|
دائرة المشردين (2)
عذري مازغ
الحوار المتمدن-العدد: 5292 - 2016 / 9 / 22 - 17:58
المحور:
الادب والفن
تتمة... لم تكن بلباو عند سعيد كما ألف في سيرورة المواسم الفلاحية بإسبانيا، لقد كانت شيئا مختلفا تماما، بل أنه من الوهلة الأولى لا تبدو منطقة "بيزكايا" بكاملها منطقة فلاحية، تشبه في روتين الحياة فيها مدينة مفعمة بالرفاه برغم أن الأمور، في مستواها المعيشي متناقضة تماما، على الأقل في ذاكرة سعيد، فالرفاه عنده هو أن يكون مستوى العيش في متناوله، منطقة تأتيها الموارد من خصوبة الأموال: ظاهرة الألفية الثالثة حيث الورق يخلق الحياة الرغيدة.
ْ(اجتماعي لازمتك، ويبقى فقط أن تعرف كيف تتصرف مع مختلف العقليات على الرغم من وجود حاجة كبيرة لليد العاملة، يمكن أن تجد أشخاصا مناهضين للهجرة من منطلقات صادمة: المهاجرون، برغم حاجتهم الملحة للعمل، ليسوا كلهم ملائكة، وهذه حقيقة لا ينكرها أي جاحد، "سمكة واحدة تزكم الأنوف" كما يقال، لكن ليس كل المهاجرين، ومع ذلك فالسمكة الواحدة تزكم الكل، يعرف سعيد هذا الأمر تماما لكنه يتجاهله بسبب حنكة المغربي الباسكي في مدينة "فيكتوريا"، يجب أن تلعب على الأوتار: “ في المهجر يجب أن تكون بهلوانيا، يجب أن تعرف كيف تضع أقدامك فوق الحبل".)
يعرف سعيد أن بلباو بداية الألفية ليست هي بلباو بعد عقد من الزمن، لكن تجربته في المواسم أكسبته شيئا من الخبرة مع انه يشعر بضعف كبير تجاه الأمور، عندما كان بالأندلس، في خضم أزمته النقابية، نصحته سناء صديقته القنيطرية بكل مودة : "سعيد! تعرف جيدا أني احترمك وأقدرك، سأقولها في وجهك، أنت لم تعد ذلك الشاب الذي يستطيع النوم في الخلاء، أنت هرمت، ويجب أن تعلم ذلك جيدا، "أنت شرفتي" لا تستطيع الآن تحمل البرد والثلج، خطتك "ب" سترميك حيث لا تستطيع التحمل كما تعتقد.. عاشت سناء مشردة أيضا، كانت ذكية وجميلة جدا، ليست كالشاعرة ماريا، هي متكاملة جسديا تمتلك ساقين يغريان، تتقن في جعبتها أكثر من لغة وتتكلم الألمانية أيضا، جميلة ودقيقة في أمورها حتى أنها لا تقبلك في منزلها بالحذاء، يجب أن تضع حذاءك عند شرفة الباب وأنت تدخل عندها، كما الألمان تماما، يبدو الأمر للوهلة الأولى أنها عادة مغربية، لكن في الحقيقة، بسبب خمس سنوات في ألمانيا، تعتبر الأمر ألمانيا قحا: “الألمان يدخلون حفاة إلى بيوتهم، يتركون أحديتهم عند شرفة الباب، كانت سناء واثقة أكثر من جسدها، وتستغله أكثر في الإيهام بمعاملاتها الإقتصادية، تعطي صورة نمطية لإنسان جدي يثق فيه حتى الأعداء، لكنها في الحقيقة حربائية، ومع ذلك، كانت مع سعيد طيبة جدا، كانت تشتري له السجائر في ازمته في الشغل، تستضيفه إلى مقاهي حين تتفهم انه لم يذق أكلا، وحين يشكوها أمرا من حميمته أنخيليس تنصحه أن يبتعد عنها: "أعرفك وأعرفها، أنت ضحية هجرة، أنت ضحية مبدأ، عليك أن تستفيق من مبدئك! هناك عاهة اجتماعية لازمتك، ويبقى فقط أن تعرف كيف تتصرف مع مختلف العقليات على الرغم