه.
عندما تم قلع براثن القبضة النازية من جسد بولندا على يد الجيش الاحمر خلال سنة 1945، تطلعت القوى الديمقراطية واللبرالية في تلك البلاد الى لئم جراحات الماضي ولملمة الصفوف وتنظيمها وتمكينها من ادارة الدولة بعد معاناة عقود من السنين. لكن ستالين وعملاءه احبطوا المساعي الوطنية واداروا البوصلة بإتجاه آخر وتحكموا بمستقبل بولندا السياسي واستبدلوا نير النازية بشبح الهيمنة السوفيتية تحت ذريعة تنفيذ الرسالة الاممية وتحقيق مصالح الطبقة العاملة. بالنتيجة، وبتوجيهات ستالين المباشرة، تمكن الحزب الشيوعي البولندي في 1947 من تصفية خصومه وتغيير الخارطة السياسية لصالحة والتحكّم بمرافق الدولة الاساسية وفي المؤسسة العسكرية وادارة النقابات والاتحادات والمنظمات. وبدلاً من ان تنهض بولندا ككيان وطني وقومي مستقل يعيش الحياة البرلمانية، وقعت فريسة لجارتها الشرقية الاممية بعد ان تحررت من هيمنة جارتها الغربية النازية، وتحولت الى احدى مزارع امبراطورية ستالين غير المعلنة. ظاهرياً كان هناك حزب شيوعي في بولندا يقوده المكتب السياسي وله لجنته المركزية ولجان فرعية ومتفرعة وخلايا متغلغلة في اوساط الجماهير، لكن جميع تلك التشكيلات كانت هزيلة ومشلولة امام اجهزة مخابرات ستالين وعملائه، وجبارة وفاعلة تجاه من يعارض الواقع القائم او ينتقد السياسة السوفيتية وممارسات اذرعها في الداخل. من خلال الحزب الشيوعي البولندي تحولت البلاد الى تابع ذليل رهن سيادته لجاره، الاخ الاكبر وحجر الزاوية، مما جعل استقلال بولندا صورياً. في الوقت الذي روجت البولشفية للثقافة الاممية والترفع على الحدود الوطنية وتغليب العلاقات الانسانية، اجرى ستالين تعديلات على حدود روسيا مع بولندا لصالح ارضه واحدث التغييرات الديموغرافية في تلك المناطق عن طريق الترحيل واعادة التوطين، مما افقد بولندا 180000 كم2 من ارضها وتحويل مئات الآلاف من مواطنيها الى رعايا تحت السيادة السوفيتية.
بعد ان تجرعت بولندا المرارة لفترة غير قصيرة وعايشت الكابوس الذي افسد هناء نومها، تحركت القوى الحية لشعبها ورفضت المكوث في العتمة، وبدأت مسيرتها في النفق وهي تحمل المشعل وتصمم على بلوغ النهاية واستقبال ضياء الشمس. على ذلك النهج انتفض البولنديون في 1970 وعبروا عن رفضهم للنظام الاشتراكي القائم، لكن السلطة تمكنت حينها من سحق الانتفاضة وقتل المئات من المعارضين. في 3 آب ( اغسطس ) 1980 اندلعت شرارة ثورة شعبية اطلقها القائد العمالي الاصلاحي ليش فاليسا الذي اوقد الشرارة لموجة من الاضرابات في صفوف نقابات التضامن العمالية. رفعت الاضرابات والحراك الجماهيري شعار التغيير ودعت الى اعادة النظر في البنية السياسية وطالبت بإقامة نصب لإحياء ذكرى ضحايا انتفاضة 1970. توسعت الرقعة المجتمعية للاحتجاجات وشملت شرائح من المهندسين والاداريين ومن النخب الفكرية اللبرالية والمثقفين المعارضين للنظام الاشتراكي السوفيتي. تدريجياً، ازداد زخم الثورة وموجة الاضرابات وشملت 700000 عامل يمثلون 700 مصنع وورشة. نالت ثورة عمال بولندا الاعجاب واستقطبت الاهتمام العالمي، لا سيما عندما تحدت الجبروت ودشنت تجربة التعرض للنظام الاشتراكي الشمولي وتقويضه بغية اقامة الديمقراطية البرلمانية التي ترتأئيها نسبة كبيرة من المواطنين.
الفصل الرابع
اطلالة الشيوعية على شرق آسيا
الصين، القطب الثاني للشيوعية
في الوقت الذي لم تستطع فيه الرياح البولشفية من زعزعة أمم غرب اوروبا، نظرت الطلائع الثورية لبعض شعوب شرق آسيا الى ثورة اكتوبر الاشتراكية باعجاب واتخذتها نموذجا ملهما واعتبرتها ليس فقط مشروع الخلاص من الهيمنة الاجنبية بل ومن الموروثات البالية ووسيلة لإزاحة القهر والإرتقاء بالحياة. عندما علم الصينيون ببنود معاهدة فرساي التي قررتها الدول المنتصرة بالحرب العالمية الاولى والتي منحت اليابان الحق بالتصرف بالمناطق التي سبق وكانت تحت هيمنة المانيا، انتفض الطلبة في بكين وتجمعوا بأعداد كبيرة في ساحة تيانانمين ( Tiananmen ) اي بوابة السلام يوم الرابع من ايلول 1919. في غمرة الاعجاب بإنجازات السوفييت وسطوع بريق دعايتهم، نهض الثوريون الصينيون ورفعوا شعار ( على الصين ان تستيقظ وتزيح غبار الماضي ). وكخطوة اولى لتحقيق ذلك شكل هؤلاء النواة لإنبعاث الحزب الشيوعي الصيني، وصمموا على احلال الثقافة الماركسية والافكار الحديثة محل المفاهيم والقيم السائدة في العقيدة الكونفوشوسية التي تشيع السلمية والطاعة والخضوع للمقام الاعلى بغية الحفاظ على تماسك المجتمع وضبط هرميته. اعتقد الثوريون بأن تحرير الصينيين من قيود العائلة الصارمة ومن التسلط الابوي يأخذ بهم الى عالم الحرية والحب الرومانسي واثبات الذات ويطلق طاقاتهم. خاطب الرعيل الاول من الشيوعيين الصينيين المشاعر الوطنية ورفضوا السلمية والاستسلام للأمر الواقع الذي تنادي به الكونفوشوسية، لأنها أضعفت الصين عندما أنشأت مواطنين خانعين وقتلت روح البطولة فيهم وحولت البلاد من امبراطورية عريقة ومهابة الى عبد ذليل لليابان ولدول الغرب الامبريالية. منذ البداية، تبنى التيار الشيوعي العنف والتمرد واعتبر تسلط الاب في العائلة والحاكم في البلاد مدخلاً لإجهاض روح الثورة واخماد جذوة التطلع الى التغيير الجذري.
عندما اعتقد الثوريون الصينيون بأن الماركسية تقدم الحل الامثل لكافة المشكلات وهي المنهج المتكامل والناجح لإدارة المجتمعات، بالإضافة الى اعجابهم بالتجربة البولشفية، رفضوا بالمطلق اللبرالية والديمقراطية البرلمانية المتبعة في الغرب. ترافق ذلك مع توجه انظار منظمة الاممية الشيوعية الثالثة صوب الصين بعد ان خاب املها بإشعال فتيل الثورة البلوريتارية في اليابان، البلد الصناعي المتطور. لم تكن العلاقات الرفاقية الاممية ووحدة الرؤى والمواقف بين القيادة السوفيتية وبين الشيوعيين الصينيين سوى سحابة صيف. منذ 1920 ولينين يقود دولة العمال والفلاحين، اطلت الخلافات برأسها وطفحت على السطح نزعة التسلط والزعامة واخضاع الاخ الاصغر وغير الناضج لإرادة الشقيق الاكبر والانضج. بالرغم من التظاهر بإعتناق الايديولوجيا الماركسية الاممية، تقلصت فرص التفاهم وتناقصت نقاط الالتقاء بين الرفاق في البلدين على خلفية الاهواء الشخصية والاختلافات الحضارية والثقافية ونوعية التطور الاقتصادي وتراكم التجارب التاريخية. حينها، مارس الاتحاد السوفيتي نفوذه في منظمة الاممية الشيوعية، مما دفعها للتدخل بشؤون الحزب الشيوعي الصيني وفرضت عليه التعاون مع حزب البرجوازية الوطنية بزعامة صين يات صين. لكن هؤلاء رفضوا اقامة اية جبهة مع الاحزاب البرجوازية واعتقدوا بأن المنظمة الاممية تقلل من شأنهم. ولتأكيد موقفها، اصرت قيادة الحزب الشيوعي الصيني على سلك طريق الكفاح المسلح بالإعتماد على شرائح الفلاحين اولاً وعلى طبقة العمال ثانياً من اجل اسقاط دولة البرجوازية الوطنية التي كان يقودها خليفة صين يات صين، شان كاي شيك.
في تلك المرحلة من مسيرة الحزب الشيوعي الصيني، برز دور ماوتسي تونغ، وبالتحديد سنة 1925 عندما اشتد الصراع بين الشيوعيين وبين قوات شان كاي شيك وهرب الطرف الاول الى الجبال واسس فيها مقرات عسكرية. قبل اندلاع الثورة المسلحة والالتحاق بها وقيادة بعض فصائلها، شغل ماو وظيفة متواضعة وعمل مساعد امين مكتبة. لأنه ترعرع في بيئة اجتماعية مقهورة وذاق مرارة العيش، ضمر مثل ستالين الحقد واختزن دافع الثأر من الطبقة الارستقراطية والاقطاعية وحتى من الفئات العالية الثقافة والمتميزة.
عند تتبع شخصية ستالين وماوتسي تونغ يلاحظ المرء بينهما العديد من التشابهات، لأنهما شقا الطريق كالافعى التي تتسلق بمكر ودهاء وتلتهم فريستها وهي تزحف نحو الاعلى. انتمى كلاهما لفصيلة الطيور الليلية الجارحة التي تنشط وتصطاد فريستها في الظلام. استرشد كلاهما بالمبدأ الميكافيلي وانتهجا اسلوب العنف ومارسا الغدر والمكيدة والاستئصال بغية تحقيق الغاية. انغلق كلاهما على محيطه الوطني الضيق ولم ينفتحا على الغرب او يطلعا على ثقافته وتجاربه عن طريق الزيارة او الدراسة. تمتع كلاهما بالذكاء وتلقيا دراسة اكاديمية محدودة، لكنها ناجحة في الهاب الحماس ومخاطبة المشاعر وفعالة في تخدير عقول البسطاء والسذج واقناعهم بأن جُّل همهم تحقيق مصالح الجماهير. اتصف كلاهما بالعناد وتدفق في اعماقهما الهيجان وروح التمرد الى جانب الميل الى تحقير الوالد ونبذ الواقع العائلي المزري. بالرغم من المشتركات التي جمعت الشخصين، عادى احدهما الآخر واختلفا وتخاصما لأن صفة الغرور واغراءات الزعامة والرغبة في الاستفراد بالقرار وبناء الامجاد الشخصية دحرت روابط الرفاقية والايديولوجيا الواحدة.
بما يخص ايديولوجية الثورة، اعتقد ماو بعدم جدوى الاساليب الاعتدالية والاصلاحية والتفاهم مع الاحزاب الوطنية البرجوازية، مما يجعل التطرف الراديكالي والكفاح المسلح وتطبيق الدكتاتورية الطبقية الآلية الامثل لتحقيق النصر واقامة النظام الاشتراكي في الصين. عندما أُرغم الشيوعيون على ترك المدن والهرب الى الريف سنة 1927 انهارت كل فرص التفاهم مع احزاب البرجوازية الوطنية، ولا سيما واطلق ماو مقولته الشهيرة ( تنمو وتترعرع قوة الثورة من فوهة البندقية وفي اسطوانة البارود ). مكنت عقلية ماو الريفية والفلاحية من تحسس وتفهم هموم الفلاحين وغزو قلوبهم والنفاذ الى عقولهم، وعبر عن ايمانه وثقته بهم عندما شبههم بالبحر العميق الذي يختزن المشاعر والعواطف الخيرة ومقومات المطاولة في الكفاح ويجسد النقاوة. بالرغم من مطالبة الايديولوجيا الماركسية رسلها بالإعتماد على البلوريتاريا كمحرك وعنصر اساسي في الثورة واقامة دكتاتورية الطبقة العاملة، تجاهل ماو ذلك النص واستند على الفلاحين وسكنة الريف وجعلهم العمود الفقري للكفاح المسلح. عندما وجهت قيادة الحزب البولشفي السوفيتي الانتقادات الشديدة لماو، لم يبال الاخير بذلك واصر على نهجه واسس مرجعية او مدرسة ماركسية خاصة به، مما حوّل الصين الى القطب الثاني للشيوعية العالمية بعد ان كان الاتحاد السوفيتي قطبها الوحيد وحجر زاويتها الفريد.
بعد ان تنامت الثورة المسلحة والتحق بصفوفها عدد كبير من الانصار الذين كسبوا ود الفلاحين في المناطق المحررة، تمكن ماو من الاعلان عن دولته الشيوعية المصغرة يوم السابع من تشرين الثاني ( نوفمبر ) 1931 في احتفال شهد الرايات الحمراء وشعار المنجل والمطرقة ترفرف في اجوائه. مثلت تلك المناسبة المرحلة المتقدمة في حرب العصابات التي شكل ماو عمودها الفقري من فقراء الفلاحين وليس من شغيلة المصانع ( البلوريتاريا ). تباعاً، ابتدأت اجراءات تطبيق الاشتراكية في الريف المحرر وتمت مصادرة اراضي وممتلكات الاثرياء ووضعت تحت تصرف الفلاحين. اطلق الشيوعيون الماويون على ذلك الكفاح المسلح تسمية ( المسيرة الكبرى ) ورفضوا اي شكل من العمل المشترك مع احزاب البرجوازية الوطنية او اقامة جبهة معها. بغية الافصاح عن شدة ثورية المسيرة الكبرى، اقر ماو استخدام العنف ضد ملاك الارض او المعارضين للثورة وشكل فرق للاعدام الميداني بحق كافة العناصر المعادية او العميلة او الخائنة. وهكذا، اتسمت حقبة ماو منذ البداية بالاستبداد والبطش والترويع والفردية في اتخاذ القرار وبالعبثية احياناً، لا سيما وضمت صفوف المقاتلين عدداً من الخارجين على القانون وافراداً في عصابات اجرامية. لم تخل مجاميع الثوار من الفلاحين المخلصين ومن العمال ومن انصاف المثقفين وبعض المنشقين عن الاحزاب الوطنية البرجوازية.
لم يكن القادة السوفييت ولا جناح الحزب الشيوعي الصيني في المقاطعات التي كانت خارج سيطرة ماو مسرورين لنجاحات الاخير وسطوع نجمه وهو يبني ويصيغ دولته الشيوعية على طريقته. خلال تلك التجاذبات حاولت منظمة الاممية الشيوعية ( الكومنترن ) التي كانت العوبة بيد ستالين، التأثير على ثورة ماو وجرفها عن توجهاتها والتعتيم على وهج المسيرة الكبرى وافشال اسلوب حرب العصابات الذي تبناه ماو. لكن تلك المسيرة واصلت تقدمها واتخذت مفهوماً اسطورياً وبطولياً وايمانياً كذلك عندما شبه البعض ماوتسي تونغ بالنبي موسى الذي نهض لإنقاذ قومه من عبودية الفرعون في مصر وقادهم الى الارض الموعودة في رحلة المعاناة الطويلة والشاقة. غرست الايحاءات الايمانية والرمزية المقدسة ثقافة عبادة الفرد، وكرست نهج تفرد ماو بالقيادة ومكنته من تهميش الزعامات الثورية الاخرى واحاطتها بالظلال. لم يكن طريق المسيرة الكبرى ذلك السهل والوادي المفروش بالاوراد والزنابق، ولم يمد المقاتلون عليه خطاهم من دون تأدية الثمن الباهض. عندما انضم الى الثورة 86000 مقاتل في مرحلتها الاولى واطلقوا الكفاح المسلح ضد جيش شان كاي شيك لم يصل من هؤلاء الى مقاطعة يانان ( Janan ) سوى نصفهم لأن قوات النظام قضت على معظمهم. في ضوء التطورات الدولية اللاحقة واندلاع الحرب العالمية الثانية وهجوم القوات اليابانية على الصين واحتلال اجزاء من ارضها، انتعشت ثورة ماو المسلحة ووجهت الماء الوفير الى طواحينها، ولا سيما عندما خاطب الروح الوطنية ووجه اهتمام المواطنين صوب طرد المحتل الاجنبي، مما مكنه من سحب البساط من تحت اقدام خصومه الشيوعيين في الداخل والتقليل من ضغوط ستالين واعتراضات منظمة الاممية الشيوعية على نهج المسيرة الكبرى. بعد ان اصبح الغزو الياباني امراً واقعاً، انعقدت آمال الصينيين على الحزب الشيوعي بقيادة ماو لأنه هو الذي يحرر الارض من اقدام جند المحتل، وفي الوقت نفسه يحقق تطلعات الفلاحين للخلاص من عبودية واستغلال الاقطاعيين والارستقراطيين. عندما كان المواطن الفقير والمغمور ينظم الى الحزب، يشعر وكأنه امتطى ظهر النمر واستعاد الكرامة وامتلك القوة والهيبة وتذوق طعم النصر وملأه الزهو. استثمر ماو تلك الاحاسيس والنهوض المعنوي وجعل من نفسه نبي الماركسية الصينية والزعيم الشيوعي الذي يشق طريقه ليصبح نداً لستالين. في خضم الكفاح المسلح وثورة العنف يكون الامر طبيعياً لإرتكاب الفضائع والمذابح وممارسة البطش بشكل واسع بحيث يطال المدنيين الابرياء. سنة 1943 قتل الثوار 500 شخص بمدينة يانان في ليلة واحدة تحت ذريعة تطهير الجبهة الداخلية من اعداء النظام الاشتراكي. عندما سيطر الماويون على مناطق في الريف وبعض المدن وأداروها، جرت عمليات التغيير الديمغرافي عن طريق الترحيل واعادة التوطين في مجمعات مصطنعة، مما شوه النسيج الاجتماعي وأضعف الروابط العائلية بين الفلاحين وزرع المرارة في نفوسهم بعد ان شاعت قيم وتقاليد غير مألوفة لديهم. بالرغم من مصادرة ممتلكات الاقطاعيين وتطبيق مبدأ الارض لمن يزرعها، لم يجد السرور طريقه الى قلب معظم الفلاحين، لا سيما بعد ان تراجع المحصول الزراعي وتردت نوعيته.
عندما تقوت الارض تحت اقدام ماو وتوسعت مناطق نفوذه واشتدت قبضة اجهزته الحزبية والامنية، اطل شبح الاستبداد والتجبر وانطلقت حملات تمجيد وتقديس الشخصية وعبادتها على يد المتملقين والمنتفعين والمظللين. كوسيلة لتطويع الانسان وترويضه، الزمت القيادة الماوية جميع كوادر الحزب واعضائه اداء العمل اليدوي والعيش في الكهوف لبضعة اسابيع والتعود على خشونة الحياة. سكن ماو نفسه وبقية اعضاء القيادة في الكهوف، لكنها اختلفت تماماً عن تلك التي عاش فيها الاعضاء العاديين من حيث مستلزمات الراحة والتجهيزات الافضل، مما اظهر الدجل السياسي وزيف الدعاية. بالإضافة لذلك، انطلقت حملات شحن الادمغة وتأطير الاذهان حينما طالبت القيادة سنة 1943 كافة الكوادر بدراسة الماركسية وحفظ نصوص الايديولوجية وقراءة تاريخ الحزب الشيوعي الصيني الذي كتبه ماو بنفسه. بقصد اشاعة ثقافة القطيع واخضاع اعضاء الحزب لسطوة وهيبة السكرتير العام، انطلقت حملة الاستجواب ونبش ماضي الفرد والتأكد من خلفيته الفكرية والطبقية وتأمين ولائه للزعيم الرفيق ماو. ترافقت تلك الاجراءات الامنية مع عمليات التطهير واخضاع المستجوَبين للنقد الذاتي وكشف اسرارهم والاعتراف بأخطائهم وانحرافاتهم. في معظم الحالات مورس التعذيب واصبح ظاهرة سادية وتباهى الجلادون بإنتزاع الاعترافات وكشف الخونة والجواسيس والاعداء الطبقيين. بالنتيجة، تناغمت اساليب الطغاة ورموز الانظمة الشمولية عندما تشابهت الحملات التي مارسها دكتاتور الاتحاد السوفيتي ستالين لتصفية رفاقه مع تلك التي جرت على يد ماو لإحتثاث من يعرقل تنفيذ ارادته. لا بدّ ان تترعرع في تلك البيئة ثقافة عبادة شخصية ماو وتبرزه ذلك الثائر والمنظّر ومنقذ الامة الوحيد. ولتوضيح النقطة الاخيرة ندرج النشيد الوطني الصيني ( الشرق احمر ) الذي تحول الى اهزوجة شعبية:
الشرق غداً احمر، والشمس تشرق فيه في الصين، في الصين وُلد ماو وهو يبحث عن السعادة للشعب وهو المنقذ العظيم للأمة وللإنسانية
بالرغم من انتهاء الهيمنة اليابانية على الصين اثر استسلام الاولى في الحرب الثانية، تصاعدت شدة الحرب الاهلية بين الشيوعيين الماويين وبين الوطنيين وفقد مئات الآلاف ارواحهم من الطرفين. بين سنوات ( 1946 – 1949 ) نال مشروع ماو المقبولية وتوسعت قاعدته الجماهيرية وحقق الانتصارات العسكرية، مما مكّن المسيرة الكبرى من حسم المعركة والوصول الى الهدف المنشود. يوم الاول من اكتوبر 1949 ارتقى ماو المنصة في ساحة بوابة سلام السماء (Tiananmen ) يحيطه 30000 مقاتل ومواطن واعلن البعث الجديد للأمة الصينية وتأسيس الجمهورية الشعبية تحت ظل النظام الاشتراكي. خلال الاحتفال لوح الجميع بالأعلام الحمراء، مما جعل المشهد يتماثل مع ذلك الذي شهدته الساحة الحمراء في موسكو عقب انتصار ثورة اكتوبر 1917. من اجل ارساء النظام الاشتراكي اللاطبقي، لا بدّ من تهديم بنيان الدولة اللبرالية السابقة والغاء مؤسساتها الديمقراطية الباهتة، مثل مجلس النواب ( الكومنتانغ ) واقصاء الشرائح الاقطاعية والاجتماعية المتميزة ونخبها الفكرية وتكريس قيم ومفاهيم مختلفة. ولكي يتعبد الطريق امام تطبيق الاشتراكية، لا بدّ من ارساء نظام الحزب الواحد الذي يستنير بالايديولوجيا الماركسية ويرفض التعايش مع القوى السياسية الاخرى. استمد النظام الماوي قوته في بداية عهده من 5.5 مليون مجند غير رسمي ( ميليشيا ) و 3.8 مليون عضو حزب وناشط دعوي وعلى 75000 مخبر و 1.5 مليون عنصر امن. بالمقارنة مع فترة حكم شان كاي شيك اشتدت الاجراءات الامنية وتوسعت مساحتها، وخاصة في مدينة شنغهاي التي احتوت قبل انتصار المسيرة الكبرى 102 مخفر شرطة واصبح عددها غداة استلام الشيوعيين الحكم 150 واحتجزت بين جدرانها 18000 معتقل، وبعد اربعة شهور ارتفع العدد الى 38 الف. في العاصمة بكين صدرت في يوم واحد احكام الاعدام بحق 220 مدان واحكاماً مختلفة خلال تسعة شهور بحق 30 الف سياسي. خلال العشرة شهور الاولى لقيام النظام الاشتراكي الماوي، اصدرت المحاكم في مدينة كانتون احكامها بحق 89 الف متهم، ومن بينها 23 الف حكم بالإعدام. اظهرت الاحصائيات تنفيذ حكم الاعدام بأكثر من مليون انسان في العقد الاول من تأسيس الصين الشعبية، مما جعل انين وآهات المعوزين والجائعين يمتزج مع حسرات وصراخ وعويل ملاك الارض والاثرياء وارباب الصناعة وابناء النخب الفكرية اللبرالية. لم تفشل قيادة ماو في اشاعة الحرية والحفاظ على السلم الاجتماعي وصيانة كرامة الانسان وفي تحقيق المعيشة اللائقة لعموم المواطنين فحسب، بل واغرقت الصين في موجة العنف والبطش والتصفيات الفردية والجماعية. لم يقتصر استعباد المواطن على تلقينه نصوص الايديولوجيا الدوغماتية فقط، بل والتدخل بالخصوصيات الفردية وتحديد طريقة تغذية المواطن والاطلاع على تفاصيل حياته العائلية والزوجية. في الوقت الذي تكفلت به الدولة بإعاشة الفرد بموجب حصة الاعانة الغذائية المقننة في الطحين والرز والمواد الاخرى، مورس التمييز بين المواطنين حينما تسلم كبار مسؤولي الحزب والدولة واعضاء الكادر المتقدم مواد غذائية عالية الجودة والنقاوة وتسلمت بقية العائلات مواد رديئة ومليئة بالشوائب. في دولة الفلاحين والعمال التي تحقق العدالة الاجتماعية، ارتدى المواطنون العاديون قطع الملابس المتواضعة بموجب الفاتورة المخصصة، لكن نوعيات تلك الملابس تفاوتت حسب درجة الشخص الحزبية وموقعه في جهاز الدولة. في مجال التربية والتعليم وتحت ظل المجتمع اللاطبقي، اختلفت المدارس بعضها عن بعض كثيراً من ناحية البناء والتأثيث والقرطاسية ووسائل الايضاح. بالتالي، وتحت رمز المطرقة والمنجل، انتعشت البيروقراطية الوظيفية وترعرعت في الصين الجديدة شرائح طفيلية تتمتع بإمتيازات ونفوذ واسع.
على طريق اعادة تربية وتأهيل الفرد وتطهير فكره من اللوثة البرجوازية وحب التملك، انطلقت حملات اخضاع المواطنين الى الفحص الدقيق من قبل اجهزة الامن الماوية، مما تطلب اقامة معسكرات الاحتجاز في طول البلاد وعرضها، واكبرها واشهرها في صحراء منشوريا والتيبت ومدينة شنغهاي وكوليما. احتضنت تلك المعسكرات الملايين الذين فُرض عليهم الاستنارة والتشبع بأفكار ماو، بالاضافة الى اداء العمل البدني في المناجم والمزارع والورش الصناعية. أثناء تنشئة الفرد على التربية الاشتراكية، يغسل دماغه ويعاد شحنه بالماركسية المطعمة بالماوية، ويرغم على تقديم الاعتراف ( النقد الذاتي ) وابداء الندامة وطلب الغفران للخطيئة المتأصلة في اعماقه، لكي يبرهن بأنه انقلب على واقعه وتطهر وتحول الى شيوعي نقي. في هذا السياق، اطلق ماو المقولة التالية ( اينما يتواجد الخطأ لا بدّ من تقويم من حمله او اقترفه، ويتم ذلك عن طريق الاستجواب والتعذيب وانتزاع الاعترافات ). عندما اطلق ماو شعاره الفانتازي ( القفزة الكبرى الى الامام ) تعرض الملايين من الصينيين للإضطهاد والاعتقال والترحيل. دفعت تلك الممارسات الشاذة العديد الى الانتحار لتوخي التعذيب الجسدي والنفسي، مما اوصل عدد المنتحرين خلال خمس سنوات الى 70000، اي 50 شخصاً تقريباً في اليوم الواحد. بين حين وآخر اعتادت وسائل الاعلام والدعاية المؤثرة على اطلاق العناوين المغرية والساحرية. إثر الترويج لشعار ( دع مئات الزهور تتفتح ) سنة 1957، تمت تصفية نصف مليون انسان تقريباً واودعت مئات الآلاف في معسكرات التأديب واعادة التأهيل تحت تهمة الانحراف الفكري والفشل في التأقلم مع المبادىء الماركسية الماوية. طالت تلك الحملات المثقفين اللبراليين الذين ادينوا بعدم نبذهم للمفاهيم الديمقراطية البرجوازية وتأثرهم بالدعاية التي تبثها الامبرالية الامريكية ودول الغرب واليابان. أُرغم الادباء والروائيون والفنانون على تدشين عهد جديد واستخدام نمط في الكتابة والتأليف والرسم والنحت وغيره يسير على هدى الحزب الشيوعي ويتبنى الثقافة الاشتراكية ويعكس قيمها.
حينما اشتدت الحملة على ملاك الارض بين سنوات ( 1950 – 1951 ) بغية تطبيق اسلوب الزراعة التعاونية، تراجع المحصول بشكل مريع وفقدت مئات الآلاف ارواحها بسبب المجاعة وسوء التغذية. لم تهدف خطة انتزاع الارض الى كسب ود الفلاحين الفقراء فقط، بل والى كسر شوكة المالكين والاثرياء وانهاك مصادر قوتهم الاقتصادية والاجتماعية. في 1952 شع النور من رأس ماو واعلن نضوج الظروف للانطلاق في الخطوة الاولى نحو بناء الاشتراكية، مما تطلب رفع وتيرة الصراع الطبقي والفكري ضد الاقطاع والبرجوازية والشرائح اللبرالية وكل من لا يؤمن بالماركسية الماوية. مهدت تلك الطروحات الطريق لإرساء النظام الشمولي وتكريس استبدادية المسؤول مما افقد الصينيين حرية الاختيار والافصاح عن الذات وعرضت المنظومة الفكرية للمجتمع الى التشويه. في ظروف الاستبداد والايقاعية السياسية والايديولوجية الواحدة افتقرت الحياة في الصين الى عناصر النجاح والارتقاء مادياً وروحياً، وتناقصت المستلزمات الغذائية والدوائية وتصاعدت نسبة الوفيات تباعاً واصبحت سنة 1957 ( 11% ) وفي 1959 ( 15% ) وسنة 1960 ارتفعت الى ( 29% ). خلال اقل من خمس سنوات وتلك البلاد بين مخالب الفقر وشبه المجاعة، فقد حوالي اربعة ملايين مواطن حياتهم، لكن الارقام بقيت طي الكتمان ولم يعلن النظام شيئاً عنها. بدلاً من مجابهة الحقائق وتبيان حجم الكارثة ومراجعة الذات، انطلقت ابواق الدعاية وطبلت للانجازات التي حققتها القفزة الكبرى الى الامام ومجدت النتائج المذهلة للخطة الخمسية حول ازدياد الانتاج الزراعي والصناعي.
في مجال صراع اشقاء الايديولوجيا الماركسية، حاول ماوتس تونغ ان يبني الاشتراكية في الصين بطريقة تختلف عن تلك التي اتبعها السوفييت وبالتحديد ستالين، لكنه في الحقيقة اهتدى بالتعاليم البولشفية ومارس الانتقائية. سعى دكتاتور بكين الى تثوير مجتمعه بطريقة تختلف عما جرى في روسيا، لكي يضع بصماته على تجربة بناء الاشتراكية ويصيغها حسب رؤآه. لكنه وكبقية رسل الشيوعية آمن بضرورة استخدام البطش والاستئصال بحق المعارضين والمنتقدين والمختلفين معه في الرأي، وانشأ معسكرات التأديب واعادة التأهيل واداء العمل القسري، واطلق حملات الترحيل الجماعي واعادة التوطين بقصد كسر ارادة المكونات الاثنية والدينية وخلق واقع ديمغرافي جديد. بالرغم من انتقاد ماو لنزوع ستالين الى الهيمنة والتزعم، فهو استنسخ وبجدارة الستالينية حول ادارة الدولة والمجتمع، وسخر اجهزة الحزب لمراقبة تحركات الجماهير وتحديد مسارها ووضع كافة الامور تحت القبضة الفولاذية. لم يعترف ماو بالإتحاد السوفيتي كحجر الزاوية للمعسكر الاشتراكي ورفض املاءاته وعارض اشاعة علاقات الشقيق الاكبر الناضج بالصغير اليافع.
