يبدو ان المعيار الاقتصادي للتفريق بين الغني والفقير هو ان الفرد في البلدان الغنية بوسعه ان يتناول خمس وجبات في اليوم الواحد، بينما ليس بمقدور الفرد في البلدان الفقيرة ان يتناول اكثر من وجبة واحدة لا غير. وفي البلدان الأشد فقرا قد لا يتناول الفرد الواحد اكثر من وجبة واحدة كل خمسة ايام.
هذا هو الفارق بين الاغنياء والفقراء، كما يلخصه الرئيس البرازيلي لويس أغناسيو لولا دي سيلفا. ولولا الذي تسلم الرئاسة حديثا وسط ترحيب الاوساط اليسارية في العالم، بما يشبه عودة الروح، قد جمع المجد من طرفيه، اذ شارك في مؤتمر الاغنياء بدافوس، بعد ان افتتح مؤتمر الفقراء في بورتو أليغري. واذا كان الامر كذلك فلا فارق على هذا الصعيد بين ممثلي الاغنياء الذين التأموا في المنتج السويسري وبين ممثلي الفقراء الذين تظاهروا في ساحات المدينة البرازيلية. ذلك ان الواحد من هؤلاء الاخيرين، وجلهم من النخب الثقافية والشخصيات السياسية او الاجتماعية، قادر على تناول خمس وجبات في اليوم الواحد، شأنه بذلك شأن ممثلي الاغنياء في بلدانهم، او شأن النخب والشخصيات البارزة في الدول النامية او الفقيرة.
وهكذا لا فارق على الصعيد المعيشي بين ممثلي الاغنياء وبين من ينطقون باسم الفقراء، سوى كونه فرقا بين نخب وسلطات. لأن المواقع والقدرات متماثلة. وهذا امر لا ينبغي اهماله. ذلك ان الانسان، كفاعل اجتماعي، هو بموقعه ومركزه او بسلطته وحضوره، كما هو بقدراته ومقتنياته. ومن يملك ويقدر ليس كمن لا يملك ولا يقدر. والذي يمارس حضوره وسط المشهد ليس كالمهمش او المغمور.
بالطبع هناك بين الفريقين الاختلافات العقائدية او السياسية، كما تجسدها الدعوة الى التحرير وارادة التغيير، او كما تعلن عنها الخطابات وتسوغها الأفكار والتصورات، لدى الذين يعارضون العولمة والليبرالية الجديدة للدفاع عن مصالح الفقراء والتعساء او عن حقوق المحرومين والمقهورين.
1 ولكن الارادة سيف ذو حدين، اذا اخذنا بعين الاعتبار مخاتلة الاهواء ومكر الرغبات. فالانسان بقدر ما يعي وينطق ويريد، هو في الوقت عينه ومن حيث لا يعي، موضوع لآليات وممارسات ومؤسسات تنطق عبره او تعمل من ورائه على نحو يتجاوزه او يفلت من سيطرته. ذلك ما يتيح لنا ان نفهم كيف ان البشر ينتهكون دوما ما يدعونه من الفضائل او ما يدعون اليه من القيم والمبادئ، بقدر ما يجعلهم يفاجأون بما لا يريدون او يحصدون ما يعلنون محاربته. وهذا واقع بشري بنيوي تعبر عنه الفجوة بين الرغبة والقدرة او بين القصد والمآل.
2 للخطاب ايضا مآزقه التي تتمثل في خدعه والتباساته وتعارضاته كما تتجلى في آلياته في الحجب والتمويه والتضليل. ولذا فان صاحب الخطاب لا يرى وسط الرؤية بقدر ما يتناسى حقيقة خطابه وسلطته. هذا شأن الداعية لتحرير الناس، لا يرى ان أقواله تتحول الى أداة للسيطرة عليهم. وهذا ما يفعله عاشق الحرية الذي يعظم ويؤلّه الاشخاص الذين يعتبرهم محرري الناس من نير الاستعباد او براثن الاستبداد. وأخيرا هذا شأن من يمارس الوصاية النخبوية على القيم، باسم الدفاع عن الحقوق. انه لا يرى ان نخبويته تقوض مبدأ المساواة في الحقوق من الاساس بقدر ما يجهل ان وصايته تعني انه الأحق والأولى والأجدر والأفضل. ذلك ما يفسر لنا كيف ان داعية الحرية والعدالة يتحول الى طاغية او الى مناضل فاشل.
