|
خاتمة بقلم المحقق: 5
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5300 - 2016 / 9 / 30 - 19:09
المحور:
الادب والفن
على أثر العشاء، أقترحتُ على المرأتين فكرة التمشّي خارجاً. وكانت فكرة خبيثة نوعاً، كوني عى علم بأنّ وقتَ نوم الصبي الصغير قد أزف. كنتُ بحاجة للإنفراد بالضيفة، بعيداً عن جوّ المجاملات. امرأتي، وبغض الطرف عن مستواها التعليمي العالي، كانت قليلة الإهتمام بالمناحي الثقافية. إلا أنّ طبعها الطيّب، علاوة على حُسن تدبيرها لمعيشتنا عموماً، كان يُريحني خلال عملي الأدبي. وكانت جديرة بالثناء، حينَ نوّهتُ للضيفة خارجاً بمساعدتها لي خلال تنقيح مخطوطة السيرة الروائية: " المؤلّفة، أستعملت الفرنسية مراراً سواءً ببعض الحوارات أو التعابير. كون زوجتي تجيد هذه اللغة، فإنني لم أجد صعوبة خلال قراءتي للنص " " إنها فتاة كريمة ومهذبة.. "، علّقت هيَ على كلامي. انتبهتُ إلى إشارتها لإمرأتي بصفة الفتاة، وربما ذلك عائد إلى حقيقة أنّ جيلين تقريباً يفصل بينهما. ثم أضافت " تينا "، وقد عاد الغمّ يتداخل مع ابتسامتها: " من الناحية الإجتماعية، يُعتبر زواجُ الأدباء غيرَ ناجح. ليست المسألة منحصرة بالغيرة، بل وبشيء من الأنانية أيضاً. الأدبُ مُتطلّبٌ، ويحتاج إلى تضحية من لَدُن أحد الزوجين ". رأيتها فرصة سانحة، لكي أباشر في فتح موضوعٍ كان يشغل بالي مذ أن علمتُ منها بأمر المخطوطة الجديدة: " ولكن الأديب سيكون محظوظاً ما لو كان مقترناً بإمرأة مهتمة بالثقافة، سواءً في حياته أو بعد رحيله "، قلتُ لها متعمداً التشديد على الكلمة الأخيرة. كنا عندئذٍ نتوغلُ في دربٍ ممهّد، يمتدّ بمحاذاة قناة مائية لن تلبث أن تتحوّل رويداً إلى جدولٍ شحيح. العتمة، كانت قد بدأت تصبغ الأشياء حولنا بظلالها السوداء. أستدارت " تينا " نحوي، لترمقني بنظرةٍ توحي بفهمها مغزى قولي. فما عتمت أنّ عقّبت على كلامي بنبرتها العذبة: " الفن هوَ المحظوظ، في آخر المطاف. أما امرأة الكاتب، فلا شيء يمكن أن يعزيها في وحدتها ". كأني بها كانت تلمّح إلى حقيقة مُحزنة، تتمثّل بوفاة " فرهاد " بعُمر مبكر وقبل أن ينضج حبّهما. على ذلك، أنتظرتُ منها أن تنتقل حالاً من التلميح إلى التصريح ـ كما هيَ عادة الأوروبيين الشماليين في هكذا أحوال. " كان بودّي أن أكتبَ عن فرهاد، ولم يمنعني من ذلك كونه مات مجهولاً ككاتب. وإنما لأن ذكراه ما تفتئ جرحاً في روحي، غير مندمل. الإنتحار، فعلٌ شبيهٌ بالخيانة "، قالتها بوضوح مثلما توقعتُ. ثم أستطردت وقد أضحى صوتها أكثر رقة: " فلن أسوّغ الآن إهمالي أمر المذكرات، خلال كل السنين المنصرمة، مُحتجّة بعدم معرفتي للغة العربية ". عند ذلك، دهمتني فكرة جديدة: " لِمَ لا أدعوها للكتابة عن ظروف فرهاد عند تأليفه المذكرات، ثم أثبّت ذلك كمقدمة للمخطوطة في حال طباعتها أو نشرها بالنت؟ ". رمقتني " تينا " بنظرة مُنتبهة، ويبدو أنها لاحظت تهلل وجهي. فما كان مني إلا أن أمسكت يدها، بدالّة صداقتنا القديمة، لأخاطبها بحرارة ناقلاً إليها فكرتي. أرتبكت قليلاً، فلم تُجب فوراً. ولكنها غمغمت تحت تأثير نظراتي الملّحة: " يسرّني ذلك، ولا شك. إنما القكرة فاجأتني، مع كونها مثيرة للاهتمام. ولكنك تعرف.. أعني، أنا أعرفُ مقدرتي المحدودة على الكتابة الأدبية. لا أستطيع أن أعدك بشيء، فلنترك الأمرَ للأيام ". ثم أستدارت هذه المرة نحوَ طريق الإياب، لتقترحَ أن نعود للبيت بسبب تكاثف الهوام. كانت مضطربة تماماً. بحيث أننا مع وصولنا لمدخل البناء، ألتفتت إليّ لتقول: " أرجو أن تعتذر لي من قرينتك، كوني مضطرة للذهاب حالاً ". ودّعتني بقبلة خاطفة على وجنتي، ثم أسرعت نحوَ سيارتها قبل أن تسمع مني أيّ كلمة معترضة.