قد تتمكن الاساليب البربرية من اخفات الاصوات وكبت روح التمرد والتطلع عند الجماهير، لكنها تفشل في تقييم قوة طاقة الغليان المتأجج والكامن في اعماق النفوس. سنة 1957 ظهرت على جدران جامعة بكين شعارات تهاجم الحزب الشيوعي الصيني وتندد بسياسة ماو. حينها، استدرك الخطر واحتمال خروج الوضع عن السيطرة واطلق حملة التطهير واستئصال العناصر اليمنية ( حسب رأيه )، مما تسبب بإبعاد 300000 شخص من الحزب واجهزة الدولة. بالإضافة الى هذا، امر بتشديد الرقابة على المثقفين اللبراليين لأنهم ( حسب رأيه ) يشكلون القوة الاحتياطية للبرجوازية والخطر الكامن على مستقبل الثورة. في مجال العمل الحزبي، وجه الكوادر بالنهوض بمسؤولياتها وجعل القفزة الكبرى الى الامام برنامجاً اقتصادياً وثقافياً وتربوياً، وذكرهم بأهمية ابقاء الروح العسكرية الثورية يقظة عند الجماهير. من جانبه خاطب الفلاحين والعمال بأسلوب حماسي وديماغوجي وبشرهم ببلوغ الصين الشعبية عتبة الشيوعية في بضعة سنوات، مما يمهد لها الطريق للتفوق على بريطانيا العظمى من ناحية قوة الاقتصاد ووفرة الانتاج وجودته. استمد الدكتاتور معلوماته عند تقييمه للمرحلة ولمستقبلها على تقارير المسؤولين المحليين في الحزب والدولة، الذين افتقدوا الدقة والمصداقية وبالغوا في الارقام وحجم الانجازات بقصد ارضاء ماو وتحاشي غضبه عليهم. بالرغم من الانتعاش المتواضع الذي شهدته الصناعة العسكرية والمدنية، تراجع قطاع الزراعة وتناقصت كمية المحاصيل، مما تسبب بكارثة انسانية وبشبه مجاعة، ولا سيما بين سنوات ( 1959 – 1961 ) التي التهمت ارواح مئات الآلاف.
ماوتسي تونغ يطلق ثورته الثقافية
عندما تتوجت القفزة الكبرى الى الامام بالاخفاقات والفشل وتسببت بالفوضى في الكثير من مناحي الحياة واوصلت الصين الى حافة المجاعة، قرر ماو التخلي عن ذلك المشروع الفانتازي. في 1966 آثر العودة الى الماركسية الاصولية كوسيلة للابقاء هلى هيبته وسطوته الشخصية على الحزب والدولة والمجتمع، لا سيما واستشعر بأنها مهددة من قبل بعض اعضاء القيادة والكادر. تحت ذريعة تصحيح المسار ودحر البيروقراطية والفساد وتقليم اظافر وقلع انياب المنحرفين والمخربين الذين تسلقوا الى القيادة، اعلن عن انطلاق الثورة الثقافية في السنة المذكورة اعلاه. في اجواء الحماس والتهاب العواطف، نهض ماو لمواجهة التحديات التي تهدد موقعه وصمم على تطهير الحزب من الخونة الذين يعرقلون مسيرة بناء الاشتراكية ( حسب رأيه )، وامر بإعادة التحقيق واستجواب كافة الكوادر واعضاء اللجان بغية تأمين جانبهم والتأكد من نواياهم وضمان ولائهم لقيادته. ولتكريس ذلك النهج وتوسيع نطاقه بحيث يشمل كافة شرائح المجتمع، ظهرت استمارات الاستجواب ونبش ماضي المواطن بلونين :
الاستمارة البيضاء التي خصت خمسة اصناف من المواطنين : اولاً : العمال ثانياً : الفقراء ثالثاً : الفلاحين من الطبقة الوسطى والدنيا رابعاً : الكوادر الثورية خامساً : الجنود وذوي الشهداء
وخصت الاستمارة السوداء الشرائح التالية: اولاً : اصحاب البيوت او السكن الخاص ثانياً : المزارعين الاثرياء ومعارضي الاشتراكية ثالثاً : عموم اعداء الثورة رابعاً : العناصر اليمينية خامساً : ابناء النخب الفكرية البرجوازية والمثقفين اللبراليين
لا تستقيم الدكتاتورية او النظام الشمولي مع تداول السلطة والتعايش مع المختلفين في الرأي او الذين ينافسون الرمز او يلقون الظل على هالته. عندما احس ماو بسطوع نجم شوين لاي وليو شاوكي وآخرين من اعضاء القيادة، اطلق حملة ديماغوجية وتثقيفية وترويعية، ودعا الى احياء القيم والتمسك بالأخلاق والفضيلة والتضحية من اجل الشعب. من جانبها روجت وسائل الاعلام المؤمم والموجه بأن هناك في القيادة شلة تسعى لإرجاع عقارب الساعة الى الوراء واعادة الاعتبار للمجتمع الطبقي ونسف منجزات الثورة الاشتراكية الماوية.
من اجل تهيئة الاذهان لقبول الثورة الثقافية وجعلها منهلا للمستقبل، كتب ماو ما يلي : ( بالرغم من تقويض المؤسسة البرجوازية كنظام سياسي واجتماعي، لا تزال، ومن خلال اذنابها، تستعين بالأفكار والثقافة والتقاليد القديمة وتوظفها كوسيلة لملامسة القلوب والمشاعر وايقاظ الحنين الى الماضي وتحريض الجماهير ضد النظام الاشتراكي. ينبغي على البلوريتاريا وحلفائها من الفلاحين والثوريين الصادقين تغيير ذهنية ووعي المجتمع واجهاض موآمرات الاعداء الذين يسعون لإفساد العقول وتحريف مسار الثورة ) انتهى المقتطف. خلال الترويج للثورة الثقافية، استمد نهج ماو الدكتاتوري قوة اضافية ومسك كل الخيوط بيده، مما سهل له الامر للتكشير عن انيابه واطلاق السهام ليصطاد فرائسه من بين اعضاء القيادة والكادر الحزبي. في البداية، استهدفت حملة التطهير والاستئصال ما اطلق عليهم بالمجموعة اليمنية والرجعية المتآمرة التي عششت في الحزب وهددت وحدته التنظيمية والايديولوجية. في اجواء الحماس وتحت تأثير سحر الديماغوجية التي استخدمها ماو، اهتاجت مشاعر الطلبة والشباب واندفعوا للإنخراط في صفوف الحرس الاحمر وتشكيل كتائب مسلحة تقاوم الزمر اليمينية وتحبط مؤامرات البرجوازية والامبريالية. حينما وضع ما بنفسه الشارة الحمراء حول ذراعه، قلدته جموع الشباب والشابات وانخرط منهم 13 مليون في تشكيلات الحرس الاحمر وهم يحملون بيدهم الكتيب الاحمر الذي احتوى على مقتطفات من اقوال وخطابات القائد الملهم، ماو. في نهوض روحي رددت حناجر الملايين من منتسبي الحرس الاحمر النشيد التالي وكأنها تركت الارض وتحلقت في الاعالي :
نحن الحرس الاحمر للقائد التاريخي ماو نسبك اجسادنا ونقوي نفوسنا في خضم الموج وهدير الريح ولأننا نتسلح بأفكار ماو نتمكن من ابادة الجراثيم والطفيليات
لم تكن الثورة الثقافية خارطة الطريق لإرساء مستقبل ديمقراطي في الصين، ولم تكن برامج تهدف الى انهاض البلاد وتطوير الاقتصاد وتحسين الخدمات العامة والاداء في قطاع التربية والتعليم والصحة، بل كانت معركة سياسية وايديولوجية لترويض المجتمع ووسيلة للترويع وتكريس الدكتاتورية وتصفية الحسابات واجتثاث العناصر داخل الحزب وخارجه غير الموالية لماو. من اجل توفير غطاء اجتماعي مقبول وتلميع صورة الثورة الثقافية، استعان بالكادر الحزبي وبأساتذة الجامعات وبالمثقفين الذين يدينون له بالولاء المطلق، بالإضافة الى جهاز الشرطة القمعي ورجال الامن والمخبرين الذين زرعهم في كل ثنايا المجتمع. عندما انفتح المجال لإنفلات الغرائز العدوانية وغاب دور الضوابط الاخلاقية تحت ذريعة انجاح الثورة الثقافية في تأدية رسالتها واصلاح المنحرفين وابادة من لا يتحول الى عنصر مخلص، اهينت كرامة الانسان وانتهكت حقوقه وصودر ما بقي من حرياته. لكن وسائل الاعلام الموجه نسجت لوحة براقة زائفة وظللت الرأي العام في الداخل والخارج، مما حول الثورة الثقافية الى رافد يصب في التيار الماوي ويزيد من زخمه الجارف. وجهت تلك الحملة الايديولوجية البوليسية اهتمامها الرئيسي صوب تكريس قيادة ماو الفردية عن طريق البطش والترويع واجتثاث او كسر شوكة المناوئين واخفات الاصوات المعارضة، لكنها تغاضت عن تطهير اجهزة الدولة من البيروقراطية والفساد، لأن النظام هو الذي انجبها واصبح بالتالي الاب الروحي لها. ارخت تلك الاحداث بظلال ثقيلة ووشمت الحقبة بالبقع السوداء التي لم يستطع بريق الدعاية الخادعة من اخفائها، لا سيما وتجاوز عدد ضحاياها المليون مواطن، بالإضافة الى مئات الآلاف من المحتجزين في المعتقلات وفي معسكرات التأديب والتأهيل اداء العمل البدني القسري. بالرغم من تفاقم العداء واتساع الخلافات بين ستالين وماتسي تونغ، تشابه طغيانهم في الكثير من الاوجه، وتماثل الارهاب في الاتحاد السوفيتي بين سنوات ( 1930 – 1940 ) مع حقبة الثورة الثقافية في الصين.
بغية تحقيق الاهداف التربوية للثورة الثقافية، تم فصل الصغار عن الوالدين لكي يتلقوا تربية خاصة في رياض الاطفال وينشأوا ابناء مخلصين للدولة الشيوعية ومتشبعين بأفكار القائد ماو. بالتالي، تحولت المدارس الى منابر للتبشير برسالة المخلص والمنقذ وغرس المفاهيم الماركسية في العقول اليافعة والبيضاء. من ناحية الإعداد العسكري المبكر، انخرط التلاميذ في تشكيلات للتدريب على استخدام السلاح والتعود على الانضباط الصارم. بالرغم من شعور التلاميذ بالزهو وبسكرة النشوة، اثارت ممارسات الحرس الاحمر العبثية والمهينة لكرامة الانسان الاشمئزاز والاستهجان عند الكبار. في احيان كثيرة شعر التلاميذ والطلبة بالألم والحسرة وهم يشاهدون في مجتمع الاشتراكية والعدالة ابناء جنرالات الجيش والمسؤولين الكبار في الحزب والدولة يُنقلون من والى المدارس بسيارات فارهة وحديثة ويجلبون معهم الشوكولاته والمعجنات الغربية ويحملون في جيوبهم علب السكاير الاجنبية ويقترفون افعالاً مشينة من دون ان تتجرأ الادارة على معاقبتهم. تحت ظل الاشتراكية الماوية انتعشت السوق السوداء وتحولت البرجوازية السوداء الى حمراء، وفي الوقت ذاته عانت شرائح واسعة من العوز والتمييز الاجتماعي ومن الكبت واستهتار ابناء الذوات.
اصدر ماو توجيهاته لأعضاء الكادر واللجان الحزبية كافة بتعميم مضامين وقيم الثورة الثقافية في المدن والقرى والارياف وعلى كامل ارض الصين الشعبية، بحيث تلهم الادباء والفنانين وتنير الدرب للعلماء ولأساتذة الجامعات ولطلبتها. بالتوازي مع تلك الخطوة، روجت وسائل الاعلام المركزي بأن الثورة الثقافية تمثل المحرك لمنع شلل المسيرة نحو بناء الشيوعية، وهي تعمل كذلك لتجديد وتنشيط الحزب والدولة لتمكينها من تذليل التململ وتصويب الاخفاقات، وهي تظهر للأعداء في الداخل والخارج مدى قدرة الثورة واستمرار جذوة حرارتها. في الوقت الذي ادعت القيادة بأن الثورة الثقافية معركة فكرية وتربوية ضد البيروقراطية والفساد والشللية والقيم البرجوازية وفلول الثورة المضادة، صانت دكتاتورية الفرد ومدت الماوية بالعنفوان واضفت الشرعية للطغيان وارهاب الدولة المنظم. على طريق نشر التثقيف الديماغوجي وتوهم الاعداء، كتب ماو ما يلي: ( حتى بعد ان نكون قد دحرنا عدونا المسلح يبقى هناك اعداء كثيرون غير مسلحين ومتغلغلين بين صفوفنا والذين يمتلكون شتى الوسائل للإيقاع بنا، مما يدفعنا للحذر واليقظة وتوخي الصرامة والقسوة وعدم التقليل من شأن الاخطار الكامنة. واذا لم نتنبه لتلك الاخطار، نكون قد اقترفنا خطئاً فادحاً ) انتهى المقتطف. في ظروف استفحال سياسة القطيع، لم يبقى ماو مجرد سكرتير عام الحزب الشيوعي، بل اصبح رمزاً للصين وحلَّ محل الدستور والقانون ولعب دور المرشد والاب الروحي للشعب. من يعترض او يمتنع عن التشرب بأفكاره وبأخلاقيات ثورته الثقافية، يكون بمصاف الخونة ويرمى بأحسن الاحوال في معسكرات التأديب والتأهيل. ومن يقع في دائرة الشك بولائه لماو او يحمل اللوثة البرجوازية، يتم اخضاعه للتحقيق والنقد الذاتي لكي يعترف بالذنب ويطلب المغفرة، مما زرع الرعب وبشكل خاص في الاوساط الاكاديمية والعلمية والطبية. في بعض الحالات خشي الجراحون ذوي الخلفية الطبقية البرجوازية من اجراء العمليات لكي لا يتهموا بالتقصير المتعمد عند حصول مضاعفات غير مقصودة على حالة المريض. كوسيلة لإفساد العقول واسرها من اجل شيطنة الآخر، بثت وسائل التثقيف الحزبي مادة فكرية مفادها ان الطبقة البرجوازية تحمل جينات رديئة تنتقل لأبنائهم، اما العمال فيحملون الصفات الحميدة التي يرثها ابناؤهم، مما يجعل الطبقة العاملة والفقراء عنوان الفضيلة والاخلاق الحسنة. ساد في تلك الظروف القول التالي: عندما يكون الاب بطلاً، يكون الابن طيباً، وان كان الاول رجعياً، لا بدّ ان تكون البيضة فاسدة.
عند اشتداد موجة الارهاب الماوي تحت ذريعة تعميم الثورة الثقافية فقد العديد من كوادر الحزب حياتهم في ظروف غامضة او اثناء التعذيب، واقترف عدد منهم الانتحار. اضطلعت فرق متخصصة ومحترفة بمسؤولية اغتيال عدد من كبار مسؤولي الدولة ومن الروحانيين الكونفوشوسين والبوذيين ومن اتباع الديانات الاخرى بغية مصادرة رصيدهم الاجتماعي. قام الحرس الاحمر بدور بارز في ترويع المواطنين عندما داهم البيوت واخضع افراد العائلات للاستجواب، وفي حالات كثيرة تمت مصادرة قطع الذهب والمجوهرات او سرقة المواد الثمينة. لم تسلم المؤسسات التربوية والتعليمية من التجاوزات وتعرض بعض المعلمين للضغوط النفسية وللاذلال والتحقير امام طلبتهم واعتقل عدد غير قليل وفقد آخرون حياتهم على يد رجال الأمن، لكن الاطباء الشرعيين تلقوا التهديد وخانوا شرف المهنة وكتبوا في تقاريرهم ان سبب الوفاة كان المرض المزمن مثل ارتفاع ضغط الدم او تصلب الشرايين. خيمت ظلال الثورة الثقافية على الجامعات، مما جعلها تفقد المعايير الرصينة ودقة التقيم وخاصة عندما آثرت تاريخ الطالب السياسي ومستواه الحزبي وفضلته على التفوق العلمي والعطاء الفكري والابداع. بالتالي، احتسب الولاء لماو والايمان بالايديولوجيا الماركسية رصيداً رصيناً يؤهل الطالب للحصول على مقعد في الدراسات العليا او في التخصصات المهمة، مما جلب الاستحسان الواسع من قبل الوصوليين والنفعيين ودفعهم بحماس لتأييد سياسة ماو والايمان بنهجه. لم تكن قيادة الحزب الشيوعي الصيني محصنة من داء محاباة الاقرباء. عندما هبت رياح الثورة الثقافية، استغلت زوجة ماو السيدة تونغ شيانغ كينغ موقعها ولعبت دوراً بارزاً في وضع البصمات الماوية على كل انشطة الحياة، ولا سيما تلك التي تؤطر توجهات الشباب المبدع والمثقف. في هذا السياق ارشدت السيدة شيانغ الادباء والكتاب والفنانين لتغيير اسلوب التأليف والاخراج السينمائي والرسم والنحت والشعر، لكي يرتقوا الى مستوى الاحداث ويعكسوا الصورة المشرقة للاشتراكية الصينية وتطلعات الثورة الثقافية، وفي الوقت نفسه ينبذوا الافكار والقيم البرجوازية ويظهروا وجهها القاتم.
منتصف 1966 تصاعد عنفوان الثورة الثقافية ووتيرة العنف والبطش، ونفذ حكم الاعدام ببضعة آلاف من العلماء والفنانين والادباء بعد تعذيبهم بوحشية على يد الحرس الاحمر، تحت ذريعة انتمائهم للثورة المضادة ومعاداتهم للاشتراكية ولمصالح العمال والفلاحين. قبل انقضاء السنة المذكورة اعلاه، ادرك ماو بأن ثورته الثقافية اتخذت منحناً راديكالياً متطرفاً قد يخرج عن السيطرة، ومع ذلك ترك العجلة تدور طالما تهدف الى تصفية حصون الخصوم وتطهر الحزب من العناصر المشكوك بولائها لقيادته. وصمم على عدم التهاون او التراجع عن تحقيق مآربه حتى وان اوصلت الصين الى الفوضى او اغرقتها في الدماء، لأن ارتكاب الفضائع ( بالنسبة له ) اهون من بقاء الحرس القديم في قمة هرم الحزب والدولة. من تحت الرماد الذي خلفته الدكتاتورية، التهبت الجمرات سنة 1967 عندما انتفض العمال في مدينة شنغهاي المهمة اقتصادياً وطالبوا بوضع نهاية لمسؤوليات الحرس الاحمر الذي يخرق حقوق الانسان ويهين كرامته. عندما هبت رياح التغيير بعيداً عن أشرعة سفن ماو، حشد مئات الآلاف من الحرس الاحمر لإنهاء تمرد العمال بالقوة، لكن المحاولات فشلت، مما اضطره للإستجابة لبعض مطالب المنتفضين واستبدال اعضاء المنظمة الحزبية في المدينة. حينها اشار البعض الى الانتصار المتواضع الذي حققه عمال كومونة شنغهاي. من اجل رد الاعتبار لهيبة ماو وايجاد كبش الفداء، شن الحرس الاحمر هجوماً على معاقل القياديين المعارضين، واعتقل ليو شاوكي ودينغ سيار بنغ ووزير الدفاع المارشال بينغ ديهناي الذي توفي فيما بعد تحت التعذيب. في صيف 1967 استقصى ماو المعلومات التي افادت بأن المعارضين يحصلون على بعض مواقع القوة داخل الحزب، وامر المسؤولين في القيادة العسكرية بتوجيه ضربة للمحافظين والحرس القديم، مما فجر الصدامات واعمال العنف وسقوط الآلاف من الضحايا. عندما تبين له بأن وتيرة العنف تجاوزت الحدود المرسومة لها، اطلق حملة عسكرية مضادة لكبح جماح التطرف الثوري واعادة الاوضاع الى طبيعتها ولصالحه ولكي يتحقق ذلك قام بجولات تفقدية في كل انحاء الصين الشعبية وانشأ اللجان الثورية التي تأخذ على عاتقها مهمة الحفاظ على الامن والهدوء. في الوقت ذاته تواصلت حملات التطهير والتصفيات، وخاصةً في المنظمات الحزبية والاتحادات وغيرها واستمرت الى ايلول ( سبتمبر ) 1968.
بدلاً من العدول عن الاسلوب الفردي والاستبدادي في ادارة الدولة والمجتمع، هيأت اجهزة الدعاية والاعلام المركزي وندوات التثقيف الحزبية الأذهان لعبادة الفرد وتحويله الى رمز واسطورة خالدة. وبالتالي، تكرست ثقافة القطيع وتقديس الايقونة، مما الزم كافة المسؤولين ترديد مقتطفات من اقوال ماو وتقديم تحية الولاء له عند الوقوف امام صورته كل صباح. نصت بعض صيغ اداء التحية على ما يلي ( ندعو الحياة الطويلة والمديدة للقائد ماو ) ( ليعيش ماو خالداً وليبقى رمزاً الى الابد ). اكتنف ذلك الامر ممارسات تحط من كرامة الانسان وتسحق آدميته، لا سيما وتعرض البعض للعقاب لأنهم ارتكبوا خطئاً او احدثوا تغييراً او تحويراً غير مقصود اثناء ترديد التحية لماو او كتابة عبارة تفوه بها. في هذا الخصوص، صدر الحكم القضائي على احد المعلمين بالسجن لمدة خمس سنوات لأنه كتب في خطة التدريس اليومية احدى العبارات التي تمجد ماو وأحدث بعض التغيير على النص الاصلي، عندما كتب : ( منح لنا ماو طاقة جيدة ) ولم يكتب ما كان متداولاً والذي ينص على ( منح لنا ماو طاقة لا حدود لها ).
حينما يتوقف المرء عند احد فصول تاريخ الصين في عهد ماو، وبين سنوات ( 1966 – 1976 ) فقط، تظهر الارقام الفلكية عن ضحايا الثورة الثقافية والتي ترتجف لها القلوب وتهتز الضمائر وترتعش الابدان لأنها تحمل الندب السوداء وتمثل الفواجع التي حلت على البلاد. تبقى آثار تلك الفترة محفورة في ذاكرة الصينيين، وخاصة وشهدت فقدان اكثر من مليون مواطن لحياتهم لأسباب سياسية او فكرية وتعرض مئات الآلاف للتعذيب البربري او للترحيل او الاحتجاز في معسكرات التأديب. بالإضافة لتلك المآسي، عاشت الملايين محرومة من الحياة الهانئة او اصابتهم الامراض العقلية والصدمات النفسية. بالرغم من تسميتها جزافاً بالثورة الثقافية، فهي لم تحقق اية انجازات ايجابية على صعيد الثقافة والتربية. ولم تشهد حياة المواطن الروحية والمادية ذلك التحسن. لكنها حقاً كرست عبادة الفرد وصانت دكتاتورية ماو وشددت قبضته على الجميع. بدلاً من فسح المجال لإزدهار الفنون والآداب بقصد الارتقاء بالانسان، تم تحريف مسارها وحصر معظم انشطتها على تمجيد القائد وتخليده في الوعي والعقل الجمعي. بتوجيهات مركزية وبقصد ارضاء اهواء ماو، تم تحطيم العديد من الرسومات والاعمال الفنية الراقية او ابعادها عن اماكنها العامة تحت ذريعة عدم انسجامها مع القيم الاشتراكية، لكن في الوقت ذاته علقت صور للدكتاتور في كل مكان وزاوية، مما جعل نظر المواطن لا يخطئها اينما اتجه. في تلك البيئة، راجت صحافة الجدران والادب الرخيص، تحت مفهوم الادب من الشعب والى الشعب، وترعرع جيل متسلح بالنظرة الاحادية والتزمت لعقيدة الحزب، مما حول الناشئة الى ورقة بيضاء يدون عليها القائد او المسؤول الحزبي ما يشاء. على صعيد العائلة، أخذ الحزب دور الاب والام او المربي، مما اوقع الاطفال في صراع داخلي وحيرة بين الولاء للوالدين وتشرب التربية منهم وبين تلقيها من مصدر آخر. تسببت تلك الطريقة في التنشأة بإشكاليات خطيرة، ولا سيما عندما نظر بعض الابناء الى آبائهم المحافظين كخونة او مصدر عار او رجعيين لا يتكيفون مع المفاهيم الجديدة.
الممارسات تدحر التنظيرات
من المعلوم ان الايديولوجيا الماركسية تتبنى المفاهيم الاممية والاعتبارات الانسانية وترفع شعار الاخوة بين جميع عمال العالم، لكن تلك الطروحات بقيت مجرد مفردات خاوية ولم تترجم الى الواقع او تتنسم الحياة في البلاد التي رفرف فوقها العلم الاحمر وبيرق المنجل والمطرقة واقام النظام الشمولي في ظل دكتاتورية البلوريتاريا. في الصين الشعبية وعلى صعيد تلبية تطلعات مكوناتها الاثنية، مارس ماوتسي تونغ التطهير العرقي والترحيل الجماعي بحق بعض المكونات المجتمعية تحت ذريعة تشتيت مقومات قوة اعداء الاشتراكية. وللتدليل على تلك النقطة، رفض ماو الاستجابة لما كان يصبو اليه شعب التيبت، البلد الذي يعتبر سقف العالم لأنه اعلى منطقة مأهولة على سطح كوكبنا. يسكن هذا البلد حوالي 6 مليون انسان لهم عبادتهم وتقاليدهم وثقافتهم وجغرافية وتاريخ يخصهم. بعد ان انتهت ارهاصات الحرب الثانية وانقضى العقد الرابع من القرن العشرين، استبشر التيبيتون الخير وتطلعوا الى اتاحة الفرصة امامهم لإثبات هويتهم الوطنية وتحقيق ارادتهم وتركهم يديرون شؤونهم بأنفسهم ويمارسون عبادتهم وطقوسهم بحرية. لكن في ( 1950 – 1951 ) احتلت القوات العسكرية الماوية هذا البلد الصغير والحقته بالصين الشعبية، مما عرضه لما تعرضت له كل شرائح المجتمع، لا بل واكثر.
عندما وقعت التيبت تحت الاحتلال الصيني المباشر، مورس التطهير العرقي والترحيل الجماعي واعادة التوطين في مجمعات سكنية مصطنعة وبائسة. تدريجياً، ساءت الظروف الاقتصادية والمعيشية وانخفض محصول الزراعة التعاونية وناتج الثروة الحيوانية، مما اوقع البلاد بمخالب المجاعة وخاصة، بين سنوات ( 1959 – 1962 ) وتسبب بهلاك خمس السكان. لم تكن تلك البلاد الشاهقة في مأمن من شظايا الثورة الثقافية التي اصابت صروح الثقافة والعبادة والقيم المتوارثة ونمط الحياة الاعتيادية. في تلك الحملة الفكرية تعرض مئات الآلاف من اتباع الزعيم الروحي في التيبت، الدالاي لاما الى البطش والاعتقال والتعذيب على يد رجال الامن والحرس الاحمر، بالإضافة الى النفي او الاحتجاز في معسكرات التأديب والتأهيل واداء العمل القسري. تمادت السلطات الماوية ولجان الحزب الشيوعي في ممارساتها المهينة وتدخلت بدقائق الايمان والمقدسات وارغمت المؤمنين التيبيتيين على ازالة كافة الرموز الدينية والعقدية وتبديلها بالمفردات الماركسية وبشعارات الحزب وتعليق صورة ماو في المعبد والبيت والمتجر والمصنع وعلى الصدر احياناً. بطريقة رسمية ممنهجة وعبثية، تم تدمير معظم معابد ديانة التيبت ومسحت الرموز والرسومات التي على جدرانها، واغلقت المزارات وابقي على اثنين فقط. لم يستكن القوم الذي تعرض للإذلال واهانة المقدسات وتشويه العقيدة، بل انتفض سنة 1957 في احد المزارات الدينية وقتل اكثر من الفي راهب وزائر او حاج. بسبب تتابع حملات القمع والانتقام على نطاق واسع، انتشرت المقابر الجماعية واصبح مشهد دفن الاحياء مألوفاً، مما دفع المئات للإنتحار والاستشهاد من اجل العقيدة والكرامة الوطنية.
عندما انتفض شعب التيبت بغالبيته تقريباً في 1959، ردت قطعات الجيش وميليشيات الحزب بالعنف وقصفت الطائرات مواقع الثوار، مما ادى الى قتل الآلاف وتدمير مئات الابنية والمزارات الدينية وهروب مائة الف الذين تحولوا الى لاجئين في الجارة الهند. لم تطو صفحة الثورة في تلك الجولة، اذ شهدت البلاد سنة 1969 انتفاضة اخرى، لكنها كانت اقل زخماً وحجماً من سابقتها، واخمدت بالعنف المفرط، وفي 1987 اندلعت موجة اخرى من الحراك الشعبي من دون ان يحقق الهدف. عند ذلك المنعطف صممت القيادة الماوية على قتل روح الثورة في نفس شعب التيبت وكسر معنويته عن طريق احتجاز مئات الآلاف في مجمعات اداء العمل القسري في المناجم، بالإضافة الى ايداع اعداد كبيرة في المعتقلات ومعسكرات التأديب. اظهرت الاحصائيات المحايدة خلال اربعة عقود تقريباً وفات 170000 مواطن في تلك المعسكرات والمعتقلات اما تحت التعذيب او بسبب الامراض وسوء التغذية، بالإضافة الى هلاك خمس السكان اما في المواجهات العسكرية او المجاعة. حفرت تلك الاحداث في ذاكرة الفرد قصة مأساوية لما حصل له من جراحات وفواجع بسبب فقدان الاب او الاخ او الزوج او العزيز. لم تهدف عمليات اجتياح التيبت الى الهيمنة العسكرية فحسب، بل مهدت لترويض المجتمع واحداث تغييرات ديمغرافية وخلق واقع تربوي وفكري يتلاقى مع النظام الاشتراكي الماوي.
على صعيد علاقات الصين الشعبية مع دول الجوار ومع اشقاء الايديولوجيا الماركسية، ابتعدت سياسة ماوتس تونغ عن الروح الاممية وعن الهدف المشترك لأخوة البلوريتاريا، مما احال احلام اقامة الفردوس البشري الى مجرد اوهام وادعاءات زائفة. منذ ان تأسست الصين الشعبية 1949 تميزت علاقاتها مع دول المحيط بالتوتر وبالإملاءات والتدخل بشؤون الجيران الصغار والسعي لإحتوائهم والتورط احياناً بالصراعات الداخلية المسلحة. اذبان الازمة الكمبودية في سبعينات القرن العشرين اقحمت الصين نفسها في الحرب الاهلية التي نهشت تلك البلاد، واصطدمت عسكرياً مع شقيقتها في الايديولوجيا فيتنام الشمالية، ودست انفها بشؤون جارتها الصغيرة لاووس. في تشرين الثاني ( نوفمبر ) 1950 غزت قطعات من الجيش الصيني ارض كوريا الشمالية الاشتراكية واقترفت مذابح بحق المدنيين في المناطق التي احتلتها. اما علاقات ماو مع الاتحاد السوفيتي الشقيق الاكبر والانضج في الايديولوجيا وحجر الزاوية لدول المعسكر الاشتراكي، فلم تكن يوماً ما صحية او شفافة، بل شابها العداء والخصومة وغياب الثقة، واتسمت بالمنافسة الشرسة على قيادة الامبراطورية الشيوعية غير المعلنة.
