مهند البراك
الحوار المتمدن-العدد: 1412 - 2005 / 12 / 27 - 15:49
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
من المعروف ان الدستور ـ كجزء اساس من اسس العملية السياسية ـ لابّد وان توضع احكامة الأساسية يوماً موضع التطبيق، وان تعدّل بعض بنوده وتسن قوانين جديدة بهديه، كي ينسجم مع الواقع الملموس للمجتمع وليستطيع تحفيزه و تحريكه واطلاق طاقاته وفق الأهداف المعلن عنها والتي جرى التصويت لها، وبالتالي تحويله على محك الواقع الوطني، الأقليمي والدولي . . من وثيقة افكار الى واقع يجري في المجتمع لحل مشكلات المجتمع وتنظيمه ولمواجهة تحدياته.
الأمر الذي يأتي في ظروف وواقع كثير التعقيد، بسبب الموروث الطويل المؤلم من نتائج حكم حكومات عسكرية متنوعة شبه متتالية، ومن استيلاء على السلطة بالقوة المسلحة وبالأنقلابات العسكرية وبالدكتاتوريات التي كان آخرها واطولها زمناً، حكم صدام الدكتاتوري الشمولي الذي خرّب البلاد ماديا وروحيا وفكريا، واساء الى المنطقة وتهددها.
وفي ظروف تتزايد فيها حدة تكالب الأطماع الدولية والأقليمية، بعد تزايد ماتم الكشف عنه من ثروات البلاد الفلكية وتزايد قيمة النفط الستراتيجية والتكتيكية والسياسية، وتزايد اهميتها الستراتيجية المتنوعة في ظروف العولمة وظروف التغيّر الكبير في معاني مفهومي الدولة والحدود، سواءاً لدى القوى الدولية، او بشكل من نوع آخر بالنسبة الى الدول النامية وذات الأقتصادات التابعة . . اضافة الى تغيّر حركة واقع المنطقة واستقطاباتها وآفاقها بالنسبة للعالم.
وتمرّ البلاد بمخاض عسير لعملية بدء ممارسة ديمقراطية ليس لها تقاليد وتجارب وثقافة واقعية عملية ليس في البلاد لوحدها وانما في المنطقة، حكماً ومعارضة بشكل عام كسبب وكنتيجة للقمع . . رغم تنوّع النداءات وتنوع ساحات النضال المرير وسقوط جحافل الشهداء في سبيل الحرية والديمقراطية حين كانت تشكّل آماني واحلام واهداف نبيلة، في سبيل احقاق حقوق الشعب المضيّع وفي سبيل الدفاع عن حقوق البلاد . . بل انها تمرّ لأول مرة في تأريخ البلاد الحديث بأستقالة اصولية لحكومة ومؤسسات حكم جاءت بالأقتراع، بسبب نفاذ فترتها الأصولية القانونية !
وبضوء الواقع القائم، وبضوء ما مطلوب من مجلس النواب الجديد من مهام شاقة للبدء بلمّ البلاد وبعودة الحياة المدنية اليها بعد ان اثخنتها الدكتاتورية والحرب والأحتلال والأرهاب بالجراح، للبدء بتحقيق الأمن، لوضع حلول واقعية لمشاكل الضائقة المعاشية وللبطالة، ومن اجل التصدي لأسلوب العنف في التعامل، وللفساد الأداري، ولمواجهة مخاطرالطائفية والطائفية السياسية، ولنشر الفكر التعددي وتنوعه واحترامه وتقبله .
ومن اجل تمتين اسس وتقاليد نبذ العنف واعتماد التداول السلمي للسلطة عبر الأنتخابات وصناديق الأقتراع . . والتأسيس للتعايش والتوافق لحمل كاهل اعباء البلاد، بعيدا عن غرور النجاحات الأولى التي تعكس الواقع المريض ان صحّ التعبير، لمعاناته الحياتية والفكرية الموروثة، ولمعاناته من منطق الحلول التي لم يجد غيرها في زمن الدكتاتورية السوداء ولمواجهتها، ومن اجل ترصين واقعي صحيّ متطوّر للحياة الحزبية التي اخذ الطلب يزداد عليها لتحقيق الذات الوطنية ولمواجهة خطر الطائفية والشوفينية واسلوب المحاصصة . . ومن اجل القضاء على مخاطر المخدرات(*) والجريمة المنظمة والأرهاب، ومن اجل البدء بعودة الروح للبلاد . .
ومن اجل مواجهة الطائفية وخطر التفتت والتمزق، وصياغة عوامل قوة الموقف الوطني لتحقيق الأستقلال الناجز وللبدء العملي لمواجهة الواقع بعد انتهاء المرحلة الأنتقالية المقررة دولياً، البدء بصياغة بناء الدولة على اساس جديد ينقل البلاد بآليات سلمية تتفق مع تناسب قوى المرحلة، للأنتقال من آليات الحكم التابع الى آليات الحكم الوطني المبني على ارادة ومصالح ابنائه وعلى اساس تفاعله السلمي مع عالم اليوم بضوء المنافع المتبادلة، ومن اجل تطوير آلياته بضوء حركة الواقع وقواه المكوّنة.
وفيما يرى عديدون، انه لايمكن مواجهة تركات القرن الماضي وجروحها وندوبها وما خلقت من فوضى وقلق وخوف وحساسيات مفرطة، راحت في ظروف الأزمات تتضاعف وتطلق حمماً جديدة لاتعمّق الاّ الخلافات ولاتزيد اطرافها الوطنية الاّ تقوقعاً وتألباً وانغلاقاً بعضها عن بعض، رغم اعلان متنوع المصادر عن السعي لؤدها . .
