|
الرواية: ملحق
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5303 - 2016 / 10 / 3 - 15:17
المحور:
الادب والفن
وهمُ العيش بسعادة، لطالما أرّق الإنسان. بل إنّ هذا الوهم، هوَ وراء فكرة خلود الإنسان، الأنانية. وأعني طبعاً، الجنّة السماوية. كان مما له مغزاه، أن تكون كلمة " الرياض " من مرادفات كلمة الجنّة أو الفردوس. لقد قدّر لي العيشُ في هذا الرياض لعدة أشهر، وكان بمثابة جنّة وحدتي. الجحيم، وإن كان مجازاً، كان يركنُ على أبواب الرياض. فحين أكون مستمتعة بعذوبة أستلقاءتي على أريكة في الرواق، أو عند حافة المسبح، تكون الحرارة خارجاً قد تجاوزت الخمسين درجة. تشديدي على فكرة الخلود، بوصفها أنانية إنسانية، أحيله إلى حياة الوحدة المكتوبة على كلّ كاتب. وإنها لحياة لا تقلّ أنانية عن تلك الفكرة. لعلّ الكاتب يضيق ذرعاً بفكرة وجود إله، لكونه لا يتصوّر أن يبقى مراقباً طوال الوقت وهوَ في عزلته الأثيرة. على أنّ هذا الكاتب، في المقابل، لا يمكنه تصوّر حياة الناس بدون إله. فلئن عجزنا على مرّ العصور من تحقيق فكرة السعادة، أو العدالة على الأقل، فإننا لا نملك إلا أن نهتف مع بطل دستويفسكي: " إذا لم يكن ثمة إله، فكلّ شيء يصبحُ مباحاً ". إلا أنها الإباحية، مَن تكاد تكون نعتاً آخر لهذه المدينة ( ما أكثر نعوتها! ) وعلى الرغم من كون أجوائها مزدحمة بكلمات التسبيح للإله. بغض الطرف أيضاً عن حقيقة، أنه عامٌ واحدٌ حَسْب قضيته في مراكش، إلا أنني كنتُ واعية لتلك الظاهرة. ظاهرة الإباحية هنا، لا يُمكن النظر إليها من زاوية أخلاقية بحتة. فالنفاق، كحالة إجتماعية، منتشرٌ أيضاً في مدن أخرى غير مراكش. كذلك الأمر، في موضوع الفقر. فما هوَ سرّ هذه الإباحية إذن؟.. لا أملكُ، بطبيعة الحال، جواباً قاطعاً. مع أنني كتبتُ عن ذلك أكثر من مرة، فيما سَلَفَ من سيرتي هذه. على أنني أعيدُ ذاكرتكم أيضاً إلى أسطورة، يتبناها الكثيرُ من شلوح ورزازات عن أصول أسلافهم، اليهودية. هؤلاء الشلوح، يشكّلون اليومَ جزءاً كبيراً من ساكنة مراكش وعددهم فيها يضطرد مع إزدياد الفقر والبطالة. بل إنّ أهم رمزين مغربيين، مُستمدان من اليهودية: الخميسة؛ وهيَ صورة كف مضموم الأصابع، تعتبر تميمة في كلّ بيت مغربيّ. أما الرمز الآخر، نجمة داوود، فكانت تتصدّر العلم الوطنيّ حتى عشرينات القرن الحالي ثم أستبدلت بالنجمة الخماسية المتقاطعة على أثر تبنّي الصهيونية للنجمة الأولى. الموسوية، مثلما نعرف، هيَ من وضعت أساس فكرة جسد المرأة كمصدر للخطيئة؛ الفكرة، المُعتبرة مُوَلّدة لكل مظاهر التعصّب والتطرف والعنصرية في عالمنا على مرّ العصور. ولكنهم اليهود بأنفسهم، كانوا أول من ثار على هذه الفكرة في أوروبا العصر الحديث من خلال فلاسفة ومفكرين وباحثين وأدباء وفنانين. وإنهم هؤلاء المشاهير، من كانوا وراء تلك الإباحية التي تفجّرت في القارة العجوز وخصوصاً مع انتهاء الحرب العظمى. فلو قارنا الأمرَ مع حال مراكش، وهيَ أساس كينونة المغرب كدولة ـ لدرجة أن أسمه مشتق من اسمها على مرجوح التأويل ـ لرأينا أن الدماء اليهودية تجري أيضاً في عروق هذه الإباحية ـ كما لو أنه ردّ فعل مماثل، كيديّ، على عقيدة تحريم جسد المرأة.