يتمثل تاريخ الانسان بسلسلة مترابطة من الصراعات والغزوات والحروب على خلفية اختلاف الحضارات والثقافات والعقائد الدينية والجغرافيات والاثنيات وحتى القبائل والشرائح داخل المجتمع الواحد، وبحضور بارز وجوهري للمصالح الاقتصادية ودافع الاستحواذ واستغلال موارد الآخر المادية والبشرية. بالتالي، تشكل المصالح وادوات السياسة وفنونها ومتغيراتها القاعدة الثابتة التي تتجاهل المثل والاخلاقيات والرومانسيات والوعود الساحرية والاحلام الجميلة. عندما تسود مثل هذه القاعدة، تتحول الرسالة الاممية وشعار اتحاد عمال العالم ومشروع اقامة الفردوس الذي يغيب فيه الاستغلال والحروب والشرور الى اوهام وتمنيات طيبة.
بعد رحيل ماوتسي تونغ سنة 1976 وانهاء الدور السياسي لعقيلته وزمرتها، تنبهت القيادة الجديدة للحزب الى جدية وخطورة الخلل في بنية النظام الاشتراكي في الصين، وبادرت للتقليل الجزئي من شأن الاقتصاد الموجه والمركزي والتخفيف من قبضة الحكم الشمولي قليلاً. في مجال حقوق الانسان خطت القيادة الى الامام بشكل خجول ووفرت فسحة مقننة من حرية الفكر والتعبير وحق التملك الفردي. تدريجياً، تم فتح بعض النوافذ والبوابات في الستار الحديدي الذي احاط بالبلاد لعدة عقود، مما وفر امام الصين الفرص للانفتاح على العالم المتطور وتحقيق الانجازات الاقتصادية والصناعية المعتبرة ولربما الهائلة مستقبلاً.
الراية الحمراء ترفرف فوق كمبوديا
كمبوديا، التي يطلق عليها وطن قوم الخمير، بلد صغير يقع في شرق آسيا وتجاوره كل من فيتنام ولاووس وتايلاند. استعمر الفرنسيون هذه البلاد سنة 1860 ونال استقلاله في 1953 بموجب اتفاقية جنيف التي ابرمت بشأن القضية الفيتنامية. عندما اتسعت دائرة تأثير الفكر الشيوعي عالمياً، هبت رياحه على كمبوديا وتلقتها نخبها المثقفة بإرتياح ولهفة. وبدورها اوحت الى الجماهير البسيطة بأن الايديولوجيا الماركسية هي الحل وهي الجرعة السحرية التي تبعد عنهم الظلم والفقر والتخلف. في اجواء من الحماس والتفاؤل، تأسست الحركة الشيوعية الكمبودية في 17 نيسان ( ابريل ) 1950 إثر اجتماع عقده 200 مندوب في ولاية كامبوت وشكلوا جبهة الاستقلال المتحدة ( ISARAK ) التي تشير الى حزب الشعب في بلاد الخمير. بعد سنة من ذلك التاريخ تشكل حزب الخمير الثوري الذي اصبح لاحقاً العمود الفقري للحزب الشيوعي الكمبودي. وضع ذلك الحزب نصب عينيه هدفين رئيسيين اولهما: الكفاح لإنهاء الهيمنة الفرنسية وتحقيق الاستقلال الوطني، وثانيهما: التأكيد على استراتيجية بناء الاشتراكية على هدى الماركسية اللينينية.
خلال بضعة سنوات تطورت الحركة الشيوعية الكمبودية وتحولت الى قوة سياسية لا يمكن تجاهلها، خاصة بعد ان نالت دعم ورعاية فيتنام الشمالية التي احتضنت ودربت كوادر الحزب الهاربين من بطش نظام الامير سيهانوك. خلال انعقاد مؤتمر حزب العمل الفيتنامي ( الشيوعي ) في ايلول 1960 بالعاصمة هانوي تطرق الحاضرون الى بعض الجوانب التي طالت الشيوعيين الخمير ( الكمبوديين ) وكرست تبعيتهم للحزب الفيتنامي. بسبب اشراف فيتنام الشمالية على كافة نشاطات الحزب الشيوعي الكمبودي وقيامها بدور الرعاية الابوية له، اتخذ ذلك الحزب اسم حزب العمال الكمبودي، وتم انتخاب قيادة له. الى تلك المرحلة، لم يكن دكتاتور كمبوديا المقبل بول بوت الذي اسمه الحقيقي سالوث سار ( Saloth Sar ) معروفاً على مستوى مسؤولي الحزب المتقدمين او بين كوادره. ولد سالوث سار ( بول بوت ) في آذار 1925 ونهض من السر والظلمة وتحول فيما بعد الى طاغوت وكابوس يؤرق نوم الكمبوديين ويشوش يقضتهم ويعكر صفو حياتهم. وهو في بداية حياته السياسية وكأحد الشيوعيين الكمبوديين، أُعجب بشخصية ستالين وماوتسي تونغ واتخذهما مثالاً للإقتداء.
خلال مراحل دراسته الابتدائية والثانوية، لم يكن سالوث متميزاً او متفوقاً، وفشل في امتحان القبول للحصول على زمالة في فرنسا. ولم تؤهله درجاته العلمية للالتحاق بالجامعة الوطنية، مما اضطره للدراسة في مدرسة مهنية بقسم التجارة في العاصمة فنوم بنه. عندما كان في ذلك الفرع شعر بالدونية والانكسار، لأن طلبة الجامعة يستخفون بالدراسات المهنية ويزدرون من فيها ويتجنبون الاختلاط بهم. من اجل اثبات الذات والتعويض، اندفع للدراسة بهمة كبيرة واصبح احد الخمسة المتفوقين في فرعه، مما اتاح له الفرصة للحصول على زمالة لدراسة الهندسة الكهربائية في باريس. مرة اخرى، اخفق ولم يثبت اية جدارة عندما فشل مرتين في اجتياز الامتحان كطالب في قسم الهندسة الكهربائية، مما يؤول الى ايقاف المساعدات المالية عنه من جانب حكومته. شعر سالوث وكأنه تائه بين زملائه، ليس بسبب اخفاقه في المجال الدراسي فحسب، بل لأنه لا يستوعب المناقشات الاكاديمية التي يجريها الطلاب البارزين فيما بينهم. بالرغم من تلك الاحباطات، تظاهر بأنه متماسك ولم يستسلم وكافح لفتح مجالات تعوضه عن نقاط ضعفه من خلال التقرّب من الشرائح الاجتماعية الدنيا وتفهم دواخلها. بعيداً عن اية اهتمامات سياسية محددة، سعى لسبك حياته بالتجارب وتلوينها بعدة اشكال لكي يتمكن من الاقتراب من عقول الناس وملامسة قلوبهم.
في خطوته الاولى لتأطير وعيه السياسي واضفاء شخصية معنوية على نفسه، تصرف سالوث كوطني متحمس لتحرير كمبوديا من الاستعمار الفرنسي. الى سنة 1949 لم يكن يعرف عن الشيوعية او الماركسية الا القليل وبدا له الحزب كحفل او مهرجان جماهيري. بعد انتصار ثورة ماوتسي تونغ واشتداد زخم الحركات الشيوعية الراديكالية ووضوح ملامح الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية واندلاع حرب التحرر الوطني هنا وهناك، استيقظت الحوافز داخل سالوث وودع السذاجة السياسية ورمى البراءة والوداعة خلف ظهره وانطلق النمر من جبّه. صمم لأن يتحول الى رقم مهم في قائمة المناضلين.
بعد ان تأكد من فشله بإثبات وجوده في المجال العلمي، او الحصول على شهادة جامعية، رأى بأن فرصته للتعويض وتأكيد الذات تكمن في التمرد على الواقع والانتماء الى حزب ثوري راديكالي. وللتمهيد لتلك الحياة آثر التحرك في الظلمة والسرية والخفاء والابتعاد عن النشاط في الضياء والعلن وتحت السماء الصافية. اثناء اقامته في باريس، انضم الى الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1952، من دون ان يكون قد استوعب ماهية الماركسية، لأن المهم بالنسبة له هو ارواء ظمأ الثورة في داخله والايمان العاطفي بالدور التاريخي للطبقة العاملة وتأسيس دكتاتورية البلوريتاريا. تدريجياً، بدأ يلملم المعلومات العامة حول الماركسية اللينينية خلال قراءته لما قدمه ستالين في كتابيه ( تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي ) و ( الماركسية والمسألة القومية ) اللذان نالا اعجابه لأن الطروحات في كليهما سطحية وسهلة الفهم، اقَّر بأنه قرأ بعض مؤلفات ماركس ولينين، لكنه لم يهضم الا القليل منها، مما اوقعه تحت تأثير ما كتبه او مارسه ستالين خلال فترة الارهاب الاحمر. استهوى سالوث تاريخ الطغاة الذين مارسوا العنف وسفك الدماء، لذلك أعجب بشخصية روبسبير واقتنع بأن النظام الثوري يستمد مقومات البقاء والنمو والنجاح خلال عمليات التطهير واستئصال المنحرفين والمتخاذلين والمتآمرين وبعيداً عن ابداء الرحمة بالبرجوازيين واللبراليين واذناب الاستعمار او الاجنبي.
في العقد الخامس من القرن العشرين اصبحت باريس حبلى بالأحداث واغتلت بالحركات الثورية، وبالتحديد الشيوعية، التي اجتذبت مجموعة كبيرة من الطلبة الكمبوديين هناك وأطّرت توجهاتهم السياسية والايديولوجية. بغية التفاعل مع المرحلة، عقدت جمعية الطلبة الكمبوديين اجتماعها في 1952 لتداول اوضاع بلادهم والتنسيق مع التنظيمات الثورية في الداخل واقامة جبهة تضم الاطراف التي تلتقي بالاهداف. خلال الاجتماع اقترح سالوث كأحد الحاضرين غير البارزين، ان يقوم احدهم بزيارة كمبوديا لتقييم الاوضاع فيها واستقصاء رؤى كافة الاطراف المعارضة للاحتلال الفرنسي ولنظام الملك سيهانوك. عندما تطوع هو للقيام بتلك المهمة، نال تأييد الحضور، لأنه يقيم علاقات مع بعض رجال القصر من خلال شقيقته التي كانت احدى الخليلات في البلاط. بعد ان انيطت به مهمة التوجه الى كمبوديا، وصل عاصمتها فنوم بنه، يوم 15 كانون الاول ( ديسمبر ) من نفس السنة. حينها، كانت الاوضاع السياسية في البلاد متدهورة وعلاقات الملك مع المواطنين ومع مجموعة الرهبان البوذيين سيئة، مما يجعل احتمال تفجر الهيجان العام وارد في اية ساعة. رسخت تلك الظروف قناعات سالوث بأن السبب الرئيسي لتدهور الامور هو الاستعمار الفرنسي، مما يستوجب الاستعانة بثوار الفيت كونغ في فيتنام والتنسيق معهم بغية طرد المحتل. من اجل حسم ميوله السياسية والفكرية، ارتبط بالتنظيم الشيوعي المحذور، لكنه في العلن انضم الى الحزب الديمقراطي المجاز قانونياً كوسيلة للتمويه والاختراق الذي يساعده لكسب العناصر للحراك الثوري الراديكالي. بالتالي، اخفى سالوث حقيقته السياسية خلف واجهة الحزب الديمقراطي ووضع على وجهه قناع اللبرالية والاعتدال. بقصد تبليط الطريق امام توجهه الحقيقي وتقوية علاقته بالتنظيم الشيوعي، تعلق بفتاة تعتنق الايديولوجيا الماركسية واشهرا زواجهما في 14 تموز ( يوليو ) 1956 تيمناً بذكرى سقوط سجن الباستيل اثر اندلاع الثورة الفرنسية الكبرى 1789.
بلورت الصراعات التي شهدتها كمبوديا اذبان العقد الخامس من القرن الماضي افكار وتطلعات الشيوعيين وتوجهت اهتماماتهم صوب تأسيس حزب ثوري يتبنى الكفاح المسلح ضد النظام الملكي. لكن الطريق امام قيام مثل ذلك التنظيم لم يكن آمناً، لأن فيتنام الشمالية الشيوعية ترفض تلك الفكرة وتدعو لقيام جبهة معتدلة بين الشيوعيين وبين الديمقراطيين الكمبوديين. بالنتيجة، شاب انطلاقة مسيرة الشيوعيين في كمبوديا التشوش ووقعت في الازدواجية والتوفيق بين السير في فلك فيتنام الشمالية وبين العمل بإستقلالية وطنية واضحة. ومع ذلك، تشكلت القيادة السرية للشيوعيين وبرعاية فيتنام سنة 1954 وضمت خمسة اعضاء من دون ان يكون سالوث احدهم. بعد فترة غير طويلة تشتتت تلك القيادة وغادرت العاصمة مع بعض الشيوعيين البارزين والتجؤا الى الاحراش. عندما انتقل مركز ثقل التنظيم الى الريف وبقي سالوث في فنوم بنه، استمر بعلاقاته واتصالاته مع اعضاء القيادة. الى تلك المرحلة، لم يكن في كمبوديا حزب شيوعي يتمتع بشخصية معنوية مستقلة، بل تنظيم ثوري يعمل وينشط حسب رؤى فيتنام الشمالية وتحت إشرافها المباشر. دفعت تلك الحالة عدداً من قيادي التنظيم بإتجاه تخفيف وطأة قبضة فيتنام واضفاء الهوية الوطنية على الحزب في كمبوديا. في ذلك السياق عكف سالوث واثنان آخران سنة 1957 على كتابة مسودة النظام الداخلي للحزب وتضمينه فقرات تدلل على ان تسود علاقات متوازنة ومتكافئة مع الحزب في فيتنام. في المجال التنظيمي والنشاط الجماهيري، انطلقت حملة لتوسيع قاعدة الحزب عن طريق ترشيح الاعضاء وكسب المؤيدين حسب معايير النوعية ودرجة الاستعداد للتضحية والايمان بالايديولوجيا الماركسية. وكحزب محذور ومطارد، اتسم عمله بالسرية التامة والانضباط والحذر وعدم اثارة انتباه رجال الامن، مما تطلب ان تكون مواعيد اجتماعات القيادة متباعدة وفي اماكن مختلفة ولمدة ساعتين فقط. في رحم تلك الظروف ترعرع الحزب تدريجياً واتسعت قاعدته الجماهيرية وتغلغلت خلاياه بين ثنايا المجتمع، بالرغم من القمع الذي مارسته السلطة ضده.
عندما تقرر عقد مؤتمر الحزب سنة 1959، سعى الحاضرون الى جعله حزباً ماركسياً لينينياً أصيلاً، يتمتع بإستقلالية ذاتية بعيداً عن املاءات فيتنام. من جانبها، لم تعط فيتنام الضوء الاخضر لتلك الخطوة وخشيت ان يستأثر الخمير بقيادة الحزب ورسم استرايتجيته وتأطير توجهاته بعيداً عن دورها. بقصد توضيح موقفها، ارتأت فيتنام تأجيل انعقاد ذلك المؤتمر تحت ذريعة ردم الهوة ومد الجسور بين شيوعي المدينة والريف الكمبودي اولاً. ومع ذلك، واصل المؤتمر جلساته واختار قيادة جديدة للحزب الذي اتخذ اسم حزب العمال الكمبودي وضم اربعة اشخاص، من بينهم سالوث الذي انيطت به مسؤولية الاشراف على تنظيمات المدينة. بعد سنة تقريباً، طرحت قيادة الحزب وببصمات واضحة لسالوث برنامجها السياسي على هدى البولشفية التي تكرس الديمقراطية المركزية والنقد الذاتي والايمان بدكتاتورية البلوريتاريا، بالرغم من ضعف او عدم وجود الطبقة العاملة اصلاً في المجتمع الكمبودي. في طريق الاعداد للكفاح المسلح، سلك سالوث نهج ماوتسي تونغ الذي ركن بالأساس الى شرائح الفلاحين في الريف واعتبرهم الحضن والعمود الفقري، مما وضع الاثنين بالضد من مفاهيم ماركس بشأن الدور المركزي والقيادي للطبقة العاملة في الثورة وبناء الاشتراكية. على صعيد السياسة الخارجية، لم يتطرق برنامج الحزب الى طبيعة العلاقة مع فيتنام الشمالية او الى الاستعداد للتعاون مع ملك كمبوديا سيهانوك. من جانبها، دعت فيتنام حزب العمال الكمبودي ( الشيوعي ) الى اقامة جبهة مع الملك لإحياء الحياة البرلمانية والعمل على اجراء الاصلاحات. لكن سالوث رفض بالمطلق فكرة الانتقال السلمي والتدريجي الى الاشتراكية، لا سيما وان الشيوعيين في فيتنام ابتعدوا عنها واعلنوا الكفاح المسلح واطلقوا حرب العصابات ضد العدو الطبقي في الداخل وضد الامبريالية.
بالرغم من صعوبة الظروف وخطورتها، عقد حزب العمال الكمبودي مؤتمره السري الذي استمر من 30 ايلول 1960 الى الثاني من الشهر التالي. لأول مرة اثبت المؤتمر استقلالية قراراته عن فيتنام وبعيداً عن املاءاتها، وانتخب تاو ساماوث سكرتيراً عاماً، في الوقت الذي جاء تسلسل سالوث ( بول بوت ) الثالث في القيادة. ولتأكيد هويته المعنوية الخاصة، اعلن المؤتمر حرب العصابات وجعل الريف حصن وحضن الثورة، وانطلقت حملة بناء القواعد العسكرية في الجبال والاحراش، الى جانب احياء الخلايا النائمة في المدن. تلقى الحزب ضربة موجعة على ايدي النظام الكمبودي عندما تم اعتقال وتصفية السكرتير العام تاو ساماوث، الذي كان يقيم في وكر سري. حينها، برزت علامات استفهام عن كيفية اكتشاف الوكر وحول الشخص الذي وشى بساماوث وبقي الامر لغزاً. يقول المثل ( عندما يحترق بيت شخص ما، تتوفر الفرصة لأحدهم لإعداد وجبة اللحم المشوي على تلك اللهب ). بعد اغتيال تاو ساماوث وانعدام الفرصة لإختيار الشخص الثاني الذي يليه في القيادة، تعبد الطريق امام سالوث ليصبح الشخص الاول في سلم هرم الحزب وهو لا يزال لم يلتحق بالريف. حينها، رفض نقل مقر القيادة من العاصمة فنوم بنه الى الريف لأنه يعلم بوجود منافسين اقوياء له هناك. بعد مرور ستة شهور على تصفية ساماوث، عقد الحزب مؤتمره في اواخر شباط ( فبراير ) 1963 وانتخب سالوث سكرتيراً عاماً له. عندما اندلعت اعمال العنف وبعض الهيجان السياسي في العاصمة وشنت قوات الشرطة والامن حملات دهم واعتقالات على الشيوعيين، اضطر سالوث الى اتخاذ قرار مغادرة المدينة والالتحاق بالريف وقيادة الحزب من هناك. لم يكن سبيل الوصول الى الريف سهلاً او مأموناً، مما جعل سالوث يغادر مختفياً ليوم كامل تحت اكياس الفحم في سيارة حمل قديمة. ثم استأنف رحلته سيراً على الاقدام في الاحراش واجتاز الحدود الكمبودية واستقر في منطقة خاضعة لنفوذ الفيت كونغ. اي الثوار الشيوعيين الفيتناميين. وهكذا، انتقل مركز ثقل نشاط الشيوعيين من مناطق الحضر والاستقرار النسبي والحياة الطبيعية الى اماكن موحشة حيث تخيم الظلمة والسكون ويسود احياناً، اللامعقول.
بالرغم من ازدياد عدد المقاتلين في صفوف الشيوعيين الخمير، بقيت حرب العصابات محدودة التأثير وباهتة لأن الثوار لا يمتلكون الا السلاح الخفيف ويعتمدون بالاساس على المؤن والمستلزمات الشحيحة التي تقدمها لهم قوات الفيت كونغ. بالتالي، اتسمت العلاقات بين الطرفين بطابع الضيف والمضيف والمأمور والآمر. في خريف 1964 عقدت اللجنة المركزية للحزب اجتماعها في غابة على الحدود الفيتنامية الكمبودية واتخذت عدة قرارات، وفي مقدمتها اعتماد الكفاح المسلح ورفض سياسة التعايش السلمي والانتقال التدريجي نحو الاشتراكية والسعي الحثيث للتخلص من الرعاية والتدخلات الفيتنامية. في الجانب النظري، اجتهدت قيادة الحزب وأفتت بإمكانية طبقة الفلاحين على بناء الاشتراكية بطريقة ناجحة لأن هؤلاء بسطاء وابرياء وانقياء مثل الورقة البيضاء التي يستطيع الشيوعيون تدوين عليها ما يرونه مناسباً ومفيداً. على صعيد التثقيف الحزبي اوعز سالوث الى عدم ترجمة مؤلفات ماركس ولينين الى اللغة الوطنية والاقتصار على التثقيف والتلقين الشفهي، لأن التجارب والتطبيقات القائمة في الدول الاشتراكية تفي بالغرض. تناقض مع الماركسية واقترف الهرطقة الايديولوجية عندما اعتقد بإمكانية تغيير الوعي عند الفلاح وجعله ينبذ التملك الفردي وينخرط طوعاً في الزراعة التعاونية.
عندما زار سالوث زعيم فيتنام هوشي منه، في ربيع 1965 اصيب بالإحباط لأن الاخير حثه على تجنب المغامرة واطلاق الكفاح المسلح في الريف. حينها، احس بثقل يد فيتنام على عنقه وبدورها في صياغة القرارات المصيرية لحزبه. من هناك انتقل الى بكين واسمع صوته لآذان صاغية لأن القيادة الصينية تعاطفت معه وايدت استراتيجية الاعتماد على الفلاحين في الكفاح المسلح وبناء النظام الاشتراكي. بعد تلك الزيارتين، عقد حزب العمال الكمبودي مؤتمره في تشرين الاول ( اكتوبر ) 1966 لبضعة اسابيع واتخذ قرارات مصيرية وحاسمة التي في مقدمتها: اولاً: تغيير اسم الحزب الى الحزب الشيوعي الكمبودي، لكن ذلك الامر ابقي سراً لتجنب غضب فيتنام. ثانياً: نقل مقر القيادة الى منطقة بعيدة عن مراقبة وتأثيرات المخابرات الفيتنامية. ثالثاً: قيام اللجنة المسؤولة في كل منطقة برفع وتيرة الكفاح المسلح الذي ينطلق من الريف. منذ البداية، التزم الحزب السرية التامة واستخدم الاسماء المستعارة والشفرات بقصد التخفي والتمويه، ودعا الى الانضباط الصارم والطاعة على شاكلة حياة الرهبنة البوذية التي مثلت احد اركان ثقافة الخمير الحمر اي الشيوعيين الكمبوديين. من اجل الحيطة حذر الحزب كافة الاعضاء من الاختلاط بالاجانب، ومنع الرعاة في الريف المحرّر من التحدث مع الغريب او الاجابة على اسئلته واستفساراته، مما جعل الكل يراقب الكل وكأن الجميع في نفير عام.
بعد ان استمد مقاتلي الخمير الحمر ( الشيوعيين الكمبوديين ) بعض القوة، نفذوا اول عملية حرب العصابات ونسفوا جسرين على نهر دام ( Damm )، وهاجموا الوحدة العسكرية المقيمة في المنطقة واوقعوا بها خسائر قليلة. اثرها، انسحب 500 مقاتل الى جبل كثيف الاحراش لتجنب رد فعل السلطات. من جانبها، حملت الحكومة القرويين جزءاً من مسؤولية ما حدث لأنهم يوفرون ملاذاً آمناً للخلايا النائمة ويأوون المتمردين. بالتالي، وكعملية انتقامية وتأديبية، تم اعتقال 200 مواطن وقتل العشرات واحرقت بعض المساكن. لم تكن تلك الاجراءات التأديبية في صالح الحكومة، لأنها ادت الى اتساع رقعة التأييد للحركة المسلحة، ولا سيما عندما التحقت بها اعداد كبيرة من المقاتلين. مطلع موسم الصيف من سنة 1967 اشتدت العمليات العسكرية للثوار وحققوا قدراً من الانتصارات، مما ازاد من رصيد وشعبية سكرتير الحزب الشيوعي الكمبودي سالوث الذي تحول الى رقم لا يمكن تجاهله. حينها، خاطب سالوث قيادة الصين الشعبية واشعرها بأن الثورة المسلحة في بلاده وصلت الى منعطف مهم وان الجماهير الملتفة حولها مهيأة تنظيمياً وايديولوجياً ونفسياً لخوض المعركة المصيرية. وبدافع مغازلة تلك البلاد الشيوعية الكبيرة، ذكر سالوث بأن الثورة في كمبوديا تعتبر ماوتسي تونغ الملهم والنجمة التي تنير طريق المقاتلين وترشدهم الى الانتصارات المتلاحقة. في ضوء تلك المتغيرات اتصلت فيتنام الشمالية بسالوث لإقناعه بعدم تصعيد وتيرة الثورة المسلحة، بل فتح قنوات الحوار مع امير كمبوديا سيهانوك، والتفاهم معه بشأن اجراء الاصلاحات السياسية والدستورية. لكن سالوث تجاهل ذلك، واطلقت قوات الخمير الحمر موجة جديدة من الهجمات على مواقع الدولة في كانون الثاني ( يناير ) 1968 وغنمت مئآت البنادق ودمرت الجسور واحرقت المقرات الحكومية في محافظات الجنوب. بالنتيجة، امتلأ القرويون والفلاحون بالحماس ونظروا بالإعجاب والإكبار الى الثوار الذين يلتحقون بصفوف الخمير الحمر. من اجل كسر شوكة الحركة المسلحة وايقاف زخمها الجارف استخدمت القوات العسكرية الحكومية سياسة الارض المحروقة عن طريق قصف الطائرات وممارسة العنف المفرط بحق المدنيين، مما دفع العديدين الى ترك قراهم وتسلق الجبال الشاهقة او الاقامة في الاحراش لكي يكونوا في منأى من انتقام الدولة.
في مرحلة لاحقة من تطور الاحداث، تقدمت القوات الحكومية واصبحت قريبة من مقر القيادة الذي يقيم فيه سالوث، مما استوجب على الفور نقله الى منطقة جبلية وعرة وتحت الاسم المشفر ( المرمز ) K5. هناك، استيقظت مكنونات اعماق سالوث وترعرعت في ذهنه عقدة العظمة وتعشعشت في رأسه الرغبة الجامحة للظهور كزعيم اوحد يدير ظهره للقيادة الجماعية. ولتمهيد الطريق لتحقيق تلك الاهواء والنوازع، شرع يقيم مع حرسه منفصلاً وبعيداً عن رفاقه القياديين الآخرين الذين توجب عليهم استحصال الاذن منه في حالة مقابلته. من اجل فرض هيبته وشبح سطوته، عقد الاجتماعات المطولة مع الكوادر الحزبية ومع النخب المثقفة التي وصلت تباعاً بأعداد متزايدة واقحم عليها افكاره. لم يتفرد في مقر اقامته لكي يمضي فترة الخلوة الروحية كناسك متعبد، بل بقصد حياكة الخطط الظلامية واعداد جهاز يراقب الجميع ويضعهم في دائرة الشك والريبة. اتسمت شخصية سالوث بالغموض والميل الى اخفاء النوايا الحقيقية وعدم الافصاح عما يبطن. من المعروف في علم النفس، ان تلك الشخصية تختزن بذور الفناء، وعندما تتفتق تلك البذور تسبب الكوارث والتدمير، ولا سيما عندما تتبوأ القيادة وتطغي وتتجبر.
عندما ازداد عدد المقاتلين في صفوف الثورة المسلحة، استمر الدعم اللا محدود لهم من سكان الريف، لكن الفجوة الثقافية بين الفلاحين وبين الاكاديميين وطلبة الجامعات القادمين من العاصمة ومن المدن الاخرى بقيت عميقة وواسعة. اشعرت تلك الحالة القرويين بالمرارة تجاه الوافدين من العاصمة ومن الحضر الذين يتعاملون معهم بإستعلاء ويتباهون بتفوقهم الثقافي والاكاديمي، في الوقت الذي اعتقد فيه سكنة الريف بأن هؤلاء لا يملكون سوى الحذلقة الايديولوجية واطلاق المصطلحات الخاوية.
اطلالة شبح سالوث سار / بول بوت
الى سنة 1970 بدا سالوث ذلك الشخص الحريص على وحدة الحزب وتماسكه وتجانسه الفكري، ولم يصدر عنه اي سلوك مشين او مرفوض من المقربين الذين رؤا فيه ذلك الودود والمبتسم والمتواضع مثلما كان ايام الدراسة في باريس. عندما كان معلماً لللغة الفرنسية في احدى مدارس العاصمة فنوم بنه، اثبت بأنه ذلك المؤمن بالماركسية والقادر على جمع الصفوف وربط المجاميع ذات الاتجاهات والميول المختلفة، مما جعله رجل الازمات وحلاّل المشكلات. ادعى سالوث بأنه اعلن الكفاح المسلح، ليس بقصد سفك الدماء، بل لشعوره بآلام شعبه وبالوضع البائس للفلاح ولقناعته بأن نظام سيهانوك ظالم ومستبد ولا يقبل اختلاف الرأي ويرفض اصلاح الاوضاع.
عندما قاد الجنرال لون نول الانقلاب على الامير سيهانوك في آذار ( مارس ) 1970، شنت قوات الفيت كونغ الفيتنامية الهجمات على مواقع الجيش الكمبودي واصبحت على بعد 15 كم من العاصمة فنوم بنه. اشعرت تلك التطورات غير المتوقعة سالوث بأن الخمير الحمر وقعوا بين سندانة قوات الانقلابيين وقصف الطائرات الامريكية وبين مطرقة الفيت كونغ الشيوعيين. بعد تقييمه للوضع، استدرك بأن انسحاب قوات الفيت كونغ يعرض الخمير الحمر لإنتقام الانقلابي لون نول وبقاؤها يكون بمثابة السيف المسلط على رقاب الثوار. من اجل مواجهة الظروف الحساسة والتعامل معها بحنكة، عقد سالوث اجتماعاً طارئاً مع اعضاء القيادة وتم التوصل الى ضرورة ترك المقر K5 والتوجه الى اماكن مجهولة لكافة الاعداء وانتحال اسماء جديدة بقصد التخفي والتمويه والاقتداء بالبوذي الذي يتخذ اسماً مغايراً عند دخوله الرهبنة. من جانبه اتخذ سالوث لنفسه اسم بول بوت الذي تلقب به الى نهاية حياته. غادرت القيادة مقرها K5 واستقرت في الاحراش نهاية ايلول ( سبتمبر ) من السنة المذكورة اعلاه. في تلك المنطقة الموحشة، انكب بول بوت ( سالوث ) على صياغة استراتيجية المرحلة للخمير الحمر ( الشيوعيين الكمبوديين ) بعيداً عن تأثيرات واملاءات فيتنام. على صعيد الوضع العسكري للخمير الحمر، انقلب السحر على الساحر واشتد ازرهم وازداد زخمهم، لأن الفزع الذي احدثه قصف طائرات B.52 دفع القرويين لترك مناطق سكناهم واللجوء اما الى العاصمة والمدن الكبرى او الى الاحراش والالتحاق بصفوف الثوار.
