|
البحيرة ...
يعقوب زامل الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 5310 - 2016 / 10 / 10 - 17:18
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة ......... هناك كانت تجلس وحيدة مثل ركن منزوٍ، واطئة مثل رطوبة مكثفة، ومرتفعة كخيال استعراضي، وأنيقة كبرجوازية، ولاهثة مثل كذبة طفل، ومتعرقة كيدٍ تسرق لحظة ليست لها. وكان هناك بعض من ظل خافت يمتد على أجزاء واسعة من الغرفة التي لم يعد لها ذات الأهمية التي كانت لها في الليلة الفائتة. كل شيء يسكن كما هي تسكن الآن باردة وهشة، كأن لا عليها أن تفكر بعد الآن إلا بالصمت.. بالصمت فقط، صمتها النحاسي الصدأ. وكان نوعاً ما من إخفاء لضرورات ساطعة. ضرورات يشعران لو لم يقفلا الباب عليها، ولو لم يفتحا لها ثقباً يسيراً من التفريغ، لتسربت من بين أصابعهما لتعيش في موطنها السري قبل وجودهما معا.. موطنها الذي لم يكتشفه غيرهما من قبل. كيف على حصان بري أن ينكمش متوقفا وهو يتابع بعينيه طريقة تلك الفرس الحيوية أمامه محصورة داخل جسدها. في وقت كان يركز هو على حياة أخرى. حياة تولدت للتو. كانت حياة سائلة، تشبه فكرة لم تنضج بعد. ذاك الآخر السائل بينهما يتحول من مصادفة إلى شرط يقيني. سائل مع جريانه لا يقع بين خيارين متضادين، كما لا يقبل القسمة على نصفي المعروض أمامهما. فكرت أن عليها أن تسأله عما يجري بينهما، فكرت أن تحضر سؤالا غير صادم وغير بائس في نفس الوقت. وحين أعادت الفكرة برأسها، فكرت أن تعيد عليه صورة أول لقاء لهما، وكيف تحولا من صديقين لحبيبين ومن ثم إلى زوجين. وكيف تركت خلفها كل شيء لتعيش معه رغم إرادة وممانعة أهلها بالاقتران به. " تصوري، عليكِ أن تقرئي أو حتى لتفكري لحظة، على نحو ما أراه الآن ... " قالها من غير تأكد أنه يريد مشاركتها لما يفكر فيه. حاول أن يقول بلا تحفظ، ومع انه كان يدرك أنها ربما لن تؤيده، أو تقتنع، لكنه أراد فقط أن يقول لها شيء قد يغير طقسهما. ــ منذ نهار الأمس وحتى هذه اللحظة، أشعر بأن مورافيا بهذه المجموعة القصصية التي أختار لها أسم " الحالمة" لم يكن سوى ثرثار يبيح لنفسه فضح أو التفكير بأنه ليس أكثر من برجوازي. لقد قرأت المجموعة من قبل. لكني وأنا اقرأها الآن، كأني لم اقرأ شيء منها من قبل. فقط الأشياء المهمة هي التي تترك أثرها في الذاكرة. تذكرت أنه قال إن كتابات عديدة كالتي كتبها نيتشة أو كافكا وحتى عرابيد السياسة والشعر أيضا، لم تكن سوى كلمات معادة وغير هامة. قال أنها مجرد نبوءات وربما ارهاصات وأفكار غير دقيقة وغير هامة. سمعتهُ أحيانا وهو يتناقض مع إعجابه بتلك الكتابات. لكنه بعد فترة كان يصرح على عكس ما يتصور. أحيانا كان يمقت كل شيء. وحتى ما يكتبه هو. لكنه كان يكتب. ويقول لابد أن نكتب. لم يتمالك نفسه عندما أنهمر بالضحك وهو يقول " أنهم يجيدون رسم النهايات فقط! تصوري لم تعد تلق قبول أو رضى في داخلي. لم تعد تحدث ما كانت تحدثه فيما مضى من اندهاش" . ــ هي استهلاك... وجدت من يهتم فيها من يمر بذات الحالة... ههه .. شيء سميه رفسات! الكتاب الذي ما يزال أمامه. وتحت نظره مباشرة، لم يكن موجودا في مخيلته. كان ثمة شبح يتحرك في كل مكان، الشبح كان يلهيه عن أكمال قراءة الصفحة المفتوحة أمامه منذ أكثر من نصف ساعة من غير أن يقرأ سطراً واحداً. تركز نظرها عليه، تراه في عالمه الموحش ذاك. تعتقد ، أو هكذا فكرت للحظة، أنه كان يحاول اكتشاف نفسه خلال ركونه أمامها تحت نظره الساكن على كتاب لم يقلب تلك الصفحة فيه منذ أكثر من نصف ساعة. فكرت بأنه لم يكن يقرأ البتة إنما كان يريد أن يكتشف نفسه أو يحاول الخروج منها. الشيء الذي يعيش في عالم المستنقعات الطحلبية وكثافة الغابات المشبعة بالمطر القاري، وبين تلك الأمكنة المتوحدة، كان لابد، وهو في تلك العزلة، أن يكون شيئا خاص، ومن نوع خاص بلونه الزهري. شيء يدل على ذاته. ربما ليس مشهوراً، أو منعزلاً، لكنه حتما سيكون عصياً على التفسير، كما لا يمكن لمسه. هكذا كان