من وجود حاجة كبيرة لليد العاملة، يمكن أن تجد أشخاصا مناهضين للهجرة من منطلقات صادمة: المهاجرون، برغم حاجتهم الملحة للعمل، ليسوا كلهم ملائكة، وهذه حقيقة لا ينكرها أي جاحد، "سمكة واحدة تزكم الأنوف" كما يقال، لكن ليس كل المهاجرين، ومع ذلك فالسمكة الواحدة تزكم الكل"، يعرف سعيد هذا الأمر تماما لكنه يتجاهله بسبب حنكة المغربي الباسكي في مدينة "فيكتوريا"، يجب أن تلعب على الأوتار: “ في المهجر يجب أن تكون بهلوانيا، يجب أن تعرف كيف تضع أقدامك فوق الحبل". كم كانت سناء فاجرة بصراحتها المعهودة! اكتشف سعيد لأول مرة أنه سجين مبدأ، هو بالفعل سجين قناعات خاصة، فريد فيها، لكنه بالفعل ضحية خرافاته المبدئية. سناء الالمانية أو المغربية التي يعتقد أنه متفهم أكثر منها وأنه أكثر اندماجا تكاشفه: “ أنت سجين مبادئك" "أنت مثلك مثل المتدين والحياة تعشق أن تكون رشيقا متفتحا وديناميا". غابت سناء عن فضاءاته بسبب لا يعرفه حتى الآن، تجاهلها هو أيضا ونسيها برغم أنها تركت أثرا فيه يتذكره كل يوم في باراكالدو، يتذكر أنه كالمتدين برغم فجوره الإلحادي.. ومنذ الوهلة الأولى في بلباو اكتشف صراحة سناء:” يجب أن تنسى تاريخ المواسم بإسبانيا لأنك الآن هرم". استنادا إلى حنكته في المواسم توجه سعيد إلى المكتب الاجتماعي ببلباو: "اسمك ؟، فصلك؟ أبن كنت تعيش؟ هويتك؟، كم أمضيت من الوقت هنا ببلباو" باختصار أمور موثقة في ورقة، كل تفاهاتك خارج الأمور المرصعة في الورق لا تهم وإن أبديت قيئا فيها استنادا إلى تاريخك الخرافي حول مهامك وخصالك وأعمالك الجميلة. ــ لأنك لم تمضي أكثر من ثلاثة أشهر بالإقليم، سنمنحك إقامة بالملجأ ثلاثة أيام، و إذا كانت المشرفة على الملجأ أعجبتها عيونك، ربما ستطيل من إقامتك، لكن والحال هكذا، ليس لدينا أكثر مما رأيت، بلغة جافة قالتها المشرفة الإجتمعاية.
بدا لسعيد أنها امرأة لم تنضج بعد، محكومة في تعاملها بأحكام مسبقة تنم عن إدانة مفترضة، تتكلم باقتصاد كبير، كانت تريد أن تملأ مربعات استمارتها ولم يكن يهمها أن تستمع إلى خرافاته التي يحفظها لإثارة بعض التعاطف حول حالته البئيسة التي أوصلته إلى بلباو، كان أن التقى مع بعض المشردين المغاربة قبل الولوج إلى تلك الدائرة إلا أنه لم يعمل بنصيحتهم، لقد أخبروه عن تلك التفاصيل من الأسئلة وكيف يجب أن يجيب إلا أنه لم يمتثل لنصحم، كان عليه أن يخبرها بأنه مقيم ببلباو أكثر من ستة أشهر حتى اضطرته الظروف المالية للتشرد وهي أكذوبة سهلة الإحباك ولا تكلف تصنعا أو تمثيلا محكما ثم إن الغاية هنا تبرر الأكذوبة إذا أراد أن يحصل على إقامة طويلة بالملجإ، لكن ميله للصدق حال دون هذه التمثيلية الجميلة ليسقط في ما نبهه المشردون السابقون، سيقيم في الملجإ ثلاثة أيام كما قالت ويبقى احتمال إطالتها بيد المشرفة نفسها عن الملجإ .. تخضع ادارة الأعمال الإجتماعية في بلباو إلى إشراف الحكومة المحلية، ويبدو عملها من خلال الإستمارة أنها تقوم بدور