مطلع تشرين الثاني ( نوفمبر ) 1971 وبعد ان اتسعت مناطق نفوذ الخمير الحمر، انتقلت القيادة الى القاطع الشمالي واقامت في المقر تحت الاسم المشفر K1 الذي يقع داخل الاحراش. هناك، اتجهت اهتمامات بول بوت صوب اعادة توزيع مهام اعضاء القيادة لكي تكون قادرة على استيعاب المستجدات بعد انتهاء محادثات مؤتمر جنيف بين الولايات المتحدة الامريكية وبين فيتنام الشمالية والتي بموجبها تنسحب قوات الفيت كونغ من الارض الكمبودية. ضمن ذلك الاتجاه توجه بول بوت الى عاصمة فيتنام الشمالية هانوي، وعقد اجتماعاً مع المسؤولين هناك. اتخذ الطرفان ثلاثة قرارات مهمة : اولها : يقوم الفيتناميون بسحب كوادرهم الحزبية من المناطق التي تحت ادارة الخمير الحمر. ثانيها : يتوقف الفيتناميون عن تدريب الكوادر العسكرية للمقاتلين ويحل محلهم مدربون من الخمير. ثالثها : يبدأ الفيتناميون بحل وتفكيك مقراتهم العسكرية في كمبوديا. بعد ان اقام بول بوت شهرين في المقر K1، انتقل الى مقر آخر الذي حمل الاسم المشفر S.71. هناك، اصدر التوجيهات لإطلاق حملات التلقين الايديولوجي وتأطير الاتجاه الفكري الجمعي بكل الوسائل المتاحة واوعز بتأسيس مكتب للاعلام الذي التحقت به نخبة مثقفة من الماركسيين القدامى. بغية انجاح البرنامج التثقيفي، تم افتتاح دورات مركزة لمدة شهر وامر لإعداد الكادر الحزبي الذي يغادر البلدة بعد انتهاء الدورة وينتقل الى الاحراش تحت ذريعة التأهيل ومعايشة الظروف الصعبة. ادار بول بوت بنفسه بعض تلك الدورات لوضع بصماته على عملية الاعداد والتثقيف ونشر شبح شخصيته بين الكوادر والاعضاء. بالموازات مع تلك الخطوات، أنشأ مكتباً سرياً ترأسته زوجة احد اعضاء اللجنة المركزية، واوكل اليه مسؤولية اصدار صحيفة الحزب الشهرية. في الجانب الامني، بدأ ذلك المكتب ينسج شبكة عنكبوتية او دراكيولية تراقب اقرب وابعد شخص من بول بوت بمجساتها التي تستشعر النوايا وتمسك بالفريسة وتنقض عليها. في ذلك السياق، الزمت الاوامر كافة اعضاء القيادة بترك افراد حمايتهم الشخصية خارج المقر S.71 ومقابلة بول بوت دون سلاحهم الشخصي. وكأي مسؤول مصاب بهوس التجبر والاستفراد بالقيادة، بدأ يعيش الهواجس والشكوك ويعاني من مرض البارانويا ( Paranoia ).
في صيف 1971 عقد الحزب الشيوعي الكمبودي مؤتمره الثالث في الاحراش واستمر لبضعة اسابيع وبحضور 60 مندوباً يمثلون عدة ولايات. اتخذ المؤتمرون عدة قرارات وفي مقدمتها اعادة انتخاب بول بوت سكرتيراً عاماً للحزب وقائداً لكافة التشكيلات العسكرية للخمير الحمر في مناطق الريف المحررة، مما مكنه من حصر الصلاحيات الواسعة في يده. من الملفت للإنتباه تهميش المؤتمر للكوادر الشيوعية البارزة التي سبق وهربت من بطش النظام الكمبودي والتجأت الى فيتنام الشمالية، لأنها غير موثوق بولائها لقيادة بول بوت وانها تحمل الجرثومة الفيتنامية في داخلها. كرس المؤتمر استراتيجية الابتعاد عن المحور الفيتنامي والتقرب من الصين الشعبية التي قدمت السلاح والمساعدات المالية التي وصلت الى 5 مليون دولار امريكي سنوياً. عند ذلك المنعطف، تطورت الظروف لصالح الخمير الحمر من الناحية العسكرية ووصل عدد المقاتلين الى 35000 يدعمهم 100000 احتياطي في الريف المحرر، مما تطلب تقسيمهم الى وحدات او افواج يضم كل واحد منها بين 300 او 400 فرد. بعد عدة شهور اجرى بول بوت تقييماً للوضع السياسي والاجتماعي واعتقد بنضوج المرحلة لتدشين الاشتراكية في الريف المحرر، مما يتطلب مصادرة الاراضي من مالكيها ووضعها تحت تصرف الفلاحين. بدلاً من توسيع مساحة الحرية واحترام ارادة الانسان، شدد الخمير الحمر من الاجراءات الامنية والرقابية ووضعوا القيود على تنقل الفلاحين والقرويين عموماً والزموا الجميع بتأييد المقاتلين وعدم ابداء اية اساءة للثورة سواء بالقول او بالعمل، لأن ذلك يعرضهم لأقسى العقوبة او للاعدام.
عندما ضاق الاهالي في احدى القرى ذرعاً من تصرفات الخمير الحمر المهينة واهتاجوا لإغتيال ثلاثة مواطنين، تم في الحال تجميع اولئك القرويين وقتل منهم 24 بقصد التأديب وزرع الرعب في القلوب. تكررت مثل تلك الوقائع التي راح ضحيتها العشرات الذين دفنوا في مقابر جماعية، وبالتحديد في قرية كومبونغ تام التي احتوت رفات 180 ضحية. مطلع صيف 1972 شكل الخمير الحمر اللجان الثورية بقصد احلال التجانس المجتمعي، وخولت صلاحيات التجاوز على خصوصيات الاقليات غير البوذية ومنعهم من ارتداء زيهم الشعبي لأن ذلك يتنافى مع تجانس الجميع. تحت ذريعة تنفيذ نصوص النظرية الشيوعية، ارغم الاثرياء على بيع اثاثهم ومقتنياتهم الفاخرة، مما يحقق العدالة الاجتماعية والمساوات مع الفقير الذي لا يملكها في بيته. تمادت تصرفات الخمير الحمر ومنعوا كافة مظاهر البذخ والترف وتقليد تقديم الهدايا الباهضة الاسعار في حفلات الزفاف، وحدَّت من الاسراف في استهلاك لحوم الاغنام والابقار، تحت ذريعة استغلال كافة الامكانات من اجل المعركة المصيرية التي تحرر كامل الارض الكمبودية من الرجعيين والبرجوازيين ومن عملاء الامبريالية. بالرغم من كل ذلك، بقيت الامور الى تلك المرحلة مقبولة لنسبة غير قليلة من سكان الريف، وبالأخص لفقراء الفلاحين الذين شعروا بأن حياتهم افضل من السابق. لم يرفل الريف المحرر بحياة النعيم والهناء، بل ادلهمت الامور وحل الجفاف ولاحت بوادر الكارثة وانفتحت ابواب الحجيم عندما كشرت المجاعة عن انيابها. بالإضافة لتلك الامور الخارجة ربما عن ارادة وطاقة الانسان، عمَّ الفساد وفشلت قيادة الحزب والثورة في ادارة المناطق المحررة، وتوسع الشرخ واشتد العداء بين اهل الريف الاصليين وبين الشرائح الوافدة من الحضر والتي تظاهرت إمتلاك ناصية الثقافة والمعرفة. في تلك الاحوال العسيرة والمتداخلة في التعقيد، اصر بول بوت على تحقيق المساوات الاجتماعية والاقتصادية عن طريق جعل الجميع بمستوى الفلاح الفقير. في الجانب التربوي، روج لثقافة نكران الذات والانصهار في بوتقة الجماعة لأن الانانية وحب التملك لا يستقيمان مع المبادىء الشيوعية، بل يعرقلان اقامة المجتمع اللاطبقي. كان على بول بوت ان يتفهم بموضوعية شخصية الفرد الكمبودي التي تعتبر نفسها جزيرة بحد ذاتها وتميل الى الابقاء على خصوصية الفرد ولا تحبذ العمل التعاوني وترفض الذوبان بالكيان الجماعي. بالتالي، اغمضت قيادة الخمير عينها عن رؤية الواقع وغرقت في عالم الاوهام وتشبثت بإمكانية خلق الوعي الاشتراكي عن طريق التلقين الايديولوجي وساحرية الديماغوجية، بالاضافة الى الاعتماد على هيمنة الحزب على الجماهير المقهورة، وتطبيق مزيج من التجربة الفيتنامية والماوية والستالينية.
خلال سنة من المعارك التي خاصها الخمير الحمر ضد قوات السلطة، وقعت مناطق واسعة في الريف تحت نفوذهم، مما مهد لهم الطريق لتطبيق مشاريعهم السياسية والاقتصادية التي ( حسب رأيهم ) تؤول الى النظام الاشتراكي. تضمنت تلك البرامج فرض العمل على الجميع في الحقول وفي المجالات الاخرى، واخضاع الحزبيين للنقد الذاتي وكشف النوايا والاعتراف بالأخطاء، والالمام المتواضع بالايديولوجيا الشيوعية وحفظ بعض النصوص الماركسية اللينينية. من اجل تطويع كافة المواطنين ووضعهم تحت المجهر والتعامل معهم بالتمييز وبالانتقائية، صنفت قيادة الحزب المجتمع الى اربعة اصناف: 1- عناصر هامشية غير منتمية للحزب الشيوعي. 2- عناصر اساسية تنتظر نيل العضوية في اتحاد الشباب او مرشحة للانتماء اليه. 3- الاعضاء الذين سبق وانتموا الى اتحاد الشباب او الى غيره من المنظمات. 4- الاعضاء الاصليين في الحزب الذين تم تقسيمهم الى درجتين : من يتمتع بالعضوية الكاملة ومن هو مرشح لنيلها. في مجال التربية الحزبية، الزمت التوجيهات جميع المنتمين بمراقبة انفسهم وفتح قلوبهم لمسؤوليهم ونكران ذاتهم ونذر حياتهم للحزب الذي حل محل الوالدين والاقرباء والاصدقاء. لم يقتصر الالتزام بممارسة النقد الذاتي على القواعد الحزبية فقط، بل شمل حتى اعضاء اللجنة المركزية الذين وجب عليهم ادائه امام السكرتير العام بول بوت مرة في الاسبوع لكي تتاح لهم الفرصة لمراجعة افكارهم والاعتراف بالخطايا والاخطاء وطلب المغفرة في حالة اقترافها. في تلك البيئة السياسية والنفسية، تمددت شخصية بول بوت وطالت قامته وشعَّ بريق عبقريته، مما حول احاديثه وكتاباته السطحية والديماغوجية الى مادة ينهل الجميع منها الثقافة والغذاء الفكري. بالنتيجة، اصبح ملزماً في الاجتماعات والندوات الحزبية طرح ومناقشة كل ما كتبه او تحدث به بشأن الصراع الطبقي وتنشأت المواطن في بيئة تنبذ الروح الفردية والنزعة الذاتية والتوجهات اللبرالية والمواقف اللاأبالية.
بول بوت يقتطع جزءاً من القدم ليناسب حجم الحذاء
في ايار ( مايو ) 1973، اصدر بول بوت الاوامر بتعميم الزراعة التعاونية ومنع الفلاحين من بيع محصولهم للتجار الذين في مناطق نفوذ الدولة المركزية، حتى وان دفع هؤلاء اسعاراً مضاعفة، تحت ذريعة الحاجة الملحة للمواد الغذائية، لا سيما والمناطق المحررة تتسع تباعاً. بطريقة فانتازية ومرتجلة، اعلن بأن بلوغ الهدف لا يتحقق الا بتربية المجتمع الذي تسوده الروح الجماعية وتغيب فيه الانانية وحب التملك. على طريق اشاعة العدالة الاجتماعية والغاء التمايز، التجأ بول بوت الى سياسة بتر اجزاء من القدم او تحويره بدلاً من ان يفكر بتبديل الحذاء بحجم آخر يتناسب مع وضعية القدم. شاع الاعتقال والتعذيب والاعدام العلني بحق المعارضين والمتهمين بعلاقتهم مع الدولة المركزية وبحق الاسرى من ابناء الجيش. بالرغم من الممارسات الشاذة للخمير الحمر وفشلهم بإدارة الامور، توسعت رقعة نفوذهم واصبح اكثر من نصف مساحة كمبوديا تحت سيطرتهم. تُعزى انتصارات هؤلاء الى النظام الفاشل للانقلابي لون نول على ملك البلاد، بالاضافة الى صراع المصالح بين دول الاقليم والى استمرار الحرب الباردة.
في عملية لإستعراض او اختبار القوة، هاجم الخمير الحمر العاصمة فنوم بنه في صيف 1973 بأكثر من 20 الف مقاتل، لكن المقاومة التي ابدتها قوات الدولة مدعومة بقصف الطائرات الامريكية افشلت الهجوم واوقعت بالمهاجمين آلاف الضحايا. بعد تلك التطورات، اتخذ بول بوت قرارين خطيرين، اولها: اغلاق الجسور او نسفها وسد المنافذ المؤدية للعاصمة بغية عزلها عن العالم الخارجي للتمهيد للهجوم عليها واقتحامها، ثانيها: رفع درجة الحذر والحيطة بين صفوف الثوار وتشديد الاجراءات الامنية حول مقر القيادة خشية الاندساس والاختراق من جانب جواسيس وعملاء الدولة. كإجراءات استباقية انطلقت حملة الاستجوابات والاعتقالات في السجون الرهيبة التي اقيمت في الارض المحررة، وابعد ابناء الاقليات غير الخميرية من كافة المفاصل الحساسة. ساد الرعب بين المواطنين العاديين والحزبيين على حد سواء واتسع نطاق البطش، وخاصة على اللبراليين واصحاب الرأي الحر وابناء الطبقة الميسورة لأن الاخيرين ( حسب الرأي السائد ) ينظرون الى الفلاح بدونية واحتقار.
بقصد تأمين وحدة الحزب وتكريس الولاء المطلق للسكرتير العام وبسط هيبته على من حوله، دعا بول بوت اعضاء اللجنة المركزية الى اجتماع في ايلول 1973. انتهت المناقشات بإتخاذ قرارات تخص صيانة وحدة الحزب التنظيمية والايديولوجية وتنبذ الاختلافات في الرأي والتكتلات والشللية، مما تطلب ابعاد الكوادر غير الخميرية من المواقع المهمة لأنها ( حسب رأي القيادة ) مدسوسة ومشكوك بولائها واخلاصها. من جانبه، شدد السكرتير العام على ضرورة مجابهة فلول الثورة المضادة والاعداء الطبقيين واعوان النظام بحزم وصرامة. في نهاية الاجتماع طأطأ جميع الحضور رؤوسهم للتعبير عن تأييدهم التام لكل ما جاء به بول بوت، بالرغم من قناعتهم بأن طروحاته اتسمت بالتطرف وخرجت عن نطاق المعقول.
من ناحية العمليات العسكرية، شن الخمير الحمر هجوماً واسعاً في ربيع 1974 على منطقة اودونغ الواقعة شمال غرب العاصمة فنوم بنه وحاصروها لمدة ثلاثة اسابيع سقط خلالها مئات الضحايا من الطرفين. عندما اقتحمها المهاجمون، اقترفوا اعمالاً بربرية وذبحوا عشرات الجنود الاسرى. وفي مشهد مؤلم لا تستطيع مسيرة الايام من تخفيف شدة وقعه ولا تخطئه الذاكرة، قام بعض الجنود بقتل زوجاتهم خشية وقوعهن اسيرات واغتصابهن من قبل مقاتلي الخمير الحمر. بعد انقضاء شهر على تلك المعركة، زار بول بوت المنطقة التي الحقت بالارض المحررة والتي سبق وكانت منتجعاً يأمه الارستقراطيون والاثرياء، لكنها تحولت الى خرائب بائسة ومهجورة واضحت اطلالاً مدمرة. عندما القى بول بوت نظره على تلك الاحوال، غمرته الفرحة ونشوة النصر، وبشر بأن الثورة الثقافية على الابواب وانها ستنطلق مثل السباحة في النهر الهادىء وتنتهي بالغوص في البحر الهائج. اواخر السنة المذكورة اعلاه اعتقد السكرتير العام للحزب الشيوعي بأن الثورة لازالت في منتصف الطريق، مما يضع على عاتق الثوار مهمة الاستمرار في المسيرة واكمال المشوار على طريق تحرير كامل الارض الكمبودية. وهو غارق في الخيلاء، رأى بول بوت بأن بلوغ الاشتراكية يتطلب قلع الجذور وازاحة الجذوع وتغيير الاغصان والاوراق في بنية المجتمع القائم. في ذلك السياق تعهد صانع التاريخ الموهوب تنشأة انسان متميز يحب العمل الجماعي والتعاوني ويتجنب التجارة والكسب الفردي وينبذ الملكية الخاصة ولا يفكر بتحقيق المنافع الشخصية. غرق بول بوت بهوس انجاز المستحيل ودعا الى رفع حدة الثورية بين كوادر الحزب واعضائه واستعدادهم للتعامل مع القادم من الايام لكي يحققوا تطلعات وتنبؤات كارل ماركس ويقيموا المجتمع المتجانس واللاطبقي.
قبل ان تُطوى صفحة عام 1974، تأكد بول بوت من ازدياد بأس الخمير الحمر واتساع رقعة الارض المحررة، مما دفعه الى نقل مقر القيادة الى موقع متقدم يمكنه من الاعداد للهجوم الاخير والمرتقب على العاصمة فنوم بنه. مطلع 1975 لاحت تباشير ذلك الهجوم وزحف حوالي 30000 مقاتل يحملون السلاح على اكتافهم والرايات الحمراء بأيديهم والحماس في نفوسهم. خلال فترة الاعداد ملأ التثقيف الديماغوجي رؤوس المقاتلين بالآمال الفانتازية وخلق مجتمع العدالة والنعيم بعد ان يبيدوا الجراثيم ويستأصلوا الاورام الخبيثة ويبتروا جزءاً من القدم ليناسب حجم الحذاء ويحوروا الكتفين لكي ينسجما مع الرداء الذي صممته يدا رجل الاسطورة بول بوت ( سالوث سار ). بينما كان المهاجمون يتقدمون للانقضاض على الفريسة، استقل الطائرات وهرب من استطاع. بقي في العاصمة حوالي 2.5 مليون انسان تحت رحمة اللا معقول والمصير المجهول، ولا سيما ومخزون المدينة من المواد الغذائية لا يسد رمق نصف سكانها، مما رفع الاسعار الى عدة اضعاف. لم تعان المدينة من شحة المواد الغذائية فحسب، بل ومن نقص الادوية ومستلزمات العلاج ومن قلة الاطباء والكادر الصحي بعد ان هربت اعداد كبيرة منهم تفادياً للوقوع بين انياب الكارثة والظروف الشاذة. بعد ان تمكن المهاجمون من حسم المعركة لصالحهم، ابتدأت اجراءات تأسيس الادارة الجديدة وتشكل على الفور المجلس الوطني برئاسة احد اصدقاء بول بوت القدامى، والذي تم اعدامه على يده في فترة لاحقة. في تلك الانعطافة تغيرت صورة العاصمة وتحولت الى مشهد كاريكاتيري منفوخ ومملوء بالفقراء والبائسين والمصدومين الى جانب رجال هائجين يختزنون الحقد الطبقي وروح الثأر وثقافة الانتقام وتتطاير من عيونهم سهام العدوانية والكراهية. وهكذا، سقطت فنوم بنه بيد الزاحفين من الاحراش وهم يرتدون اللباس الاسود وابتدأوا بتفتيش البيوت وجمع الاسلحة الفردية واقتراف افعال تعبر عن الحقد الدفين للريف على الحضر لأن الاخير من وجهة نظر الاول يمثل الرذيلة والانانية والاستعلاء. ذُهل الاهالي عندما شاهدوا من بين المهاجمين فتية بعمر 12 سنة وهم يحملون بنادق اطول من قاماتهم. بعد بضعة ايام لاح في الافق ما هو مفجع وكارثي، اذ انتقل مقاتلي الخمير الحمر من بيت الى آخر يبلغون ويأمرون المواطنين بترك مساكنهم واخلاء العاصمة خلال يومين تحت ذريعة الحفاظ على حياتهم من خطر قصف الطائرات الامريكية.
عصفت الريح الصفراء وابتدأت رحلة الموت وانطلقت القوافل الى المجهول عندما غادر العاصمة 2 مليون انسان تقريباً تحملهم اقدامهم الى ما يشبه الابادة الجماعية وعلى ظهورهم او اكتافهم اكياس مقتنياتهم وفي دواخلهم الحنق والمرارة وفي رؤوسهم الكوابيس المرعبة. بعد ان انتهت عملية مداهمة وتفتيش البيوت ومصادرة ما هو ثمين وتحطيم الابواب المقفلة، تكدست مئات الآلاف من الذين لا حول لهم ولا قوة في الطرقات وخارج المدينة تحت شمس نيسان الحارقة. في مشهد مأساوي تركت العائلات مرضاها تموت على قارعة الطريق، ووضعت الحوامل مولودها تحت الشجيرات وخلف الصخور، ومارس الحراس عملية قتل كل من يتخلف عن المسيرة او يخالف الاوامر. وهكذا، عبر الانسان عن استعداده لتشويه آدمية اخيه في الخلق واذلاله وسحق كرامته وارغامه على السير في طريق الجلجلة وتذوّق مرارة الكأس. اثناء رحلة الافناء، جُرد المرحلّون من بعض مقتنياتهم، مثل الدراجات الهوائية وسيارات النقل الصغيرة وصودرت اجهزة الراديو والمسجلات والساعات اليدوية الفاخرة والعملات الاجنبية والكتب الثمينة والوثائق الشخصية في بعض الاحيان. بقصد الخديعة والوقيعة ارغم المرحلون على كتابة نبذة عن سيرتهم الذاتية وتاريخ حياتهم، تحت ذريعة الاستفادة من خبراتهم وكفاءتهم في النظام الجديد ووعدوا كذباً، بعدم اتخاذ اية اجراءات عقابية على خلفية ماضيهم السياسي. الغرض الحقيقي من ذلك كان لنبش ماضي الفرد وتحديد الموقف تجاهه بقصد الانتقام منه او تصفيته ان كان خطراً او ترحيلة الى اماكن نائية. جعلت تلك الظروف ان يحتفظ الانسان في خزين ذاكرته بقصة حزينة او هلوسة، مما دفع احدهم الى مقارنة نفسه مع ذلك الثور الذي يأكل عندما يقدم له سيده الطعام ويسحب المحراث خلفه بأمر منه، وتجف عواطفه بحيث ينسى التفكير بالزوجة والاطفال والاصدقاء. بغية اسر الانسان وتجريده من حرية اختياره، عزلت السلطة الجديدة العمال المهرة عن عائلاتهم واعادتهم الى العاصمة لكي يعيدوا تشغيل المصانع التي سبق وعملوا فيها. وتم ارسال المهندسين والاطباء والمحامين والمعلمين واساتذة الجامعة الى مجمعات خاصة تخت ذريعة تأهيلهم وتربيتهم على مفاهيم وبرامج الخمير الحمر حول الاشتراكية. بما يخص ضباط الجيش السابق وكبار موظفي الدولة ومسؤولي اجهزة الامن فلقد حصل ما هو اسوء عندما عانوا مع عائلاتهم الموت البطيء وعاشوا الذل والمهانة وقضى عدد كبير منهم اثناء فترة التأديب واعادة التأهيل واداء العمل البدني القسري. من الناحية الادارية، قسمت قيادة الخمير الحمر البلاد الى عدة مناطق تحت امرة ثوريين متطرفين يمتلكون التفكير الاحادي والمغلق، مما اشاع ثقافة المناطقية والمحاباة والتقاطعات وتنفيذ الاوامر والتوجيهات المركزية بمزاجية واجتهادات مختلفة ومتضاربة احياناً. في تلك البيئة امتزجت البربرية بالمثالية والرعب بالهلوسة والوحشية بشعور التعاطف مع الضحية واختلطت الخيلاء بالشكوكية ورجحت كفة التطرف على حساب الوسطية والاعتدال والعقلانية. على انقاض اجهزة الدولة السابقة، نهض للاضطلاع بإدارة الامور كادر الحزب الشيوعي الكمبودي الذين اتسموا بقلة الكفاءة والتجربة، لكنهم متسلحون بالتعصب الايديولوجي وقبول النصوص الماركسية كمسلمات لا تقبل المناقشة بشأنها او الاعتراض عليها.
دخل بول بوت فنوم بنه او الى ما يشبه مدينة الاشباح بعد ثلاثة ايام من سيطرة مقاتلي الخمير الحمر عليها وهو محاط بحماية مشددة ومن دون ان يعلن عن وصوله مسبقاً، وفي جو غابت فيه مراسيم الاستقبال والاحتفال. على الفور تم ابلاغه بأن عمليات الترحيل واخلاء العاصمة مستمرة بسلاسة وحسب الخطط المرسومة. بدلاً من ان يتنسم الكمبوديين عبق الحرية ويهنأوا، شعروا وكأنهم في سجن كبير لا تحيط به اسلاك شائكة او جدران. وبدلاً من ان يوفر لهم النظام الجديد العيش الكريم، نالوا لقاء ما يأدونه من عمل ليس النقود، بل حصة غذائية مقننة وبنوعيات متفاوتة تعتمد على الدرجة الحزبية وتتأثر بمستوى العلاقة مع الشخص المسؤول.
في اجواء الفوضى والغموض التي اشاعها الخمير الحمر، عاش المجتمع الكمبودي الهلع والحيرة والصدمة، مما فاجىء الطلبة العائدين من الدراسة في الخارج عندما لم يشاهدوا في المطار بشراً عادياً، بل مخلوقات تتحرك وتتصرف وكأنها قادمة من كواكب اخرى. ظاهرياً بدا هؤلاء كمبوديون اسيوون، لكن مظهرهم الخارجي اخفى انساناً لا يمت الى الواقع المألوف بصلة. ذلك كان الانسان الجديد الذي وعد بول بوت بتنشأته وتقديمه هدية لكمبوديا التي تستظل بالاشتراكية وبالعدالة الاجتماعية. اوغلت السلطة الجديدة بإجراءاتها الشاذة ووضعت المجتمع على المشرحة عندما قسمته الى ثلاثة اصناف: شمل الاول من يتمتع بالعضوية الكاملة في الحزب بحيث يتلقى الحصة الغذائية المتميزة ويحق له الالتحاق كضابط بالجيش او تبوّء المراكز المهمة والحساسة في الدولة. ضم الصنف الثاني المرشحين لنيل عضوية الحزب، وبالتالي تتوفر امامهم فرصة العمل في المواقع الاعتيادية في الدولة ويتسلمون السلة الغذائية العادية. اما الصنف الثالث فشمل المعادين للاشتراكية وللشعب والذين اعتبروا فلول النظام السابق وبقايا الشرائح الثرية واللبرالية. شددت اوامر القيادة على ابعاد من هم ضمن الصنف الثالث من كافة المواقع الحساسة في الدولة واخضاعهم للمراقبة المشددة والاستجواب المستمر وتزويدهم بالحصة الغذائية الشحيحة ومن النوعية الرديئة. الزمت توجهات بول بوت على اعتماد صنف المواطن كمعيار لتقييم اهليته ومساحة حقوقه ودرجة اخلاصه للنظام، ونبه الى ضرورة النظر الى الغرباء، وخاصة الفيتناميين بشكوكية واعتبارهم اعداء لشعب كمبوديا.
عندما يعتبر القائمون على ادارة الدولة النصوص الايديولوجية مسلمات ثابتة ونهائية او يفهموها بطريقة ساذجة ومزاجية، يفشلون بمد الجسور بين الرؤى الارتجالية والتطلعات الفانتازية وبين الواقع. بدلاً من اقامة مجتمع العدالة والرفاهية والحرية، نشر الخمير الحمر الرعب والعبودية والفقر واطلقوا العنان لدوافع الثأر والانتقام، تحت ذريعة اقصاء الاقطاعيين والاثرياء والعملاء واعداء الاشتراكية. في اجراء شاذ استنبطت القيادة مفهوم التمييز بين الشعب الاصلي وبين الشعب الهامشي او الذي تم ترحيله من المدن، لأن الاول يمثل الاخلاص والايمان برسالة الخمير الحمر، في الوقت الذي يبقى الثاني متذبذباً وفي دائرة الشك، مما يتطلب تأديبه وتأهيله او استئصاله. اوقعت تلك الظروف شعب كمبوديا اسير الذهول والحيرة وهو يرى الهوة العميقة التي تفصل الحقيقة عن الوهم والظلال، ويتابع خطوات الخمير الحمر وكأنها تدشن لعصر ينتصر فيه الجنون ويندحر العقل. من بين الاجراءات التي استحق عليها بول بوت نيل براءة الاختراع كانت الغاء التعامل بالنقود وجمع ما هو بين ايدي المواطنين وايداعها في خزينة الدولة، لأن النقود ( حسب رأيه ) تخلق مواطنين يتميزون بالثروة والجاه والنفوذ وآخرين فقراء محرومين وضعفاء. شعت من رأس سكرتير عام الحزب الشيوعي العبقرية عندما استنتج بأن النقود تحفّز الرغبة للتملك الفردي ولدافع الانانية، وغيابها يشيع حب العمل الجماعي والانخراط الطوعي بالنشاط التعاوني والتضامني. من اجل اضفاء الاعتبار المعنوي لذلك الابتكار تم تدمير بناية البنك المركزي الكمبودي وتحويلها الى حدائق وبساتين للاشجار المثمرة وللاعشاب الطبية.