*** أحدُ وجوه الإتفاق بين حكايتيّ حصولي على المخطوطتين، تمثّلت في عدم تمكّني من مواصلة الإتصال مع الشخصين، اللذين إئتمناني عليهما. فمنذ عام 2010، مثلما علمتم قبلاً، أنقطعت سُبُل الإتصال مع محامي " شيرين ". وقد تكرر الأمرُ مع صديقة " فرهاد "، على الرغم من أنها تعيش في مدينة مُجاورة وفيها يقيم ولديّ الآخران مع أمهما. أكتبُ ذلك الآن، وأنا أتبسّم لذكرى طريفة مرتبطة بحكاية استلامي المخطوطة من " تينا " في صيف العام 2012. إذ كان من المقرر وقتئذٍ أن أسافرَ مع قرينتي وابننا الصغير إلى مراكش، لكي نقضي شهر رمضان عند الأهل ثمة. غيرَ أنّ إستلامي للمخطوطة الجديدة، جعلني أغيّر خطّتي وأقرر البقاء في السويد. كان مُغرٍ لي، ولا مِراء، البقاء وحيداً في المنزل دونَ مسؤوليات تقريباً عدا إهتمامي بمعالجة المخطوطة. من ناحيتها، فإنّ قرينتي ذهبَ تفكيرها فوراً إلى صديقتنا السويدية وبخاصّة لكونها تقيم في مدينة قريبة. لم تلمّح بذلك أبداً. ولكنني قرأتُ فكرتها على صفحة وجهها الأسمر، علاوة على إلحاحها عليّ بمرافقتها في الرحلة الرمضانية المباركة. إنّ ما أثارَ استغرابها، هوَ كوني صاحب فكرة السفر. ولكنها لم تدرِ، بأنّ باعث حماسي الأول للعودة إلى مراكش بعد أنقطاعٍ استمرّ عاماً، كان سببه أيضاً عملي الأدبي. إذ كنتُ مؤملاً بإمكانية طبع مذكرات " شيرين " في المغرب، حال فراغي من تنقيحها. كسلي الأسطوريّ في الأمور العملية، كان قد منعني من مهاتفة أي دار نشر ثمة أو حتى إرسال مجرّد إيميل. وهيَ ذي مخطوطة جديدة بين يديّ، عليّ أن أشتغل عليها بحماسٍ أكبر طالما أنها شقيقة توأم للأولى. سيبدو لبعض القراء، أنّ هذه الخاتمة قد أشتطّت بالاستطرادات وذهبت بعيداً عن النصّ الأصل. ولكنها الحياة، من تفعل ذلك. وإلا لسارت حياة كلّ منا على متوالية واحدة ولونٍ وحيد، مثل حال طفل ماتَ وهوَ بعُمر الرضاع. إنّ امرأة تفضي بشيء من سريرتها إلى كاتب أديب، ثم يستظهر ذلك في ذاكرته، لهوَ أمرٌ جديرٌ دوماً بالتسجيل. فكيف لو كانت هيَ امرأة رجل أديب، سلّمت للتو مخطوطة كتابه الوحيد لمن سيقوم بمهمّة تنقيحها ونشرها. كلامي آنفاً، قد يبدو أيضاً بمثابة تمهيدٍ لطريق القاريء إلى رواية أخرى مُتصلة بالأولى. وإنه لكذلك، بشكلٍ من الأشكال! لأقل إذاً، بأنّ ما فقدته في مخطوطة " شيرين "، أمكنني العثور عليه في مخطوطة شقيقها. ولكنّ هذه الأخيرة، لا يُمكن الحديث عنها بتلك المساهلة. فإنها عملٌ أدبيّ مُتفرّد، قائم بذاته. الحال أنها مراكش مَن تُكرر حكايتها، كمكان وتاريخ، سواءً بهذه الرواية أو تلك. وهيَ ذي " شيرين " تطرحُ الموضوعَ كتحدٍّ، كما قرأناه في مبتدأ مذكراتها: " أيمكنُ كتابة تأريخ آخر للمدينة؟ نعم، ولكن شريطة أن يكون مُدَوّناً من لَدُن امرأة، أكثر شبهاً بالرجال منها إلى النساء؛ خُلُقاً، على الأقل.. امرأة، ذاتَ تجربة بالعالم السفليّ، تنتظرُ حبيسةً حُكماً مُشدداً، أبدياً..