*** هكذا أفكار، شغلني بعضها بالفعل أثناء مغادرتي فيلا العائلة عند الغروب. وكنتُ مضطرة مجدداً لزيارة الفيلا، بحجّة تعزية " غُزلان " بوفاة أبيها. عبثاً كان هذا العناء، لو أنّ الأمرَ تعلّق حقاً بذلك العجوز التعس. لقد كانت تفوح منه رائحة جثة متهرئة مذاك اليوم، الذي رأيته فيه لأول مرة في صالة الفيلا. الإبنة، مثلما كان متوقّعاً، كانت تتقبّل العزاء بأبيها وهيَ تمثّل دورَ من فقدَ عزيزاً لا يُمكن أن يعوّض. إلا أنها ما لبثت أن أدّت دوراً آخر، كإمرأة غيورة على حبيبها، حينَ أنهت حركة تململ في مجلسها على الأريكة بالتساؤل: " أعندكِ خبر عن فرهاد..؟ "، خاطبتني بحرارة كادت أن تذيبَ أحرف اسم شقيقي. بدَوري، حرّكتُ رأسي قائلةً: " قليلاً ما كنا نلتقي في الآونة الأخيرة ". كنتُ ما أفتئ مدهوشة من سؤالها، المتوافق مع وجود باقي أفراد العائلة في الصالة بما فيهم رجلها. وإذا بها تباغتني هذه المرة بالجواب: " يُقال أنه مقيمٌ في الحميدية، في منزلٍ تملكه أم الشريفة ". كنتُ أدوّر كلمات مخاطبتي في ذهني، عندما أنبرت " خدّوج " للكلام بخفّة: " لا بدّ أنها الشريفة، من دبّرت له المسكن. كون إيجار شقة غيليز باهظاً، وهوَ الآن بدون عمل " " بخصوص العمل، فإنني أنتظرُ موافقة فرهاد على طلب قريني أن يخدم لديه في الإقامة الفندقية. وعلى أيّ حال، فإنّ سيمو كان مهتماً بإيجاد سكن لشقيقي وربما هوَ من أقترحَ عليه الإقامة بمنزل حماته "، توجّهتُ بكلامي إلى " خدّوج " مُرفقاً ببسمة ساخرة. وعليها كان أن تمّحي بسمتي، مع مبادرة " غُزلان " للنطق ببطء: " ولكنها لم تعُد حماته؛ أما أعلمكِ سيمو بالأمر؟ ". بدأ داخلي يغلي بالحنق والسخط. الشريفة تطلّقت، وسيمو الخنزير لم يُعلمني بالموضوع. بل ولم أرَهُ، على الرغم من كونه مرافقي، منذ أن قمت بزيارته مع أخيه غير الشقيق. بيْدَ أن ذلك، لم يكن آخر الأخبار السيئة. إنّ " خدّوج " تتهيأ لتردّ لي إلماحة التهكّم، وها هيَ ذي ابتسامتها تسبق كلمتها: " أأنتِ متأكّدة من أنّ فرهاد سيخدم لدى قرينك؟ "، سألتني مشددة على المفردة الأخيرة. ثم ما عتمت أن أضافت للفور: " غوستاف أخبرَ زوج سُمية بأنه قررَ صرفَ سيمو من الخدمة، لأنك لن تكوني بحاجة بعدُ لمرافق ". حاولتُ ما أمكن الإحتفاظ ببرودة أعصابي، وأنا واقعة بين ناريّ صديقتيّ القديمتين، اللدودتين. كان عليّ أيضاً أن أستمدّ العزمَ، سواءً من نظرات " حمو " المتعاطفة أو من علامات الغيظ على سحنة والدته. " ألهذا الداعي تخليتِ عن فرهاد؛ ألأنه عادَ مفتقراً ومتشرداً؟ "، سألتُ " خدّوج " وأنا أروزها بعينيّ من قدميها إلى قمة رأسها. أجابتني ببعض القسوة وقد ظهرَ الإنفعالُ على سحنتها السمراء: " لم أكن قد قطعتُ له أيّ عهد، وما عليكِ إلا أن تكرري قولي هذا على مسامعه ". واستطردتْ فيما كانت تتنفّس بعسر: " إنه يُعاشر الشريفة منذ أن كانا يخدمان السيّدة السورية، وهوَ بنفسه من... ". فما كان من " حمو " إلا أن تدخل ليقاطعها محتداً: " كفى، كفى! إنه شرفُ أخيكِ، مَن تتنطعين بالخوض فيه باستهتار ". سحنة الأم، تحوّلت ملامحها إلى علامات القلق فيما كانت عيناها تحدّقان بالإبنة. وكانت " خدّوج " عندئذٍ مُتصببة بالعَرق، كما لو انها محمومة. حالاً، تذكّرتُ إنّ ذلك كان أحد أعراض أزمتها النفسية السابقة. وقفتُ لأستأذن بالانصراف، فيما كنتُ أنحني لسيّدة الدار باحترام. كأنّ هاجساً ما، قد هتفَ لي إذاك بأنها زيارتي الأخيرة للفيلا. ثم ألتفتُ إلى " حمو "، طالبةً منه أن يرافقني إلى الخارج. غيرَ أنها الأم، من سبقت الجميعَ إلى باب الفيلا الخارجيّ. ثمة، صرخت بكنّتها: " إذهبي..! ". وكانت " غُزلان " قد أقتربت مني، وفي نيتها معانقتي على ما يبدو. كنتُ أنتظرُ زوجَ هذه الأخيرة، لما نبرت والدته لتقول لي بلهجة أيام زمان الرقيقة، المألوفة: " مهما يكن الأمرُ، فها هنا منزلكِ. ومرحباً بك أنت وشقيقك دائماً! ".
*** كانت العتمة قد هيمنت على جوانب الشارع ذي الإسم الملكيّ، فيما الأنوار الساطعة تخترق قلبه الأسوَد، الإسفلتيّ. جوّ أواسط الصيف، كان مكتوماً بلا نسمة هواء واحدة. أنزلنا " حمو " أمام منزله، الغارق في حِدادٍ صوريّ. على الأثر، رأيتَ سيارتنا الرانج روفر تنطلق نحوَ مدخل المدينة القديمة، كي تميل من هناك باتجاه باب دكالة. صارت الظلمة تثقل على قلبي، فيما كان " سيمو " يمضي بالسيارة على طريق فاس: " بعد الزيارة، سأعطيكَ قراري بخصوص الخطّة.. "، قلتُ له دون حاجة للنظر في سحنته المُتفاقمة باللؤم والصفاقة والسطوة. فما هيَ إلا عشر دقائق، حتى كنا نتوغلُ في دربٍ ترابيّ ضيّق، مُحوّط بأبنية منفصلة عن بعضها البعض ببساتين ومزارع. ما يُشبه المقهى، كان أول ما استقبلنا بمدخله المضاء بمصباحٍ هزيل، متدلّ من دقران كرمة عنب. فما عتمَ مرافقي أن أوقف السيارة ثمة، بإزاء جدار المقهى. ثم ترجّلَ ليتجه نحوَ باب المنزل المطلوب، مُتجاهلاً مهمّة فتح باب السيارة أمامي. تبعته بخطوات سريعة، لألحقه أمام ذلك المدخل المشمول بعتمة غامضة حال المكان جميعاً. ميّزت عيناي جرتين كبيرتين، قائمتين عند جانبيّ الباب الخشبيّ وقد برزَ منهما نباتٌ متسلّق. دفعَ " سيمو " البابَ بيده، ثم أتجه بخطوات ثابتة عبرَ ممرّ قصير يُفضي إلى رواق رائع بأعمدته وأقواسه وسقفه ونقوشه، تنيره فوانيسٌ كهربائية ضخمة. امرأة متوسطة العُمر، مكتسية بجلابة تقليدية، كانت راقدة على أريكة طويلة تؤثث معظم مساحة الرواق الداخلية. " الشريفة في البيت العلويّ، ولكنني أظنّ بانها نائمة "، قالت لي المرأة الشبيهة بساحرات حكايا الأطفال. كنتُ قد لحظتُ حال مروقي للرواق مدخلاً ضيقاً، على شكل قاعدة للدرج. بلا نأمة، أتجهتُ من فوري إلى ذلك المدخل كي أرتقي الدرجَ وصولاً إلى الدور الثاني. كان المكان مظلماً تماماً، عدا عن بصيص نور يشقّ بابَ حجرةٍ، موارباً. لما أعتادت عيني على الظلمة، أقتربتُ من باب الحجرة تلك. وإذا بصوت خفق أجنحة، يجعلني أجفل قليلاً. أمتلأ انفي عند ذلك بمشام عذق الطيور، التي لحظتُ لاحقاً أنها تربى في حجرة ضيّقة ذات باب من شبكٍ معدنيّ. وكنتُ أهمّ بدفع باب الحجرة المضاءة، حينَ تدفّق هذه المرة في سمعي صدى نهنهة عميقة شبيهة بتشنجّات امرأة في مخاض. تلك، كانت " الشريفة ". شعرها المتوهّج بالصفرة، كان أول ما بدا لي وهوَ مترامٍ على السرير. لوهلةٍ، أنتابتني الحيرة: " أهيَ حامل، حقاً..! "، راحَ سرّي يهذي فيما بصري يتنقّل لقطة لقطة في المشهد، المترامي أمامه بكل عريه وعاره. فكّرتُ للحال بما كان يُشار لهذه المرأة تشنيعاً، بأنها تفتحُ رجليها لأيّ كان بسهولة ويُسر طالما أنّ الثمنَ مقبوضٌ نقداً أو منفعةً. كان واضحاً أنّ هذا الرجل، المُعتلي بطوله جسدَ المراة، كان حريصاً ألا يصدم بطنها فيما كان يرهزها بين فخذيها المفتوحين على وسعهما. " رباه، إنه فرهاد..! "، هتفَ داخلي بنبرة الهذيان ذاتها. قبل لحظات قليلة، كانت " الشريفة " قد انتبهت فجأة لوجودي خلف الباب الموارب. فلما لاحظ الرجلُ بدَوره أنّ الأنّات قد خمدت على غرّة، فإن عينيه تحوّلتا من عينيّ شريكته إلى عينيّ. شهقتُ بصوتٍ عال، فيما كان داخلي يزفر اسمَ شقيقي. فلم يَرُعْني، على أثر الإلتفات إلى الخلف وأنا أهمّ بالانسحاب، سوى مرأى وجه صبيّ متألق في العتمة ـ كقمرٍ صغير، بسّام الثغر.
*** تركنا خلفنا ذلك الدوّار، الغارق في الظلمة والنسيان. ضحكات المرأة الشبيهة بالساحرة، كانت ما تفتأ تطنّ في أذنيّ، فيما عيناي ممتلئتان بدموع القهر والاستسلام. كان رأسي نهباً لأفكارٍ متضاربة، إلا أنها ترتقي دوماً الدرجَ المظلم المؤدي إلى ذلك العش المشؤوم. ولكن دموعي تحجّرت، حينَ برز لعين خيالي صورة الطفل الصغير وخصوصاً لما طلبَ مني درهماً. قيل أنه الابن الأصغر للمرأة الساحرة، ويبدو أنها أنجبته وهيَ متجاوزة عقد عمرها الرابع. كانت إعاقته الذهنية واضحة، بصرف النظر عن ملامحه البهية الآسرة. وإذا بصورة " زاهد " ترنو إليّ، لكي تعيد عبراتي لمسيلها المألوف مرفقة بنشيجٍ خافت. ألتفت إليّ مرافقي عندئذٍ، ليتساءل بانزعاج: " ماذا دهاكِ..؟ ". وأضافَ قائلاً بصوته الأجش: " عليك أن تكوني أكثر قوة وجَلَداً. إنك مقبلة على عمل خطر، ولكن نتيجته ستجعلك قادرة على التحكّم بأيّ كان " " لم يعُد يهمّني أحد غيرك، فهلا خففتَ قليلاً من غلوائك "، قلتُ له وقد عادت دموعي لتنهمر. أثّر فيه منظري أكثر من كلماتي، التي أدرك ولا غرو أنها لا تعني شيئاً. فمال عليّ ليقبلني بفمي، مُتمتماً بكلمات لا تقلّ خراقة عن كونه قد هجرَ امرأته من أجلي. تمثيلنا هذا، المتبادل، كان كلانا بحاجةٍ إليه لرفع معنوياته قبل الشروع في العملية المقررة. كان المفترض أن نمضي منذ صباح الغد إلى أغادير، لنستهلّ الإجازة الصيفية. قبل توجهنا إلى دوّار أسرة " الشريفة "، فإنّ مرافقي كان قد طمأنني بأنه غيرَ صحيحٍ، خبرُ عزم مخدومه على صرفه من العمل. على أنه، في المقابل، تجاهل تماماً موضوع علاقة امرأته مع شقيقي. لم أشأ من ناحيتي بحث الموضوع الأخير، لما فيه من حساسية بخصوص