دكتاتور كمبوديا يزيح القناع عن وجهه
أثناء جلسات المؤتمر الاستثنائي للحزب الشيوعي الكمبودي، المح بول بوت الى ضرورة تحقيق ما افرزته قريحته الخصبة من الرؤى التالية: 1- اخلاء كافة المدن من سكانها بغية القضاء على المقومات الفكرية والثقافية والاقتصادية للنظام السابق. 2- الغاء الاسواق وايقاف انشطتها التجارية. 3- عدم الاكتفاء بالغاء عملة النظام السابق فحسب، بل ووقف التعامل بالعملة الثورية الجديدة. 4- الزام كافة الرهبان البوذيين بالعمل في المزارع بعد انتزاع الصفة الدينية والروحانية عنهم. 5- اعدام كبار ضباط الجيش السابق الذين لم يعلنوا التأييد المطلق لنظام الخمير الحمر الاشتراكي. 6- تأسيس وتعميم الجمعيات التعاونية من اجل توفير الاحتياجات الاساسية للمواطنين. 7- تشجيع وترويج تناول وجبات الطعام في المطاعم الشعبية العائدة للدولة بدلاً من تحضيرها في المطابخ المنزلية، لأن ذلك يقلل التبذير وينفع الاقتصاد. 8- ترحيل كافة ابناء الجالية الفيتنامية المقيمين في كمبوديا. على خلفية الحقد الدفين على الجارة ورفيقة الايديولوجيا فيتنام، تم قتل العشرات من الفيتناميات المتزوجات من كمبوديين. انهى المؤتمر المذكور اعلاه جلساته بإعادة انتخاب بول بوت سكرتيراً عاماً، وجاء موك الشخص الثالث وكونغ سومال السابع في سلم القيادة. لكن في اليوم الذي تلا الانتخابات، تم اعتقال العضوين واختفت آثارهما بعد ان اسدل الستار السميك خلفهما. في ايار ( مايو ) 1975 اصدر بول بوت الاوامر بوضع نهاية للعبادات والديانات في كمبوديا وعدم الالتزام بالمقدسات او المحرمات التي تؤمن بها الاقلية المسلمة مثل تناول لحم الخنزير وما شابه. بالرغم من ممارسة البطش والترويع والاستئصال واستباب الوضع لصالح الخمير الحمر، لم تشعر القيادة بالامن والامان وابقت كل تحركاتها ومواعيد اجتماعاتها واماكن انعقادها سرية. يعتقد النظام الشمولي بأن الحزب القائد يستمد مقومات الديمومة طالما يرفل الرجل الرمز والاسطورة بالحياة وظلال شبحه خالدة.
عند تتبع خطوات وانجازات الخمير الحمر في اقامة الاشتراكية، لا بدّ ان يسجل لصالحهم النجاح في تحقيق العدالة وتطبيق المعادلة التالية: صفر لك وصفر له وصفر لهم. تحت ظل نظام بول بوت تفشت الامراض والاوبئة بسبب سوء التغذية وانتشار الحشرات الضارة والقوارض وتردي الخدمات الصحية وشحة الادوية او ردائتها، بالإضافة الى النقص الحاد في عدد الاطباء والجراحين والكوادر الصحية الوسطى. بدلاً من انقاذ المواطنين من تلك الظروف، أُرغموا على العمل لمدة عشر ساعات في اليوم الواحد والتمتع بيوم عطلة كل عشرة ايام، والذي خصص لحضور الاجتماعات الحزبية او الندوات الثقافية. بعد فترة قصيرة من تحكم الخمير الحمر بمفاصل الدولة، بدأ الرفيق السكرتير العام، ذلك المخلوق السري، يزيح اللثام عن شخصه ويبعد القناع عن وجهه، واظهر نفسه لعامة الناس وكأنه ذلك الملك الاله الذي افصح عن طبيعته السرمدية بوجه البشر. عند بلوغ تلك المرحلة، قطع بول بوت الاجزاء الاخيرة من الحبل السري الذي يربطه مع ماضيه النضالي، مما مهد البيئة لترعرع عبادة الشخصية ووفر التربة الخصبة لنمو ثقافة القطيع. لم يمض وقت طويل حتى خيم شبح الدكتاتورية ونضج مفهوم رجل الضرورة الذي ينبغي ان تتحول كلماته الى قوانين سارية لا تخضع للمناقشة او اجراء الاستفتاء بشأنها. بالنتيجة، ارسيت اساسات النظام الاستبدادي والشاذ في بلد، جافى دكتاتوره الحقيقة عندما وصفه بتلك الجزيرة الهادئة والهانئة التي يحيط بها عالم مضطرب ومتوحش. لم يكن بول بوت موفقاً او دقيقاً في تقييمه عندما اعتبر نظام الخمير الحمر الاشتراكي نموذجاً يجسد الانسانية والفضائل ويطبق الايديولوجيا الماركسية بأمانة. على ارض الواقع اوجد ذلك النظام وضعاً كارثياً ومأساوياً على معظم الاصعدة، ولا سيما سنة 1976 عندما تراجعت الزراعة وتناقص محصولها بدرجة مريعة وشحت المواد الغذائية. في النواحي الاسرية والاجتماعية، تغيرت الروابط والنواظم سلبياً وغاب دور الوالدين والنخب الفكرية والتربوية والروحانيين. تحت ذريعة تنشأة جيل متسلح بالتربية الشيوعية وبعقيدة الخمير الحمر، تم فصل الاطفال عن عائلاتهم بعد سن السابعة لكي يتأهلوا للحياة من خلال تشربهم التربية المطلوبة من الحزب لأنه اصلح من الوالدين ( حسب رأي القيادة ). لم تتطابق حسابات الحقل مع البيدر وفشلت البرامج التعليمية في اداء رسالتها وشحت وسائل الايضاح الهادفة ونقصت القرطاسية واللوازم المدرسية الاخرى وتردت نوعيتها. بالإضافة لذلك، تلكّأت وزارة التربية في اعداد وتأهيل المعلمين والكوادر المشرفة ووضعت بين ايديهم مواد تعليمية ومناهج مشوهة، مما تسبب في تراجع مستواه ونوعيته.
من البديهي ان ينتاب النظام الشمولي القلق الدائم، مما يدفعه لتصفية حساباته مع المعارضين البعيدين، ومن ثم الانتقال الى المقربين المشكوك بولائهم وايجاد الذرائع لإفتراسهم. منتصف سنة 1976 اتخذ نهج بول بوت منعطفاً خطيراً واوغل في البطش والتنكيل ونشر لهب ارهابه لكي تلتهم العديد من قادة الثورة ومن رعيلها الاول ومن المحاربين القدماء فيها. تم اعتقال بعض كبار مسؤولي الحزب وقادة القطعات العسكرية ووجهت اليهم تهمة الخيانة العظمى ومحاولة اغتيال بول بوت او التورط في مؤامرة لقلب النظام او العمالة لفيتنام. أُحتجز المعتقلون في مقر جهاز المخابرات السيء الصيت وتعرضوا للتعذيب الجسدي والنفسي بقصد انتزاع الاعترافات او فبركة الروايات الفانتازية التي استندت على هلوسة الضحايا. من بين الضحايا البارزين في تلك الحملة كان القيادي في الحزب سو فيم ( So Phim ) الذي اختفت آثاره وانقطعت اخباره بعد ان عانى من التعذيب الوحشي. في نفس الفترة اعتقل وعذب بقسوة شديدة وزير التجارة ثوون ( Thouun ) إثر اتهامه بالفساد، ومن ثم اقتيد الى منصة الاعدام وانتهت عليها حياته. استمرت التصفيات في وزارة التجارة، واعتقل الوزير الخلف سوون ( Soun ) مع 200 موظف، وبعد ثلاثة اشهر انقطعت اخبارهم واختفت آثار زوجة الوزير وابنائه. بين شهري تشرين الاول ( اكتوبر ) وايلول من السنة المذكورة تم اعدام 18 قيادياً وكادراً متقدماً في الحزب بالإضافة الى عدد من مسؤولي لجان التحقيق وادارة السجون تحت ذريعة ابداء اللين تجاه المعتقلين والتعاطف معهم. لم يكن لدوران عجلة البطش والاستئصال نهاية، إذ وجهت تهمة الانحراف عن المبادىء الى الرجل السادس في قيادة الحزب الشيوعي الكمبودي كيو ميس وعدد آخر من مسؤولي الفروع، مما ادى الى انزال عقوبة الاعدام بحقهم. في نفس الفترة اختفت آثار وزير الاعلام هو نيم ( Hu Neem ) وسكرتير الحزب في القاطع الجنوبي اوم لينع وشو شيت الذي كان احد ابرز مؤسسي الحزب. بعد تعذيب شو شيت وانتزاع الاعترافات منه، اعتقل 400 من كوادر القاطع الجنوبي واعدم عدد منهم. في القاطع الشرقي وقع في مصيدة بول بوت عدد من القادة العسكريين وبعض الاعضاء البارزين في اللجان الحزبية عندما تم استدعاءهم بحجة حضور اجتماع مهم. حالما وصل هؤلاء جردوا من اسلحتهم الشخصية وتمت تصفية بعضهم في الحال لأنهم عناصر غير مرغوب فيها ومشكوك بولائها للسكرتير العام. خشية التعرض للتعذيب ومن ثم الاعدام، اقترف بعض المعتقلين الانتحار. في فترة لاحقة افصح القاطع الشرقي عن جزء او جانب من الكارثة الانسانية الكبرى التي حلت بشعب كمبوديا على يد الخمير الحمر، ولا سيما عندما ازيل الغشاء عن العين لترى غابات تفترش الجماجم والهياكل العظمية لعشرات ومئات الآلاف من البشر. خلال شهرين فقط من سنة 1977 فاق عدد المعدومين من ضباط الجيش الكبار واعضاء الحزب والموظفين البارزين في الدولة عدد الذين اعدموا على امتداد سنة 1976. عندما انتقد بعض الوزراء سياسة بول بوت بشأن الزراعة التعاونية وقرار ايقاف التعامل بالنقود واغلاق غالبية الاسواق التجارية، انزعج الدكتاتور من ذلك، مما تطلب اختلاق اتهامات كذريعة لإنزال عقوبة الاعدام بحقهم.
اواخر شباط ( فبراير ) 1977 دارت الدوائر حول العاملين في مؤسسة الثقافة والاعلام لأن القيادة تنبهت لخطورتهم واصبحوا في دائرة الشك بشأن ولائهم لنظام الخمير الحمر، مما استوجب اعتقال 1500 منتسب في دار الاذاعة والتلفزيون. تم اعدام 700 من هؤلاء بعد ان ادينوا بالخيانة العظمى. من جانبها باركت السلطة تلك الاجراءات واعتبرتها انجازات هائلة على طريق بناء الاشتراكية عندما اطلق المذيع على الراديو في 14 نيسان البشائر للعشب الكمبودي وهنأه بتدفق الدماء الجديدة التي تنساب انهاراً في شرايين مؤسسة الاذاعة والتلفزيون. ولتبرير البربرية والتلاعب بمشاعر المواطنين، روجت وسائل الدعاية الموجهة بأن القيادة تسعى جاهدة لإنبات مزرعة نقية وخالية من الادغال والاشواك وتهيىء التربة لتنشأة فصيلة من البشر تؤمن بالايديولوجيا الماركسية والعيش تحت ظل اشتراكية الخمير الحمر. بالرغم من كل تلك الممارسات الوحشية، لم يشعر بول بوت بالطمأنينة والراحة، بل نبه القيادة الى الجراثيم التي لا تزال تطور قابلياتها وتعشعش في جسم الحزب وتسبب له انواعاً جديدة من الامراض. واوغل في طرح افكاره واشار الى ان نجاح النظام وتقدمه يترافق مع ترعرع فصائل اخرى من الفيروس، مما يتطلب ايجاد العقاقير لإفنائه وتطهير المجتمع من خطره. في تلك الاجواء الشاذة، برهن بول بوت على ايمانه برسالة العنف ومصداقيته في تنفيذ التهديدات حينما رفع شعار ( احرق الارض تحت اقدام الجماهير عندما لا تتعاون معي ). وهكذا بعث دكتاتور كمبوديا الحياة في فترة الرعب الستالينية واطلق حملات التصفيات الفردية والجماعية مثل ذلك الحصان الجامح الذي لا يتحكم اللجام بهيجانه. انيطت المسؤولية الرسمية والرئيسية لشرعنة الترويع والتطهير بمقر التحقيقات الرهيب توو لين لينع وبمحكمة S – 21 التي اصدرت احكام الاعدام بالجملة. في النصف الاول من سنة 1976 اصدرت المحكمة 400 حكم اعدام، وفي النصف الثاني ارتفع العدد الى الف، ومنتصف عام 1977 وصل عدد الضحايا الى الف تقريباً في الشهر الواحد، مما اودى بحياة عشرات الآلاف من اعضاء الحزب ومن المواطنين الآخرين. والاسوء ما في الامر تلقي المسؤولين الاوامر بضرورة تصفية بعض اقرباء المدانين الذين قد يلتجاؤا الى الانتقام والثأر لضحاياهم في فترة لاحقة.
اعتقد بول بوت بأن رؤآه واسلوبه في قيادة الدولة والحزب تعبر عن مضمون الماركسية التي اتخذها مثل الشيك الابيض الذي يستطيع ان يدون عليه ما يشاء. في الوقت الذي شيد في مخيلته تصاميم النظام الاشتراكي لصالح العمال والفلاحين والفقراء في كمبوديا، سفحت دماء مئات الآلاف من هؤلاء وامتهنت كرامة عشرات الآلاف، واودع في المعتقلات ومعسكرات التأديب الآلاف، وتعرضت حياة مئات الآلاف الى خطر المجاعة وعاشوا المرارة وفقدوا حرية الاختيار والامل في المستقبل، وتحول البشر الى مخلوقات من دون مشاعر او احاسيس انسانية. بدلاً من الشعور بالمسؤولية ووضع الاصبع على الجرح وتشخيص الخلل بغية ايقاف زحف الكارثة وامتدادها، استمر بول بوت في غيه وركب رأسه وعلق الاخفاقات والكبوات على شماعة المندسين في الحزب واجهزة الدولة وعلى الطابور الخامس، وخاصة عملاء فيتنام. بالتالي، غرقت كمبوديا في مستنقع البربرية والتوحش وفقدت الانسانية العقل والمنطق السليم ومعايير العدالة، مما اشاع صدور احكام الاعدام بالجملة كخيار اول وليس الاخير. عندما تتراجع القيم الانسانية ويغفو الضمير، تنتصر السادية والتلذذ بتعذيب الضحية وسماع صراخ تألمها، وتتزايد حالات وفاة المعتقلين بسبب تعرضهم للضرب الشديد على يد جلاديهم. في مشاهد مشينة بترت الاعضاء التناسلية لبعض المعتقلين وسحبت كمية من دمائهم لإستخدامها في المستشفيات، وفي منظر محزن يدمي القلوب بقرت بطون الحوامل واخرجت الاجنة من احشائها وعلقت على الاشجار تحت ذريعة ان ازواجهن من المتنفذين في النظام السابق او من فلوله.
تحت ظلال الاشتراكية وفي مجتمع الخمير الحمر، ترعرعت ثقافة العنف وتحول سفك الدم الى ممارسة مألوفة وممتعة، واعتبرت المشاعر الرقيقة نقصاً في الشخصية الشيوعية الاصيلة ومأخذاً عليها، لأن هذه الشخصية ينبغي ان تصقل نفسها في شدة المعاناة وقسوة الحياة وتستمد عنفوانها من الغلاظة والخشونة. يتمثل هذا النمط من الشخصية في النشيد الوطني للخمير الحمر الذي يقول: في كمبوديا، وطننا الام يسيل الدم الطاهر للعمال والفلاحين ودم الرجال والنساء والمقاتلين الثوريين ويتحول الى حقد لا يستكين وعنف لا يعرف المهادنة والى كفاح صلب يقودنا الى التحرر من العبودية والى افناء الاعداء
لم ترسُ سفينة شعب كمبوديا بقيادة الربان بول بوت عند شاطىء الامان، بل حلت به كارثة كبرى وتمزق نسيجه الاجتماعي واهتزت ركائزه الاسرية عندما بلغت نسبة الايتام من جهة الاب او الام او كلاهما 40% . بدلاً من صحوة الضمير والالتفات الى معاناة المواطنين، توجهت الجهود لغرس ثقافة عبادة الشخصية في العقول واختزال الوطن بشخص القائد التاريخي كما حصل في الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية والمانيا النازية وايطاليا الفاشية وفيتنام وكوريا الشمالية وفي غيرها من الدول التي تحكمت بها الانظمة الشمولية. من اجل فرض شبح القائد الضرورة على العقول، تم استدعاء مجموعة من الفنانين المشهورين وطلب منهم رسم صور لبول بوت بحيث تظهره ذلك الشخص الذي تفيض فيه المشاعر الانسانية ويتمتع بالكاريزما ( قوة الشخصية وتأثيرها على المقابل ). وفي نفس السياق اوعز الى النحاتين بنحت تماثيل نصفية لرمز الوطن بول بوت، وضمان ان يكون بعضها مصنوعاً من معدن الفضة. بسبب المحفزات والمغريات المادية الى جانب الضغوط التي مورست على النحاتين، ظهر بعد بضعة اسابيع تمثال بإرتفاع 25 قدم يمثل بول بوت وهو في وضع البطل المنتصر الذي يقود مجموعة من الفلاحين. بالرغم من اطلاق حزمة من الاصلاحات الاقتصادية الشكلية سنة 1978، لم تشهد الاوضاع السياسية اي تحسن، بل اتخذت حملات الاعدام والتصفيات منحاً تصاعدياً، ولا سيما عندما ادين الآلاف بالخيانة الوطنية العظمى، لأن دم العدو الفيتنامي يسري في عروقهم. وهكذا، أثبتت الوقائع بأن رئات النظام الاستبدادي والشمولي لا تتوسع وتتقلص لتنفس الهواء الا في اجواء البطش والترويع وان الدكتاتور لا يتحمل التعايش مع من يختلف عنه في الرأي او يعارضه، مما يدفعه في حالات كثيرة الى توهم الاعداء او ابادتهم ان ظهروا.
تحت ظل نظام الخمير الحمر الاشتراكي الذي دام ثلاث سنوات وثمانية شهور وعشرين يوماً، شعر الكمبوديون وكأنهم خارج التاريخ ويعيشون في غابة تتحكم بها الاسود والنمور والضباع الذين يسخرون الزواحف والغربان لنقل البشائر عن انجازات مملكة الحيوان. وبعد ليل ثقيل وطويل ومسيرة متعثرة داخل نفق حالك الظلمة، انبلج شعاع الضوء وازيح الكابوس عن الصدور المجهدة والنفوس المتألمة، وانتهت دولة الاستعباد واختفى وهج الفكر الستاليني والماوي الذي الهم الدكتاتور بول بوت. فقدت الديماغوجية رصيدها وساحريتها بعد ان تأكد استحالة ترجمة الحلول الماركسية المعلبة الى الواقع، وتهاوى وهم تحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق جعل جميع المواطنين ضمن حالة العامل والفلاح. من الغريب ان ينتهي عهد الخمير الحمر على يد رفاق الايديولوجيا في فيتنام، حينما زحفت قواتها العسكرية واجتاحت كمبوديا سنة 1981 بغية اسقاط نظام بول بوت. عندما دخلت تلك القوات العاصمة فنوم بنه، اضطر بول بوت وبقية اعضاء القيادة الى الهرب والاحتماء في الاحراش والجبال. عنذ ذلك المنعطف، اتخذ الدكتاتور الهارب قراره بحل الحزب الشيوعي الكمبودي ونبذ الايديولوجيا الشيوعية، وتحويله الى منظمة عسكرية تضم وطنيين غيارى ينذرون ارواحهم لمقاتلة الفيتناميين الغزاة ويطهرون ارض الوطن من دنس اقدامهم. عن طريق ذلك الاسلوب الديماغوجي، اراد بول بوت مخاطبة المشاعر وعزف على وتر الكبرياء الخميرية الاصيلة وعظمة الاجداد وامجادهم الذين استبسلوا وضحوا من اجل الكرامة. في الجانب السياسي والعلاقات الخارجية، وبطريقة دراماتيكية انقلب على حلفائه في دول المعسكر الاشتراكي حينما اعلن صراحة انحيازه للغرب الامبريالي تحت ذريعة غدر الشيوعيين به وغزوهم لوطنه واحتلاله.
تفاوتت تفسيرات المحللين بشأن التحول الدراماتيكي الذي طرأ على موقف ونهج بول بوت وانقلابه على معتقده الايديولوجي الماركسي. ذهب بعضهم الى الاعتقاد بأن الارتداد كان بمثابة التكفير عن الذنب واراحة الضمير والتهرب من تحمل مسؤولية الكابوس الذي خيم على كمبوديا. لكن بول بوت من جانبه حاول تبرأت نفسه من دم اكثر من مليوني انسان تم ابادتهم في فترة حكمه، وعلق الجرائم والفواجع على شماعة العملاء والخونة من حوله. بالإضافة الى ذلك، ادعى بأن الايديولوجيا الماركسية التي آمن بها الثوريون الكمبوديون بقيت في نطاق القشرة ولم تنغرس في اعماق المجتمع او تنضج في رحمه. لا تستطيع التبريرات الواهية مجابهة الحقيقة الرصينة ولا تقديم السلاء للمتألم والخبز للجائع ولا منح الساق والذراع لمن افتقدهما، ولا اعادة الحياة لتلال الجماجم والهياكل العظمية ولا تغرس البهجة في النفوس والقلوب المنكسرة ولا ترسم الابتسامة على الوجوه الحزينة. اشعل الخمير الحمر النيران التي التهمت خزين موروثات المجتمع وهشمت البلد واحالته الى تلك المزهرية التي تغدو قطعاً صغيرة ومتناثرة يستحيل لملمتها وشدها لبعضها. في غفلة من الزمن، انحرف التاريخ عن مساره الطبيعي، وجثمت على صدور الكمبوديين صخرة ثقيلة وصدرت من افواههم الآهات والانين والنحيب والعويل. حينها، شهدت البلاد عملية اغتصاب الانسانية التي اندحرت امام جبروت الدولة البوليسية والغوغاء والهائجين الشيوعيين الذين تسلحوا بمفهوم دكتاتورية البلوريتاريا كوسيلة تبرر غاية اقامة الاشتراكية.
عندما آمن بول بوت وقيادة الخمير الحمر بالايديولوجيا الماركسية وتكفلوا بإطلاق الكفاح المسلح الذي تتوج بتدمير الدولة السابقة وتدشين بناء الاشتراكية، لم يضعوا في الحسبان الى ما ستؤول اليه الامور. وربما لم يتوقعوا بأنهم يهرولون نحو حافة الهاوية. وربما لم يتعمد بول بوت نثر البذور في تربة لا تدر الناتج الجيد والوفير، وربما لم يع خطورة اقحام ايديولوجية غريبة على ثقافة وتقاليد وتجارب تاريخ قومه، مما يستحيل ترجمة مفرداتها الى نظام ينال قسطاً كبيراً من المقبولية وينعم بعناصر الحياة الطبيعية. ومع ذلك، يتحمل الخمير الحمر ورمزهم مسؤولية ما اقترفوه بشكل مباشر وغير مباشر، مما يُلزم المؤرخين اداء الامانة وتدوين اسماء هؤلاء في صفحات التاريخ السوداء. حينما يضطلع المرء بالمسؤولية الاخلاقية ويحلل بموضوعية ما وقع في كمبوديا وفي غيرها من الدول والاماكن، يشعر وكأنه يغوص في اعماق النفس البشرية ويتتبع الجذور الممتدة عبر آلاف السنين ويرى الظلم والشر والوحشية التي قد يمارسها الانسان عندما يمتلك السلطة والنفوذ في احدى يديه والساحرية والخداع في اليد الاخرى. في اجواء انفلات الغرائز العدوانية وغياب العقل والحكمة، يوهم المستبد مواطنيه ويزيف الحقائق ويظهر الندب السوداء والظليلة وكأنها مصابيح متوهجة، ويوحي للمشاهد وكأن منصات الاعدام مهرجانات للابتهاج بالانجازات المذهلة.
كوريا الشمالية تستظلّ بالراية الحمراء
تقع شبه الجزيرة الكورية في شرق قارة آسيا، ويحدها من الشمال وشمال الغرب الصين ومن الشرق بحر اليابان، ومن جنوب الغرب البحر الاصفر، ومن الجنوب ممرات مياه كوريا الوطنية. لم ينعم هذا البلد طيلة التاريخ الوسط والحديث بالاستقلال والسيادة الحقيقية على ارضه، بسبب تعرضه بإستمرار لتدخلات وهيمنة دول الجوار التي اعتبرته كياناً رخواً وضعيفاً لا يقوى على الصمود امام العمالقة. في القرن السابع عشر، احتلت الصين كوريا واذلتها وفرضت عليها تأدية اتاوات سنوية عالية، مما انهك اقتصادها وعرض شعبها لشبه مجاعة. نهاية القرن التاسع عشر، وبالتحديد سنة 1895، غزت القوات اليابانية شبه الجزيرة الكورية وجعلتها بلداً فاقد السيادة لحين انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 واستسلام اليابان لدول الحلفاء دون قيد او شرط. اثناء فترة الاحتلال جلبت اليابان اكثر من مليوني رجل كوري واحالتهم الى اسرى وارغمتهم على العمل في مصانعها لقاء اجر زهيد. بطريقة مهينة لكرامة الانسان، استقدم المحتل الياباني عشرين الف امرأة وفتاة كوريات ليصبحن نساء السلوى والاستمتاع الجنسي لأفراد جيشه. لم تقف الامور عند هذا الحد، بل تحولت موارد كوريا الطبيعية الى مواد خام تغذي شرايين الصناعة اليابانية، مما عرض الاقتصاد الوطني الكوري لأبشع انواع الاستغلال وافقده نصف قواه العاملة والمنتجة.
بعد ان استسلمت اليابان للحلفاء في آب ( اغسطس ) 1945، عاد عشرات الآلاف الاسرى الكوريين الى بلادهم ليجدوها ممزقة وتنهش في جسدها الصراعات التي تمحورت بين ثلاثة فصائل رئيسية/ ضم الاول المقاومين للاحتلال الياباني في الداخل، وشمل الفصيل الثاني الشيوعيين المنفيين او الهاربين الى الاتحاد السوفيتي والصين، وضم الفصيل الثالث اطياف الوطنيين الذين يرفضون الشيوعية ويعتبرونها تهديداً لموروثاتهم وتقاليدهم وعقيدتهم. كما يحصل دائماً للبلدان الهشة وغير المستقرة سياسياً واجتماعياً، تحولت كوريا الى مسرح لطرح الايديولوجيات وساحة لاستعراض العضلات للقوى العظمى، مما اسهم بشكل كبير في اذكاء الصراعات الداخلية في تلك البلاد. بغية احداث التوازن بين مصالح القوى العظمى، تم الاتفاق على ان يتمتع الاتحاد السوفيتي بالنفوذ في كوريا شمال خط العرض 38، اي نصف مساحة البلاد تقريباً والتي سميت منذ ذلك الوقت ( كوريا الشمالية )، وبقيت المنطقة جنوب خط العرض المذكور تحت ادارة ومراقبة قطعات الجيش الامريكي. وهكذا، شاءت الاقدار ان تتخلص كوريا من الاحتلال الياباني لتجد نفسها تحت هيمنة دولتين عظيميين. في تلك المرحلة من تطور الاحداث، برز دور كيم ايل سونغ على ساحة النضال الوطني، لا سيما وسبق وقاد مجاميع من الشيوعيين في حرب العصابات ضد الاحتلال الياباني. من المعروف عن كيم ايل سونغ انخراطه منذ مطلع شبابه بحزب العمال الكوري الشيوعي، مما يدلل على عدم كونه الشخص الذي اسس الحركة الشيوعية الكمبودية التي يعود تاريخها الى سنة 1919.
بعد فترة قصيرة من نشوء التيار الشيوعي في شبه الجزيرة الكورية، تهدد بخطر الانقسام واندلاع الصراع المسلح على خلفية بروز تياران متخاصمان داخله، مما دفع منظمة الشيوعية العالمية الثالثة ( الكومنترن ) للتحرك والزام الطرفين على وقف العنف وتوحيد الفريقين تحت قيادة حزب واحد. لحين تلك الفترة، لم يكن لكيم ايل سونغ دور مميز، لأنه كان لا يزال مجرد قائد لمجموعة مسلحة تقاتل المحتل الياباني. تدريجياً، وكرجل طموح، تسلق ليصبح احد البارزين في صياغة منهاج الحزب الشيوعي الكوري ورسم مستقبل البلاد السياسي، لا سيما ونال تأييد ودعم القيادة السوفيتية الستالينية التي سعت لجعله القائد الوحيد للحركة الشيوعية الكورية. آل ذلك الى سطوع نجم كيم داخلياً وخارجياً وتوفرت له الفرصة لإزاحة خصومه في الحزب ودفعهم الى الظل او تصفيتهم عن طريق الاغتيالات والاساليب الظلامية. وهكذا، اطلت القيادة الفردية برأسها ولاح شبح البطش الذي في مرحلته الاولى التهم مئات الاعضاء في الحزب والعشرات من كوادره المهمة، وفي مقدمتهم القيادي هون شون هيوك الذي اقتيد الى منصة الاعدام ولفظ انفاسه الاخيرة عليها. بعد ان طهر كيم صفوف الحزب لصالحه وشعر بمتانة الارض تحت اقدامه اطلق حملة ضد المثقفين اللبراليين والقوميين واودع اعداداً كبيرة منهم في المعتقلات وعلى رأسهم هومان سيك الذي نفذ به حكم الاعدام في 5 كانون الاول ( ديسمبر ) 1950.
لا بدَّ من العودة الى الوراء قليلاً، لكي نلقي الضوء على قرار الامم المتحدة سنة 1948 الذي نص على اجراء انتخابات عامة في شبه الجزيرة الكورية تحت اشراف المراقبين الدوليين بشأن تحديد شكل نظام الحكم في تلك البلاد. من جانبه، رفض كيم ايل سونغ تلك الصيغة واعلنت القيادة عن تأسيس جمهورية كوريا الشمالية الشعبية في التاسع من ايلول ( سبتمبر ) 1948 وعاصمتها بيونغ يانغ.
قبل ذلك التاريخ، كان الشطر الجنوبي قد اعلن عن قيام جمهورية كورية واحدة وعاصمتها سيؤول، لكن على ارض الواقع اصبح هناك كوريتان، شمالية وجنوبية تختلفان في ايديولوجية الحكم وفي المرجعية الدولية. حينها وعلى العموم، لم ينهض الكوريون لرفض ذلك الواقع او حتى الاعتراض عليه، لأن الصراعات الداخلية الطويلة وفترة الاحتلال الياباني واحداث الحرب الثانية كانت قد انهكتهم واذاقتهم المرارة، واعتقدوا بأن تلك الحقبة اصبحت شيئاً من الماضي. من جانبه، بدأ كيم ايل سونغ المدعوم من ستالين، بالتخطيط لغزو الشطر الجنوبي والحاقه بالشمال الشيوعي. الزعيم السوفيتي ستالين الذي كان لا يزال يعيش نشوة انتصارات الجيش الاحمر على النازيين، والذي آل الى تمدد رقعة نفوذه وازدياد تأثيره الدولي، بالاضافة الى امتلاكه السلاح الذري سنة 1950، اعطى الضوء الاخضر لزعيم كوريا الشمالية للزحف نحو سيؤول. اعتقد كلاهما بأن الحرب خاطفة والنصر سريع ومؤكد، خاصة، لأن الولايات المتحدة الامريكية كانت قد سحبت الجزء الاكبر من قواتها العسكرية وابقت على جيش صغير ومتواضع التسليح بالمقارنة مع جيش الشمال الجرار. يوم 25 حزيران ( يونيو ) من السنة المذكورة اعلاه، زحف ثمانون الف مقاتل كوري شمالي جنوباً واجتازوا خط العرض 38 واندفعوا بسرعة ودخلوا العاصمة سيؤول. لم تنتظر الولايات المتحدة طويلاً، بل أناطت على الفور بالجنرال ماك آرثر مسؤولية اعداد الهجوم المضاد والمدعوم بقصف الطائرات المكثف، مما ارغم قوات كوريا الشمالية الى الانسحاب بعد اسبوعين شمال خط العرض 38. واصلت القوات الامريكية تقدمها ودخلت عاصمة الشمال، بيونغ يانغ، مما أثار قلق الصين الشعبية ودفعها لإعداد مليون مقاتل لدعم كوريا الشمالية. ادى تدخل الصين العسكري الى انعطاف كبير في مسار الحرب وحولها الى معارك كر وفر، مما انهك الطرفين ودفعهما الى تغليب لغة الدبلوماسية والجلوس على طاولة الحوار. انطلقت مفاوضات السلام وادت الى انهاء الحرب الكورية في 27 حزيران ( يونيو ) 1953، والتي بموجبها انسحبت قوات الطرفين الى شمال وجنوب خط العرض 38 من دون ان يكون هناك منتصر ومندحر، واحتفظت كلا الكوريتين بنظاميهما المختلفين ايديولوجياً. نصت احدى فقرات الاتفاق على ايجاد منطقة حياد بين البلدين، لكنها اخترقت لمرات كثيرة من الجانبين واستمرت المناوشات والهجمات الموضعية والمتقطعة لفترة. لم يحصد المواطن الكوري خلال فترة الحرب سوى المعاناة وشظف العيش وازهاق الارواح، اذ سقط اكثر من نصف مليون مدني كوري شمالي و 400000 مقاتل، بالاضافة الى آلاف المصابين والمعاقين. بالمقابل، سقط 50000 كوري جنوبي و 57000 جندي امريكي.