3 للأفكار كذلك أزماتها لدى دعاة الحرية والعدالة، بعد ان استهلكت مشاريعهم وأفلست مقولاتهم، وباتت اقرب الى التهويمات العقائدية والشعارات الطوباوية. مما أفقدها مشروعيتها في التعبير عن حرية الشعوب ومصالح الجماهير، بقدر ما أفقدها مصداقيتها كعدة نظرية او كاستراتيجية عملية لفهم العالم والتأثير في مجرياته بصورة خلاقة وفعالة.
فماذا تقدم حقا افكار المجتمعين في المنتدى الاجتماعي لكي يتشكل عالم آخر ممكن يكون بديلا لعالم العولمة؟ ماذا تقدم فعلا في مواجهة الامبريالية والأمركة افكار مثقفين عريقين في النضال الفكري والسياسي امثال نعوم تشومسكي وسمير امين وإنياسيو رامونيه؟ هل ما زالت مقولاتهم ومواقفهم تملك مشروعيتها بعد اربعة عقود من النضالات الفاشلة التي ازدادت معها الرأسمالية توسعا والولايات المتحدة قوة ونفوذا؟
قد يكون بيل غيتس الذي هو رمز من رموز العولمة بشركته وثروته الطائلة اكثر مصداقية وفاعلية من الدعاة في الحد من آفات الفقر. اولا لأنه خلاق ومبتكر من حيث علاقته بالحقيقة، ثانيا لأنه يملك الامكانية من حيث علاقته بالثروة، وخاصة لأنه صاحب خبرة ودراية في صناعة العالم وادارة الواقع بقدر ما هو منتج للحقائق والوقائع.
في حين ان الدعاة والمثقفين الذين تسيطر عليهم النرجسية ويتصرفون بعقلية الوصاية على القيم، إنما همهم ليس الدفاع عن مصالح الفقراء، بقدر ما هو امتداح لذواتهم والبرهنة على صحة مقولاتهم، اي ممارسة سلطتهم المعرفية وحراسة افكارهم. هذا هو الهاجس الاصلي للنمط الثقافي: ان يثبت صاحبه انه على حق. واما حقوق الفقراء فليست سوى ذريعة او مادة لصراع الافكار. مما يشهد مرة اخرى على ان صاحب الدعوة لا يرى وسط الرؤية في ما يدعو اليه. فهو يعلن مناهضة العولمة والرأسمالية ولكنه لا يرى الوجه الآخر، اي انه بعد فشله في المناهضة، كما يتمثل ذلك في استحالة الرأسمالية الى رأسمالية وحشية كما يقولون، قد بات وجها آخر من وجوه المشكلة بمقولاته المفلسة وأسلحته المفلولة التي يزداد معها الفقراء فقرا. مما يعني ان الأولوية هي للنقد والمراجعة، من اجل كشف آليات العجز ومكامن الضعف. وذلك هو التحدي والرهان: مواجهة الذات والقدرة على تغيير الافكار. اليس ذو دلالة بليغة ان نواصل طوال عقود معارضة النظام العالمي وإدانة الرأسمالية بصورة عقيمة، من غير مراجعة مفاهيمنا وقيمنا حول العالم والواقع والانسان والحرية والعدالة والحقيقة، فيما العالم هو صيرورته وتحولاته، خاصة في هذا الزمن الكوكبي المتسارع؟ ان نواصل التفكير بنفس الوجهة والعقلية والطريقة يعني اننا مصدر من مصادر المشكلة والافة، اي اننا نشارك في صناعة العالم الذي ندينه ولو على سبيل السلب والفشل ومن موقع الضعف والهشاشة.
لا مراء بأن هناك افكارا اخرى. لأن منتدى بورتو أليغري ليس وحيد الاتجاه، وانما هو يضم تجمعات وشخصيات متعددة المذاهب والمشارب.
أ هناك بالطبع اليساريون التقليديون الذين يعادون العولمة، ممن يصفقون لكاسترو وشافيز او يرفعون صور صدام ضد بوش. وهؤلاء ما زالوا يفكرون بمقولات العالم الثالث المنهارة وحركاته التحررية الفاشلة.
ب وهناك اليساريون الجدد. وهؤلاء يعترفون بالتحولات الهائلة التي احدثتها العولمة في بنية العالم ومشهده. فموقفهم يشبه موقف ماركس من الرأسمالية، بمعنى انهم يعتبرون ان العولمة هي التي تخلق الشروط لتقويضها والقضاء عليها بقدر ما تشكل الفرصة الذهبية لانجاز ما عجزت عن تحقيقه الحركات والقوى الاجتماعية منذ زمن ماركس، اي بناء الفردوس الموعود لتحقيق مجتمع العدالة والرخاء والسلام. ومن يفكر بطريقة فردوسية يترجم افكاره الى مُحالات عقائدية او الى انظمة استبدادية.