إحصائي أولي من خلاله تتعرف الحكومة على عدد المشردين بالمدينة، ومن ثم توزعهم على الملاجئ المتواجدة، ويبدو أنها تعطي الأسبقية لأبناء الإقليم قبل غيرهم، ونقصد بأبناء الإقليم الأشخاص الذين كانوا متواجدين بفترة في الإقليم ولا يقصد بالأمر جنس أو أصل أو دين أو سن هؤلاء، ولا يقصد أيضا ما إذا كانوا يتوفرون على أوراق إقامة أم لا، ويتم توزيعهم حسب طاقة كل ملجإ، ثم بعد إرسالهم إلى الملجإ يخضعون في ما بعد لسياسة الملجإ وفق رؤيته المحلية.. قلنا بأن المشرفة الإجتماعية التي استقبلت سعيد كانت جافة في أسلوبها معه، امرأة تملأ الورق بأجوبة لأسئلة موثقة، وحين تنهيها تنتهي المقابلة بشكل لم تسمح له بأن يفرغ جعبته، كانت تبدو المقابلة آلية تماما بشكل بدت الأمور في الاجتماع الإنساني هنا، تشبه في كل تحولاتها أنها أمورا ميكانيكية، أرقام حسابية أو معلوماتية، لم يبدع الاستعلام الرقمي عندهم غير انعكاس ميكانيكي لقيم القرون الديكارتية: "الحاسوب يفكر، إذن هو موجود"، هل هذه هي المعادلة الجديدة؟، لكن لا بأس من الأمر، الحاسوب آلة، لكن المشرفة الاجتماعية من تكون؟؟ آلة تحت إشراف الحاسوب؟ بالفعل تغيرت الأمور عند سعيد الذي يعرف تماما كيف يحرك الحاسوب، حتى عندما دعوه في الملجأ لدراسة قواعد التعامل مع الإعلاميات، وجدوا انه متفوق في الأمر مع انه كان يعلم خلفيات تلك الدروس التعليمية، كانت تتمثل أصلا في مسالة تمويل مالي للجمعية مقابل تلك الخدمات : خدمات الملجإ من اكل وشرب ومبيت مع إعطاء دروس في اللغة الإسبانية والإعلاميات وبعض الأعمال الأخرى مقابل تمويل حكومي. هذا هو كل الفحوى الكبيرة الآن حين يتناولون مسألة اللاجئين.. مدت المشرفة الإجتماعية سعيد ببطاقة إقامة بملجإ عام بمنطقة دويتشوي لمدة ثلاثة أيام متمتمة له على أنه إذا تصرف بحسن خلق ربما المشرفة هناك ستمدد إقامته ثم بطاقة أخرى للأكل بأحد المطاعم الخيرية لمدة شهر قابل للتمديد، على أنه إن كان يوما ما لا يستطيع تناول وجبة الغذاء عليه أن يتصل بالمطعم قبل وقت الوجبة بأكثر من ساعة، نصحته أن يمشي قدما للتعرف على المدينة مادام هناك متسع من الوقت لحلول وقت افتتاح الملجأ، أخذ أشياءه وتسربل بخطوات ثقيلة يستشعر ثقل الزمن عليه، لم يشعر بحسن استقبال كما كان أيام زمن المواسم عندما كان شابا، حيث كان موظفوا الحالات الإجتماعية يكثرون عليه السؤال من أين جئت وإلى أين وماذا وكيف، لم تشفع له تجربته العملية كمشرف اجتماعي عندما كان بالأندلس حيث كان يعتقد واستنادا إلى تجربته هذه، أن الأمور ستكون سهلة وسيعرف كيف يأكل من كتف المشرفة الإجتماعية ببلباو، لم تسأله حتى عن مؤهلاته العلمية ولم يكن الأمر مهما بالنسبة لها، إنه مجرد مشرد جديد بالإقليم وهذا ماكان يستشعره في أغواره بكل ألم، متاعب جديدة تنتظره،لا زال رنين المشرفة يطن في أذنه: "تصرف بحسن خلق كي...!"،رددها مع نفسه ثم فكر:” يا إلهي هذا اتهام بخلفية ما؟"