حَبَل المرأة الأكيد. أجل، إنّ " فرهاد " هوَ من أعترفَ لي بالأمر. بل وزادَ على ذلك، بالقول في تصميم: " أنا عازمٌ على الزواج منها، حالما أتمكّن من تدبير عملٍ جديد ". فلم يكن بلا معنى، أن أنعتَ والدَتَها بلقب " الساحرة "؛ أنا من كنتُ قبلاً أهزأ من الفكرة الشائعة عن كون نساء المغاربة يُجدنَ السّحرَ! وقعُ قبلاتنا، كان ما يني يصدى حينَ عبرتْ الرانج روفر الجسرَ العشوائيّ القائم فوق الجرف. كنا في طريقنا إلى حيّ آلطين، الذي لا يقلّ عشوائية؛ ثمة، أين يقعُ على طرفه القصيّ مملكةُ " غوستاف ". بيْدَ أننا لم نكن نقصد تلك الإقامة الفندقية، المُتبدّية عن بعد كأنها كونٌ عتم متخمٌ بنجوم مضيئة. لم أرغب بمرافقة " سيمو "، فمضى وحيداً ليقابل أحدهم. تركني في السيارة بعدما وضعها في مكان آمن بالقرب من أكشاك ساهرة، مضاءة بمصابيح الزيت. رائحة الزيت المحترق، كانت تتماهى برائحة الماء المرشوش على تراب عتبات الأكشاك، كما وبعبق شجيرات مسك الليل النامية ببطء على مداخلها. أرسلتُ بصري خِلَل مداخل الأكشاك تلك، المحجوب كل منها بستارة من قماشٍ خَلِق، مفكّرةً بأنّ أصحابها المتعطلين ربما يتعاطون الآن المعجونَ المخدّر. هذا البؤس، المُتجلّي أيضاً في كلّ تفصيلٍ حولي، كأنما كان نذيراً بما سيحلّ بي وشقيقي في حال فشل العملية. على أنني كنتُ واثقة بذكاء " سيمو "، وأنه ليسَ الإنسان المتهوّر الذي يقدم على عملٍ غير مضمون بله عواقبه وخيمة. مساهمتي في العملية، أقتصرت على كوني شاهداً. قبيل البدء بتنفيذ الخطة، أوصاني " سيمو " بالإصرار على قريني أن يُبعد " كاتيا " ورجلها إلى شقة أخرى تقع في بناء الإقامة الفندقية.
*** أكان عليّ أن أودّع مراكش أبداً، لما غادرتها في اليوم التالي مع مرافقي على وقع القبلات المتبادلة. طريق العودة من أغادير، عليه كان أن يُصدّع رأسي في يوم آخر بصوت بوق سيارة الإسعاف.. رأسي، المعتلج فيه يومذاك شتى الأفكار المجنونة مذ أن همسَ مرافق النحس في سمعي: " لا مهرب لنا، إلا بإنهائك العملية ثمة في المستشفى. إنه في حالة مخطرة بسبب تنشقه دخان الحريق، فلن يكتشفَ أحد حقيقة موته ". على أنني أقدمتُ على الفعل الشنيع ليسَ بسبب تلك الكلمات المُطمئِنة، بل لكوني من اليأس وقد أدركتُ بأنّ الخطة كانت فاشلة من أساسها: رجلان من حارة البؤس تلك، التي كنتُ ومرافقي قد توجهنا إليها قبل سفرنا لأغادير بيوم واحد، عليهما كان إصطناع صفة عضوين من المافيا. يقتحمان الجناح الفخم، المعتلي الإقامة الفندقية في المارينا، بعدما وصلا إلى شرفته عن طريق سلم الحريق. يُشعل " سيمو " النارَ وهوَ يمثل دورَ المتصدي لذينك الرجلين. " غوستاف "، وكان في الأثناء تحت الدوش، لا يلبث أن يقفل على نفسه بابَ الحمّام على أثر صيحات مرافقه المُحذّرة. من ناحيتي، أنا الشاهد الأخر على الحدث، فقد كان يتعيّن عليّ أن أهرع هاربةً إلى الدور الثاني في الجناح لكي أختبئ في حجرة الملابس. وإذاً، كان يجب على " غوستاف " أن يموت بنفس