ج هناك من جهة اخرى انصار البيئة ودعاة ما بعد التنمية كما يسمونهم، وهم يتجاوزون الصراعات بين المدارس الاقتصادية والسياسية، لكي يسلطوا الضوء على ما ولدته عقيدة التقدم والتنمية من المآسي والكوارث البشرية والطبيعية. ولذا فهم يطالبون باتباع خط معاكس للنمو، اي بالعودة الى الوراء، وهذا مطلب هو من قبيل المستحيل، لأن المجتمعات البشرية ليست قادرة على العودة عما تقدمه التطورات التكنولوجية من وسائل النمو والتقدم. الممكن هو العمل لفتح آفاق جديدة امام العمل الحضاري والتنمية البشرية بصورة متوازنة.
د ولا ننسى الدعاة الذين يطالبون، من منطلق علماني او ديني، بأنسنة العولمة او باضفاء الطابع الروحاني عليها للتخفيف من جشع الشركات ووحشية السوق ورأس المال. وهؤلاء يتناسون ان انسانيتنا التي ندافع عنها ونخشى انتهاكها هي اصل المشكل ومصدر ما نشكو منه من العنف والخراب، لأن المفردات التي تنبني بها هي الشراسة والعداوة والتفوق والاستيلاء والتكالب، فضلا عن العنصرية والتمييز، او الاقصاء وعدم الاعتراف. يستوي في ذلك اصحاب اللاهوت ودعاة الأنسنة، كلاهما وجهان لعملة بشرية واحدة قد شاخت وأفلست في معالجة آفاتها وتدارك كوارثها. لنعترف بأن البربرية هي صناعة انسانية اذا شئنا فهم الازمة ومعالجتها.
من هنا السؤال: ما الذي يمكن ان يصنعه المنتدون الذين يتظاهرون ويحتفلون بما يشبه الاعياد في بورتو أليغري؟ ما الذي باستطاعتهم تقديمه للمساكين، للذين يتضورون جوعا في افريقيا او للعراقيين المحاصرين بين فكي الكماشة: شراسة النظام الديكتاتوري الذي يتخذهم رهينة لعبثه ومُحالاته مقابل اميركا بجبروتها وترسانتها، وهي التي تريد الآن الاطاحة بالنظام العراقي بعد ان كانت قد عملت على دعمه ومنعت انهياره؟
ان العلة تكمن بالذات في ما يظنه الدعاة العلاج والحل، اي في هواماتهم الانسانية وتهويماتهم النضالية كما في عقلياتهم الاخروية وادعاءاتهم النخبوية التي تجعل دفاعاتهم فاشلة وعقيمة في مجابهة الآفات التي تزداد وتتفاقم، فقرا وبؤسا او قهرا وظلما او دمارا وتلوثا.
وهكذا فما نحسبه الدواء هو الداء. ما يعني ان نكف عن مزاعمنا بأننا نجسد القدوة والمثال او الضمير والبوصلة، بحيث نفك وصايتنا على الحقيقة والعدالة والحرية. فلسنا اولى بهذه القيم من سوانا. بالعكس، فبعد كل الدعوات والادعاءات التي اثمرت ما نشهده من الانهيارات والتراجعات، اصبح من المبرر ان يخشى المرء على حريته وحقوقه ومصالحه من دعاة الحرية وحراس الهوية وحماة الحقوق. فالأولى بهم تفكيك العقليات والمقولات والاستراتيجيات، وذلك بالتدرب على عقول مختلفة والتمرس بسياسات جديدة لابتكار اشكال وأنماط ومجالات وقيم ومهام تمكنهم من المساهمة مع سواهم في تغيير العالم على أسس وقواعد جديدة من التنوع والتعدد او التوسط والمساومة والتفاوض او المشاركة والمداولة، بالخلق المستمر والتحول الدائم، بعيدا عن الحلول القصوى والعقليات الاستبدادية والاصوليات المتطرفة من اي نوع كان، أكانت دفاعا عن الفقراء أم ادانة للأغنياء.
فالعالم لا يدار بمنطق التضاد والادانة، وانما يبنى بكل عناصره وقواه ومشروعياته التي يتوقف بعضها على بعض.
©2003 جريدة السفير