، مجرم حتى يثبت براءته، أو شرير بشكل ما حتى وإن كان يؤذي نفسه، لو كان صديقه المغربي القرطبي النبيه لأوقفها عند حدها، صديقه هذا سريع البديهة ويقرأ الكلام من مكلمه بخلفياته، لكن استبشر عن نفسه أنه من حسن حظه انه ليس كصديقه القرطبي السريع البديهة، لو كان هو لما ضمن اليوم المبيت بالملجإ، شعر بنقص ما، القرطبي مثلا يعتبر هذه إهانة بينما هو تعامل معها بصبر حمار خامل متثاقل يضحك في دواخله من راكبه أو سائقه وحين تظهر له شفاعة ما كظهور انثاه، ينسى كل شيء، ينسى أنه في مهمة نقل. كان سعيد يعترف في دواخله أنه يقوم بمهمة الإشراف أحسن من هذه "الحنقريشة" الشقراء، وفي ذلك كان له عزاؤه: “أنا أحسن منها أداء على كل حال"، ثم تذكر أن ذلك بفارق بسيط، هي تعمل للحكومة وهو مارس مهمته في قطاع خاص فيه بعض الحرية، ثم استدرك تناقضه: يا إلهي كأن القطاع الخاص أحسن بكثير من القطاع الحكومي!؟، كان هذا هو الشيء الذي لم يقر به في كل حياته، القطاع الخاص وضع قيما خاصة للخدمات، أصبحت الآن لا كما تفهم سابقا، أمور مجانية تقوم بها الحكومة، بل هي أمور لها قيم ولها أداء، لم يستوعب الأمر جيدا: كيف يكون القطاع الخاص أكثر إنسانية في الأعمال الإجتماعية؟. المشكلة أن الملجا ينتمي لقطاع خاص بتمويل حكومي، هذه إشكالية جديدة: أمور تعجز عنها الدولة ولا يعجز عنها القطاع الخاص الممول حكوميا؟ يبدو في مخيلة سعيد أن القطاع الخاص له مزايا خاصة أيضا، يمنح أمورا أو خدمات بشكل مجاني أكثر مما تمنحه الدولة، على الأقل هذا ما يبدو حين تفوت الدولة بعض قطاعاتها الخدماتية للخواص، يبدو أنه يضيف قيما أخرى مجانا، عادة تقترن الدولة بالبيروقراطية: أمير ربطة عنق وديكور وخاصيات أخرى تصعب من لقاء المواطن بالأمير، بينما في القطاع الخاص، قد تجد رفيقا في مكتب، كائن مبتسم على طول كما يقول المصريون، ديناميكي في الحديث عن المزايا والخدمات، شخصية منشرحة تماما، تسألها عن أمر خيري فتسأل هي حاسوبها لتخرج أنت من مقابلتك وأنت على يقين تام: "لقد قالها الحاسوب"، على الأقل ستشكرها وأنت خارج من مقابلة هذه الشخصية المرحة:Eres muy amable ، "أنت إنسان محبب أو أنت إنسان جيد"، في تقدير سعيد، هناك ثمن خاص قيمي في الأمر، هو تغيير أسلوب التعامل مع المواطنين، كل ما ندفعه رشوة لموظف الدولة ندفعه بطريقة مرحة لموظف خاص أضاع وقته في الحديث معك حول مزايا خدماته المبرمجة في حاسوبه، إن لم تمنحه انت، فإن الدولة تمنحه بتمويلها الخاص، لكن المشكلة غير مستوعبة جيدا لان الكائن المرح هذا يعمل بموجب عقدة شغل خاصة ينتهي أجلها بينما أمير ربطة عنق يبقى سرمديا على حياتنا بشكل تبدوا مزايا الديموقراطية فاعلة في الامر: تحويل كائن دائم زمانيا إلى كائن زمني نسبي: تحويل كائن مطلق في الزمن إلى كائن نسبي، كائن بيروقراطي إلى كائن ليبيرالي بابتسامة مؤقتة، نوع من تنشيط ذات الكائنات، نوع من شرعنة الرشوة، عوض أن تدفعها من جيبك تدفعها الدولة من ضرائبك بشكل يستحيل على المرأ النابغ اكتشاف الأمر، هي ليست أكثر من "تحويلة" رائعة كما نقول في الزمن المغربي الرائع، اليوم فقط، وفي كل هذا السرد التفكيري عند سعيد، ستنطرح له إشكالية عامة في الفهم: هل القطاع الخاص المقدس هذا يربح من خدماته ما دامت الدولة تخلصت منه لثقله؟ يبدو الخواص كفاعلي خير اكثر من الدولة التي كل قيامها مبني على ضرائبنا: إنه ببساطة بيع للوهم، هذه هي خلاصة سعيد الذي جرب العمل الإجتماعي، الرأسمالية ليست أكثر من تبشيش(من البشاشة) الملامح، تلقى سعيد في الفضاء الإفتراضي، ذات يوم عندما كان بالأندلس، بشرى رائعة حول بلدته، العين الوحيدة التي تسقي القرية، منحت ميدالية ذهبية من مؤسسة خاصة بالتغذية العالمية للعين التي يستقون منها، بدا كما لو أنه خبر عظيم، إنجاز كبير يستحق الفخر، إنجاز فجر هستيريا جنونية من الضحك عند سعيد، كان كلما التقى شخصا، أحدا من معارفه إلا وتفجر في وجهه ضحكا: قريتنا أصبحت عالمية!! أن العين التي كان يستقي منها كل مواطن من قريته أصبح ماؤها ماء معدني باعتراف منظمة التغذية مانحة الميداليات: الميدالية عبارة عن منح في وصلة الإشهار في وصل قنينة الماء "المعدني" لعين قرية سعيد، أما أهل القرية، فهم لا يعرفون من قيمة "الفراكة" المائية، سوى ان عين الماء انتزع منهم نزعا باسم سياسة الدولة في خوصصة المرافق العامة، أصبح الماء الطبيعي منذ دخول الشركة الذائعة الصيت، يستوجب الأداء عليه، هذا على الأقل ما كان يردده باستياء كبير والد سعيد الذي ينتمي إلى جيل المقاومة، ماء طبيعي من عند الله كما يقال، ستستحوذ عليه شركة أمريكية ذائعة الصيت لتبيعه له ولقومه هم الذين كانوا يأخذونه مجانا ويتراشقون به في المواسم الجميلة، ماء من الطبيعة خلقوا حوله الكثير من العرف الإنساني: "حيث يوجد الماء، حتى وإن كان في أرض هي في ملكية أحدهم، فعين الماء ليست مملوكة هي ومجراها"،والدولة هناك لا تملك صكا لتبرير أن الماء ذاك، الذي كان أمسا، مجانا، يمكن خوصصته، من خلال ألعاب بهلوانية كما يراه والد سعيد: الشركة الشهيرة ستقوم باعمال "صيانته" ، ببناء خرافات مقدسة حوله، صور يحول دون دخولهم إلى العين ويمنع حجهم المبروك، هذا كل شيء إضافة إلى رتوشات أخرى، ستبث الشركة وصلات إشهارية تبيع صيتها أكثر مما هو مذاع وتلهم أنها اكتشفت عجبا لم يكتشفه سكان المنطقة الذين يعرفون تماما أن ماء عين قريتهم هو ماء صحي تماما. تبدو الخوصصة أنها تأكيد ما هو الناس هم مؤكدون منه بالفعل: هو أن الماء صحي بالفعل لأنهم كانوا يشربونه منذ غابر الأزمان ولم يقتل أحدا حتى في مواسم الطاعون، بشكل تبدو خوصصته الآن بمثابة تأكيد المؤكد حول نفعه كما لو أن الناس كانوا يشكون في أمره، هذا التأكيد يستلزم ثمنا، ميدالية المؤسسة العالمية للتغذية وقيم أخرى على الناس أن تدفعها لاحدهم، وهذا ما كان يثير هيستيريا سعيد في الأمر، كان يخاف أن يتوقف قلب والده المصدوم في عين القرية، والده الذي لا يملك عقلا مهذبا