يرى متخصصون وخبراء وطنيون ودوليون . . لايمكن البدء بمواجهة تلك التحديات جدياً الاّ بصيغة حكم الأجماع الوطني التي تنتصر للعراق ولكل العراقيين على اختلاف اطيافهم، الحكم الذي يستطيع تعويضهم عن حرمانات العقود المظلمة الطويلة، كلّ في اطار فكره وعقيدته وانتمائه القومي والأثني والديني، في اطار هوية العراق التعددي الفدرالي المتفاعل الموحد المتسع لكل ابنائه. انها مشاكل وتحديات لايمكن لفكر او اجتهاد واحد او تيار واحد ان يحلّها، وانما وحدها البلاد بكل تياراتها القومية والدينية والسياسية والفكرية، على اختلاف اطيافها، هي القادرة على ذلك . .
وخاصة بعد تجارب الحكومة المؤقتة والأنتقالية، التي اثبتت عدم قدرة قائمة لوحدها مهما حصلت من اصوات او دعم اقليمي او دولي على تحقيق تلك الأهداف الصعبة، بل وانها اخذت تهدد مؤخراً بتطورها الى صيغة ( القائمة المنتصرة على مجتمعها) بدل صيغة (القائمة المنتصرة لشعبها بتنوع اطيافه)، على حد دعايتها الأنتخابية . . بدل سعيها لأجل تحقيق امانيه وطموحاته ومصالحه واعادة بناء واطلاق فئاته الوسطية . .
لتثبت مسيرة البلاد مجدداً استحالة استفراد قائمة بحكم البلاد وفق رؤياها وطموحاتها هي دون النظر الى كل الأنتماء الوطني العراقي، حاميها وصانع امجادها وقوتها الواعدة لأنه وليد ارادتها واختيارها، ولتثبت وتؤكد تزايد الحاجة و الضرورة القصوى لتشكيل حكومة ائتلافية توافقية لتحقيق الحد المقبول كبداية تأسس لنجاح تالي في مواجهة تلك المهام الكثيرة التعقيد والتفجّر . اضافة الى كونه واقع ينسجم مع حركة الواقع الأقليمي العربي والأسلامي والواقع الدولي، فان بديله لن يكون الاّ استمرار الأرهاب والأزمات، وبالتالي استمرار تواجد القوات الأجنبية في البلاد.
والتي اثبتت تجارب عالمية متنوعة قريبة او مشابهة او يمكن الأستفادة منها، في مجتمعات وازمان وظروف اخرى الاّ انها مشابهة من حيث اهدافها لشعوبها . . كتجارب الجبهات الوطنية والأنتخابية والبرلمانية والحكومية المتنوعة في ظروف ومعطيات ظروف وحاجات ما بعد الحرب العالمية الثانية، لمواجهة مهام اعادة بناء البلدان المدمّرة وفق واقع وآفاق ظروف ما بعد الحرب، او التوصل لأيجاد حلول لأزمات وطنية اكبر من قدرة قائمة او قوائم فائزة في الأنتخابات الوطنية من اجل تحقيق استقرار وامن ورفاه اجتماعي وايجاد حلول لمشاكل البطالة، الأمر الذي تكرر في ايطاليا على سبيل المثال ويجري الآن في المانيا حيث اتفقت كل القوائم الوطنية الفائزة وغير الفائزة، على تشكيل حكومة وطنية لمواجهة مخاطر العجز والبطالة وغيرها .
ان حكومة الوحدة الوطنية تعني اشراك كل قوى التغيير في تحمّل المسؤولية وعدم التفريط بها . . التي في ظروف كظروف العراق قد لاتقبل المشاركة، لثقل وجسامة المهام من جهة، او تجنباً للزج باسمها وعدم اعطائها حقها الدستوري الضروري، الذي قد يسئ لمكانتها بين جماهيرها. ان زجّ الطاقات الوطنية المخلصة للتغيير ولتجذيره، سيضيف طاقات خلاّقة لمسيرة الحكم، بدل اهمالها او الضغط عليها وتهديدها، الأمر الذي لن يؤدي الاّ الى تتالي الأزمات السياسية الدستورية، والى ضعف وشلل الحكومة الجديدة او لجوئها الى اساليب قد تؤدي الى انهيارها بتأثير عجزها وفضائح اساليبها.
اضافة الى ذلك، فان حصول الحكومة الجديدة على الأجماع الوطني، سيؤدي الى تغطية حاجاتها الماسة الى الخبرات الفنية المتنوعة والى التكنوقراط الضروري لبناء الدولة الجديدة، والى تزايد التعاطف الدولي والأقليمي معها والى زيادة فرص الأستثمار والدعم، ويؤدي الى نجاح الخطة الحكومية الجديدة في دورتها في مسيرة البلاد المتواصلة. (يتبع)
26 / 12 / 2005 ، مهند البراك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) تشير تقارير منظمة الصحة العالمية الى تزايد مخاطر تفشي الأيدز في الشرق الأوسط، جراّء تعاطي
المخدرات باستخدام حقن المخدرات بالوريد بحقن ملوّثة، جراّء طبيعة تزايد وتفاقم انتشار المخدرات
ومضاعفاتها، في مناطق الحروب والكوارث في الشرق الأوسط.
#مهند_البراك (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