بعد انتهاء الاقتتال بين الاخوة، توقع الكوريون في الشطر الشمالي بزوغ فجر مشمس، وعقدوا الآمال على فردوس العمال الذي وعدهم الشيوعيون بإقامته على ارضهم. وتطلعوا الى العيش الكريم والنوم الهانىء والخالي من كوابيس ومآسي الماضي. لكن، بدلاً من ان يبادر نظام كيم ايل سونغ الاشتراكي الى تضميد الجراحات وتحسين احوال المواطنين وتهيأة السكن اللائق لهم واشاعة الحرية وصيانة الكرامة، توجهت اهتمامات دولة العمال والفلاحين الى عسكرة المجتمع وتأسيس الاجهزة الامنية والبوليسية المرعبة واطلاق ابواق الدعاية المؤثرة بقصد غسل الادمغة وتخدير العقول وايهام الناس. اشاع النظام سياسة القطيع وسخر الجماهير المسحورة كوسيلة لإضفاء الشرعية على قبضة الدولة الحديدية على المجتمع، تحت ذريعة ترصين الجبهة الداخلية وتطهيرها من اعداء الاشتراكية ومن الخونة والعملاء.
عندما لامست الايديولوجيا الماركسية والبولشفية اللينينية قلوب وعقول الكوريين، ترعرع تيار فكري تمثل بالرعيل الاول من الشيوعيين الكوريين الذين التحقوا بمدارس الكادر الحزبي في الاتحاد السوفيتي، وغمرتهم الرومانسية وتطلعوا الى تحرير بلادهم من الاحتلال الياباني واقامة الاشتراكية فيها. لكن مع تطور الاحداث اتخذ كيم ايل سونغ منحاً خاصاً به واستخدم الماركسية اللينينية حصان طروادة لتنفيذ مآربه ووضع بصماته وبناء الاشتراكية حسب رؤآه. بعد ان استقرت الامور لصالحه، انغلق على افكاره واتخذ اسلوباً خاصاً في التنظير وتحوير الايديولوجيا الماركسية وتكييفها بما يلائم الوطنية الكورية والعقيدة الكونفوشوسية ( حسب رأيه ). على طريق تشديد قبضته والتحكم بالحزب والدولة والمجتمع وزرع الرعب في القلوب ومنع بروز تكتلات معارضة او منافسة، اطلق يد اجهزة القمع لتصفية واستئصال القياديين والكوادر المتقدمة غير المرغوب فيها. تتوجت تلك الحملة بتصفية او ابعاد 17 قيادياً في الحزب من مجموع 22. في آب ( اغسطس ) 1953 تمت تصفية مجموعة اخرى بتهمة التجسس والتآمر لإسقاط النظام، واعدم لي سونغ احد كبار موظفي وزارة الداخلية وشو ما يونغ نائب وزير الثقافة والاعلام. في نفس السياق ادين بالخيانة وزير الخارجية باك هون يانغ ونفذ به حكم الاعدام بعد ثلاثة ايام من اعتقاله في كانون الاول من السنة المذكورة اعلاه. لم يتوقف البطش تحت ظلال دولة دكتاتورية البلوريتاريا ومع استمرار بناء صرح الاشتراكية، وتصاعدت وتيرته سنة 1966 عندما ادين واعدم عدد كبير من كوادر الحزب وجنرالات الجيش. في 1969 نفذت عملية امنية ضد طلبة معهد اللغات الاجنبية في العاصمة بيونغ يانغ وانقطعت اثرها اخبار 80 طالباً، ومن حالفه الحظ ونجا من حبل المشنقة احتجز في معسكرات التأديب واعادة التأهيل. ابرز ضحايا تلك الحادثة كان باك كوم شول الذي سبق وكان عضواً في المكتب السياسي لحزب العمال الكوري الشيوعي ونائباً لرئيس الوزراء. اظهرت الاحصائيات خلال اقل من عقد من حكم كيم ايل سونغ، اعدام 90000 مواطن، بالاضافة الى طرد الآلاف من الحزب وترحيلهم الى مناطق نائية او حجرهم في معسكرات التأديب واداء العمل البدني القسري.
بقصد التعقيم وعزل كوريا الشمالية عن العالم الخارجي، اسدل نظام كيم ايل سونغ الستار الحديدي حول البلاد واغلق ابوابها تقريباً بوجه الاجنبي، وحذرت الاوامر الزائرين والغرباء من تبادل الحديث او الاختلاط بالمواطن. بالاضافة لذلك، تم وضع الجميع، من ابسط فرد الى اعلى عضو في الحزب او مسؤول في جهاز الدولة تحت المراقبة واخضعت المواد المرسلة عبر البريد ومكالمات الهاتف وكافة الصحف والمجلات والمطبوعات الى الرقابة والتدقيق الصارم. تمادت القيادة في اهانة الانسان الكوري وشوهت آدميته وارهنت مصيره للاجهزة القمعية عندما تم تقسيم ابناء المجتمع الى ثلاثة اصناف تتباين درجة المواطنه فيها، مما آل الى اصدار عقوبات قضائية متفاوتة حتى وان تساوت الجريمة وتطابقت ظروف ارتكابها. اندرج تحت الصنف الاول من المواطنين اصدقاء القيادة او المقربين اليها وبقية الموالين المخلصين، وتضمن الصنف الثاني المحايدون الذين يمضون فترة الاختبار، لأن ولاءهم لا يزال مشكوك فيه او غير محسوم. شمل الصنف الثالث الاعداء الذين مصيرهم الافناء او الرمي في المعتقلات او الحجر في معسكرات التأديب والتأهيل. وفي مواقف مستهجنة تدخلت المنظمة الحزبية بخصوصيات الفرد العائلية ودست انفها عندما كان الشاب يختار زوجته او بالعكس.
بالرغم من انحراف كيم ايل سونغ عن الكثير من المفاهيم الماركسية وتلاعبه بالشيك الابيض الذي اصبح في يده، فهو حافظ على بعض القواسم المشتركة والممارسات الاستعراضية، واستخدم اللغة التي تخاطب العواطف والتزم بالشكليات التي تؤطر الذهنية الجماعية، مثل رفع العلم الاحمر وشعار المنجل والمطرقة واطلاق مفردة الشيوعية في كافة المناسبات والاجتماعات والاحتفالات. في الجانب التنظيمي، اتبع اسلوب التسلسل الهرمي في الحزب، والذي يبدأ من الاعلى بالمكتب السياسي ثم تليه اللجنة المركزية والفروع واللجان التابعة وتنتهي بالخلايا التي تتغلغل بين الجماهير. على صعيد التثقيف الحزبي، الزم كيم جميع الحزبيين بالديمقراطية المركزية والنقد الذاتي، ورفض كافة اشكال المعارضة او التكتلات او الانحراف عن الخط المرسوم من قبل القيادة. في المجال الاقتصادي والاجتماعي، انتهج اسلوب الاقتصاد الموجه والزراعة التعاونية وشجع العمل الجماعي الطوعي وعزف على وتر الايثار والتضحية من اجل المصلحة العامة. في تلك البيئة السياسية والفكرية، ترعرع في كوريا الشمالية النهج الستاليني في ادارة الحزب والدولة، وامتزجت سمات النظام السوفيتي البولشفي مع الرؤى والمزاجية الشخصية ومع مبادىء العقيدة الكونفوشوسية، الى جانب هوس كيم ببناء الامجاد له ولعائلته وهو يصيغ مستقبل كوريا الاشتراكي بأنامله ويضع بصماته على كافة الانشطة.
الارتقاء بالانسان لا يستقيم مع كسر ارادته او اهانته
تحت ظلال نظام كيم ايل سونغ الاشتراكي، بدأ المواطن الكوري الشمالي يلعن قدره بصمت، وكتم غيضه في اعماقه وحبس انفاسه بعد ان سلبت ارادته وامتد امامه المستقبل الغامض. تقلصت فسحة الحرية الشخصية واختفت الحقوق اثر تأميم او مصادرة الملكية الفردية وتحريم الزراعة الخاصة بعد ان ارغم المزارعون والفلاحون وملاك الارض السابقين على الانخراط والعمل في الزراعة الجماعية الحكومية وشبه الحكومية. بالرغم من استعانة كوريا الشمالية بالاتحاد السوفيتي والصين الشعبية في مجال المكننة وتجارب الزراعة الاشتراكية، فشلت الخطط الخمسية الفانتازية وتراجعت الزراعة وقلّ محصولها وتردت نوعيته، مما تسبب بموجات متعاقبة من المجاعة التي حصدت ارواح اكثر من مليون ونصف مواطن. في الفردوس الذي بشر كيم شعبه بتأسيسه في المجتمع المتجانس، عاشت غالبية المواطنين خلال اكثر من خمسة عقود على حافة المجاعة او دون خط الفقر، وحرموا من تناول الغذاء اللائق، مما اضطرهم الى اصطياد العصافير ومسك الضفادع وذبح الكلاب بغية تذوق اللحم. حينها، اظهرت دراسة لمنظمة اليونسيف ( UNICEF ) ان ثلثي اطفال كوريا الشمالية يعانون من الامراض المزمنة بسبب سوء التغذية ونقص الفيتامينات، وان 15% منهم مهددون بالوفاة المبكرة. واظهرت تقارير هذه المنظمة ان غالبية الناشئين في كوريا الشمالية بطول ووزن دون المستوى الاعتيادي، مما قد يؤول الى ظهور جيل لا يتمتع بالنمو الطبيعي الذي لا يمكن تعويضه في فترة لاحقة. الى جانب ذلك، اشارت الدراسة الى ان معدل وزن الطفل في كوريا الجنوبية عند عمر السابعة 26 كغم وطوله 120 سم، بالمقابل ظهر وزن قرينه في كوريا الشمالية 22 كغم وبطول 115 سم.
بدلاً من مراجعة الذات وتشخيص مكامن الخلل ووقف المأسات الانسانية وتخفيف معاناة المواطن، اوغل النظام بالخداع والاستخفاف بعقلية الانسان وايهامه عن طريق الذرائع ووضع اللوم على الامبريالية واذنابها في الداخل وعلى كوريا الجنوبية واليابان. تحت ذريعة الصمود امام الاعداء ودحرهم، صمم كيم على تطوير الصناعة العسكرية على حساب قوت الشعب، ووسع رقعة عمليات جيشه الضخم لتشمل معظم الساحل الشرقي، مما تطلب جعله منطقة محرمة على صيادي الاسماك الذين يوفرون جزءاً مهماً من الغذاء للمواطنين. بغية بسط سطوة النظام وكسر ارادة المعارضين او المختلفين معه، استنتخ كيم التجربة الستالينية والماوية والنازية واقام معسكرات او مجمعات العقاب الجماعي والتأديب واداء العمل البدني القسري. ابدع دكتاتور كوريا الشمالية في الاداء والتقليد عندما انشأ ما يشبه القرى او المعازل النائية التي تستيطع استضافة اعداد اكبر من المحتجزين في ظروف قاسية وغير انسانية، تكدست في تلك المواقع مئات الآلاف الذين تم عزلهم عن محيطهم تماماً ولم يسمح لهم المغادرة لأي سبب كان خشية انكشاف الاسرار واطلاع العالم على ما يجري هناك. بالرغم من الحراسة المشددة، حالف عدد قليل من المحتجزين الحظ وهربوا الى كوريا الجنوبية ليقدموا انفسهم شهوداً امناء على الجرائم البشعة والممارسات المهينة التي تقترف في تلك المعازل. وضع الفارون المعلومات الدقيقة بين ايدي المعنيين في منظمة العفو الدولية والصليب الاحمر، ومن بين هؤلاء الفارين الصحفي كانغ شول الذي سبق واحتجز في احد المعازل سنة 1977 عندما كان في عمر الحادية عشر بمعية كافة افراد اسرته لا لذنب سوى ارتباطهم بصلة القرابة مع احد الذين عارضوا او انتقدوا سياسة كيم ايل سونغ. لم يُعامل المحتجزون معاملة العامل الاجير، بل كأسير عليه تأدية العمل الشاق منذ الخامسة فجراً والى مغيب الشمس لقاء وجبات غذائية رديئة وشحيحة لا تشبع معدتهم، مما اضطرهم الى اكل الضفادع وديدان الارض والجرذان وجذور بعض الادغال. بالتالي، اصاب عدد كبير من هؤلاء مرض هشاشة العظام وسقوط الاسنان المبكر وفقر الدم وغيره. منع الصغار في تلك المجمعات من الالتحاق بالمدارس الاعتيادية واصبح لزاماً عليهم نهل المعرفة والتربية الخاصة خلال دورات تعليمية يديرها اعضاء الكادر الحزبي الذين يلقنون الاطفال مفاهيم وافكار الاب الروحي للشعب والوطن، الرفيق القائد كيم. بشكل صارم وقاطع، حذر القائمون على المجمع المحتجزين من ظاهرة التمرد او اثارة الشغب لأن ذلك يكون بمثابة العصيان الذي عقوبته الاعدام. في مشهد هز الضمير وارجف الجسم وادمى القلب، حوكم البعض بالرجم بالحجارة وارغم زملاؤهم على المساهمة بالرجم الى ان يفارق المدان الحياة وهم يهتفون ( الموت لخائن الشعب). في حالات نارة جداً، اخلي سبيل بعض المحتجزين وسمح لهم بمغادرة المجمع بعد ان قدموا التعهد الخطي بعدم البوح بما جرى وشاهد وبعدم الادلاء بأية معلومات تدلل على المكان الذي كان محتجزاً فيه.
فاقت بشاعة ما مورس في مجمعات العمل القسري ومعازل التأديب في كوريا الشمالية مثيلاتها التي اقامها ستالين في الاتحاد السوفيتي، لأن الاولى اكرمت وفتحت ذراعيها ليس للمدان فقط، بل ولعائلته من الحفيد الى الجد واحياناً للأقرباء من الدرجة الرابعة والخامسة. قبع في تلك المجمعات لفترات طويلة اشخاص اتهموا بإطلاق دعابة او نكتة تمس كيم ايل سونغ او وطأت قدمهم على جريدة تزينها صورة كيم ايل سونغ او نجله او قاموا عمداً بتمزيقها. انعشت تلك الاجواء المكيدة والافتراء والتلاعب بمصير عشرات الآلاف الذين اقتيدوا الى منصة الاعدام او القي بهم في المعتقلات او احتجزوا في مجمعات التأديب واداء العمل القسري. لم يكن الهدف الاساسي التقويم واعادة التأهيل، بل الترويع والاذلال واستغلال جهد الانسان لبناء الامجاد للقائد الضرورة. في هذا السياق، ارغم المحتجزون على العمل في المناجم وتعبيد الطرق وتكسير الصخور وقطع جذوع الاشجار او في المزارع لمدة 72 ساعة اسبوعياً لقاء وجبات غذائية متواضعة تمدهم بالقوة لمواصلة العمل الاستعبادي. لا بدّ ان يهتز الضمير وربما تدمع العين، حينما لا يرى الانسان امامه في تلك الاماكن سوى هياكل عظمية تكسوها شرائح رقيقة من الانسجة والعضلات، مما تسبب بإرتفاع نسبة الوفيات الى 20%. في الوقت الذي ارتدى نظام كوريا الشمالية عباءة الاشتراكية وتغنّى بتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان حقوق المرأة، لم يرحم او يحترم الانوثة، ولا سيما وارغمت النساء الحوامل في المعتقلات على الاجهاض، والتي تضع وليدها يقضى عليه في الحال، تحت ذريعة ان الام البرجوازية او المعادية قد يحمل وليدها جينات السلف الضارة والخطرة.
في الظروف الخانقة التي سادت كوريا الشمالية، تخلّى العديد من كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين عن مناصبهم وتركوا عائلاتهم وفضلوا تنسم الحرية خارج الجدران التي احاطت ببلادهم. بالرغم من الاجراءات الانتقامية التي تتعرض لها عائلات المنشقين، تطلع هؤلاء الى العيش بعيداً عن الوطن الذي يهتف مواطنيه يومياً ولمرات عدة بالعمر المديد والحياة الخالدة لدكتاتوره. آثر هؤلاء الغربة الخالية من كوابيس الاحتجاز في مجمعات التأديب ومن ممارسة طقوس عبادة الشخصية واداء النقد الذاتي والاعتراف بالخطايا والذنوب امام المسؤول الحزبي ومن مشاهد منصات الاعدام العلنية. لكن بعد ان يحالف الهارب الحظ ويصبح خارج فردوس العمال، تدفع عائلته الثمن الباهض وتحتجز في مجمعات اداء العمل القسري، وتعتبر مارقة يستوجب نبذها وعدم الاختلاط بها. بالإضافة لذلك، يطرد الاقرباء من مراكزهم المهمة والحساسة وتحجب عنهم الرعاية الصحية المجانية وتتحول الاعانة الغذائية الممنوحة لهم الى نوعية رديئة.
عندما تعرضت كوريا الشمالية لعدة موجات من المجاعة، اضطر عشرات الآلاف من مواطنيها الى الهرب صوب الصين والعمل في ظروف صعبة لقاء اجور زهيدة او تلقي وجبات الطعام فقط. اقدمت بعض العائلات على بيع اطفالها بعد ان اصبحوا عبئاً لا تستطيع تحمله، ومن المؤلم ان بعضها عرضت بناتها في سوق الدعارة بدافع كسب الرزق. لحسن الحظ استيقظ ضمير الانسانية من غيبوبته وتصدى لتلك المأساة حينما هبت منظمات الاغاثة الدولية والقائمين على الحملات التبشيرية لمساعدة الكوريين الهاربين وايصالهم الى كوريا الجنوبية عبر بلد ثالث. استقطبت قضية المواطن الكوري الشمالي تعاطف الجهات الدولية الفاعلة، لأنه مهدد ليس فقط بالمجاعة، بل بالبطش وسياط التعذيب وحبال المشانق ومجمعات التأديب. في الوقت الذي عاشت غالبية المواطنين ظروفاً قاسية في النواحي الغذائية والخدمات العامة والصرف الصحي، بلا مبالات وبوقاحة استورد كيم ايل سونغ ارقى مستلزمات الحمامات والمطابخ والمرافق الصحية وافخر الاثاث والستائر والسجاد والحرير والرخام والهدايا بأغلى الاثمان. سكن غالبية المواطنين في بيوت ضيقة تفتقر لأبسط مقومات الحياة اللائقة، لكن الدكتاتور وعائلته وحاشيته وزبانيته امتلكوا القصور والفلل الفارهة والجنينات ومرائب لوقوف احد انواع سيارات المرسيدس الالمانية. بغية الالتفاف على العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، تم دفع الرشاوي والتعامل مع اكثر من وسيط، مما جعل سعر المشتريات اضعاف سعرها الحقيقي وعلى حساب قوت الشعب والمال العام.
بغية تظليل المواطن والهائه عن همومه، اشاعت وسائل الدعاية المركزية مفاهيم مفادها ان الغرب الامبريالي لا يعير اهمية للقيم والاعتبارات الاخلاقية وللحريات الحقيقية، بل للنقود والثروة، مما يجعل الفرد هناك، بعكس الانسان الكوري الشمالي، عبداً للماديات والمصالح الذاتية. استخف الاعلام المؤمم ووسائل التثقيف بعقول المواطنين عندما نصحوهم بالاكتفاء بتناول وجبتين من الطعام يومياً بدلاً من ثلاث، لأن ذلك يمدهم بالصحة الجيدة. من المفارقات ان يكيل دار الاذاعة لمدة 24 ساعة يومياً الشتائم ويتهجم على الامبريالية وينعتها بالشيطان والعدو اللدود لشعب كمبوديا، لكن في الوقت ذاته يرسل النظام عدداً من الطهاة برفقة مترجمين يجيدون الالمانية الى النمسا لكي يشتركوا في دورات متخصصة بالطهي. قام هؤلاء بزيارات للمطاعم الشهيرة بغية الاطلاع على افضل الطرق في اعداد الوجبات الشهية والمعجنات والمقبلات التي تجعل جسم الرفيق القائد ممتلئاً وبهياً ومهاباً. لم يتوقف الاستهتار عند هذا الحد، بل تم ايفاد مجموعات من مهندسي ميكانيك السيارات الى المانيا الغربية ليتدربوا على صيانة سيارات المرسيدس التي تخص مواكب كيم وعائلته وحمايته. من هذه الممارسات ينطبق على دكتاتور كوريا الشمالية المثل الآتي: يوعظ الآخرين ويرشدهم ويحثهم على شرب الماء ويعدد فوائده، لكنه شخصياً يحتسي النبيذ المعتق. ولتكريس ذلك النهج والايغال به، استدعى المعنيون سنة 1969 مجموعة من ابرع واكفأ المهندسين والفنيين لكي ينجزوا منافذ التهوية لقصر تم تشييده تحت الارض في جبل كثيف الاشجار والاحراش والذي يقاوم اي هجوم ذري او نووي. عندما وطأت اقدام هؤلاء ذلك القبو، انبهروا بالزخرفة على الجدران وبمنظر ثريات الكريستال الاصلي تحت السقوف وبالستائر الحريرية والسجاد النادر والاثاث الفاخرة والثمينة ومطابخ عالم الخيال. في تلك المطابخ نسي المهندسون واقعهم المر وغرقوا في الوهم وسال لعابهم لنكهة الاطعمة الشهية، لا سيما وهم يعانون من شحة ورداءة زيت الطبخ ومن قلة الرز واللحوم. ولذر الرماد في العيون ونشر الظلال، دونت في بعض الاماكن مقتطفات من اقوال كيم ايل سونغ التي تعبر عن تعاطفه مع ابناء وطنه وتحسسه لمعاناتهم. اظهرت احدى المقتطفات الكلمات التالية: ( عندما يعاني شعبي، اتألم انا واعاني اكثر، وعندما يتعرض المواطنون للغبار، التهم انا التراب ).
النظام الشمولي ينجب عبادة الشخصية
لعبت الدعاية المؤثرة ( Propaganda ) والاعلام الموجه دوراً مركزياً في تكريس عبادة شخصية كيم ايل سونغ، ووصفته بذلك الدماغ الذي لا يمثّل فقط غرفة العمليات لتوجيه الفرد، بل انه الموقع الذي ينظم ويدير كافة انشطة المجتمع. بالتالي، لا يستطيع شعب كوريا الشمالية الاستغناء عن تلك القوة الخارقة التي اصبحت جزءاً من مشاعره واحاسيسه وتتلمس احتياجاته. في تلك البيئة الذهنية والسياسية، تحول كيم الى ما يشبه الاسطورة التي الهمت مؤلفي الميثولوجيا الى الكتابة عن طفولته ونشأته وقابلياته اللامحدودة. ازدادت قريحة المهرجين خصوبة، مما مكنهم من نسج الروايات الفانتازية التي اظهرت كيم ذلك الشخص الذي اذا نظر الى السماء المدلهمة بالغيوم والسحاب، تصحو على الفور وينفتح المجال امام الشمس لتنشر ضياءها. واسبغ المتملقون والنفعيون عليه الالقاب ووصفوه بملك الشمس او بشمس الوطن والامة والنجمة السماوية الحمراء وينبوع الحكمة ومنقذ البلاد وحاميها الذي يبقى يحرسها حتى بعد ان يفارق الحياة. تطرّف ذوو النفوس الضعيفة من الادباء والمؤرخين بالمديح والتزلف وغرسوا بأذهان البسطاء بأن طيف القوس والقزح سوف ينشر الوانه فوق ضريحه على مدار السنة بعد وفاته. كوسيلة لبسط شبح كيم على العقول بعد تفريغها واعادة شحنها صدرت الاوامر بحجب اية جريدة لا تعرض صورته على صفحتها الاولى، ومنع طبع اي كتاب او مجلة لا تحوي مقتطفات من احاديثه. بالنتيجة، اصبحت كل كلمة يتفوه بها مادة اعلامية وثقافية وفكرية ينبغي على الصحفيين والاعلاميين نشرها او بثها خلال كافة وسائل الاعلام المرئية والمقروءة والمسموعة. لم تقتصر مهمة تكريس عبادة الشخصية على النشاطات الكتابية فقط، بل شملت الرسامين والنحاتين والشعراء والمصورين عن طريق ريشتهم وفرشاتهم وازميلهم وقريحتهم وكاميراتهم التي جميعها تمجد القائد وترفعه الى مصاف لا يستطيع الانسان العادي بلوغه.
اجتهد المتملقون والوصوليون بإبتكار اساليب لتمجيد شخصية كيم بطرق متنوعة، مما جعلها طقوساً ينبغي على الكوريين الشماليين من اعلى مستوى الى ادناه ممارستها. الى جانب ذلك، تطلب من الجميع الالمام بمسيرة حياته والتعمق بأفكاره وسبر غور عبقريته والاستنارة بتعاليمه خلال الندوات الثقافية التي تقام كل سبت. بقصد انجاح ذلك النهج وتشجيع المواطنين، نظمت المباريات التي تخص تلاوة احاديث كيم عن ظهر قلب، والذي يحفظ الاكثر منها ويفوز، يحصل على سفرة مجانية الى منطقة سياحية داخل الفردوس الذي اسسه الاب الروحي للامة الكورية. في تلك الاجواء ترعرعت وترسخت ثقافة عبادة القائد الضرورة وراجت طروحاته وتطبيقاته الخاصة حول الاشتراكية على حساب مفاهيم رموز الشيوعية كارل ماركس وانجلز ولينين. تدريجياً، اختفت صور ورسومات الرجال الثلاثة وازيلت من معظم الساحات العامة والمحلات الخاصة، لكي ينفتح المجال لظهور صور وتماثيل كيم ايل سونغ ونجله ايل. في الوقت الذي عاشت كوريا الشمالية ظروف الاسر الايديولوجي والانغلاق الفكري، وفقدت المنابع العالمية الغزيرة التي ترفد الثقافة الوطنية، غرقت دور النشر والمكتبات العامة ومحلات بيع الكتب بالكتيبات والكراريس والمطبوعات الهزيلة التي تحوي احاديث وخطابات وارشادات القائد كيم. من المعلوم ان البابوية في روما العصور الوسطى رفضت فتح خزائنها المتخمة لإطعام الجياع واكساء العراة واسكان المشردين، لكنها انفقت المبالغ الطائلة وسخرت الطاقات الهندسية والمعمارية والفنية لبناء الكاتدرائيات وزخرفتها. بطريقة مماثلة الى حد ما، اهدر كيم اموال الشعب وارهق اقتصاد البلاد للتسليح واقامة النصب التذكارية ونحت التماثيل الخاصة به وتشييد القصور له ولعائلته ولحاشيته من دون ان يبالي بالمقهورين الذين لم يتمكنوا من عمل شيء سوى اطلاق الآهات والحسرات وكظم الحنق.
سنة 1994 رحل الصنم عن دنياه إثر نوبة قلبية، لكن شبحه استمر يؤرق الكثيرين وخياله ماثلاً امامهم وظلاله جاثمة في طول البلاد وعرضها. بقي الراحل في خزين الذاكرة، لا سيما والآلاف من تماثيله تنتصب هنا وهناك ومئات الآلاف من صوره معلقة في كل مكان وعشرات الآلاف من اللوحات والمعلقات الجدارية تحمل كلماته وعباراته التي حفظها البعض عن وعي وقصد او من دونهما، وتغنى بها آخرون. حال سماع نبأ وفاة كيم، بكت غالبية الكوريين الشماليين بعفوية او بطريقة مصطنعة وتظاهر، لأن الذي لا يعبر عن حزنه ويذرف الدموع يتهم بنكران الجميل وبعدم الوفاء لتضحيات الراحل الخالد وصاحب المآثر والفضائل. اختفى كيم ايل سونغ بجسده، لكن تأثيره الروحي بقي يتعايش مع المواطنين، وتحول ضريحه الى مزار يأمه عشرات الآلاف يومياً وهم يرتدون ابهى ملابسهم لكي يباركهم الفقيد ويستجيب لدعائهم او يحقق طلباتهم. انتصب في ذلك الضريح تمثال لكيم بإرتفاع 12 متر، وبجواره قاعة الدموع التي تزينها جدارية فنية كبيرة يظهر عليها رجال ونساء يذرفون الدموع بغزارة حزناً على الراحل. بقصد خلق اجواء تشعر الزائر وكأنه في حضور دائم مع الفقيد، تتلقى آذان الزائرين حالما يدخلوا القاعة، عبارات مسجلة تمجد كيم وترفعه عن مستوى الانسان العادي. من تلك الكلمات ( كيم شمس الانسانية، وهو القائد الذي نذر نفسه من اجل شعبه وسخر كل طاقاته الى آخر نبضة صدرت من قلبه الحنون. انه الاب الروحي الذي انار الطريق للاجيال اللاحقة. في عهده اشرقت الشمس ووهبت ضياءها ودفئها للشعب والوطن ) انتهت العبارات. مسخت مؤسسات التربية والتعليم في دولة كيم الاشتراكية براءة الطفولة واستغلتها حينما اعتبرت اذهان الصغار ورقة بيضاء تنقش عليها ما ينسجم مع رؤى القائد. على طريق احشاء العقول اليافعة وصياغتها لخلق جيل متسلح بأفكار الراحل الخالد، نظمت المدارس زيارات دورية يحج التلاميذ خلالها متحف الثورة الذي لا يشاهد الزائر فيه سوى تماثيل بأشكال مختلفة لكيم ورسومات وصور تغطي نشاطاته ومقابلاته واحتكاكه بالجماهير، بالإضافة الى جداريات تحوي عباراته ومقتطفات من تصريحاته الديماغوجية. تمكن سحر الدعاية وتقديس الشخصية من تحقيق النجاح حينما اصبح معتاداً وطوعياً قيام اعداد كبيرة من المواطنين بزيارات يومية لضريح كيم ووضع باقات من الورد عنده والوقوف بخشوع ووقار لبضعة دقائق بقصد الدعاء والابتهال والتبرك.
من الواضح ان كيم ايل سونغ امتطى حصان الاشتراكية وآمن بالماركسية وتقرب من مشاعر الفقراء والمقهورين وتعهد بالقضاء على الاستغلال واقامة المجتمع المتجانس، لكن يبقى الامر ملتبساً فيما اذا كان قد انحرف عن طروحات ومفاهيم ماركس عمداً او انه اخطأ في استيعابها او انه استخدمها بوعي كشيك ابيض وكعباءة تغلف استبداده.