طريقته في العيش كأحد أباطرة روما. لم أتردد قط، طالما أنّ الأمرَ كان من الممكن إنجازه في سيارة الإسعاف نفسها. فالممرضان الشابان، فضلا الجلوس بالقرب من السائق لتمضية وقت السفر الطويل بالأحاديث والفكاهات. أصوات ضحكاتهم، كانت تتناهى إليّ فيما كنتُ أهمّ برفع قناع الأكسجين عن وجه رجلي المستغرق في غيبوبته. دقيقتان على الأثر، وإذا بعينيه تتفتحان فجأة عن نظرة زرقاء خالية من الحياة، شبيهة بنظرة أضحية العيد الكبير. مثلما كنتُ أتوقّع، ومهيئة له نفسي، فإنني كنتُ الضحية الأخرى. جرى ذلك بشكل متسارع، تماماً كما كان أمر خطة الجريمة. أخذوا أقوالي المبدئية، حال وصول سيارة الإسعاف للمستشفى وإكتشاف موت الرجل. ثم قدموا بالإحترام ذاته إلى الرياض، ليجروا معي المزيد من التحقيق. يومان على الأثر، وكان على أحدهم أن يضع القيد الحديديّ في يدي وهوَ يتطلع بتهيّب في عينيّ. إتفق ذلك مع هبوب عاصفة رملية في مساء اليوم نفسه، أعقبها رعدٌ وبرقٌ وأمطار: " إنها الرؤيا؛ وهيَ تعودكِ للمرة الأخيرة مودّعةً "، خاطبني داخلي. أطوي ذكرياتي عن المدينة الحمراء، فيما أنا أستعدّ لرحلة جديدة. لم أتعرّف حقاً على مراكش الأخرى سوى هنا في الحبس الإحتياطيّ، مع كوني معزولة في حجرة خاصّة. إلا أنني كنتُ دوماً على عزلةٍ، في الحرية والحبس سواءً بسواء. لن أزيد شيئاً بخصوص المدينة، أكثرَ مما سجّلته عنها في هذه الأوراق. وإنها وحدها، من عليه أن يحكم عليّ بعدالة. ولكنني أعلمُ يقيناً أنها ستكون مدينة أجمل، في صباح يوم موتي ـ كمدينتي الأولى، حين أفقنا يوماً على خبر رحيل المهرّج العجوز. بين الحرية والحبس، أو خلالهما بالأصح، بدت الكتابة كأنها مَطْهَرٌ. لقد أوصيتُ أن تسلّمَ هذه الأوراق إلى المحامي، وكنتُ قد أعلمته بذلك شخصياً. وإنه من أعلمني بدَوره بخبرٍ، أعتقدَ هوَ أنه سيجعلني أكثر أملاً: " شقيقكِ فرهاد، أراد مني أن أبشّرك بأنه رزق بمولود بنت، وأنه أطلق عليها اسم والدتكما ". أجل، كانت الكتابة مَطهراً، يليق بما يليه من مدخل الجحيم؛ ثمة أين رُفعتْ تلك اللوحة، المرقَّشة بكلماتٍ رهيبة منذرة: " أيها الداخل، تخلَّ عن الأمل! ".
> يليها رواية توأم، بعنوان " الفردوسُ الخلفيّ "، وهي قيد التنضيد..
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خاتمة بقلم المحقق: 6
-
خاتمة بقلم المحقق: 5
-
خاتمة بقلم المحقق: 4
-
خاتمة بقلم المحقق: 3
-
خاتمة بقلم المحقق: 2
-
خاتمة بقلم المحقق: 1
-
سيرَة أُخرى 41
-
الفصل السادس من الرواية: 7
-
الفصل السادس من الرواية: 6
-
الفصل السادس من الرواية: 5
-
الفصل السادس من الرواية: 4
-
الفصل السادس من الرواية: 3
-
سبتة
-
الفصل السادس من الرواية: 2
-
تخلَّ عن الأمل: الفصل السادس
-
سيرَة أُخرى 40
-
الفصل الخامس من الرواية: 7
-
الفصل الخامس من الرواية: 6
-
الفصل الخامس من الرواية: 5
-
الفصل الخامس من الرواية: 4
المزيد.....
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|