يستوعب قيم الخوصصة، أما ميدالية منظمة التغذية التي تستوجب الفخر كما يفترض ف"لتأكلها المنظمة المانحة التي لا أحد من اهل القرية يعرف أين تقيم"، وهذا ما كان يهستر به سعيد. كانت هيستيريا سعيد خليطا من الإحباط في أن يفقد سكان قريته ماءها العذب وأوهام الميدالية الذهبية التي لا تعدو أكثر من رشوة لتهذيب خوصصة العين في قحولة وعيهم الغير مهذب. "هذه ببساطة هي الخوصصة” يعيدها سعيد بهيستيرية فجة، "هي استثمار في الوهم”. في أوربا حيث العقل يبدو مهذبا وناضجا تماما لتقبل مثل هذه الأمور، كان المواطنون أو بصفة عامة، المستهلكون، يدفعون في كل ضرائبهم المتعددة إلى تلطيف الأجواء الإجتماعية: تقديم الخدمات الإجتماعية واجب مدني مدفوع الثمن من ضرائب المواطنين الذين عانوا الأمرين في الحربين العالميتين والحروب الأهلية كالحرب الإسبانية، أدت إلى خلاصة مفادها: قتلا للأنا الفردية المفخمة عندهم، فكروا في إنضاج بعض الحوافز الكرمية التي تحد من تفجير الأفراد سموها ب"الرفاه الإجتماعي"، إن تحول الوعي من دفع ضرائب بحوافز أمنية كما كان سائدا قبل عصر الأنوار عندما كان الناس يدفعونها مقابل اتقاء جبروت النبلاء والملوك، إلى دفعها مقابل سلام اجتماعي في النظام الرأسمالي اتقاء صراع طبقي حاد، ألهم سعيد إلى هذا الدور في إيجاد ملاجئ الخيرية ومطاعم عمومية بتمويل حكومي للمشردين، وأحيانا، كما في بلاد الباسك، منح مالية أحيانا، هي أكثر بكثير من منحة البؤس في جامعات المغرب التي تخلق جامعيون متفوقون في التسول. من الوهلة الأولى ومنذ وطأ سعيد أرض بلاد الباسك، ومنذ امتحانه الأول الذي فشل فيه في الحصول على مكان قار بأحد ملاجئ بلباو الجميلة، امتحانه مع المشرفة الإجتماعية التي لم تتزعزع عن قيم رسمها حاسوبها الخرافي الجديد عديم الإحساس أصلا، بدأ يتلمس طريقه نحو مخاض الولادة الجديدة: إنه مقبل من الآن على عالم التشرد، بشكل كانت كل خبرته في المواسم لم تسعفه جيدا في كسب تعاطف المشرفة الإجتماعية. في جولة المواسم الفلاحية، جولة الملاجيء كما يسميها سعيد، اكتشف سعيد فرقا كبيرا بينها وبين ملاجيء بلباو بشكل عام، بمواسم الفلاحة، كل زبناء الملاجئ هم عمال فلاحون نشيطون، بينما في بلباو هم شيوخ هرمون في الغالب، مع وجود شبان في مقتبل العمر أغلبهم مهاجرون من جنوب صحراء إفريقيا وشمالها، شيوخ متفائلون لدرجة ميؤوس منها، أمس فقط دخل سعيد في هيستيريا أخرى شبيهة بهستيريا شهرة عين ماء بلدته: لسوء الصدف، عاين حالة انتحار في ميترو بلباو، رجل بهندام موظف وقور، كان يتحين قدوم الميترو في زاوية دخول الميترو، كان كلما سمع ذوي قدومه، يقترب إلى الزاوية ليكتشف أن القادم هو من الجهة الأخرى، فطن سعيد، بسبب من حركية هذا الرجل المثيرة أنه يريد الإنتحار، بدأ يراقبه عن كثب، بدا الرجل مضطربا إلى حد ما، لكن ملامحه وهندامه لا تثير عند سعيد شيئا من الشك، فكر أن ينادي رجال الأمن، لكن تراجع عند تذكره لخلفية سابقة له