يرحل الاب ويخلفه نجله في القيادة
في سبيل تهيئة الاجواء لخلافة عرش كوريا الشمالية الاشتراكية في حالة رحيل كيم ايل سونغ، تم انتخاب نجله كيم يونغ ايل سنة 1973 عضواً في اللجنة المركزية لحزب العمال الكوري ( الشيوعي ) وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره. لم تكن تلك الخطوة مفاجئة او مستغربة، لأنه قبل عقد من السنة المذكورة انطلقت حملة تثقيفية لغسل العقول وغرس المفاهيم التي تبرز مآثر وقابليات الابن وتصفه كأحسن خلف لخير سلف. في ذلك السياق، الزمت الاوامر تعليق صور ايل في كل مكان الى جانب صور كيم، وشموله بهتافات التمجيد والتبجيل، وطبع مقتطفات من اقواله على اغلفة الكتب والكراسات. بغية تأمين ذلك النهج، انتخب ايل عضواً في المكتب السياسي اثناء انعقاد المؤتمر السادس لحزب العمال الكوري، وتمت تسميته نائباً للقائد العام للقوات المسلحة. بالإضافة الى ذلك، اصبح رسمياً الوريث الشرعي لوالده، واعتبر يوم ميلاده عطلة رسمية في البلاد. مطلع التسعينيات من القرن الماضي، تنازل كيم الاب طواعية عن قيادة القوات المسلحة لإبنه الذي مُنح على الفور رتبة المارشال من دون ان يكون قد خدم في الجيش ليوم واحد.
بعد انقضاء فترة الحداد على الراحل كيم، والتي دامت ثلاث سنوات، عين نجله، ايل سكرتيراً عاماً للحزب ولقب بقائد البلاد المحبوب. بقصد تقنين حكم العائلة والباسه رداء الشرعية، اجريت تعديلات على الدستور لكي تحيل ايل الى قائد خالد لكوريا الشمالية. في تلك البيئة الفكرية والسياسة، نهض النفعيون والمتملقون وسخروا اقلامهم لنسج الاساطير والحكايات حول ايل وادعوا بأنه ولد في جبل باكتيو المقدس، لكنه في الحقيقة ولد سنة 1942 في احدى المجمعات السكنية بموسكو والتي كان يقيم فيها الشيوعيون الكوريون الهاربون الى الاتحاد السوفيتي. من جانبها، انبرت وسائل الاعلام المؤمم ولعبت دورها في غرس شخصية ايل بقلوب وعقول البسطاء. تضمنت كتابات الاعلاميين المأجورين عبارات تقول بأن الشمس والقمر والنجوم تحب القائد ايل لأنه يملك الحكمة الالهية ويهب الخير والامان لكافة الكوريين.
بعد ان حكم الاب كيم بطريقة استبدادية وقمعية وحمل الصولجان لأربعة عقود، انتقلت قيادة الدولة والحزب للإبن، ايل بسلاسة وهدوء، لا سيما وكان قد تم استئصال واعدام او احتجاز كافة المعارضين والمنافسين والخصوم. سار ايل على نهج والده بإستخدام القبضة الحديدية والتحكم بكافة مفاصل الدولة وتكييف الايديولوجيا الماركسية وتطبيقها بطريقة انتقائية ومزاجية. لكن ايل تفوق على والده واثبت براعة اكثر وتفنن بكسر ارادة الانسان واذلاله حينما انشأ سنة 1995 مجمعاً كبيراً للتأديب والتأهيل واداء العمل القسري. كان ذلك الموقع، الذي حمل الرمز 27/9 من الضخامة بحيث يستطيع استيعاب مئات الآلاف من المحتجزين. من الطبيعي ان تحيط الدولة البوليسية في كوريا الشمالية ذلك المعزل بالسرية التامة وتحجبه عن العالم الخارجي وتمنع حتى منظمة الاطباء بلا حدود من زيارته وتقييم الاوضاع الصحية فيه. في عهد ايل، تلقت بذور الكبرياء الوطنية التي غرسها كيم، الماء والسماد، مما ازاد ثمارها في مجال عسكرة المجتمع والهرولة بهوس نحو انتاج السلاح النووي الذي استنفذ المبالغ الطائلة، دون ان تأبه القيادة بأوضاع غالبية المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر وتهدد حياتهم المجاعة.
انهكت طموحات ايل الجامحة لصنع القنبلة النووية واحلامه الفانتازية لجعل كوريا الشمالية منافساً للقوى العظمى الاقتصاد الوطني وعكرت علاقات البلاد مع شقيقتها الجنوبية، واقلقت الدول الغربية، ولا سيما عندما اصبح تحت تصرف بيونغ يانغ خامس اضخم جيش في العالم. اغمض نظام الطبقة العاملة عينيه عن الحقائق وتجاهل معاناة المواطنين الذين يقتاتون الحشائش وجذور النباتات ويلتهمون الديدان احياناً لسد رمقهم. بدلاً من مراجعة الذات، عاش القائد الاسطوري ايل الاوهام وصمم على تحدي الامبريالية ودحرها عن طريق انتاج الصواريخ العابرة للقارات وصنع الاسلحة غير التقليدية. في الجانب الامني، اوغل النظام بأساليبه القمعية والترويعية وحول الوطن الى سجن كبير يؤدي ساكنيه الولاء والطاعة للصنم المعبود، ويمارسون طقوس النقد الذاتي وكشف خفايا الفكر والاعتراف بالذنوب وتقديم الندامة وطلب المغفرة. لم يتوقف اذلال الانسان واهانته عند ذلك، بل تم ترويض الجميع داخل السجن الكبير واعدادهم للايمان بعبادة الشخصية وحفظ او ترتيل فقرات عن حياة وتضحيات ومآثر الراحل كيم ونجله ايل. في نفس السياق، أُعد السجناء في وطنهم لتحمل المشقة وبذل الجهد والتحلي بالصبر وتسخير اقصى الطاقات ووضعها تحت تصرف باني الاشتراكية. بالرغم من وضع الجميع تحت المراقبة المشددة، حالف البعض الحظ لإنقاذ نفسه من الظروف الشاذة والهرب الى الشطر الجنوبي من كوريا او الى دول اخرى. من سمات النظام الشمولي التوجس من شرائح واسعة من المجتمع ووضعها في دائرة الشك، مما يتطلب الاستنفار الدائم للقوى البوليسية والامنية التي تخول ممارسة العنف ضد المعارضين وتوجيهه التهم المعلبة وادانة الخصوم بالخيانة العظمى او التآمر او العمالة للاجنبي. عاش نظام ايل كغيره من الانظمة الاستبدادية، البارانويا وتوهم مواجهة المؤامرات المتلاحقة، مما دفعه لرفع درجة اليقظة والحذر، ونشر المجسات الامنية في كل زاوية لكي تستشعر الظواهر الي يشم منها رائحة المعارضة. في احد الايام تم استنفار قوات الجيش عندما عثر على علبة سجائر تحمل علامة مالبورو ( Malboro ) في احدى المناطق، مما يعني وجود جواسيس هناك. على الفور تشكلت لجنة عسكرية خاصة في الموقع التي استدعت اعداداً كبيرة من المواطنين للتحقيق بالامر ومعرفة مصدر تلك السلعة الاجنبية بغية اتخاذ الاجراءات الصارمة. يكون الامر مستغرباً او فاقداً للمصداقية عندما يتوجس المسؤولون في دولة كوريا الاشتراكية من البضاعة والمفاهيم والثقافة الغربية، وفي الوقت نفسه يستورد الدكتاتور الصغير ايل افخر سياراته ومعظم احتياجاته الاساسية والكمالية من غرب اوروبا وينفق على احتساءه الكونياك الاجنبي نصف مليون دولار امريكي سنوياً. وفر نظام ايل التربة الخصبة لكي يترعرع فيها التملق والوصولية والمنافسة غير الامينة، لأن تلك الصفات تؤهل المتسلق للحصول على المنصب المهم او الارتقاء في سلم الحزب والدولة. لكن من الناحية الاخرى، امام بلوغ المراكز الحساسة او الدرجة الحزبية العالية تقف الابواب الموصدة التي لا تفتح الا بمفاتيح خاصة. لا يتسلم تلك المفاتيح الا من آمن بشخصية القائد وعبدها، وحفظ الوصايا العشرة وفقرات النظام الداخلي للحزب. بالإضافة الى ذلك، على المتسلق او الزاحف او المتطفل الاشتراك في الدورات الحزبية التثقيفية واجتيازها والانخراط لفترة في التدريب العسكري واستخدام السلاح، واثبات ولائه ووفائه للقائد، ولا يتوانى عن كتابة التقارير عن اقرب شخص اليه، حتى وان كانت زوجته واولاده.
المواطن، يزرع الامل ويحصد الريح
بعد ان اختبر مواطن كوريا الشمالية نظامه الاشتراكي لبضعة عقود وشرب نخبه، احس بالمرارة واطلق الآهات وكظم الغيض والحنق، لأنه التفت الى الوراء ولم يرى الماضي القريب الا بنياً ان لم يكن اسود، وأمامه امتد المستقبل المقلق والغامض. في فتوّته وشبابه كدح وقاتل وتأدلج بالماركسية وجاع وصودرت حريته وارادته وتهدد بالاحتجاز والتأديب في معازل اداء العمل القسري. وعندما تخيل بلوغ مرحلة التقاعد، توقع بأن تقدمه في السن او شيخوخته لا تعفيه من الالتزامات الحزبية وحضور الندوات والاشتراك بالمهرجات والاصغاء الى الثرثرة الايديولوجية وتلاوة اقوال القائد وترديد الهتافات المتلاحقة التي تمجد وتقدس شخصيته.
ربما اغتبط الطلبة وتوهموا بأنهم محظوظون عندما حصلوا على منح دراسية في دول شرق اوروبا، لأنهم اصبحوا بعيدين عن مخالب النظام وفي مأمن من كوابيس الليل ولو لحين. لكن اذرع الاخطبوط وعيون المخبرين لم تكن بعيدة عنهم، لا سيما ووضع هؤلاء الطلبة تحت المراقبة الدائمة ورصدت كل تحركاتهم ودونت احاديثهم وتعليقاتهم بشأن النظام من قبل المدسوسين المرتبطين بالسفارة او بالمكاتب التي اتخذت تسميات وهمية. بالرغم من تلك الاجراءات، اغتنم بعض الطلبة فرصة وجودهم خارج السور الحديدي الذي يحيط ببلادهم وانشقوا وقدموا اللجوء في بلد المهجر. لكن عائلاتهم دفعت الثمن الباهض وتعرضت لضغوط ومعاناة شديدة، وكإجراء انتقامي تم احتجاز الآباء والامهات والاشقاء والشقيقات في مجمعات التأديب واداء العمل القسري. ادينت بعض العائلات بخيانة الوطن وحكم على افرادها بمدة تراوحت بين عشرة وخمسة عشرة سنة، وتوفي عدد منهم بسبب التعذيب اوسوء التغذية. في احد ايام تموز ( يوليو ) 1966، بينما كان الطلبة الكوريين الشماليين يتناولون فطورهم في المطعم الجامعي ( Mensa ) بمدينة دريسدن ( Dresden )، عاصمة مقاطعة ساكسونيا بالمانيا الديمقراطية، داهمت مجموعة من منتسبي السفارة المطعم وامرت الطلبة بالوقوف والنزول الى الشارع من دون ابداء اي اعتراض او الاستفسار عن غرض العملية. امتثل هؤلاء للأمر وغادروا المطعم الى الشارع ليجدوا الحافلات جاهزة لنقلهم الى المطار، ومن هناك طارت بهم الطائرة الى موسكو ومن ثم الى العاصمة بيونغ يانغ. عند هبوط الطائرة في مطار بيونغ بانغ، جاء اليهم رجال الامن واقتادوهم الى عمارة ليقيموا فيها لحين بدأ التحقيق معهم والتأكد من عدم فساد افكارهم او اصابتهم بجرثومة البرجوازية او العمالة للاجنبي. بعد حين استفاق الطلبة من صدمتهم واستعادوا توازنهم وعلموا بأنهم مطالبون ليس فقط بتحصين افكارهم ضد الرأسمالية، بل وعليهم ادانة السياسة السوفيتية التوفيقية والتهادنية مع الغرب والتي ينتهجها نيكيتا خروشوف. بالإضافة الى ذلك، ارغم هؤلاء الطلبة على تقديم النقد الذاتي وكشف خفايا الفكر والاعتراف بالأخطاء والتعهد بعدم تكرارها. أطلقت صدورهم الحسرات حينما نقلوا الى جبل باكتيوسان لكي ينفذوا برنامج المسيرات الطويلة سيراً على الاقدام ويؤدوا العمل البدني الشاق لمدة 16 ساعة يومياً ويتلقوا وجبات غذائية متواضعة وشحيحة، تحت ذريعة تأهيلهم لتحمل المشقات والصبر على الصعوبات. شعر بعضهم بالاهانة حينما عوقبوا معنوياً بسبب حصولهم على درجات غير مرضية في جامعاتهم او لإقامتهم علاقات غرامية مع فتيات المانيات.
تخطى النظام الاشتراكي في كوريا الشمالية تناول الامور السياسية والاقتصادية، ودخل مجال العلوم البحتة، وبالتحديد البيولوجيا والجينات، وادعى بإمكانية ايجاد فصيلة من البشر تتمتع بمواصفات ذهنية وجسمية ارقى. بغية الابقاء او الاحتفاظ بفصيلة الانسان المتفوق ( السوبرمان )، اجازت القيادة افناء المشوهين والمعاقين وقصار القامة بطريقة ما، واحتجزت الاقزام في معازل خاصة بقصد منعهم من الزواج وانجاب الاطفال.
عند شطب تأثير الدعاية والاعلام الموجه الذي اظهر الارقام الوهمية حول زيادة الانتاج وارتفاع متسوى المعيشة، يتأكد فشل النظام الاشتراكي في تحقيق شيء مهم على الجوانب المادية والروحية والمعنوية للمواطن الكوري الشمالي. في اجواء اللاحرب واللاسلم بين شطري كوريا واحتدام المنافسة بينهما، اثبت النظام اللااشتراكي في سيؤول كفاءة افضل في ادارة الدولة واشاعة الحريات والحقوق وانتهاج سياسة اقتصاد السوق التي انعشت قطاع الصناعة والزراعة والتعليم والصحة. في الوقت الذي وفرت كوريا الجنوبية لمواطنيها الحياة العصرية والتعليم المتطور والصحة والخدمات العامة، ورعت المفاهيم الديمقراطية وثقافة الانتخابات البرلمانية وتداول السلطة، كرس نظام بيونغ يانغ الشمولي سياسة القطيع وعبادة الشخصية وتوريث الحكم الاستبدادي الذي امم او صادر الحرية والارادة. اوصلت تلك الحالة كوريا الشمالية الى وضع صحي ومعاشي صعب، وافتقرت نسبة كبيرة من مواطنيها الى المواد الغذائية الاساسية، مما جعلها بأمس الحاجة للمساعدات التي تقدمها منظمات الاغاثة الدولية. في المجال الزراعي، تلكأت الخطط الخمسية المتتالية، بالرغم من تطبيل اجهزة الدعاية والاعلام لنجاحاتها المذهلة. على ارض الواقع، ترنحت الزراعة وهبط انتاج الحنطة وبقية الحبوب بسبب البيروقراطية وسوء الادارة والمركزية الصارمة وارغام الفلاحين على الانخراط بالزراعة التعاونية، بالإضافة الى نقص الاسمدة والمبيدات والمكننة الحديثة. من الاسباب الرئيسية الاخرى التي ادت الى تراجع الاقتصاد المدني عموماً كانت استعراض النظام لعضلاته وتبنيه سياسة التحدّي، وجعل بؤرة اهتماماته انهاض الصناعة التسليحية وعسكرة المجتمع، مما استنزف مبالغ وطاقات هائلة وخلق شرائح واسعة من المستهلكين الذين وُفرت لهم احتياجاتهم الاساسية. بالنتيجة، كانت نسبة كبيرة من المواطنين الضحية ودفعت فاتورة تلك الحماقات عندما عانت من سوء التغذية وهددها شبح الاعتقال او التأديب في معسكرات الاحتجاز.
في الوقت الذي نأخذ في الحسبان الكوارث الطبيعية التي حلت على كوريا الشمالية، لا يمكن غض النظر عن قلة كفاءة النظام وعجزه في التقليل من وطأة اضرار تلك الكوارث، وخاصة على قطاع الزراعة. لا بدّ كذلك من الاشارة الى التغيير الذي طرأ على موقف اشقاء الايديولوجيا في الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية اللتان خفظتا من حجم مساعدتها او ادارتا الظهر للقيادة في بيونغ يانغ. بالرغم من غياب الشفافية تماماً في تلك البلاد واسدال الستار الحديدي حولها، لم يكن المعنيين بالشؤون الانسانية غافلون عما يجري هناك. من جانبها، قدمت منظمات الاغاثة والصليب الاحمر المعونات العينية، لكنها لم تف بالغرض وبقي تأثيرها محدوداً، لا سيما وساد الفساد وسوء التوزيع، واختفت حصة كبيرة من المساعدات الغذائية والطبية لتذهب الى المتنفذين في اجهزة الحزب والدولة. بالتالي، سقطت عشرات، لا بل ومئات الآلاف ضحايا المجاعة وسوء التغذية. اظهرت الاحصائيات المحايدة وفاة بضعة آلاف طفل شهرياً، بالإضافة الى تهديد حياة عشرات الآلاف بالأمراض المختلفة بسبب قلة الفيتامينات والعناصر الغذائية المهمة لوقاية الجسم.
ليس الامر غريباً ان يشوه اعلام النظام الشمولي في كوريا الشمالية الحقائق ويغلق العين عن رؤية الواقع ويصم الاذن عن سماع انين وآهات وشكوى المتألمين. لقد قلبت الدعاية المظللة الاخفاقات الى نجاحات باهرة وطلت البربرية بطلاء الاجراءات الانسانية التأديبية لصيانة مكاسب الجماهير والحاق الهزيمة بأعداء الشعب والوطن. انعشت تلك البيئة النفعيين واصحاب النفوس الضعيفة الذين سخروا اقلامهم وريشاتهم ومواهبهم لألهاء المواطنين عن جوهر مشكلاتهم ومعاناتهم، في الوقت الذي تسابقوا على تكريس عبادة الشخصية وتوسيع نطاقها لتشمل الابن والحفيد والسلالة. لمواصلة ذلك السياق، اغرقت وزارة الاعلام والثقافة دور النشر ومحلات بيع الكتب بالكراسات والمطبوعات التي تتلاعب بالمشاعر وتروج للثقافة الحزبية وترفع رمز البلاد وقائده الى مصاف المرسلين او المنقذين. توسع نطاق ذلك النهج ليشمل الدول الصديقة في العالم الثالث التي اصبح في متناول مواطنيها مجاناً المجلات التي تُظهر كوريا الشمالية ذلك الفردوس ومملكة الخيال وبلد القفزات المذهلة على صعيد المشاريع العملاقة وحجم الانتاج والتميز في مجال التعليم والصحة والارتقاء بحياة الانسان مادياً وروحياً ومعنوياً.
انخرط كيم ايل سونغ بالحركة الشيوعية مطلع شبابه وآمن بالماركسية وبفكرة تنفيذ رسالة الطبقة العاملة التاريخية عن طريق تأسيس النظام الاشتراكي. هل اخطأ كيم في فهم النظرية الشيوعية وهل تعامل معها بإنتقائية حينما تسلم الشيك الابيض واصدر الفتاوي بشأن تطبيقها؟ ام ان مكمن الخطأ هو اصلاً في اعتبار النصوص النظرية مسلمات ناجحة وعملية لإقامة المجتمع المتجانس بقيادة العمال؟ لكن الوقائع اظهرت ان كيم ايل سونغ، كبقية رسل الماركسية الصادقين والكذبة، اتبع مبدأ الغاية تبرر الوسيلة ومارس القهر على نطاق واسع ووضع الدولة الاشتراكية في مجابهة قطاعات متنوعة من المواطنين، واتبع اسلوب كسر الارادة وتأميم حرية الاختيار، واجرى العمليات الجراحية القسرية على نسيج المجتمع مثل بتر اجزاء من القدم تحت ذريعة ملائمته مع حجم الحذاء. ما حصل للثوريين من رسل الماركسية على اختلاف مدارسهم كان المبارات والهرولة الى تبني عقيدة الخلاص، وفي الوقت ذاته تجاهلوا او لم يتنبهوا الى الفجوة بين النظرية والافتراضات الخيرة والجذابة التي تتناغم مع الرغبات والتطلعات وبين ما هو قابل للتطبيق ويتمتع بمقومات النجاح ويحمل عناصر الديمومة ويحفظ توازن المجتمع ولا يفني بعض اجزاءه او يمزق نسيجه.
تلخيص وخاتمة
اتسم عصر النهضة والتنوير في غرب اوروبا بظهور الفلسفات والايديولوجيات والمدارس الفكرية التي حفزت الاذهان للمطالبة بالإصلاحات وانصاف المعوزين ووضع نهاية لطغيان الحكام واستبداد مؤسسة الكنيسة وتحجيم دورها في الحياة السياسية والاجتماعية. ترافقت تلك الفترة بإنطلاق الثورة الصناعية والعلمية واتساع مدى الاكتشافات الجغرافية التي آلت الى تنشيط التجارة والحصول على المواد الخام وايجاد الاسواق للإنتاج الواسع. على خلفية انتشار التعليم وازدياد مستوى الوعي عند ابناء الطبقة الوسطى والشرائح الفقيرة والمهمشة والاسترشاد بأفكار المصلحين والمنظرين الانسانيين وطروحات الثوريين، انبثقت الجمعيات والتنظيمات السياسية السرية والعلنية، مما انضج البيئة لإنطلاق اصوات المطالبين بإيلاء المسؤولين الاهتمام الاكبر للأوضاع المأساوية لغالبية المواطنين وتقليل الهوة بين الاغنياء والفقراء واصلاح الدساتير وعملية اجراء الانتخابات النيابية وتوسيع فسحة حرية الصحافة والتعبير عن الرأي. عندما تجاهل القائمون على حكم الممالك والامبراطوريات معاناة المواطنين، انفجرت ثورة العنف في فرنسا واندفع مرهفو الحس من الثوريين وقادوا المهمشين والجياع والغوغاء الذين غادروا اكواخهم وازقتهم ولم يبالوا بالنتائج. وهكذا، تصاعدت لهب النار من اعماق النفس البشرية لترد على الظلم وامتهان الكرامة والتجويع وتدع جانباً المشاعر الانسانية الرقيقة ورجاحة العقل.
بالرغم من اهتداء الثورة الفرنسية بضياء مبادىء الحرية والاخاء والمساوات، لم تكن رحلتها على طريق سلس ومحاط بشتلات الريحان والزنابق. تعثرت المسيرة وتعرجت وشابتها الغرائزية العدوانية والاهواء الشخصية احياناً، مما اظهر الثورة وكأنها وحش يلتهم ابناءه او يقطع رؤوسهم في المقصلات. عاشت البلاد لأكثر من عقد غداة الثورة اوضاعاً لها اوجه مختلفة ومتناقضة، لأن الى جانب العنف والدماء والارتجاجات، سادت الرومانسية والانبهار والتطلع الى ريادة البشرية. في اجواء النشوة والثمالة نسيت الجماهير ضحاياها وهمومها وهرولت نحو الرمز الذي يحمل البيرق وينشر مبادىء الثورة بين الامم. تمكن العسكري الموهوب والطموح نابليون بونابرت من ان يكون ذلك البطل المختار الذي يمسك بالخيوط المبعثرة ويتحكم بالأوضاع الرجراجة ويلهم الفرنسيين ويوعدهم بنشر عطر ثورتهم على ارجاء المعمورة. وهكذا، خاطب الدكتاتور العواطف قبل العقول وهيأ المستلزمات البشرية والتسليحية والمعنوية واندفع بثقة لغزو اوروبا والعالم اجمع تحت ذريعة انجاز الثورة الفرنسية لرسالتها. حصل ما حصل اثناء الحروب النابوليونية التي انتهت بإندحار الجيش الفرنسي في معركة واترلو 1815. بعد ان تبدد دخان المعارك استفاقت شعوب قارة اوروبا من صدمتها وهي ترى امامها تلال الجماجم والاشلاء، وفي الوقت ذاته تجابه الامبراطوريات التقليدية الواقفة على ارض صلبة وترسم الخارطة الجيوسياسية لعالم المستقبل على ضوء معاهدة فيينا.
لم تقدم المعاهدة المذكورة الحلول المنصفة، لا للشعوب الرازحة تحت نير الامبراطوريات ولا للشرائح المسحوقة داخل الدول المتحكمة بشؤون العالم آنذاك. بالنتيجة، استمرت المظلومية ومعاناة اوساط واسعة من المجتمع، مما آل الى ارتفاع وتيرة السخط وانبثاق التيارات والحركات ذات التوجهات والمرجعيات الفكرية المختلفة. اختمرت تلك التيارات وتتوج نشاطها بإندلاع ثورات ربيع الشعوب اذبان العقد الرابع من القرن التاسع عشر، والتي شملت ليس فقط الامم ضمن الامبراطورية النمساوية، بل وفرنسا والمانيا وبلجيكا وسويسرا والدنمارك واليونان وايرلندا، ووصلت شظاياها الى عتبة الباب العالي، مركز السلطة العثمانية. في الوقت الذي اعتبر المحللون السياسيون الثورة الفرنسية نهوضاً مباشراً لتلك الامة، نظروا الى ثورات ربيع اوروبا كنهوض شامل للأمم المغمورة وتبلور دور الطبقة الوسطى والتيار اللبرالي، بالإضافة الى استيقاظ الحس الطبقي عند العمال. في تلك المرحلة، لعب المثقفون المعتدلون واللبراليون والراديكاليون ادواراً متفاوتة وعبئوا الجماهير وشحذوا الهمم للضغط على السلطات والزامها بتحقيق الاصلاحات السياسية والاقتصادية. اتسعت ثورات الربيع افقياً وعمودياً وشملت النخب الفكرية والاكاديمية من ابناء الطبقة الوسطى، بالاضافة الى الثوريين الراديكاليين وخلفهم المغمورين والمعدمين. تبنى الفصيل الراديكالي مهمة تعبئة الشرائح العمالية وتوعيتها بالاضطلاع بدورها واحداث التغير العميق على واقع المجتمع واحلال علاقات اقتصادية وقيمية جديدة. في خضم السجالات الفكرية وتباين المواقف بشأن الاصلاحات والتغيير، نشأت التيارات الاشتراكية والنقابية في بريطانيا والشيوعية والفوضوية في فرنسا وتبعتها المانيا وعلى يد منظرين حركيين مثل بابيوف ولاسال وبلانك وكارل ماركس وانجلز وبوخارين وآخرين.
من الواضح، ان الحقبة الروبسبرية وفرت المداد واصبحت الاب الروحي للتيارات الراديكالية اللاحقة، وهيأت الاذهان لتبني العنف والذي ( حسب رأيهم ) يطهر المجتمع من الفاسدين ويلعب الدور الحاسم في صناعة التاريخ. الى جانب تلك التيارات الثورية المتطرفة نهض منظرون اشتراكييون وطالبوا بإنصاف العمال وزرعوا الامل بإمكانية تنشيط الاقتصاد وتقليل الهوة بين الفقراء والاغنياء بطريقة سلمية وتدريجية. لكن على خلفية الاخفاقات والاحباط وفشل مشاريع التمنيات الطيبة واصرار القائمين على ادارة الدول على مواقفهم، تمكنت المنظمات الراديكالية او الجمعيات السرية من خطف الاضواء عن التيارات الاشتراكية الاصلاحية واخذ زمام المبادرة بتبني قضية العمال والمعدمين. بالرغم من تنوع الاجتهادات في جبهة الراديكاليين، لعنت جميعها المجتمع الطبقي وحملته جريرة كافة المساوىء والشرور ودعت علانية الى تجريد المالكين من ملكيتهم وجعلها ثروةعامة واعادة بناء المجتمع على اسس جديدة. من جانبها، اعتبرت النظم الملكية وحتى الجمهورية تلك التيارات منظمات تخريبية وهدامة تهدد امن واستقرار وتوازن المجتمع وتأخذ الاوطان الى العدمية والمجهول عن طريق التحريض على العنف والهاب عواطف السذج والجهال بالوعود الساحرة والشعارات المغرية.
حينما عصفت المنافسة والتجاذبات والرؤى المختلفة بين عرابي الفكر الشيوعي والفوضوي وما شابه وتراشقوا التوصيفات، برز على حلبة المنازلة كارل ماركس وسطع نجمه، ولا سيما عندما طرح نظريته السياسية والاقتصادية حول المادية التاريخية والصراع الطبقي. وتمكن من اقناع الكثيرين بنجاح دولة العمال المستقبلية وبنشوء المجتمع الجديد الذي نسج صورته في مخيلته. حقاً، قدم تحليلات منطقية لمراحل تطور مجتمعات الانسان العاقل وافحمها بشروحات فلسفية ومعطيات تاريخية، مما رفعها عند العديدين الى مصاف المعتقدات المقدسة والحقائق المطلقة. في الناحية الاخرى، خاطب ماركس المفكرين والمنظرين بشأن الثورة وكأنه ينشر مبادىء الخير والسلام والمحبة والعدالة والتضحية للآخرين والتنكر للذات. وهكذا، هبت الرياح لصالح اشرعة سفن الماركسيين، مما مكنهم من استقطاب اهتمام اوساط واسعة من الشغيلة والمثقفين الثوريين والادباء والفنانين بالإضافة الى مخاطبة مشاعر المعدمين الباحثين عن خشبة الانقاذ في بحر متلاطم. حينما انطلق رسل الايديولوجيا الماركسية في مهمتهم، مدوا خطاهم بعزيمة وتكفلوا بنشر الرسالة بين شعوب غرب وشرق اوروبا وخارجها والتي كانت قلوب ابنائها ترفرف وترنو الى رؤية الانسان وهو يولد من جديد. لم تسقط بذور الدعوة في تربة بور، بل استمدت مقومات الحياة في رحم الجماهير اليائسة والبائسة وعلى نطاق اقوام وجغرافيات وحضارات متنوعة، وقدم الباذرون انفسهم مكافحون صلبون وعازمون على سقي تلك التربة بدمائهم من اجل قضية العمال والبشرية جمعاء.
قبل انقضاء القرن التاسع عشر وعلى هدى الايديولوجية الماركسية، تأسست الاحزاب الشيوعية في معظم دول غرب وشرق اوروبا ومن بعدها آسيا وتبنت مفهوم الصراع الطبقي والمادية التاريخية الى وردت في وثيقة البيان الشيوعي والادبيات ذات الصلة. نجحت قيادات تلك الاحزاب في تعبئة وتنظيم اعداد غير قليلة من العمال وفقراء الفلاحين والحرفيين والمغمورين ومجاميع من الشرائح الفكرية والمثقفة ليصبحوا مقاتلين في معارك المستقبل الطبقية ويحيلوا اجسادهم الى بلاطات تُعّبد الطريق لتأسيس دكتاتورية البلوريتاريا واشاعة المجتمع اللاطبقي بعد الاطاحة بالرأسمالية. في روسيا القيصرية، البلد الذي عجت سجونه ومنافيه بمئات الآلاف من السياسيين المعارضين، ورزح شعبه تحت حكم اوتوقراطي وعانى من الفقر والاذلال وظلم الاقطاعيين واستغلال البيروقراطيين وسياط رجال الشرطة، نشط واتسع الحزب الشيوعي، وخاصة عندما لاقت مبادؤه تربة خصبة في قلوب وعقول الكثيرين. اقنعت قيادة الحزب الجماهير العريضة بأنه الامل والنبع الغزير الذي يروي الظمأ ويجسد التطلعات الى غد مشرق. في تلك البيئة الفكرية والنفسية، نهض فلاديمير لينين، زعيم الحزب الشيوعي البولشفي وبمقاصد طيبة وصادقة وبادر ليكون الرائد الذي يترجم النظرية الماركسية ويحيلها الى نظام حكم وواقع معاش على الارض الروسية. ولتحقيق تلك المهمة استغلت قيادة البلاشفة الاوضاع الهشة في البلاد وفجرت ثورة اكتوبر الاشتراكية 1917 واقصت بالعنف القيصرية والادارة اللبرالية التي اعقبت ثورة شباط من ذات السنة.
