|
لا تحلموا ببناء الحضارة
رشيد العالم
الحوار المتمدن-العدد: 5298 - 2016 / 9 / 28 - 11:13
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لا تـَحلـُمُوا ببنـَـاء الحَضَارَة رشيد العالم
جل المُجتمعَات منبهرة بالحضارة الغربية الحَديثة التِي تحكم العَالم وتسيِّرُه كما تشَاء، عَبر امتلاكها لزمَام صِناعَة القرَار السِّياسِي الدولي و بفعل صَدارَتهَا في التقدم العِلمي والتكنولوجي والتقنِي والعَسكري.. الذي مَكنهَا من قيادَةِ العَالم واستعبَاد الدُّول المُتخلفة والسَّائِرَة في طريق النموّ ولا شك أن سياسَة الغرب تجَاه الدُّول غير المُتحضِّرة ليست سيَاسَة تقومُ على نقل التحَضُر والعولمَة عَلى طبق يحمِلهُ (رُوبُــو) يتكلم بلغاتهَا، وإنما سياستهَا تقومُ عَلى إبقاء المجتمعات خاصَة الاسلاميّة على مَا هُو عَليه .. وَغالبًا مَا كانت تتدَخل الدُّول المتحضرَة فِي البُلدان الاسلامية وغيرهَا بدَافِع نقل الحَضَارة وحُقوق الانسان، بَينمَا كانت تمعنُ في إخضاع هذه الدول ونشر ورَم الخلاف و سَرَطان الانشقاق والتاريخ شاهدٌ على أن الغربَ لا يريدُ للدول الأخرى أن تتقدم سواءً على المُستوى الحَضَاري أو البشري. فقد كان شعَارُ الحُروب التي شنها (نابليون) هُو نفس الشعار الذي اتخذتهُ بريطانيَا حِينمَا استعمرت الهند و السُّودان و مِصر وسُوريَا، وهو نفس الشِّعاَر الذي تذرعت به إيطاليَا فِي استعمَارها لليـبيَا قبل أن تعُود إليهَا فرنسَا في عهد (نيكولا سَاركوزي) لتحقق ما أخفقت إيطاليَا في تحقيقه، وهُوَ نفسُ الشعَار الذي اتخذته أمريكا ذريعَة لخوض الحَرب عَلى العِرَاق وهو نقل الديموقراطية وصيَانة حُقوق الانسان والحَقيقة أن دول الغرب لم تنقل سِوَى الخرَاب والدّمَار ولم تزرع فِي قلوب الشُّعوب سِوَى حَنين العودة إلى الحُروب الطـَائفية والعرقية الدِّينيَّــة.
الكل يَعلم أن المجَالات التي تفوق فيها الغَربيون نبغ وبرَز فيهَا المُسلمون من قبل، يكفي أن ننظرُ إلى التاريخ الاسلامي بالأندلس وبَغداد ودمشق لنعي حجم التأثير الذِي لعبه العُلمَاء المُسلمون في النهضة الأورُوبيَّة الحَديثة، وعلى رأسهم (ابن سينا) و(ابن نفيس) و(الخوارزمي) في الطب، و(ابن رشد) في الفلسفة، و(جابر ابن حيان) في الكيمياء، و(ابن عربي) في التصوف، و(أبو حامد الغزالي) في التصوف والفلسفة وعلوم الدين ونقد الفلسفة الأرسطية، و(ابن بطوطة) في الجغرافيا.. و تجدر الاشارة إلى أن الفقه الاسلامي والفقه المَالكي خاصَة لعب دورًا هامًا في صياغة المنظومة التشريعية القانونية بأوروبا.
فالحَضَارة الاسلامية التي كانت قائمَة آنذاك لم تسقط لوحدِهَا، بل هناك عِدَّة عَوامل تقفُ ورَاء تقهقرهَا وانهيَارهَا، عَلى رَأسهَا أسبَابٌ أشَار إليهَا (شكيب أرسلان) في كتابه لمَاذا تأخر المُسلمون وتقدم غيرُهم؟ مثل انتشَار الجَهل والأمُيّة، وفتـُور الهمَم والعَزَائم وعَدم رَبط الدِّين بالعمل الصَّالح.. وأسبَابٌ أخرَى استفاض في سَردهَا (عبد الرَّحمَان الكواكبي) في كتابه طبَائعُ الاستبدَاد ومَصارع الاستعباد وعَلى رَأسِهَا فسَادُ الأمرَاء والفقهَاء والسَّاسَة.