امرأة، كان دأبها محاولة تحدّي هيمنة الرجال التاريخية وخصوصاً على عالم الأدب.. امرأة، لم تنجح سوى بتقليد كتابات شقيق روحها، الذي كان يُمزقها ببساطة لكي يدوّن غيرها.. امرأة، كانت تعوّض فشلها الروحيّ بانتصاراتٍ جسدية مع الرجال والنساء سواءً بسواء.. امرأة، فقدت كلّ اهتماماتها السابقة، بعدما حلّتْ في بيئةٍ تحتقرُ الأدبَ وكلّ شيءٍ يُلهي عن جَمع الفلوس.. ". بطبيعة الحال، لم يكن شهرُ الصيام المراكشي من سيمنع عملي بالمخطوطة الجديدة وعلى الرغم من حضوره الكريم في عزّ الصيف. إذ كنتُ في ذلك الوقت أنتظرُ مكالمة من صديقة " فرهاد "، تفيدني فيها بنيّتها كتابة مقدمة لكتابه من عدمها. كان قد مضى قرابة الأسبوع على سفر قرينتي وابننا إلى مراكش، ولم أكن قد مسستُ أوراق المخطوطة بعدُ. فكان مفاجئاً لي، ولا غرو، أن يُسقط ساعي البريد من فتحة الباب ظرفاً كبيراً عليه عنوان " تينا ". وإذا المقدمة المطلوبة طيّ الظرف، وكانت مكتوبة على أوراق النسخ العادية بخطّ نسائيّ منمنمٍ. رفعتُ فوراً جهاز الموبايل الصغير، وأدرتُ رقمَ الصديقة الطيّبة. ردّت عليّ بنفس السرعة، وربما لكونها تنتظرُ مكالمة مني تفيدها بوصول الظرف البريديّ. صوتها كان واهناً، وكأنه صادرٌ من عالمٍ آخر. ولم يطمئنني، تأكيدها لي أنها بخير. على أيّ حال، كان ذلك آخر إتصال بيننا. كنتُ مقدّراً آنذاك لظروفها النفسية، خصوصاً وأنني من كنتُ مسؤولاً عنها بشكلٍ ما. من ناحيتي، فلا يمكنني تبرير إهمالي الإتصال بها لصفة التحفّظ في شخصيّتي أو الإنغماس في الكتابة. على أنّ الأمرَ كان كذلك فعلاً، فضلاً عن انشغالي بالأحداث المتواترة في الوطن الأم على خلفية الثورة السورية.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خاتمة بقلم المحقق: 4
-
خاتمة بقلم المحقق: 3
-
خاتمة بقلم المحقق: 2
-
خاتمة بقلم المحقق: 1
-
سيرَة أُخرى 41
-
الفصل السادس من الرواية: 7
-
الفصل السادس من الرواية: 6
-
الفصل السادس من الرواية: 5
-
الفصل السادس من الرواية: 4
-
الفصل السادس من الرواية: 3
-
سبتة
-
الفصل السادس من الرواية: 2
-
تخلَّ عن الأمل: الفصل السادس
-
سيرَة أُخرى 40
-
الفصل الخامس من الرواية: 7
-
الفصل الخامس من الرواية: 6
-
الفصل الخامس من الرواية: 5
-
الفصل الخامس من الرواية: 4
-
الفصل الخامس من الرواية: 3
-
الفصل الخامس من الرواية: 2
المزيد.....
-
نقابة الفنانين السورية تمنح فضل شاكر العضوية بمرتبة -الشرف-
...
-
-إيليزيوم- الهندي يحقق انتصارا سينمائيا في موسكو.. ويتوج بال
...
-
فنانة مصرية تكشف حقيقة زواجها من محمد صلاح
-
الفانتازيا وتاريخ النكسة.. -صلاة القلق- تفوز بالجائزة العالم
...
-
ما الذي يعنيه أن تكون صحفيا فلسطينيا وسط الإبادة؟
-
فيلم عيد الأضحى؟! .. موعد عرض فيلم الغربان لعمرو سعد في السي
...
-
نقابة الفنانين السورية تمنح أربعة فنانين بينهم أصالة وفضل شا
...
-
حفل موسيقي في موسكو بعنوان -موسيقى الشام: التقاليد والحداثة-
...
-
خديعة القرن! كيف وقعت الصحافة البريطانية في فخ -مذكرات هتلر-
...
-
فنان قبرصي يوازن 416 كأساً على رأسه سعيا لدخول موسوعة غينيس
...
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|