في غمرة هيجان العواطف، استبشرت شعوب روسيا وهي ترى الراية الحمراء وبيرق المنجل والمطرقة وايقونة البولشفية اللينينية وكأنها المعول الذي يحطم الظالم وينصف المظلوم ويوفر له الحرية والرخاء والعدل. لم تمر سوى فترة قصيرة على قيام نظام السوفيتات، حتى لاحت بوادر الشعور بالصدمة وبدأ مشروع خلاص البشرية اسطورة مطلاة بالذهب، وتحولت آمال المواطنين الى فانتازيا. في نفس الوقت، وقعت الادارة الجديدة في مجابهة مفتوحة ليس فقط مع الشرائح اللبرالية وطبقة الارستقراطيين والاثرياء وملاك الارض ومع النخب العسكرية والمؤسسة الدينية، بل ومع مكونات مجتمعية واثنية لأنها شعرت بأن القيادة تنكرت لوعودها بمنح الاقوام حق تقرير المصير والانفصال ان شاءت تحت ذريعة تفضيل المصلحة الاممية على التطلعات القومية الضيقة. غرقت البلاد في دوامة العنف والحرب الاهلية وتهددت بخطر المجاعة بسبب تراجع محصول الزراعة والثروة الحيوانية وتخبط المشاريع الصناعية، مما فاقم معاناة العمال والفلاحين في ظل دولتهم.
في روسيا، البلد الزراعي بالاساس والمتخلف صناعياً، غرس لينين الشتلة الماركسية وشيد الكاتدرائية الشيوعية التي ازدانت بأيقونات ماركس وانجلز وبالراية الحمراء. واوكل رعاية الشتلة والكاتدرائية الى كيان بذراعين، ذراع للترويع وكسر الارادة وذراع لنشر الايمان على يد مؤسسة تتلمذ كهنة الايديولوجيا وتؤهلهم لملامسة قلوب المواطنين ومخاطبة عقولهم بطريقة جذابة ومقنعة. انهمك ذلك الكيان بإقامة الدورات الثقافية التي افرغت الادمغة واعادة حشوها بالمفاهيم الجديدة، وبسطت امام المتلقي مشهداً جذاباً يخفي وارءه الحقيقة المرة والواقع المؤلم. حقاً جرد البولشفيون الرأسماليين والاقطاعيين والارستقراطية من ممتلكاتهم وانتزعوا نفوذهم وابطلوا امتيازاتهم، لكن ذلك آل الى العبثية وانتعاش الفساد والبيروقراطية وتعميم الفقر، ولم يجن العمال والفلاحون سوى هيجان العاطفة والتلذذ بالمكتسبات الوهمية التي خلقتها او ضخمتها اجهزة الدعاية والاعلام المؤمم. وللإنصاف، تحققت بعض الانجازات الخدمية وتم توفير السكن المتواضع وتعميم التعليم وتقديم الرعاية الصحية المجانية والاعانة الغذائية المقننة جداً، وانتعشت الصناعة العسكرية، لكن في الوقت ذاته عاش المواطن القلق وتهدد بالمجاعة وتحولت احلامه الى كوابيس. في اجواء النشوة والايمان بظهور صانعي الاعاجيب، استنبط البولشفيون عملية بتر اجزاء من القدم لكي يلائم حجم الحذاء بدلاً من تبديله بالحجم المناسب.
عندما كانت دولة العمال تجتاز النفق الذي يشهد اجراء التجارب الجديدة على البشرية وتستنبط الاساليب الفريدة وتتطرف بتطبيقها، رحل مهندس المسيرة، الرجل الاسطورة ومترجم الايديولوجيا الماركسية لينين في 1924. خلف الراحل وراءه اسئلة كثيرة تنتظر الاجوبة الشافية، وانتج مواطناً روسياً يختزن خليطاً متناقضاً من مشاعر الزهو والميل الى العنف والتمرد على الواقع العائلي، وفي الوقت نفسه يبدي الخضوعية الى مسؤوله الحزبي ويُظهر له الطاعة العمياء والولاء. ودع لينين شعوب روسيا وهي تتوق بلهفة الى بلوغ الواحة الخضراء الموعودة، لكن امتدت امام بصرها الصحراء التي يزخرفها السراب. من رحم تلك الظروف خرج يوسف ستالين وقفز الى اعلى قمة هرم الحزب والدولة، وتمكن من استئصال وازاحة من كانوا أغزر منه فكراً وأثرى فلسفة. حالما خلت الساحة واصبح ستالين اللاعب الوحيد فيها، تبارت اقلام وافواه المتملقين والمطبلين والوصوليين في تمجيد الخلف ووصفه بالراشد والمؤتمن على حمل الراية الحمراء وبأنه النبع الذي ينهل منه الشيوعيون المفاهيم الاصيلة للماركسية والبولشفية. بالنتيجة، تعمقت وترسخت سياسة القطيع وتخدرت العقول ووقع الغوغاء والسذج تحت تأثير التنويم المغناطيسي وترديد الشعارات وحفظ النصوص التي لا يفقهون كنهها. حوًل الانتهازيون والنفعيون عبادة شخصية ستالين الى مكون ثقافي للماركسية اللينينية وعنصر فاعل لنجاح تطبيقها. من جانبه وبقصد تصفية الخصوم وافناء الهراطقة وارجاف الركب، اقام ستالين محاكم التفتيش البلوريتارية ومنحها الصك ( الشيك ) المفتوح والمذيل بالختم الماركسي. تحت ذريعة تحصين الجبهة الداخلية، اطلق القيصر الشيوعي حملات الترحيل الجماعي لبعض الاقوام واعادة توطينهم في مناطق نائية، مما تسبب بهلاك عشرات الآلاف من هؤلاء، ووضع الدولة السوفيتية في مجابهة مع قطاعات واسعة من شعوب روسيا. بالرغم من اعلان الستالينية حرب الابادة على الرأسمالية والملكية الفردية، ترعرعت فئات نخبوية مترفة بالمقارنة مع الغالبية التي عاشت الكفاف والعوز، مما دفع المعارض البارز تروتسكي الى وصف الاشتراكية السائدة آنذاك بأنها شكل محور من النظام البرجوازي. في روسيا الستالينية، غابت الشفافية واختفت الحقائق خلف الستار الحديدي وانعدمت الاحصائيات العلمية الرصينة ولعبت البروباغاندا ( Propaganda ) دورها. بالنتيجة، وقع الكثيرون في العالم ضحايا لسحر الدعاية واعجبوا بإنجازات النظام العمالي وبالقفزات العريضة والعالية التي حققها في فترة قياسية.
بعد ان وظف ستالين الحزب الشيوعي والدولة السوفيتية للتحكم بكافة الانشطة الاقتصادية والثقافية واعادة صياغة ذهنية المواطن، امتد ذراعه القوي الى خارج حدود بلاده عبر منظمة الاحزاب الشيوعية العالمية ( الكومنترن ). عن طريق التهديد والتصفيات وبث العملاء، تدجنت تلك الاحزاب وتحولت في غالبيتها الى اجهزة مخابراتية وابواق تمجد ستالين وتكفِّر معارضيه وتهدر دمهم. إثر انتهاء الحرب الكونية الثانية وعلى خلفية الدور المتميز للجيش الاحمر بإلحاق الهزيمة بالنازية، ارتفع رصيد الستالينية في شرق اوروبا خاصة وفي العالم بوجه عام. في تلك الاجواء المبهرة نسي الروس دماء عشرات الملايين من ابنائهم الذين تحولوا الى وقود وصنعوا النصر الذي استثمر لبناء الامجاد للدكتاتور. عندما يهمش دور الجماهير في إحداث الانعطافات الحاسمة ويبرز دور البطل الذي يصنع التاريخ، تقع النظرية الماركسية في اشكالية وتتناقض المبادىء مع التطبيقات. في غمرة نشوة انتصار الاتحاد السوفيتي عسكرياً، استقوت الاحزاب الشيوعية في دول شرق اوروبا واماكن اخرى بجحافل الجيش الاحمر ومخابرات ستالين، وتمكنت من تهميش او اقصاء التيارات والاحزاب اللبرالية وفرض الامر الواقع. بالتالي، تهيأت الظروف للاحزاب الدائرة في فلك موسكو لإكتساح الساحة السياسية واستلام السلطة بعد اجراء انتخابات برلمانية صورية وفي غياب تكافىء الفرص لجميع الاطراف. وبقصد تمييز الحقبة الجديدة، اتخذت تلك النظم تسمية الشعبية او الديمقراطية او الاشتراكية والتي بقيت مجرد عناوين لا تجسد الحقيقة.
قبل ان تتحول نظرية كارل ماركس الى نظام حكم، اتصفت العلاقة بين الاحزاب الشيوعية وبين اوساط عريضة من الجماهير بالدفىء لأنها آمنت بها كملاذ يحقق تطلعاتها وينقذها من معاناتها المركبة. وبعد فترة غير طويلة من اعتلاء تلك الاحزاب سدة الحكم وادارتها للدولة، اصاب حماس المواطنين الفتور، لكن في الوقت نفسه، استمرت العلاقة حميمة ومصيرية بين النخبة الحاكمة وبين المنتفعين والمهوسين والوسط الرجراج. على صعيد العلاقات الخارجية، طفح العداء على السطح وتبخرت الروح الاممية وتناقضت المواقف وتنوعت الاجتهادات الايديولوجية داخل مجموعة الدول التي تبنت الماركسية اللينينية. هناك من انحرف عن الخط السوفيتي ورفض استنساخ تجربته في بناء الاشتراكية، او بالاحرى تمرد على املاءات ستالين وفضّل ان يضع بصماته الشخصية ويحافظ على الخصائص الوطنية لبلاده، وهناك من التزم كلياً بإنتهاج الخط الستاليني مرغماً او مخيراً. بالرغم من المناكفات السياسية بين قيادات الدول الاشتراكية او تناغم مواقفها، اتسمت جميعها بمواصفات مشتركة واستخدمت الماركسية كصك مفتوح ورفعت الراية الحمراء واقامت نظماً شمولية قمعية وتبرقعت بشعار تحرير العمال والفلاحين من استغلال الرأسماليين والاقطاعيين ووعدت بتأسيس المجتمع اللاطبقي الذي يستظل بالاقتصاد الموجه وغياب الملكية الفردية. بالإضافة لذلك، جمع تلك الانظمة قاسم مشترك واحد الا وهو اصابتها بفيروس عبادة الشخصية وبقاء رمزها في قمة هرم القيادة طيلة الحياة والاحتفاظ بظلالها خالدة بعد رحيل الرمز. ولتوثيق النقطة الاخيرة، لا بدّ من ذكر يوسف ستالين وماوتسي تونغ وجوزيف بروس تيتو وانور خوجا وهوشي منه وكيم ايل سونغ وجيفكوف وجاوجيسكو. في البلدان التي تبنت الماركسية اللينينية كنظام حكم، تم اختطاف منظمات المجتمع المدني والانشطة الثقافية والتعليمية والادبية والفنية من اجل توظيفها لغايات الحزب الذي اخضع الحياة السياسية لإيقاع واحد يكون هو المايسترو له. ومع ذلك، استطاعت تلك الاحزاب ادارة شؤون شعوبها بطريقة سلسة الى درجة ما، ولا سيما عندما غلف الاعلام المؤمم المشهد بطبقة زاهية تعيش تحتها مجتمعات مستكينة ومدجنة ومسلوبة الارادة، لكنها تختزن الحنق.
جسدت عقود من الحرب الباردة والمبارزة بين الاقوياء المنافسة بين منهج سياسة السوق والاقتصاد الحر واعتماد الديمقراطية البرلمانية وتعدد المدارس الفكرية من جهة وبين اسلوب الاقتصاد المركزي الموجه وغياب المنافسة الحرة وتحكم الدولة والحزب الايديولوجي الواحد بكافة مفاصل الانتاج الصناعي والزراعي وبالانشطة الثقافية والتربوية والايقاع السياسي ومسار حرية التفكير. في الدول التي تبنت الماركسية، بتنوع تطبيقاتها، تراكمت الاخطاء البنيوية وتفاقمت مخاطر تحويل الايديولوجية المذهبية الى قوة سياسية ونظام حكم مصطنع. وهكذا، وصلت تلك التجربة الى الباب الموصود واصطدمت بالحقائق واصبحت حاجزاً يعيق مسايرة العصر والالتزام بالمفاهيم الحديثة في ادارة الدولة والشعوب. بعيداً عن التظليل وتكميم الافواه والغاء الآخر وفرض الامر الواقع، نالت الديمقراطية الاجتماعية حضوراً ومقبولية اوسع ونجاحاً اكبر من الاشتراكية ونظامها الشمولي. بدا جلياً بأن النظام الشيوعي او الاشتراكي الماركسي انفصل عن العالم الخارجي المتحرك والمتغير وتجمد وانغلق على نفسه وتنفس من هوائه في البركة الراكدة. عند تلك المرحلة، تعقدت الامور امام قيادات الاحزاب والقائمين على ادارة النظام وحاولوا اصلاحه او ترميمه، لكنهم وجدوا اساسات هشة وهياكل متهرئة لا تحتمل ثقل مواد البناء ولا تزدان بواجهات التجميل. بما يشبه الزلزال، انهار البنيان وتهاوى حصن دولة العمال والفلاحين وازيح عن حدودها الجدار الحديدي. بعد ان صهرت الافكار بنار الايديولوجيا الماركسية وسبكت بين ضربات مطرقة الحزب ورد فعل سندان العقلانية، خابت الآمال المعقودة على رسالة خلاص البشرية ولم تطلق البنادق رصاصات الاحتجاج او تذرف العيون الدموع او تصدر الصدور الحسرات.
عند تقييم نظرية او فلسفة اقتصادية او اجتماعية ما في مستوى تطبيقها كنظام حكم، ينبغي اعتماد المعايير الانسانية المألوفة والاستناد الى المعطيات والنتائج التي آلت اليها، من دون الاقتصار على النوايا الطيبة وظروف هيجان عواطف المغبونين والمظلومين والتسلح بفرضية الصدام الطبقي العنفي. اكدت الحقائق بأن العديد من الموروثات والرغبة في تأكيد الفرد لذاته وابرازها على الآخرين والتشبت بالملكية الخاصة والتمسك بالمعتقدات الايمانية والروحانية مغروسة في اعماق الوعي الجمعي. لذلك، نمارس التطرف في التنظير عندما نأخذ ايديولوجية ما ونعتبرها صيغة محنّطة وحقيقة مطلقة ومسلمات ثابتة. في هذا الخصوص، نخطىء عندما نسطّح الامر ونؤمن بحصول التغيير الآلي واختفاء كافة مكونات البناء الفوقي كنتيجة لتغيير عناصر القاعدة. ان نزوع الانسان للإعتقاد بالغيبيات وعشق الاساطير والاستلهام بالقوة الخارقة وبما فوق الطبيعة والابتهال والتضرع اليها واستمرار معايشة العديد من التقاليد والقيم دليل دامغ يزعزع الكثير من اركان النظرية المذكورة ويجردها من كمالها وعصمتها. مع ذلك، لا يكون الموقف موفقاً او منصفاً حينما نشطب او ننبذ النظرية الماركسية ونأخذ بها الى قفص الاتهام. ما نزوم طرحه هو ان البشرية لا زالت عالقة بين مخالب الحيرة وتائهة، لا سيما وهي تشاهد الفجوة وعدم التطابق بين طروحات المنظرين والفلاسفة ودعوات الانبياء والمصلحين من جهة وبين ممارسات القائمين على السياسة وادارة الدول والتي يشوبها الخلل. لكن يبقى السؤال، ما الجدوى من التجربة الثورية التي تتسلح بالمنطلقات الخيرة والاهداف النبيلة وتحشد وراءها الجماهير الهائجة التي في النهاية لا تتوفر لها الحياة الافضل مادياً وروحياً.
في الوقت الذي تراجع الايمان بنظرية الخلاص الماركسية وانحسر الاعجاب بها، أرست كتل كبيرة من البشر سفنها عند موانىء الديمقراطيات الاجتماعية واحتضنت منطلقات الدولة الحديثة، مما اضفى عليها قدراً معتبراً من المقبولية ومدها بالزخم. فهي من ناحية تهيىء البيئة الانتخابية لتداول السلطة سلمياً بين الاحزاب والاطراف التي تمثل ارباب المال والصناعة والمحافظية وتنال المشروعية من وسط كبير من النخب الفكرية البراغماتية ومن الكوادر العلمية والاكاديمية، ومن الناحية الاخرى تحد من شهية الرأسمالية وتراقب نهمها لكي تؤمن الاحتياجات الاساسية والمعيشة المكتفية لكافة شرائح المجتمع وتوفر لهم الفسحة المنضبطة من حرية الرأي والاختيار. ما يحسب للنظم الديمقراطية المعاصرة هو ابتعادها عن تبني الايديولوجية المحنطة، بل هي تخضع التطبيقات والتجارب للمراجعة وتختار ما يحافظ على توازن المجتمع بكافة طبقاته ومكوناته. بالإضافة لهذا، تتجنب العبثية السياسية واستئصال او تمزيق جزء من نسيج المجتمع تحت ذريعة الاصلاح والتغيير الثوري. بالرغم من المآخذ على النظام الطبقي السائد في المجتمعات الغربية، لا يبادر اي حزب او تيار يساري او عمالي او غيره الى اتخاذ التجربة الماركسية البولشفية نموذجاً للإقتداء او مادة فكرية تثير الاهتمام وتسحر العقول.
تتوّجت تجارب ومخاضات ومظالم قرون وألفيات بالاقتناع على نطاق غير قليل بأن الصيغة الأمثل لإدارة الحكم وصيانة المجتمع من الارتجاج والانفلات والتطرف وطغيان المستبد سواء اكان حزباً او مكوناً عرقياً او شخصاً او اكثرية مجتمعية تتمثل بإيجاد الآلية التي تصون الحقوق والحريات العامة وتُشعر المواطن بأمنه وتوفر له احتياجاته المادية وتقيه من الشعور بالذل والضعف بسبب لون بشرته او خلفيته الاثنية او انتمائه الطائفي او الديني او القبلي او غيره. النظام الناجح والمقبول هو الذي يعبر عن ارادة المواطنين وليس ذلك الذي يسلب ارادتهم ويؤطر عقولهم وتطلعاتهم بفتاوي النصوص الايديولوجية ويلقي بالهالة والقدسية على رموزها وشخوصها.
في وجه ما ذكرنا اعلاه تنهض الحقيقة الخالدة وتؤكد بأن تطلعات الانسان في اتساع وصعود وتشعب، مما يجعل بلوغ الكمال يبدو حلماً وربما ضلالاً، وامل اطلالة الجهورية الفاضلة في الفردوس الارضي سراباً. مع ذلك، لا ضير في الغرق في احلام اليقظة وتهيّؤ رؤية الغراب الابيض، والتلذذ بالتمنيات الجميلة وتوقع حصول الاعاجيب طالما تريح النفوس المتألمة والقلوب المتعبة، وتبلسم الجراحات وتمنح الامل بالحياة الهانئة بعد الرحيل على الاقل.
يحقق الانسان المتألم راحة وهدوء النفس عندما يتقلب بين ادراج التمنيات ويغرق في حلم جميل او يعيش الرومانسيات واجواء قصص الخيال او يتوهم لوحة ساحرية يوفر خيوط نسيجها احد المنظرين او الفلاسفة او الروائيين. لكن عندما تتجاوز هذه الحالة الذهنية حدود التمنيات وتتحول النظرية المجردة الى واقع ينفذه احد رواد المؤمنين بالايديولوجيا، يشعر الحالم بالمرارة ويفسد عليه حلمه اللذيذ وهو يشاهد في مدينته او بلدته او ريفه وقريته وقد تحكمت قبضة الحزب ولجانه الثورية بمواهب المهني وبعصارة جهد الحرفي واحبطت طموحات وتطلعات المبدع وأممت رؤى المبتكر وانتقمت من ارباب الصناعة والتجارة والمال والغت فردية وذاتية الانسان واقامت الحواجز الخرسانية امام الفنان والاديب وثلمت حماس المزارع وهزأت بوعظ رجل الدين واستخفت بالقيم المتجذرة وبالايمان الروحاني عند الفلاح والمواطن البسيط واصبحت حركات وكلمات الجميع تحت مراقبة اربعة عيون. يتفاجىء الحالم ويصاب بالاحباط لأنه يتلقى قطعة من معدن الرصاص بدلاً من الذهب الابيض الذي وعد به او تهيأ له بأنه سيكون في يده.
عندما استعرضت الاوراق الظليلة والمعتمة لتطبيقات الايديولوجيا الماركسية لا بد وكان هناك المفاهيم الانسانية وبعض الصفحات المضيئة التي تناثرت او انفرطت من بين اصابعي.
المصادر
1- Adam B. Ulam, ( The Communists, The Story of Power and Lost Illusion ) New York N Y , 2001. 2- Alexander Yakovlev, ( The Fate of Marxism in Russia ) , Howard Fertig, Edition, 1966. 3- Andrea Viotti, ( Garibaldi, The Revolutionary and his Men ) , New York INC, 1994. 4- Archie Brown, ( Autstieg and Fall des Kommunismus ) , Ullstein Buchverlag, Berlin, 2009. 5- Bei Ling, ( Der Freiheit geopfert ) , Berlin, 2001. 6- Ben Kierman, ( The Pol Pot Regieme ) , Yale University, 1996. 7- David Priestland, ( The Red Flag, A History of Communism ) , New York N Y , 2003. 8- Eckhard Jesse, ( Totali tarism im 20 Jahrhundert ) , Becker Graphischer Betrieb 1999. 9- Edgar Hosch, ( Geschichte der Balkan Lander ) , Verlag C. H Beck Munchen, 2002. 10- Eric Hobsbawm, ( The Age of Revolution ) , First Uintage Book, 1962. 11- Francois Fejto, ( The Opening of a new Era ) Howard Fertig, Edition, 1966. 12- Francois Bizot, ( The Gates, Havrill ) London, 2002. 13- Goran Therborn, ( From Marxism to Post Marxism ) , Berlin Uerlag, 1998. 14- Hans Fenske, ( Geschichte der Politischen Ideen ) , Fischer Verlag, Frankfurt, 2003. 15- Ingrid Steiner and Darolan Gashi, ( Im Dienst des Diktators ) , Verlag Carl Unberreuter, Wien, 2001. 16- Jean Sigman, ( 1848 The Romantic and Democratic Revolution in Europe ) , Verlag Berfin 2001. 17- Jens Meklenburg, ( Walfgang Wippermann, Kritik des Schwarzbnch des Kommunismus ) , Fuldaer Verlagsanstalt, Fulda, 1998. 18- J. Hirschberger, ( Kleine Philosophiegeschi chte ) , Verlag Herder, Freiburg, 1992. 19- J. M. Roberts, ( A History of Europe ) , The Penguin Press Group, New York, 1996. 20- Joan and Peter, ( How Pol Pot Came to Power ) , The Thetford Press Limited, 1985. 21- John A. Jacobsohn, ( An Introduction to Political Science ) , Wadsworth Publishing Company, 2003. 22- Karl Heinz Galzio, ( Geschichte Kambosckas ) , Verlag C.H Beck, Munchen, 2003. 23- Karl Marks, ( The Revolutions of 1848 ) , Munchen Verlag, 1985. 24- Karl Scholgel, ( Terror and Traum ) , Moskau, 1937 ) , Carl Hensen Verlag, Munchen, 2008. 25- Klaus – UWE Aolam, ( Die Psyche oler Deutschen ) , Patman Verlag, Dusseldort. 26- Manfred Alexander, ( Kleine Geschichte Polens ) 2003 Philip Reclam, Stuttgart. 27- Martin Fritz, ( Schauplatz Olas Pulverfass Nord Korea ) Verlag Herder, Freiburg, 2004. 28- Olaf Ihlau and Walter Magr, ( Minenfeld Balkan ) , Verlagsgruppe, Randomhaus, 2009. 29- Philip Short, ( Anatomy of Nightmare ) , Henry Holt and Compang, New York, 2005. 30- Richard Kuhl, ( Libralismus als Form burgerlicher Herrschaft ) , Dietcl Verlag, Heilbronn, 1999. 31- Robert Misik, ( Marx fur Eilige ) , Aufbau Taschenbnch Verlage, Berlin, 2003. 32- Schoeps Knoll, ( Konservativismus, Libralismus, Sozialismns ) , Berlin Verlag, 2001. 33- Stephene Courtoic and Nicolas Werth, Das Schwarzbnch des Kommunismus, Editions Robert Laffort, Paris, 1997. 34- Terrence Ball and Richard Dagger, ( Political Ideologies and Democratic Ideal ) , Arisonal State University, 1998. 35- Terry Eagelton, ( Why Was Marx right ) . 36- ( The Age of Revolutions 1789 – 1848 ). 37- Timothy Ferris, ( The Science of Liberty ) , Harper Collins Publischers, New York, 2010. 38- Watter L. Bernecker, ( Europa Zwischen olen Weltkriegen 1914 – 1945 ) Verlag Eugen, 2002. 39- William Langer, ( The Rise of Modern Europ ) , New York, 2000. 40- ( Mngewollte Revolutions ) S. Fischer Verlag, 1998. 41- Tarik Ali, ( Fundamenta Lismusim Kamps um die Weltordnung ) , Wilhelm Heyne Verlag, Munchen, 2003. 42- Christopher Clark ( Wilhelm II ) Die Herschaft des Letezten Deutschen Kaisers ) , Deutsche Vcrlags, Anstalt, Germany, 2008.
نبذة عن المؤلف
من مواليد ناحية القوش – محافظة نينوى. اكمل الدراسة الابتدائية في مدينة الموصل والثانوية في مسقط رأسه. حاصل على شهادة الدبلوم العالي في اللغة الانجليزية – كلية اللغات – جامعة بغداد. حاصل على شهادة البكالوريوس – ادب انجليزي – جامعة المستنصرية بدرجة امتياز والاول على القسم. حاصل على شهادة الماجستير في فرع علم اللغة التطبيقي ( Applied Linguistics ) من جامعة جنوب كالفورنيا – لوس انجلوس – الولايات المتحدة الامريكية. نشر عدد من المقالات في مجلة السنبلة – ديترويت – ميشيغان. يقدم بين فترة واخرى مواضيع ثقافية وتاريخية في الملتقى العراقي في مدينة Leipig بالمانيا. صدر له كتاب تحت عنوان ( صراعات الكنيسة وسقوط القسطنطينية ).
المحتوى الصفحة المقدمة 11 – 3 الفصل الاول 61 – 12 حرب على القصور والقلاع وسلام مع الاكواخ الاوضاع الجيوسياسية في اوروبا القرن التاسع عشر 15 – 12 انطلاقة ثورات ربيع شعوب اوروبا 21 – 16 المانيا حاضنة الثورة 25 – 22 رياح ثورات ربيع الشعوب تلامس ايطاليا 28 – 26 لهب الثورة تندلع في فرنسا ثانية 32 – 29 بريطانيا تتعايش مع التيارات الاصلاحية 36 – 33 ثورات ربيع اوروبا تتأرجح بين اليأس والامل 40 – 37 انبعاث التيار اللبرالي 47 – 41 بزوغ فجر الفكر الاشتراكي 53 – 48 تبلور وتشعب مسار الفكر الاشتراكي 57 – 54 اطلالة الايديولوجية الماركسية 61 – 58
الفصل الثاني 114 – 62 الشيوعية امل الشعوب كارل ماركس ينسج لوحة ثورة العمال 68 – 62 الماركسية تندفع فلسفياً الى يسار الهيغلية 72 – 69 الماركسية تقدم مشروع خلاص البشرية 79 – 73 تنبؤات ماركس على المحك 85 – 80 تراشق الانتقادات بين ماركس وبين الاشتراكيين 96 – 86 النظام الشمولي يتمثل بالراديكالية اليمينية واليسارية 103 – 97 نهوض الوعي القومي وانبثاق التوجهات الاممية 114 – 104
الفصل الثالث 197 – 115 آمال اليائسين والبائسين تنعقد على روسيا السوفيتية فلاديمير لينين وثورة البلاشفة 126 – 115 البولشفية عصر ذهبي ام طلاء برّاق 138 – 127 يوسف ستالين – القيصر البولشفي 150 – 143 تطهير الحزب وتكريس عبادة الشخصية 158 – 151 الستالينية تشوه العلوم وتسترخص الارواح 171 – 159 ارهاب ستالين يطال منظمة الكومنترن 186 – 172 في نهاية النفق شعاع نور ام اجنحة يراعة 197 – 187 بولندا بين المخالب والأنياب
الفصل الرابع 270 – 198 اطلالة الشيوعية على شرق آسيا الصين، القطب الثاني للشيوعية 208 – 198 ماوتسي تونغ يطلق ثورته الثقافية 220 – 209 الممارسات تدحر التنظيرات الراية الحمراء ترفرف فوق كمبوديا 230 – 221 اطلالة شبح سالوث سار / بول بوت 235 – 231 بول بوت يقتطع أجزاء من القدم ليناسب حجم الحذاء 241 – 236 دكتاتور كمبوديا يزيح القناع عن وجهه 249 – 242 كوريا الشمالية تستظل بالراية الحمراء 255 – 250 الارتقاء بالانسان لا يستقيم مع كسر ارادته 260 – 256 النظام الشمولي ينجب عبادة الشخصية 263 – 261 يرحل الاب ويخلفه نجله في القيادة 270 – 264 المواطن يزرع الامل ويحصد الريح
تلخيص وخاتمة 282 – 271
المصادر
نبذة عن حياة المؤلف 283
#نجيب_اسطيفان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
آخر ضحايا فيضانات فالنسيا.. عاملٌ يلقى حتفه في انهيار سقف مد
...
-
الإمارات تعلن توقيف 3 مشتبه بهم بقتل حاخام إسرائيلي مولدافي
...
-
فضيحة التسريبات.. هل تطيح بنتنياهو؟
-
آثار الدمار في بتاح تكفا إثر هجمات صاروخية لـ-حزب الله-
-
حكومة مولدوفا تؤكد أنها ستناقش مع -غازبروم- مسألة إمداد بردن
...
-
مصر.. انهيار جبل صخري والبحث جار عن مفقودين
-
رئيس الوزراء الأردني يزور رجال الأمن المصابين في إطلاق النار
...
-
وسيلة جديدة لمكافحة الدرونات.. روسيا تقوم بتحديث منظومة مدفع
...
-
-أونروا-: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال
...
-
رومانيا: رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا يتصدر الدورة الأولى من
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|