لا يَخفى على أي قارئ للتاريخ أن الأسبَاب عَجّلت بانهيار الحَضارة الاسلامية هُو فسَاد الأنظمة السياسيّة التي كانت سَائدَة آنذاك في العصر الأموي والعَبَاسي، والتي اتسمت بالجَبَرُوت والظـُـلم والجَشَع والفساد الأخلاقِي هِي نفس الأسباب التي تعيق تحقيق أي قفزَةٍ إصلاحيّة ونهضَوية حَقيقــة، مَا يَعني أننا مَا زلنا نعيشُ المَاضِي ونجترُ سيَاسة السلف الفاسدَة فِي قيادَة الدَّولة وهياكلها، فـ(كولن ولسن) صَاحبُ كتاب (سقوط الحضارة) يرد سبب انهيار الدُّول والحَضَارات إلى عاملين رئيسيين فساد داخلي وخارجي فالأول مرتبط بأخلاق الفرد والأسرة والمجتمع والثاني مرتبط بفساد تدبير الحياة السياسية والمدنية والاقتصادية.. ويرد (كولن) سبب سقوط الحضارة الرومانية إلى الجانب الأخلاقي حينما عم الترف والبذخ وانتعشت الحياة الاقتصادية فانكب الناس على الملذات واللهو واللعب والجشع.. فانتقل الفساد إلى هياكل الدولة و حكامها.
ولا أحد ينكر أن البلدان الاسلامية شهدت نهضَة حَقيقة لكن فسَاد النظم السياسيّة السَائدة وفسَاد الأمُرَاء والفقهَاء والعُلمَاء وانتشار الظلم وانتهَاك حقوق الرَّعية والاستحواذ على خيرَات البلاد والفسَاد التدبيري والاقتصَادي والمَالِي عَجَّل بتراجع التقدم العلمي والفكري ما جَعل البلدان الاسلامية تعُود إلى عصر الظلمَات بينمَا البلدان الغربية قطعَت مَسيرَة طويلة فِي ارسَاء الدولة الدِّيمقرَاطيَّة التِي تنظر إلى الأفراد باعتبارهم مُواطنِين ليس باعتبارهم عَبيدًا كمَا هو الحَال في كثير مِن البُــلدَان الاسلاميّة.
ومنه لا يمكن الحديث عن نهضَة حَضَارية دون نهضةٍ سياسيَّة مبنية عَلى أسُس الدٍّيمُوقراطيّة ونِظام الدَّولة المَدنية الحَديثـَة التي تفصلَ بينَ السُلط و تربط المَسؤولية بالمحاسبة حَتى مَع حُكامِهَا ورُؤسَائها وذلك من أجل بناء دولة الحق والعدل والقانون ودَولة المُسَاوَاة والعَدَالة الاجتمَاعية والحُريَّة والكرَامَة الانسَانيَّة.
[email protected]
#رشيد_العالم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المعرفة الالهية
-
حِوَار مَع (شرين خَاكَان) أوَّل إمَامَة مَسْجد بكوبنهَاكن ب(
...
-
النموذج العلماني الذي تحتاجه الدول العربية
-
السَّعَادة المُؤلمة والألَمُ المُسعِد
-
العارف بالله الذي نحتاج إليه
-
طرق صوفية أم حركات سياسية؟
-
أيتها الكأس
-
ويسألونك عن الروح
-
ما عاد يحلو لقلبي التمني
-
صوفية الوصل
-
حوار الفنان الكاريكاتوري نزار عطاف
-
كأسٌ أنا بَيْنَ يَديك
-
سكرة الوصل
-
حوار مع الشاعر والفنان التشكيلي نورالدين برحمة، حاوره الشاعر
...
-
كرسي الإعتراف (5)
-
كرسي الإعتراف (4)
-
كرسي الإعتراف (3) - هايكو -
-
كرسي الإعتراف (2)
-
كرسي الإعتراف (1)
-
لم أكن ملاكا ولا شيطانا
المزيد.....
-
إليك ما نعرفه عن اصطدام طائرة الركاب ومروحية بلاك هوك وسقوطه
...
-
معلومات سريعة عن نهر بوتوماك لفهم مدى تعقيد البحث عن حطام ال
...
-
أول تعليق من ترامب على حادثة اصطدام طائرة ركاب ومروحية عسكري
...
-
حوافه حادة..مغامر إماراتي يوثق تجربة مساره بوادي خطير في قير
...
-
كيف نجا قائد الطائرة إف-35 -الأكثر فتكا في العالم- بعد تحطمه
...
-
إيطاليا تعيد كنوزا عراقية منهوبة.. قطع خلدت ذكرى من شيدوا ال
...
-
FBI يستبعد العمل الإرهابي في حادث اصطدام طائرة الركاب بمروحي
...
-
بعد كارثة مطار ريغان.. الإعلام الأمريكي يستحضر آخر حادث كبي
...
-
جورجيا تنسحب من الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا بعد مطالباته
...
-
الائتلاف الوطني السوري يهنئ الشرع بتنصيبه رئيسا للجمهورية
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|