مع رجال الأمن: لقد سبق له أن شكى رفيقا له يقطن معه في مودولو الصليب الأحمر كان رفيقه هذا بسبب السكر يريد إضرام النار فيه، هاتف رجال الأمن، وعند وصولهم بدأوا يبحثون معه هو أكثر من صديقه لدرجة حاول أن يريهم أين أضرم النار وأثارها التي أطفأها رفيقه عندما تأكد بأن البوليس آت، لم يثر رجال الأمن أهمية لآثار النار فوجهوا تحذيرا له: “ لا تنادينا إلا عندما تشتعل النيران"، سجلها سعيد في ذاكرته بشكل، فيما بعد ذلك بقليل، حصلت مشكلة أخرى أمام عينيه ولم يعلن حالة انتحار عندما كانت سيدة تستلقي من الشقة الثالثة بالأندلس وهو يراقب الأمر من شقته الرابعة، كان جيرانها في الشقة الثانية قد أمسكوها عندما كانت متدلية من نافذة شقتها، وعندما حضر الأمن لم يعملوا غير تسجيل الحدث، اعتقد سعيد مرة أخرى أنهم حذروا صاحب البلاغ أن لا يهاتفهم إلا عند حدوث الإنتحار وليس عند إنقاذ المنتحر، أما المتسبب في محاولة انتحار السيدة وهو روسي من مدمني الفودكا فلم يتلقى أي تأنيب تماما مثل صديق سعيد. دخلت ثلاث فتيات مرحات إلى نفق الميترو حيث كان الرجل ذي الهندام الحسن، ونسي سعيد في غفلة منه أمر صاحب الهندام، فجأة فجلت الفتيات،صحن في فزع كبير، واحدة منهن جرت صعودا في السلم، الميترو توقف، سعيد تألم كثيرا وشعر بوخز ضمير، كان حدسه على الأقل أخبره بأنها محاولة انتحار ولم يفعل شيئا، خرج من النفق وهو يقيم هالة من المقارنات المجحفة بين شخصيات دائرة التشرد في الملجإ والشخص المنتحر، في الأمل هناك فوارق شاسعة في القيم، إن ماريا الشاعرة التي تريد التوحد بالشاطيء للصلاة على تمزيقها لثوب الزفاف الأزرق والتوحد أيضا بنفسها لاتخاذ قرار حاسم تجاه ميجيل، أملها ليس كأمل البرتغالي الذي يمشي بقوة مضاعفة في الأمل برغم أنه لا يملك قدرة على منع غيطه وبوله في الإسترسال مزكما كل الفضاء الذي يمر منه: "تصوروا أنه ينام معنا بالملجأ ويأكل معنا في المطعم العمومي البلدي في براكالدو بكل آثاره "الملوثة للبيئة”"، قالها سعيد وهو يضحك بجنون، ثم أضاف بهستيرية: “لم يفكر البرتغالي يوما أنه عليه أن ينتحر، فكيف لي أن أتأكد من أن الرجل ذي الهندام الحسن سينتحر”.
#عذري_مازغ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ديكتاتورية الطبقة العامل في جبل عوام
-
حور عين في الحياة الدنيوية
-
حين يصبح الإعجاز كارثة على أصحابه
-
الحقيقة ليست أكثر من مجرد عملية حفر
-
أفغنة القضاء المغربي
-
دائرة المشردين
-
الإسلام بين الهمجية والتهذيب
-
-بويفيذاحن-
-
وصية شاشا ورمزيتها السياسية
-
المثلية الدينية
-
اليسار وإشكالية الديموقراطية
-
المظلة
-
العلمانية بين النضج المدني وغيابه
-
حول الأزمنة البنيوية عند مهدي عامل
-
خواطر مبعثرة
-
حكامنا خنازير
-
القومية من منظور مختلف
-
خواطر ملبدة
-
نقض لاطروحة الأستاذ عصام الخفاجي في حواره في الحوار المتمدن
-
حرب اللاجئين
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|