هو في تلك الظهيرة، لم يكن مرتبكاً، أو قلقاً، ولا عقيماً، إنما كان على شخص مثله، أن تكون له شخصية متفردة، وأصيلة. وهذا ما يحس به ويحتاجه، وليس شيء آخر. وهذا بالضبط ما أحسته هي لأنه في الطريق إلى اكتشاف تلك الشخصية الواحدة، لهذا عندما جلست أمامه مباشرة، حطت يدها مثل حمامة دفء على يده الممدودة على المنضدة أمامها. اليدان، كانتا مثل رسالة عاطفية داخل مظروف ملوّن ومعطر ينتظر من أُرسل له ليأخذهما بنعومة. الضوء لم يكن شديداً، ولا خافتاً، ولا مختلفاً عما حوله، لكنه كان يملأ المكان برغبته الخاصة، لذا كان أيضا، عميقاً وهادراً. وقت لامست يده، كانت قلقة، وخائفة. وكان هو يراقب بلسماً مستديراً يقبع في الخارج. وكان بعض إصغاء يكتسي برغبة للمطر والغزارة. وكانا مخضلين في صمتهما على ملامح قلقة معاً. تقاطيع وجهيهما مليئان بالتواءات حسية غير ساكنة، وعلى درجة عالية من التشتت والكثافة معاً. وكان كأنهما يستخلصان لوجودهما شيء ما أكثر حيوية، وسخونة، وتفرداً لكي يتجمعا من جديد. بلا رغبة، حملت جسدها. وعندما دخلت الحمام، كان هو ما يزال رابضا على كرسيه. أنزلق الماء على جسدها. غلف عريها الساكن. أحست بدبيب ناعم ينزلق على رخام جسدها. وعندما عادت لغرفة نومها، استبدلت قطعة المنشفة البيضاء التي غلفت نصف جسمها برداء نومها الحريري. بمجرد ألقت نفسها على السرير، أغمضت عينيها. ولأول مرة كانت تشعر بأنها تسقط في الشيخوخة مبكراً. في غرفة الجلوس كان ما يزال يفكر على نحو بياني. وكان يتحقق من صورة لأول مرة: " من الصعب تحديد نوع علاقتنا "! مع هذا أحس بأنه ما كان يخسر شيئاً عندما كان يتوقف على نقطة هامة حول ما إذا كانت هذه العلاقة ضرورية لكليهما؟. وقت كانت هي تتقلب على فراشها تفكر بأنهما ضروريان لبعض. تصاعد دخان سيجارته، وربما لأول مرة ، تصاعد معها شيء من شعور جديد. كل ذلك الغموض السعيد المتصاعد عموديا وأفقيا بلا تساوي كان هو لون عينيها الغامق وقد انتشر في تلك للحظة في كونه الخاص، وحين تجملت بشيء من حدود المسافة بينهما، تيقن أن ما يحدث بينهما خاص تماما.. يخصهما وحدهما. أما تلك النداوة الرطبة التي فاضت مع اللون، وارتعاش جفنيها المخضلين، لم تكن غير المفاجأة البوهيمية التي كانت تضغط على ناحية في عمق ما بين رئتيه. تناهى إليه صوتها، وهي تسأله باستغراب: ــ لماذا لا تقول شيئاً ؟! وعندما انتظرت بهدوء مصطنع، وحين أمال هو برأسه ناحية كتفه، أحست بأنه يقع الآن في واحده المتنافس. حاولت أن تضيف شيء ما يخفف الحمل عما يحصل بينهما من جيشان تخاف منه. أحست بالفشل ثم عادت للصمت. عندها سمعته يهمس بصوت بالكاد تناهى لسمعها: ــ هل تعرفين ما يحصل لي الساعة؟! ودت لو يعود لصمته.. أن يكره نفسه على هذا الثقل المدمر على أن لا يكمل القول. كانت تدرك جيداً أن عليها أن تصغي لشيء ليس عليها أن تسمعه أو تصغي إليه. كان صوته رماديا، وعلى بعد فراغ عمودي، تسرب لرئتيها رائحة دخان سيجارته. الطبقة العليا من استيائه الطويل ضاع في تلك اللحظة بين شفتين متيبستين، وبعض من لوّن زهري طاف على سطح محياه. كان يغلق عينيه وكأنه يسافر بشعره الأبيض، وتفاصيله الباسلةـ إلى تسلية عظيمة، عندها سألته: ــ ما أسم تلك البحيرة ؟ لم تنتظر رداً، أغلقت عينيها. وكانت جهة من المكان مثل حجر كريم تسكن متوحدة !
#يعقوب_زامل_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرتيلا..
-
الشفق...
-
حقول الرغبة..
-
...وبمغبر ثيابي..
-
صانع الفراشات الشمعية..
-
سماء زرقاء ، وكوكبنا...
-
المغزى .. بداية!
-
آ آ آخ...
-
بانتظار من سيأتي..
-
قطرة على مجسات يدي..
-
مساحة لحقول المتطلبات..
-
لعري تنفسه، جُلدكَ...
-
أنا وأنتِ بعضها..
-
جوانب من شرفات الاجنحة..
-
المتوالي المفقود..
-
لو أنت وحدكَ تجيءُ
-
رباعية ما بعد البداية...
-
لا أبعد من تنوعِ موتكَ!..
-
نصف أحمر.. ونصف....... !
-
اختلاط...
المزيد.....
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|